تتناول الورقة المحدِّدات والاعتبارات التي تحكم مسار العلاقات المصرية-الإسرائيلية الراهنة، والأسباب التي يمكن أن تُفسِّر الصعود اللافت في درجة التعاون والتنسيق غير المسبوق بين البلدين. كما تحاول قراءة الحسابات التي باتت تحكم هذا التقارب ومدى ارتباطها بعوامل داخلية تخصُّ السلطة في مصر التي تواجه تحديات محلية وخارجية متعددة ربما تدفعها لمزيد من التقارب مع إسرائيل. وفي هذا الإطار ترصد عددًا من التحديات التي تواجه السلطة الحالية في مصر، والتي تشكِّل الدوافع وراء هذا التقارب غير المسبوق في العلاقات المصرية-الاسرائيلية أمنيًّا وسياسيًّا. وتخلص الورقة إلى أن المساعي التي تبذلها القاهرة حاليًّا لإنعاش عملية السلام لا يمكن النظر إليها بمعزل عن الحسابات التي تحكم العلاقة الثنائية مع إسرائيل حتى وإِنْ كانت في إطار العمل على استعادة الدور الإقليمي المصري في القضية الفلسطينية.
مقدمة
جاءت الزيارة التي قام بها وزير الخارجية المصري سامح شكري لإسرائيل يوم 10 يوليو/تموز 2016، وما رافقها من تصريحات وأجواء دافئة من الطرفين، لِتَعْكِسَ قوة ومتانة العلاقة الحالية بين القاهرة وتل أبيب، والتي تعزَّزت بشكل كبير منذ وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي للسلطة قبل نحو عامين (8 يونيو/حزيران 2014). فهذه الزيارة التي تعدُّ الأولى لوزير خارجية مصري بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، والأولى من نوعها منذ العام 2007، يرى البعض أنها تأتي تتويجًا لسياسة النظام الحالي لتعزيز التنسيق مع إسرائيل على مختلف الأصعدة الأمنية والعسكرية والسياسية، فضلًا عن دعواته المتكرِّرة لإحياء عملية السلام المتوقفة منذ أكثر من عامين بين الإسرائيليين والفلسطينيين، واستعداد القاهرة للقيام بدور مساعد لاستئناف المفاوضات المباشرة بينهما. وفي هذا السياق يمكن إدراج زيارة شكري ضمن مساعي القاهرة الرامية لدفع جهود عملية التسوية بين العرب وإسرائيل. فمنذ توليه مقاليد الحكم كرَّر السيسي الدعوة أكثر من مرة لدفع عملية السلام في الشرق الأوسط، مُعْلِنًا استعداد القاهرة للعب دور أكبر في هذه العملية. وكان آخر هذه الدعوات في منتصف شهر مايو/أيار 2016 حين استغل مناسبة لتدشين مشروع تنموي في محافظة أسيوط بصعيد مصر ليُوجِّه نداء للجانبين الإسرائيلي والفلسطيني لاستغلال ما وصفها بالفرصة الحالية لإقامة "عملية سلام حقيقية، تعطي الأمل للفلسطينيين والأمان للإسرائيليين"(1).
ولم تكن هذه المرة الأولى التي يبعث فيها برسائل فيما يخص عملية السلام واستعداد القاهرة للمساعدة في تهيئة الظروف لاستئناف المفاوضات المباشرة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي؛ ففي شهر سبتمبر/أيلول عام 2015، دعا السيسي إلى توسيع معاهدة السلام مع إسرائيل لتشمل مزيدًا من الدول العربية، وقال: "إن معاهدة السلام التي استمرت لما يقرب من 40 عامًا بين مصر وإسرائيل يجب أن تتضمن دولًا عربية أخرى"(2).
وبينما يُعلِن السيسي أن العلاقات بين بلاده وإسرائيل ستكون أكثر دفئًا، خصوصًا على المستوى الشعبي: "إذا ما تحقَّقت مطالب الفلسطينيين بإقامة وطن لهم، فـإن المتابع للعلاقات بين القاهرة وتل أبيب على المستوى الرسمي يجد أنها أكثر من دافئة؛ حيث تشهد حالة غير مسبوقة من التنسيق والتعاون بين الجانبين"(3). ورغم أن الهدف المعلن لزيارة شكري ومباحثاته مع نتنياهو هو العمل على إحياء عملية السلام، فإنه لا يمكن النظر إليها بمعزل عن مجمل العلاقات المصرية-الإسرائيلية والتنسيق الواضح بشأن العديد من الملفات. ومن هذا المنظور يمكن اعتبار أن سعي القاهرة للعب دور أكثر نشاطًا على صعيد عملية السلام، يصبُّ في صالح تعزيز العلاقات الثنائية مع إسرائيل أكثر من كونه تحركًا جادًّا لتحقيق إنجاز على صعيد عملية السلام، خصوصًا أن الظروف والأجواء الحالية تبدو أبعد ما تكون عن إمكانية تحقيق ذلك. ربما تشكِّل الرغبة في استعادة الدور الإقليمي السابق لمصر في القضية الفلسطينية أحد أسباب التقارب مع إسرائيل، لكن هذا التقارب تقف وراءه مجموعة من الاعتبارات تبدو أكبر أهمية وإلحاحًا بالنسبة للقاهرة وأكثر تأثيرًا في مسار هذه العلاقات، وهي اعتبارات أكثر ارتباطًا بالتحديات التي تواجهها السلطة في مصر؛ إذ لا يمكن النظر للعلاقة الوطيدة التي تعزَّزت مؤخرًا بين القاهرة وتل أبيب أمنيًّا وعسكريًّا بمعزل عن الوضع الأمني الراهن في سيناء وتصاعد خطر الجماعات الجهادية المسلحة، التي تخوض عمليات كرٍّ وفرٍّ مع الجيش وقوات الأمن المصرية؛ وما يقتضيه ذلك من تنسيق وتعاون أمني بين الجانبين لمواجهة هذا الخطر المشترك. كما لا يمكن تفسير هذا التقارب بعيدًا عن سعي النظام المصري لكسر العزلة المفروضة عليه من خلال تقديم نفسه للقوى الدولية كداعية سلام في المنطقة، بما يساعد في تخفيف الضغوط الغربية عليه بسبب التدهور غير المسبوق في أوضاع الحريات وسجل حقوق الإنسان المصري حاليًّا. وفضلًا عن الاعتبارات الأمنية والسياسية، فإنه لا يمكن في هذا الإطار تجاهل البُعد الاقتصادي في فهم العلاقة المتميزة بين القاهرة وتل أبيب، وهو بُعْدٌ بالغ الأهمية بالنظر إلى الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تواجهها مصر، وحاجتها الملحة لضخ مزيد من الاستثمارات الأجنبية؛ إذ تأمل القاهرة أن تمدَّ إسرائيل لها يد المساعدة من خلال استغلال علاقاتها القوية مع حلفائها الغربيين وخاصة الولايات المتحدة. ووفقًا لهذه المعطيات يرى مراقبون أن القاهرة تبدو الطرف الأضعف في العلاقة مع تل أبيب؛ إذ إنها، على ما يبدو، أصبحت تتعامل في علاقاتها بإسرائيل ليس فقط كمصلحة أمنية تفرضها الأوضاع في سيناء، أو حاجة سياسية تفرضها رغبتها في استعادة دورها الإقليمي في عملية السلام، أو مساعدتها في تسوية أزمة سد النهضة وتأثيره على أمن مصر المائي، لكنها باتت تنظر إليها كبوابة لتجاوز أزماتها مع الخارج ككل.
فما هي إذًا الحسابات التي تحكم التقارب في العلاقات المصرية-الإسرائيلية؟ وإلى أي حدٍّ يمكن النظر إلى المساعي التي تبذلها القاهرة حاليًّا لإنعاش عملية السلام ضمن إطار الرغبة في استعادة الدور الإقليمي المصري في القضية الفلسطينية، وبمعزل عن تقاربها مع إسرائيل أو التحديات التي تواجه الحكم في مصر داخليًّا وخارجيًّا؟
علاقات متنامية
شهدت العلاقات المصرية-الإسرائيلية خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ولاسيما منذ تولي الرئيس السيسي السلطة، جملة من التطورات التي عزَّزت التقارب بين البلدين؛ فقد أعلنت إسرائيل دعمها وتأييدها للسلطة الجديدة التي تولَّت الحكم بعد إطاحة الجيش بحكم الإخوان المسلمين في 3 يوليو/تموز 2013، كما عبَّرت تل أبيب عن ترحيبها بانتخاب السيسي رئيسًا لمصر. وخلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014 بدا الموقف الرسمي المصري أقرب لإسرائيل منه إلى حركة حماس، كما قال المحلل السياسي الإسرائيلي، تسيفي برئيل، في صحيفة هآرتس، وفي نهاية أكتوبر/تشرين الأول عام 2015 صوَّتت مصر للمرة الأولى في تاريخها لصالح إسرائيل لعضوية لجنة الاستخدامات السلمية للفضاء الخارجي بالأمم المتحدة. وقبلها بأسابيع دعا السيسي في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لتوسيع السلام مع إسرائيل ليشمل عددًا أكبر من الدول العربية في إطار حل القضية الفلسطينية. وسبق هذه الدعوة بأيام، وفي التاسع من شهر سبتمبر/أيلول 2015، إعادة فتح السفارة الإسرائيلية، وذلك لأول مرة منذ إغلاقها عام 2011 عقب اقتحامها من قبل متظاهرين مصريين، كما أُعيد السفير المصري إلى تل أبيب لأول مرة منذ سحبه احتجاجًا على العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2012، كما تم إطلاق سراح الجاسوس الإسرائيلي عودة الترابين(4). وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2015 تم ترتيب أول زيارة من نوعها للأنبا تواضروس، بابا الإسكندرية وبطريرك الأقباط المصريين، إلى القدس المحتلة في خطوة غير مسبوقة في تاريخ الكنيسة المصرية، وبعد خمسين عامًا من قرار الكنيسة المصرية بعدم زيارة إسرائيل أو التطبيع معها(5).
وعلى الصعيد الأمني شهدت العلاقات بين القاهرة وتل أبيب مستوى غير مسبوق من التنسيق والتعاون، ولاسيما فيما يتعلق بالوضع الأمني في سيناء، وذلك بشهادة السيسي نفسه في تصريحاته الأخيرة، وهو ما أكده أيضًا نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال يائير غولان، الذي قال: إن التعاون العسكري بين إسرائيل وكلٍّ من الأردن ومصر "وثيق حاليًّا بشكل لم يسبق له مثيل، خاصة في المجال الاستخباري"، مضيفًا: إن "هذا التعاون يتركز على مكافحة تنظيم داعش"(6).
وتُظهر هذه التطوُّرات في مجملها أن العلاقة بين مصر وإسرائيل بلغت درجة عالية من التنسيق والتناغم، وهو ما أكده السيسي في معرض حوار مع صحيفة "واشنطن بوست"، في 12 مارس/آذار 2015، حين وصف العلاقات بين القاهرة وتل أبيب بأنها أصبحت تحظى بالأمان والثقة المتبادلة بين الطرفين، مشيرًا في هذا الصدد لما يحدث في سيناء من تنسيق وتعاون لمواجهة خطر الجماعات المسلحة(7).
الحسابات والدوافع
لا يمكن تفسير ما جرى ويجري على صعيد العلاقات بين القاهرة وتل أبيب لاسيما خلال السنوات الثلاث الأخيرة بمعزل عن حسابات داخلية تخصُّ السلطة الحالية في مصر على ضوء ما تواجهه من أزمات وتحديات محلية وخارجية، كما لا يمكن النظر لهذا التقارب بعيدًا عن التطورات الإقليمية الراهنة والتحولات التي تشهدها المنطقة، ورغبة القاهرة في استعادة دورها الإقليمي عبر بوابة السلام الفلسطيني-الإسرائيلي. وفي هذا الإطار يمكن تناول عدد من الاعتبارات والعوامل التي تحكم في مجملها مسار ومستوى العلاقات المصرية الإسرائيلية الحالية:
- تخفيف الضغوط الدولية عبر البوابة الإسرائيلية
يرى كثيرون أن النظام في مصر يسعى من خلال توثيق علاقاته مع إسرائيل لكسر العزلة وتخفيف الضغوط الدولية عليه سواء الأميركية أو الأوروبية وذلك عبر البوابة الإسرائيلية؛ إذ يمثِّل تدهور حقوق الإنسان وملف الحريات في مصر أحد مصادر القلق الغربي بشكل عام. ورغم محاولات التقارب مع بعض العواصم الأوروبية من خلال الصفقات التجارية والعسكرية الضخمة، فإن تقارير المنظمات الحقوقية الدولية، التي ترسم صورة بالغة السوء حول وضع الحريات في مصر، تشكِّل عقبة كبرى في علاقات نظام السيسي سواء مع الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي. فعلى الصعيد الأوروبي تشهد العلاقات بين مصر وإيطاليا حاليًّا أزمة سياسية حادَّة بسبب قضية مقتل الباحث الإيطالي، جوليو ريجيني، في القاهرة خلال يناير/كانون الثاني 2016 في ظل اتهامات بتورط أجهزة أمنية في تعذيبه وقتله. وقد أدت هذه القضية، وفشل السلطات المصرية في إقناع الجانب الإيطالي بنتائج التحقيق فيها حتى الآن، إلى توتر غير مسبوق في العلاقة يبن البلدين تمثَّل في قرار إيطالي بمنع تصدير قطاع غيار الطائرات الحربية من نوع "إف 16" إلى مصر، في ظل تخوُّف من تداعيات هذا الموقف على علاقات مصر مع الدول الأوروبية الأخرى(8).
أمَّا على صعيد العلاقات المصرية-الأميركية فرغم التعاون والتنسيق الواضح بين البلدين فيما يخص العديد من الملفات وعلى رأسها مواجهة تصاعد خطر الجماعات الجهادية المسلحة في المنطقة، فإن من الواضح أن الاستراتيجية الأميركية تميل للتعامل مع نظام الرئيس السيسي في أضيق الحدود وقصر التعاون على القضايا الأمنية فقط، بما يضمن الحفاظ على استقرار المنطقة الذى يُعدُّ أمرًا مهمًّا للغاية بالنسبة للولايات المتحدة في هذه المرحلة؛ إذ إن الملاحَظ هنا أن التعاون الأمني القوي بين القاهرة وواشنطن لا يواكبه تعاون مماثل خصوصًا في مجال المساعدات الاقتصادية أو ضخ استثمارات أميركية جديدة تبدو مصر في مسيس الحاجة إليها حاليًّا.
ويعود ذلك على الأرجح إلى أن العديد من دوائر صنع القرار الأميركية لا تخفي انزعاجها مما يجري في القاهرة، ولاسيما بالنسبة لحقوق الإنسان والحريات والتضييق على المجتمع المدني، وقد عبَّر المسؤولون الأميركيون مرارًا عن هذا الانزعاج، خصوصًا بعد قضية التمويل الأجنبي المتهم فيها عدد من المنظمات الحقوقية؛ حيث اعتبر وزير الخارجية الأميركي جون كيري أن "مصر لا تضمن مناخًا مناسبًا لعمل المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان"(9). وفي ضوء هذه المعطيات تبدو القاهرة في حاجة قوية لدعم إسرائيل، ومن ثم اللوبي اليهودي القوي في الولايات المتحدة بهدف تخفيف الضغوط الأميركية عليها وإقناع الجانب الأميركي بمساعدة مصر اقتصاديًّا وسياسيًّا في مواجهة التحديات التي تمر بها.
- التحديات الأمنية في سيناء وخطر تنظيم الدولة
يُشكِّل التعاون والتنسيق الأمني والاستخباراتي بين مصر وإسرائيل، ولاسيما بشأن الوضع الأمني في سيناء، حجر الزاوية في العلاقات الحالية بين البلدين؛ فقد دفع تنامي خطر الجماعات الجهادية المسلحة في شبه جزيرة سيناء، وتَصَاعُد نشاط ما يُسمَّى بولاية سيناء التابع لتنظيم الدولة الإسلامية، وتيرة تعزيز التنسيق الأمني والعسكري بين القاهرة وتل أبيب لمواجهة هذا النشاط الذي يُشكِّل خطرًا مشتركًا على أمن البلدين. وقد برز هذا التنسيق جليًّا في سماح إسرائيل بدخول معدات عسكرية ثقيلة وطائرات إلى المناطق القريبة مع الحدود مع إسرائيل في شرق ووسط سيناء لتمكين الجيش المصري وقوات الأمن من مواجهة العناصر المسلحة، في مخالفة صريحة لبنود اتفاقية السلام بين البلدين والتي تمنع وجود هذه المعدات. ولم يكن ذلك ليحدث بدون أن تكون العلاقات بين البلدين على درجة عالية من القوة والثقة المتبادلة التي تحدَّث عنها السيسي. ولم يقتصر الأمر على التعاون الاستخباراتي والتنسيق الأمني بين البلدين، بل مارست إسرائيل ضغوطًا على الولايات المتحدة لتسليم مصر صفقة طائرات أباتشي كانت واشنطن قد جمَّدت تسليمها للجيش المصري عقب الإطاحة بمرسي؛ حيث أكَّد المسؤولون الإسرائيليون لنظرائهم الأميركيين أهمية هذه الصفقة لمساعدة الجيش المصري في التصدي للمسلحين في سيناء(10)، وهو ما تم بالفعل؛ إذ قامت واشنطن بتسليم هذه الطائرات في شهر سبتمبر/أيلول 2014(11).
- أزمة اقتصادية طاحنة
تواجه مصر أزمة اقتصادية طاحنة، ولم تنجح محاولات الحكومات المصرية المتعاقبة لإنعاش الاقتصاد منذ ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 وما أعقبها من اضطرابات سياسية. ورغم المساعدات الخليجية الضخمة، التي حصلت عليها مصر منذ الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين، فإنها لم تسهم في تخفيف الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت حِدَّتُها خلال العامين الماضيين، خصوصًا في ظل النقص الحاد في موارد النقد الأجنبي بسبب تراجع مصادر الدخل الرئيسية، التي تتمثل في الصادرات والسياحة وتحويلات العاملين في الخارج وعائدات قناة السويس. فقد تراجعت السياحة، لاسيما بعد حادثة تحطم الطائرة الروسية في سيناء وتوقف رحلات السياحة الروسية والبريطانية، وانخفضت عائدات قناة السويس بسبب تباطؤ حركة التجارة العالمية، فضلًا عن تدنِّي حجم الاستثمارات الأجنبية القادمة للسوق المصرية، وتراجع حجم المساعدات الخليجية في ضوء انهيار أسعار النفط العالمية. وقد أسهم ذلك كله في ارتفاع نسبة العجز في الموازنة العامة للدولة، وتفاقم مشكلة الدَّيْن الداخلي الذي أصبح يُشكِّل نحو 98% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، كما انخفضت قيمة العملة الوطنية بشكل كبير (الدولار يساوي 8.88 جنيهات بالسعر الرسمي، بينما السعر في السوق السوداء يتخطى 11 جنيهًا)، فضلًا عن ارتفاع نسبة البطالة التي بلغت، وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في نهاية الربع الأول من العام الجاري، نحو 12.7%، وإن كان المحلِّلون يعتقدون أن الرقم أعلى من ذلك، ومرشح للارتفاع خصوصًا في ظل تراجع معدلات النمو الاقتصادي(12).
وفي ضوء هذه الأزمة التي تُشكِّل أحد أسباب الضغط على الحكومة المصرية وتؤثِّر على شعبيتها في الشارع المصري، فإن التقارب الحالي مع إسرائيل ربما يُمثِّل أحد الأدوات التي تستثمرها القاهرة للبحث عن مخرج من مشاكلها الاقتصادية عبر البوابة الإسرائيلية؛ إذ يمكن أن تلعب إسرائيل، أو هكذا تأمل القيادة المصرية، دورًا في تشجيع وحثِّ حلفائها في الولايات المتحدة وأوروبا على ضخِّ المزيد من المساعدات والاستثمارات في السوق المصري لإعانة مصر على تجاوز أزمتها الاقتصادية، إلى جانب إمكانية استغلال تأثير ونفوذ الدوائر اليهودية في قرارات المؤسسات المالية الدولي كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي لتقديم يد المساعدة للاقتصاد المصري سواء في صورة قروض أو تسهيلات.
- سد النهضة الغائب الحاضر
رغم أن الطرفين لا يشيران من قريب أو من بعيد لملف سد النهضة الإثيوبي في العلاقات بينهما، فإنه يبدو الغائب الحاضر في العلاقات المصرية-الاسرائيلية. وبينما تنفي إسرائيل أي دور أو علاقة لها بهذا الملف فإن هناك من يرى أنها جزء أساسي من هذا المشروع لاسيما في ضوء العلاقات القوية التي تربطها مع إثيوبيا اقتصاديًّا وعسكريًّا وأمنيًّا. ومن ثم فإن القاهرة تدرك، حتى وإِنْ لم تعلن، أن إسرائيل طرف أساسي، وإِنْ كان من خلف الستار، في مفاوضات سد النهضة بين مصر وإثيوبيا والسودان، فهناك تعاون وثيق بين أديس أبابا وتل أبيب في مجالات الري والزراعة، ويشير بعض الخبراء إلى أن هناك طابقًا كاملًا في وزارة المياه والطاقة الإثيوبية مخصص لخبراء المياه الإسرائيليين(13)، كما أن شركة كهرباء إسرائيل هي التي ستتولى إدارة كهرباء سد النهضة وإقامة محطات توليد الكهرباء الخاصة به(14). من هنا، فإن القاهرة، التي تخشى من تأثير سد النهضة على احتياجاتها المائية المتزايدة ما قد يُعرِّضها للعطش، قد تضطرُّ في مواجهة التعنت الإثيوبي الواضح في هذا الملف للاستعانة بالصديق الإسرائيلي لاستغلال علاقاته القوية بأديس أبابا لتليين موقفها تجاه بعض النقاط والقضايا الخلافية العالقة لاسيما مسألة ملء خزان السد بطريقة لا تُؤثِّر بشكل كبيير على الحصة المائية لمصر التي تواجه شحًّا متزايدًا في المياه نتيجة الزيادة السكانية الهائلة. في هذا الإطار لا يستبعد المراقبون قيام إسرائيل بدور وساطة بين الجانبين المصري والإثيوبي للتفاهم حول التعاون في فترة ملء الخزان. وفي المقابل، فإن إسرائيل في حاجة إلى دعم مصر السياسي لإعادتها عضوًا بصفة مراقب في الاتحاد الإفريقي، وهو الهدف الذي سعى نتنياهو لتحقيقه في جولته الإفريقية الأخيرة. وقد كان لافتًا للانتباه أن زيارة سامح شكري لإسرائيل جاءت عقب هذه الجولة التي أثارت الكثير من القلق واللغط في الأوساط الإعلامية والسياسية المصرية حول تأثيرها على المصالح المصرية. غير أن الأجواء الودية التي طغت على لقاء شكري بنتنياهو تُظهر أن مصر الرسمية لا تشارك الشارع المصري قلقه أو مخاوفه من التحركات الإسرائيلية في إفريقيا، وهو ما قد يُفهم منه أن القاهرة تبدو مُطْمَئِنَّة لمتانة العلاقة مع تل أبيب بما يمنع الأخيرة من القيام بالإضرار بالمصالح المصرية لاسيما في موضوع مياه النيل الذي يُشكِّل قضية وجودية بالنسبة للمصريين.
- استعادة الدور الإقليمي
لا يمكن النظر للعلاقات المصرية-الإسرائيلية بمعزل عن رغبة القاهرة في استعادة دورها الإقليمي الذي تراجع بشكل كبير في السنوات الأخيرة، وترى أن ذلك يتم عبر تفعيل انخراطها مجدَّدًا في القضية الفلسطينية. فالسيسي، كما يرى كثيرون، يريد من خلال مساعيه لدفع عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، استعادة الدور الذي كانت تقوم به مصر في عهد مبارك، ووفقًا للرؤية المصرية القديمة الجديدة، فإن تحقيق ذلك يتطلب علاقات قوية ووطيدة مع تل أبيب تُمَكِّن القاهرة من لعب دور فاعل بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ومن ثم حصول النظام في مصر على الدعم الغربي والأميركي من خلال تقديم نفسه كأحد رعاة السلام في المنطقة.
لكن ما يثير التساؤل بشأن الدوافع وراء مساعي القاهرة لإحياء العملية السلمية هو توقيتها؛ فالظروف السياسية الراهنة والسياق الإقليمي والدولي الحالي لا يوفران الحد الأدنى من الشروط والضمانات اللازمة لتحقيق أي تقدُّم على صعيد هذه العملية. ويتضح ذلك جليًّا بالنظر للمواقف المتطرفة والمتشددة للحكومة الإسرائيلية ورفضها المعلن لكل مبادرات السلام وآخرها المبادرة الفرنسية، وفي ظل اختلال موازين القوى بين العرب وإسرائيل لصالح الأخيرة، فضلًا عن حالة الترقب والانتظار التي يشهدها العالم لنتائج انتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة. بل إن البعض يرى أن دعوات السلام في هذا التوقيت تصبُّ في مصلحة الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي ستبدو بتجاوبها الظاهري مع تلك الدعوات، كأنها راغبة بالفعل في السلام، بما يخفف عنها الضغوط الدولية التي تحاصرها وخاصة في أوروبا ردًّا على مواقف نتنياهو المتعنتة(15).
وفي ضوء هذا الحقائق يعتقد بعض المراقبين أن التحرك المصري بشأن عملية السلام، ربما يعكس رغبة في استعادة الدور الإقليمي أكثر من كونه يستند إلى رؤية متكاملة وإرادة حقيقية لإنجاز اختراق في جدار العملية السلمية. والأرجح أن القاهرة تريد من تحركاتها في هذا الإطار توجيه رسالة للمحيط العربي ولبعض الأطراف الإقليمية، خصوصًا تركيا، التي تسعى للعب دور أكبر في القضية الفلسطينية، بأن مصر لا تزال هي اللاعب الأهم في هذه القضية؛ إذ لا تُخفي القاهرة، التي توتَّرت علاقتها بشدة مع أنقرة عقب الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، انزعاجها من التقارب التركي-الاسرائيلي والاتفاقات التي توصل إليها الجانبان مؤخرًا، لاسيما على صعيد إجراءات تخفيف الحصار عن قطاع غزة وما يُشكِّله ذلك من إحراج للجانب المصري، الذي يُتَّهَمُ على نطاق واسع من قبل الفلسطينيين بالمشاركة في حصار القطاع عبر إغلاق معبر رفح الحدودي. لذلك يحاول الجانب المصري عبر علاقاته القوية مع إسرائيل منع تركيا من القيام بدور منافس له خصوصًا فيما يتعلق بالوضع في قطاع غزة. لكن القاهرة تواجه عقبة مهمَّة في هذا الإطار، وهو علاقتها المتأزمة مع حركة حماس التي تسيطر على القطاع؛ إذ إنها لا يمكن أن تلعب دورًا فاعلًا في غزة دون أن يمرَّ ذلك عبر التنسيق مع حماس. ومما يجعل ذلك أمرًا ضروريًا أن إسرائيل طلبت خلال زيارة شكري الأخيرة أن تقوم القاهرة بمساعدتها في إعادة الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة؛ الأمر الذي يُرجِّح أن تشهد الفترة القادمة مزيدًا من الانفتاح الرسمي المصري على حركة حماس.
خلاصة
يمكن القول: إن العلاقات المصرية-الإسرائيلية تشهد حاليًّا أفضل مراحلها منذ توقيع اتفاقية السلام بين البلدين عام 1979، وذلك بالنظر لحجم التعاون والتنسيق بين الجانبين، إلا أنه لا يمكن تفسير هذا التقارب غير المسبوق بعيدًا عن التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي تواجه النظام في مصر داخليًّا وخارجيًّا. ورغم ما تمثِّله العلاقات مع مصر من أهمية سياسية واستراتيجية كبرى لإسرائيل، تبدو القاهرة في ضوء الظروف الراهنة الأكثر احتياجًا للطرف الإسرائيلي لمواجهة هذه التحديات التي تُشكِّل في مجموعها المحدد الأهم في رسم مسار علاقاتها مع تل أبيب، وهو ما يعني أن ميزان هذه العلاقات المختل لصالح الطرف الإسرائيلي سيبقى قائمًا طالما بقيت هذه التحديات، وبعد أن أضحت العلاقة مع إسرائيل بوابة للحصول على القبول والاعتراف من أميركا والمجتمع الدولي، وتخفيف الضغوط والانتقادات، وتشجيع الاستثمارات والمساعدات وترسيخ الحكم والشرعية في مواجهة تآكل الشعبية.
_______________________________
1. "السيسي: السلام بين مصر وإسرائيل سيكون أكثر دفئًا بحل القضية الفلسطينية"، أصوات مصرية، 17 مايو/أيار 2016، (تاريخ الدخول: 30 يونيو/حزيران 2016):
http://www.aswatmasriya.com/news/details/62731
2. "السيسي لـ أسوشيتد برس: يجب توسيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل لتشمل دولًا عربية أخرى"، البداية المصري، 27 سبتمبر/أيلول 2015، (تاريخ الدخول: 28 يونيو/حزيران 2016):
http://albedaiah.com/news/2015/09/27/97420
3. "شكري: زيارة إسرائيل بناء على رؤية السيسي لإحياء عملية السلام"، دوت مصر، 10 يوليو/تموز 2016، (تاريخ الدخول: 13 يوليو/تموز 2016):
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=1757046017865644&id=1479684935601755
4. عبد الله، عمرو، "السلام الدافىء للسيسي حلقة جديدة في حبل الود مع إسرائيل (إطار)"، مصر العربية، 19 مايو/أيار 2016، (تاريخ الدخول: 19 يونيو/حزيران 2016):
5. علام، سارة، "بعد رفض البابا شنودة والبابا كيرلس زيارة القدس منذ 1967.. البابا تواضروس يزور الأراضي المحتلة للصلاة على أستاذه.. ومصادر: السفر استثنائي لتكريم المطران الراحل إبراهام ولا يعني كسر المقاطعة"، اليوم السابع، 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، (تاريخ الدخول: 25 يونيو/حزيران 2016):
6. "الجيش الإسرائيلي: التعاون العسكري مع مصر والأردن حاليًّا لم يسبق له مثيل"، سي إن إن عربي"، 21 إبريل/نيسان 2016، (تاريخ الدخول: 1 يوليو/تموز 2016):
http://arabic.cnn.com/middleeast/2016/04/20/israel-egypt-jordan-isis
7. "السيسي لواشنطن بوست: أتحدث مع نتنياهو كثيرًا، وانهيار بلدي، هو ما يقلقني، بصدق لا أفكر ولو لثانية بزوجتي"، القدس العربي، (تاريخ الدخول: 12 يوليو/تموز 2016):
http://www.alquds.co.uk/?p=310642
8. "نظام السيسي قلق من انقلاب أوروبي عليه"، العربي الجديد، 9 يوليو/تموز 2016، (تاريخ الدخول: 12 يوليو/تموز 2016):
https://www.alaraby.co.uk/politics/2016/7/8/نظام-السيسي-قلق-من-انقلاب-أوروبي-عليه
9. "توتر العلاقات الأميركية-المصرية: "التمويل الأجنبي" و"العقرب" و"ريجيني"، العربي الجديد، 29 مارس/آذار 2016، (تاريخ الدخول: 12يوليو/تموز 2016):
10. "إسرائيل تحث الولايات المتحدة على عدم إلغاء بيع طائرات الأباتشي مع مصر"، هآرتس، 19 مارس/آذار 2014، (تاريخ الدخول: 29 يونيو/حزيران 2016):
http://www.haaretz.com/israel-news/.premium-1.580617
11. "أميركا تسلِّم مصر 10 طائرات أباتشي، بي بي سي، 21 سبتمبر/أيلول 2014، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2016):
http://www.bbc.com/arabic/middleeast/2014/09/140920_us_egypt_apaches
12. "الاقتصاد المصري يواصل التباطؤ للشهر التاسع على التوالي"، العرب اللندنية، 11 يوليو/تموز 2016:
13. حسين، ولاء، "هل تعد إسرائيل كلمة السر في أزمة سد النهضة"، المونيتور الأميركي، 22 مارس/آذار 2016، (تاريخ الدخول: 19 يونيو/حزيران 2016):
14. الديب، طارق، "سد النهضة.. الغائب الحاضر في لقاء شكري ونتنياهو"، المصريون، 10 يوليو/تموز 2016، (تاريخ الدخول: 12 يوليو/تموز 2016):
15. الشامي، خالد، "عن مبادرة السيسي الفلسطينية: لا تسمحوا بمكأفاة مصرية لنتنياهو"، القدس العربي، 20 مايو/أيار 2016، (تاريخ الدخول: 20 يونيو/حزيران 2016):