تحاول هذه الورقة قراءة المستجدات الميدانية والتوازنات السياسية المتصلة بالصراع في سوريا وعليها.
وترى الورقة أن التفاهمات الدولية الراهنة، لاسيما بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، لا تتخطى حدود وقف النار وتجميد العمليات العسكرية الكبرى وترحيل التعامل الأميركي مع "المسألة السورية" إلى ما بعد تولي إدارة جديدة المسؤولية في البيت الأبيض. وفي ذلك ما يصب لصالح الروس والإيرانيين والنظام السوري الذين يتسللون عبر ثغرة القرارات الأممية المصنِّفة "جبهةَ النصرة" مع "تنظيم الدولة الإسلامية" جماعتين إرهابيتين، ليواصلوا ضغطهم العسكري (في حلب) وحصارهم لبعض المناطق (في حمص وداريا) وقضمهم البطيء لمناطق أُخرى (في ريف دمشق)، بما يكرِّس -قبل التغيير الرئاسي في واشنطن- توازنًا للقوى يميل لصالح النظام السوري فرضه التدخلُ العسكري الروسي بين 30 سبتمبر/أيلول 2015 و15 مارس/آذار 2016، وبما يجرِّد المطالبة بتنحية بشار الأسد من مرتكزها على الأرض.
وتعتبر الورقة أن لا سبيل لمواجهة المخطط الروسي-الإيراني، في ظل تمنُّع إدارة أوباما عن اتخاذ قرارات حازمة وتعديل مسار الأمور، سوى في تنسيق دول إقليمية (تركيا والسعودية وقطر) مع دول أوروبية (في طليعتها فرنسا) لتخطي السقف المرسوم أميركيًّا والمبادرة إلى إجراءات سياسية ولوجستية توقف تراجع المعارضة السورية المسلحة (الجيش الحر والفصائل الإسلامية "غير الجهادية"، أي الملتزمة بأجندة سياسية وطنية)، إنْ في الشمال والشمال الشرقي أو في الجنوب وعلى تخوم العاصمة دمشق.
وتقترح الورقة أن تركِّز المعارضة السورية المعترَف بمشروعيتها دوليًّا والمُتمثلة راهنًا بالهيئة العليا للمفاوضات، على عدد من الأمور، أبرزها: خطاب سياسي وإعلامي يربط معركة التحرر من "الإرهاب" والمصالحة وبناء التوافق الوطني السوري الجديد في مواجهة "تنظيم الدولة" بشرط رحيل الأسد وعائلته عن الحكم في دمشق؛ وتقديم ملفات تفصيلية بلغة "قانونية تقنية" (صالحة للمحاكم) وبالاستناد إلى دراسات حقوقية وإلى تقارير الهيئات الأممية والمؤسسات الدولية (مثل: "منظمة العفو" و"هيومان رايتس ووتش" وغيرهما) حول جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المُرتكَبة من قِبل النظام في سوريا، وجعْل التداول الكثيف لهذه الملفات بين الحقوقيين والسياسيين وفي وسائل الإعلام الكبرى عائقًا في ذاته أمام كل تطبيع "غربي" محتمل مع الأسد أو قبولٍ به شريكًا في مرحلة انتقالية.
المشهد السوري عشية لقاءات جنيف التفاوضية
شهد العام 2015 العديد من التطورات العسكرية في شمال سوريا وغربها وجنوبها؛ ففي نصفه الأول، تراجعت قوات نظام الأسد أمام تقدم "جيش الفتح" (1) في إدلب وأريحا وجسر الشغور، كما تراجعت هذه القوات أمام تقدم مقاتلي "الجبهة الجنوبية" (2) في محافظة درعا، وفشلت في إحراز تقدم على جبهات حلب، كما عجزت مدعومة بمسلحي حزب الله اللبناني عن احتلال حي جوبر الدمشقي ومدينة الزبداني وعن السيطرة على كامل منطقة القلمون المحاذية للحدود اللبنانية. ودفعت التطورات العسكرية المذكورة قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، إلى تفقد جبهات القتال في سوريا للبحث في سبل وقف التراجع فيها (3). وعُلم لاحقًا، أن سليماني زار موسكو لحثِّ القيادة الروسية على التدخل العسكري المباشر في سوريا (4) إنقاذًا للنظام من المخاطر المتعاظمة.
وبتاريخ 26 يوليو/تموز 2015، أقرَّ رئيس النظام السوري، بشار الأسد، بصعوبة وضع قواته، في خطاب متلفز، وذكر أن النقص البشري يضطر جيشه إلى الانسحاب من مناطق لتعزيز مناطق أُخرى. وعنى الأمرُ طلبًا مباشرًا إلى حلفائه بمده بالمزيد من المقاتلين، وليس بالسلاح فقط.
هكذا، بدا أن الوضع الميداني في سوريا يُنذر بتحولات تجعل الأسد وحلفاءه في موقع شديد الضعف عسكريًّا وسياسيًّا. وبدا أيضًا أن التدخل العسكري الإيراني عبر الضباط والخبراء وعبر الميليشيات العراقية والأفغانية (لواء فاطميون) وقوات حزب الله اللبناني قد لامَس حدوده القصوى، ولم يعد كافيًا لحماية النظام ولفرض التوازن العسكري مع قوى المعارضة السورية المسلحة.
ولعل ذلك كان أبرز أسباب القرار الروسي بالتدخل العسكري المباشر ابتداءً من 30 سبتمبر/أيلول 2015 بهدف حماية سيطرة النظام على الساحل السوري ووسط البلاد وصولًا إلى العاصمة دمشق، وتمكين قواته بمساعدة حلفائها من استعادة أبرز المناطق الاستراتيجية التي خسرتها. أمَّا في ما يتخطى سوريا، فقد أراد فلاديمير بوتين إظهار روسيا قوةً عظمى قادرة على التدخل والضرب بعيدًا عن حدودها (5)، غير متهيبة من مواقف الدول الكبرى تجاهها ومتحدية للعقوبات الاقتصادية الأوروبية والأميركية المفروضة عليها بسبب النزاع الأوكراني. كما أراد ادَّعاء مشاركةٍ روسية "في الحرب العالمية على الإرهاب".
على أن موسكو استفادت لتمرير تدخلها العسكري المباشر ولعبها دورًا مركزيًّا في "الصراع السوري" من الانكفاء الأميركي عن الدور القيادي في الدبلوماسية الدولية تجاه الشرق الأوسط، ومن كون إدارة أوباما بلا "سياسة سورية" واضحة المعالم فيما خلا ترك الوقت يُنهِك جميع الفرقاء والاكتفاء بقصف تنظيم "الدولة الإسلامية" ومساندة "وحدات الحماية" الكردية في قتالها له. كما استفادت موسكو من غياب سياسة خارجية أوروبية موحدة تجاه سوريا وتخبط قرارات الاتحاد الأوروبي في مواجهة أزمة اللاجئين والنازحين على حدود الاتحاد الشرقية والجنوبية. واستفادت أخيرًا من انشغال بعض القوى الإقليمية بأولوياتٍ تَحد من قدراتها على التأثير سوريًّا (الانتخابات التركية وعودة التوتر بين أنقرة والأكراد وتداعيات الأمر أمنيًّا وسياسيًّا من جهة، وانخراط السعودية في الحرب اليمنية وتصاعد التوتر بين الرياض وطهران بعد تحسن علاقات الثانية مع "المجتمع الدولي" عقب الاتفاق النووي من جهة ثانية).
بهذا، عملت روسيا على فرض واقع عسكري سوري جديد، فاستهدف معظم غاراتها الجوية (6) على مدى اثنين وعشرين أسبوعًا مواقع "جيش الفتح" و"الجيش الحر" في ريف اللاذقية وفي محافظات إدلب وحلب وحماه وحمص وريف دمشق ودرعا وأوقعت فيها خسائر كبيرة. واستهدفت الغارات كذلك العديد من المنشآت المدنية التي تساعد السوريين في معيشتهم وبقائهم في المناطق المحررة من النظام (مستشفيات وبنى تحتية وقوافل مؤن ومدارس)، وقتلت في ستة أشهر (حتى 14 مارس/آذار 2016 تاريخ إعلان الرئيس بوتين وقف الغارات) حوالي ألفَي مدني (7).
أربك التدخل العسكري الروسي المباشر معظم الفاعلين الدوليين والإقليميين، إذا ما استثنينا إيران وإسرائيل. فالأولى، وإن تحولت من الداعم الأول للنظام إلى الداعم الثاني، تخففت لفترة من حِمل عسكري ثقيل. أما الثانية، إسرائيل، فحصلت على ضمانات روسية إثر اجتماع بوتين ونتنياهو، بعدم الحد من حرية حركتها الجوية في الجنوب السوري وعلى مقربة من الحدود اللبنانية لضرب أي شحنات أسلحة ثقيلة لحزب الله، ومنع مقاتلي الأخير والضباط الإيرانيين من الاقتراب من الجولان المحتل (8).
واشنطن ولندن أعلنتا ترحيبهما بمشاركة موسكو في "الحرب على الإرهاب"، لكنهما استنكرتا تركيز الطيران الروسي ضرباته على المعارضة السورية. وفعلت فرنسا الأمر نفسه، ثم ما لبثت أن قررت رفع مستوى التنسيق الأمني والسياسي مع روسيا عقب اعتداءات 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 في باريس التي أعلن "تنظيم الدولة" مسؤوليته عنها. بينما عبَّرت تركيا والسعودية وقطر عن تحفظهم على التدخل الروسي واعتبرته تعقيدًا للأوضاع السورية. وما لبث التوتر بين أنقرة وموسكو أن ظهر ميدانيًّا ووصل إلى ذروته في أواخر شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2015 بعد قصف الطيران الروسي المتكرر لبلدات يقطنها تركمان سوريون ثم خرقه الأجواء التركية الذي ردَّ عليه الأتراك بإسقاط مقاتلة روسية. تبع ذلك اشتدادٌ للقصف الروسي على المناطق الحدودية بين سوريا وتركيا وعقوبات اقتصادية ضد أنقرة وتوتر دبلوماسي.
طيلة تلك الفترة، وخلال شهر ديسمبر/كانون الأول، تكثفت الاتصالات بين وزيرَي خارجية الولايات المتحدة، جون كيري، وروسيا، سيرغي لافروف، وعُقدت عدَّة لقاءات إقليمية ودولية للبحث في "الملف السوري". كما عاد المبعوث الدولي، ستيفان دي مستورا، إلى الواجهة وجرى الإعلان عن اجتماع لمجلس الأمن مخصص للشأن السوري. وتمحورت الاتصالات واللقاءات الدولية حول ثلاث مسائل رئيسية:
- "الحرب على الإرهاب"، وكُلِّف الأردن بإعداد لائحة بالمنظمات "الإرهابية" في سوريا (9).
- "شكل المرحلة الانتقالية وزمنها والقوى المشاركة فيها"، وعقدت الرياض اجتماعًا لمعظم أطراف المعارضة السورية السياسية والعسكرية لتوحيد الرؤى حيال هذه المرحلة وتشكيل وفد مفاوض.
- "مصير رئيس النظام بشار الأسد".
وبرزت تجاه المسائل المذكورة مواقف روسية وإيرانية تعمِّم صفة الإرهاب على مجمل الفصائل المعارِضة المقاتِلة وترفض البحث في مصير الأسد على اعتبار الأمر "شأنًا سوريًّا خاصًّا". في المقابل، برزت مواقف أميركية مترددة تجاه التصنيف "الإرهابي" ومدى اتساعه وشموله فصائل تُضاف إلى "جبهة النصرة" (المُصنَّفة منذ العام 2013، كما "تنظيم الدولة الإسلامية"، إرهابية)، ومترددة أيضًا (وأحيانًا متناقضة) تجاه بقاء الأسد خلال المرحلة الانتقالية أو رحيله الفوري. وانعكس التردد الأميركي على الصيَغ القابلة للتأويلات المختلفة التي أتى بها القرار 2254 الصادر بالإجماع عن مجلس الأمن، في 18 ديسمبر/كانون الأول 2015، الداعي إلى وقف إطلاق النار والعودة إلى المفاوضات وترك "الشعب السوري يقرر مستقبله" في انتخابات على أساس دستور جديد (10).
العودة إلى جنيف واتفاق وقف إطلاق النار
في أوائل العام 2016، وعلى وقع استمرار الضربات الروسية لمواقع المعارضة المسلحة وتمكن قوات النظام السوري وحلفائها من استعادة المواقع التي سبق أن خسرتها في جبال اللاذقية وتقدمها في ريف حلب وفي محافظة درعا وتشديدها الطوق على جيوب المعارضة في ريف حمص وتأمينها خطوط إمدادها على المحاور الرئيسية في المناطق التي تسيطر عليها، وعلى وقع تقدم ميليشيا "وحدات الحماية" الكردية مدعومة بالطيران الأميركي تارة والروسي تارة أُخرى وتوسع رقعة سيطرتها شمالًا على حساب "تنظيم الدولة الإسلامية" وعلى حساب المعارضة السورية، دعا دي مستورا إلى جولة مفاوضات جديدة في جنيف.
انعقدت الجولة ابتداءً من أواخر يناير/كانون الثاني 2016، ولم يرافقها تقدم نتيجة استمرار حصار النظام لمناطق عدَّة في البلاد وعدم توقف غاراته والغارات الروسية على أكثر من منطقة، وتمنُّعه عن الإفراج عن معتقلين كانت الوساطات الأممية قد وعدت به؛ والأهم نتيجة رفض وفد النظام البحث في أية صيغة "انتقالية" واعتباره بشار الأسد "خطًّا أحمر" وإصراره على حكومة "مصالحة وطنية" وليس مجلس "حكم انتقالي".
وفي فبراير/شباط، قرَّر الروس والأميركيون في ميونيخ الإعلان عن دخول وقف النار حيز التنفيذ بناءً على مرجعية القرار الأممي 2254 وما سبقه من قرارات، مُستثنين بالتالي مناطق انتشار "تنظيم الدولة الإسلامية" و"النصرة". تبع ذلك تراجعٌ في العمليات العسكرية وتوقف للغارات الجوية الروسية وإعلان من الرئيس الروسي بوتين في منتصف مارس/آذار عن أوامر بسحب قِسمٍ من قواته من سوريا.
أتاح تراجع القصف والاشتباكات عودةَ التظاهرات المطالِبة بالحرية وبإسقاط الأسد، والتصدي لأُمراء الحرب في الكثير من المناطق السورية المُحررة، التي ارتفعت فيها أعلام الثورة بعد أن كان حضورها قد تراجع لصالح رايات حزبية أو عسكرية إسلامية. وأتاح للمدنيين السوريين فرصةً لالتقاط الأنفاس. كما أنه سمح بانعقاد جولات مباحثات جديدة في جنيف، ولَو أنها كسابقاتها لم تُحرِز تقدمًا حول البند الأكثر تعقيدًا: شكل المرحلة الانتقالية ومصير بشار الأسد (11).
على أن "الانفراج الأمني" لم يدُم طويلًا. فابتداءً من منتصف إبريل/نيسان، تصاعدت العمليات العسكرية من جديد، وتعرضت مدينة حلب لغارات جوية وقصف عنيف استهدف البنى التحتية والمستشفيات، وترافق مع معارك في مواضع بدا واضحًا أن النظام وحلفاءه يحاولون عبر التقدم فيها تضييق الخناق على المدينة والسيطرة على معبر "كاستيلو" الذي ما زال يربط أحياءها الشرقية بريفها. وعلى مقربة من دمشق، اندلعت معارك في محيط داريا المحاصرة وتعرضت الأخيرة لقصف وغارات وسط اشتداد الحصار المفروض على المدنيين فيها. كما تعرضت مناطق في إدلب وفي ريف حمص لقصف مشابه. وأدَّى الأمر، سياسيًّا، إلى رفض المعارضة المشاركة في جولة مفاوضات جديدة كان دي مستورا قد دعا إليها.
ظهر جليًّا خلال أشهر فبراير/شباط ومارس/آذار وإبريل/نيسان أن مسؤولي النظام السوري ومن خلفهم المسؤولون في موسكو وطهران (التي أقرَّت للمرة الأولى بإرسال وحدات من جيشها النظامي إلى سوريا) يراهنون على مبدأ التشدد في جميع الملفات السياسية والمُصنَّفة "إنسانية" عشية كل تفاوض أو تواصل، ثم يعمدون إلى إظهار "حسن نوايا" إنسانية عبر السماح للأمم المتحدة بتمرير قافلة مساعدات إلى واحدة من المناطق التي يحاصرون. هكذا تحولت ممارسات الحصار والتجويع إلى مبدأ مساومة مؤقتة تُوظَّف ضمن استراتيجية الإخضاع البطيء والمُميت لبعض المناطق الثائرة، والقبول بين الحين والآخر بطلبات أممية (تأتي خلال اتصالات توفر "مشروعية دولية للنظام") تُخفف لأيام وقع الحصار ولا تغير في أية حال من نتائجه على المديين المتوسط والبعيد. يرافق ذلك تجميع للقوات وقضمٌ تدريجي لمواقع مهمة يمكن استخدامها لاحقًا في هجمات برية على المناطق المحررة. وهذا ما جرى في منطقة حلب وكذلك في ريف دمشق.
في شهر مايو/أيار 2016، بدا أن الانسداد السياسي يحول دون دعوةٍ أممية جديدة للتفاوض. كما أن الاتصالات الروسية-الأميركية لم تُفضِ إلى أكثر من تعويم لوقف إطلاق النار، وتأجيلٍ لانهياره التام بعد المجازر التي وقعت في حلب وداريا والعديد من بلدات محافظات حلب وإدلب وحماه وحمص، وبعد أكثر من تطور عسكري واشتباكات في أرجاء البلاد. ففي ريف محافظة حلب الشمالي الشرقي، تواصلت المعارك بين فصائل المعارضة وقوات "تنظيم الدولة الإسلامية"، وشهدت المنطقة عمليات كرٍّ وفرٍّ حافظت فيها الفصائل المعارضة على تماسٍّ مع الحدود التركية في خط ضيق يفصل منطقة عفرين التي تسيطر عليها القوات الكردية عن مناطق سيطرة "تنظيم الدولة". وفي خان طومان في ريف حلب الجنوبي وفي محيط مخيم حندرات (شمال شرق مدينة حلب) تقدم "جيش الفتح" وأبعد قوات النظام وحلفاءها عن مواقعها السابقة بما يُبعد بعض الشيء خطر حصار الأخيرة لأحياء المدينة الشرقية (حيث قوات المعارضة). في المقابل، تقدمت قوات النظام في الغوطة الشرقية مستفيدةً من اقتتال ضارٍ داخلها بين فصيلَي "جيش الإسلام" و"فيلق الرحمن".
في تحول آخر، شهد شهر مايو/أيار أيضًا تصعيدًا في القتال داخل مدينة دير الزور وحول مطارها بين قوات النظام ومقاتلي "تنظيم الدولة" دون تغير كبير في خريطة انتشار كل طرف. أمَّا في محيط عين عيسى شمال مدينة الرقة، فقد أعلنت قوات "سوريا الديمقراطية" وعمادها المقاتلون الأكراد بدء هجومها مدعومةً من الطيران الأميركي على مواقع "تنظيم الدولة" في محاولة لطرده من المنطقة. ولم تتضح حدود الهجوم وأهدافه بعد، خاصةً أن التوتر الكردي-العربي (الذي بلغ ذروته بعد إعلان قوى وشخصيات كردية "الفيدرالية" في سوريا في شهر مارس/آذار 2016) والمواجهات الكردية-التركية تعقِّد أوضاع الشمال السوري وتجعل كل توسع كردي في مناطق ذات أكثرية عربية، ولَو كان على حساب "تنظيم الدولة"، مولِّدًا للمزيد من التوتر والصدامات بين الميليشيات الكردية وقوى المعارضة السورية حيث خطوط الاحتكاك. أخيرًا، شهد شهر مايو/أيار تفجيرات استهدفت المدنيين في طرطوس وجبلة على الساحل السوري، وأوقعت لأول مرة عشرات الضحايا، وأعلن "تنظيم الدولة" مسؤوليته عنها.
الانسداد السياسي والتحديات المقبلة
يظهر من مجمل التطورات الميدانية داخل سوريا ومن الاتصالات الدولية الأخيرة بشأنها أن لا حلَّ سياسيًّا في المستقبل القريب. فواشنطن تبدو أقرب إلى فكرة ترحيل البت بالحلول والخيارات إلى العام المقبل حين تدخل إدارة جديدة إلى البيت الأبيض. وروسيا وإيران تريدان استمرار عمليات الخنق أو القضم البطيء للمناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة بما يمكنهما من القول لاحقًا: إنه لا مناطق سورية واسعة وذات تواصل ترابي باقية خارج سلطة نظام الأسد سوى تلك التي يسيطر عليها "تنظيم الدولة الإسلامية" من جهة، و"جبهة النصرة" من جهة ثانية (إضافة طبعًا إلى المناطق التي تسيطر عليها "وحدات الحماية" الكردية). وهذا يعني أن المطالبة برحيل الأسد لم تعد محمولة من قوى وازنة عسكريًّا ومقبولة دوليًّا ومسيطرة على مساحات واسعة من الأرض السورية.
أمَّا أوروبا فما زالت مواقفها من الأسد متأرجحة بين الحزم الفرنسي والتردد "الاتحادي"، وهي ليست في أية حال في موقع مرجِّح أو حاسم. وقد ظهر بوضوح خلال اجتماع باريس في 14 مايو/أيار أن وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، يستفرد بالتفاوض مع نظيره الروسي، ويتفادى التصعيد السياسي أو التهديد بإجراءات ضغط على الأسد أو على حليفيْه لفرض تنحِّيه خلال المرحلة الانتقالية.
في نفس الوقت، لم يرشح عن العواصم الإقليمية الثلاث الأكثر دعمًا للمعارضة السورية وتشددًا تجاه الأسد، تركيا والسعودية وقطر، ما يدل على احتمالات تخطيها للسقف الموضوع أميركيًّا إن لجهة تسليح بعض فصائل المعارضة بما يسمح لها بمواجهة قوات النظام وحلفائه (12)، أو لجهة السماح بتحريك جبهة الجنوب المجمدة منذ أواسط العام الفائت ومدها بالعتاد والتجهيز اللازمَين، أو حتى لجهة التدخل المباشر ضد "تنظيم الدولة الإسلامية" في الشمال السوري وفرض مناطق آمنة خلال هذا التدخل بما يحمي المدنيين السوريين وقوى المعارضة من قصف النظام وروسيا، مؤمنًا للمعارضين ملاذًا ورقعًا جغرافية يتمددون فيها مع كل انكفاءٍ متوقع لـ"تنظيم الدولة".
وهذا يعني أن أنقرة والرياض والدوحة أمام خيارات محدودة إن لم تقرر بلورة سياسة "هجومية" في سوريا تحول دون نجاح موسكو وطهران في دحر قوى المعارضة وجعل الأسد بالقوة شريكًا في أي حلٍّ سياسي. وهي بالتالي مطالَبة باتخاذ مبادرات تبدأ بالضغط لوقف كل تقاتل بين فصائل المعارضة المدعومة من قِبلها (في الغوطة الشرقية مثلًا)، وتمر بدعم فرق الجيش الحر والفصائل المعارضة المقاتلة ضمن أجندة وطنية سورية إن في الجنوب أو في الشمال، وتنتهي بتأمين غطاء سياسي (وعسكري) لهذه الفرق والألوية بما يمكِّنها من تعزيز قواها ومنع النظام من أي تقدم جديد، وفرض نفسها طرفًا هو الأقدر على الانتشار في ريف حلب الشمالي الشرقي وفي ريف الرقة (حيث "تنظيم الدولة") التي يُرجح أن تُستهدف بعمليات عسكرية متصاعدة.
في هذا الوقت، يمكن للمعارضة السورية بجسمها الأوسع تمثيلًا، أي الهيئة العليا للمفاوضات، وببعض أجسامها الأُخرى، أن تعتمد خطابًا سياسيًّا مقرونًا بحملة إعلامية وبتقديم دراسات قانونية ثمة الكثير من الكفاءات السورية القادرة على وضعها. وقوام الخطاب هذا وحملته الإعلامية ربطُ الاستعداد للمصالحة الوطنية وتحويل الإجماع الوطني السوري التأسيسي الجديد إلى مشروع مواجهة لـ"تنظيم الدولة الإسلامية" شرط رحيل الأسد. فمن دون رحيله، بعد 46 عامًا من استيلاء عائلته على الحكم، ورحيل الحلقة العائلية الضيقة للنظام المحيطة به والمسؤولة معه عمَّا حلَّ بسوريا في السنوات الخمس الأخيرة من قتل وتعذيب وتهجير وتدمير، لا يمكن البحث بأي عملية اجتثاث للإرهاب ولا يمكن التسليم بأي حل في سوريا.
أمَّا في ما يخصُّ المسألة القضائية، فإن المعارضة يمكن أن تستفيد من هذه الورقة من خلال تقديم الملفات القانونية باللغة التقنية "الدولية" المناسبة، المدعومة بتقارير هيئات أممية ومنظمات ذات صدقية ("منظمة العفو الدولية" و"هيومان رايتس ووتش" وغيرهما)، الموثِّقة لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكَبة في سوريا. وثمة ما يكفي من معلومات وصوَر حول ما يجري من تعذيب مُمنهج ومن بيروقراطية قتل في سجون النظام (ملف "قيصر" على سبيل المثال)، وحول استخدام آلاف البراميل المتفجرة وقتلها وجرحها وتهجيرها لعشرات آلاف المدنيين، وحول استهداف الأجسام الطبية والمنشآت الاستشفائية والخدماتية المدنية وإلحاق الأذى المقصود بها، ثمة ما يكفي إذًا، لجعله مادةً مُتداوَلة في الأوساط الحقوقية والسياسية والإعلامية الدولية، بما يُجرِّم كل سعي للتطبيع مع الأسد ويحضِّر الشروط لمحاكمته وأركان نظامه يومًا ما.
في الخلاصة، يمكن القول: إن المعارضة السورية مُقبلة على المزيد من الأشهر الصعبة والاستحقاقات الخطِرة التي تتطلب تضافر جهود داعمي المعارضة السورية الفعليين لِمواجهتها، وللصمود في وجه الضغوط العسكرية والسياسية الروسية والإيرانية المُتوقعة، والرد عليها بجميع الوسائل المُتاحة.
________________________________________________
كاتب لبناني، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة الأميركية في باريس.
1- تكوَّن "جيش الفتح" بشكل أساسي من تحالفِ قوى إسلامية، مثل: "أحرار الشام" و"أجناد الشام" و"فيلق الشام" وكتائب محلية مع "جبهة النصرة".
2- ينتمي معظم الألوية والكتائب العاملة تحت قيادة "الجبهة الجنوبية" إلى تشكيلات الجيش الحر.
3- إضافة إلى الخسائر التي مُني بها النظام في الشمال والجنوب، تراجع أيضًا أمام "تنظيم الدولة الإسلامية" في البادية ثم في مدينة تدمر. وقد دفعت هذه التطورات الجنرال سليماني وعددًا من الضباط الإيرانيين إلى زيارة الجبهات، في 5 يونيو/حزيران 2015، للبحث مع القيادات العسكرية السورية بالخطط الواجب اعتمادها لوقف الانهيارات.
4- زار سليماني موسكو، بحسب وكالة "رويترز" في شهر يوليو/تموز، وشرح صعوبة وضع الأسد ميدانيًّا وبحث مع المسؤولين الروس في سُبل إنقاذه http://nr.news-republic.com/Web/ArticleWeb.aspx?regionid=3&articleid=49427101
5- يظهر من العمليات العسكرية الروسية أن موسكو أرادت استعراض قوة أسلحتها وقدراتها التدميرية، تمامًا كما فعلت الولايات المتحدة في حرب "عاصفة الصحراء" ضد العراق في العام 1991. وأشار باحثون في الشؤون العسكرية إلى أن موسكو أرادت أيضًا استخدام أسلحة جديدة وتجربة دقتها، والسعي من خلال ذلك إلى تسويقها لدى شراة محتملين. http://foreignpolicy.com/2015/12/09/russia-is-using-syria-as-a-training-ground-for-its-revamped-military-and-shiny-new-toys/
6- بيَّنت خرائط "معهد دراسة الحرب" ISW، التي رصدت أسبوعيًّا مواقع الغارات الروسية، أن أكثر من 85 في المئة منها استهدف مواقع المعارضة، فيما استهدف الباقي مواقع لـ"تنظيم الدولة" في ريف حلب الشمالي الشرقي وفي الرقة ودير الزور وتدمر.
7- يمكن مراجعة تقرير جريدة "غارديان" التي تنقل عن أكثر من مصدر، بينها "مركز توثيق الانتهاكات" رقم 2000 قتيل مدني في سوريا في ستة أشهر من الغارات الروسية http://www.theguardian.com/world/2016/mar/15/russian-airstrikes-in-syria-killed-2000-civilians-in-six-months
8- اجتمع بوتين ونتنياهو في موسكو في 21 سبتمبر/أيلول 2015. ونفَّذت إسرائيل خلال التدخل العسكري الروسي أكثر من غارة داخل الأراضي السورية، بينها واحدة قتلت الأسير السابق لديها اللبناني القريب من حزب الله سمير القنطار.
9- لم تُنشَر تلك اللائحة رسميًّا وظلَّ الحديث عمَّا فيها مجرد تسريبات وتقديرات.
10- لم يأتِ القرار على ذِكر الأسد ومصيره. وفي ذلك ما ترك النقطة الأكثر إشكالية من دون صيغة واضحة للتعامل معها. كما أن القرار باستثنائه "جبهة النصرة" من وقف النار سمح على نحو غير مباشر بقصف العديد من المناطق بحجة تواجد "النصرة" فيها.
11- شهد الأسبوع الأخير من شهر مارس/آذار 2016 عملية استعراض إعلامي لنظام الأسد أعقبت استعادته، مدعومًا بحزب الله وقوات إيرانية ومسلحين أفغان وطائرات روسية، مدينة تدمر التي كان "تنظيم الدولة" قد احتلها قبل عام. وقد حظي الخبر بتغطية واسعة في مختلف أنحاء العالم لِما لتدمر من قيمة أثرية، واستفاد النظام وحلفاؤه من الأمر وسوَّقوا لأنفسهم كمنقذين لأحد معالم الحضارة البشرية من مخاطر التدمير والخراب على أيدي "الجهاديين".
12- كما جرى في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2015 حين دمرت صواريخ "تاو" عشرات الآليات والمدرعات التابعة للنظام ومنعتها من التقدم، قبل أن تغير كثافة القصف الجوي الروسي المعادَلة.