تسلِّط هذه الورقة الضوء على تاريخ النشاط الاقتصادي للجيش المصري منذ دخوله منافسًا للقطاع الخاص أوائل الثمانينات، والأسباب التي تقف وراء هذا التوسع الكبير في دوره في الحياة الاقتصادية في السنوات الأخيرة، لاسيما منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي السلطة، وما إذا كان هذا الدور مؤقتًا فرضته الظروف الحالية، أم سيتحول بفعل التطورات والحقائق على الأرض، إلى دور دائم. كما تحاول الورقة رصد التداعيات المترتبة على هذا التضخم في نفوذ ودور الجيش على الوضع الاقتصادي والسياسي في مصر، وعلى المهام الأساسية المؤسسة العسكرية ومكانتها وصورتها في الشارع المصري. وتخلص الورقة إلى أن الدور الضخم الذي أصبح الجيش يلعبه في حلِّ مشاكل البلاد الاقتصادية والمعيشية، من شأنه أن يفسد الاقتصاد ويضر بوضع وموقع الجيش نفسه. أمَّا على الصعيد السياسي، فإن هذا الدور من شأنه أن يكرِّس حقائق على الأرض تجعل من الصعب تجاوزها عند أي حديث مستقبلي محتمل عن تحجيم دور الجيش في الحكم والعودة لممارسة مهامه الأساسية. كما أن هذا الاعتماد المتزايد على الجيش، يعكس في أحد جوانبه تخليًا عن فكرة بناء مؤسسات دولة مدنية قوية وقادرة على القيام بمهامها. ولا شك أن هذا الوضع بقدر ما يحول دون أي تحول سياسي وديمقراطي حقيقي، فإنه يمنع إعادة بناء دولة مؤسسات حديثة، وقد يُبقي مصر عالقة في مرحلة "شبه الدولة"، حسب توصيف السيسي نفسه.
مقدمة
في حديث لرؤساء تحرير الصحف القومية مؤخرًا، دافع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن الدور الذي تلعبه القوات المسلحة في تنفيذ مشروعات التنمية وفي القطاعات الاقتصادية المختلفة، وقال: إن هذا الدور سيتراجع في السنوات المقبلة، بعد أن تكون "انتهت من خطة إعادة بناء وتأهيل البنية الأساسية للدولة"(1). وبعدها بأيام وعلى هامش مؤتمر الشباب، الذي عُقد في مدينة شرم الشيخ أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، جدَّد السيسي دفاعه عن هذا الدور نافيًا في الوقت نفسه أن يكون دور الجيش الاقتصادي على حساب دور القطاع الخاص(2). والموقف نفسه عبَّر عنه رئيس الوزراء، شريف إسماعيل، الذي قال: إن دور الجيش في الاقتصاد سيتقلَّص في غضون عامين إلى ثلاثة أعوام(3).
هذا الدفاع المتكرر من جانب المسؤولين المصريين عن النشاط الاقتصادي للجيش، يأتي ردًّا على الانتقادات المتزايدة لما يراه كثيرون تغولًا وهيمنة لدور المؤسسة العسكرية على الحياة الاقتصادية في مصر وما قد يترتب عليه من آثار سلبية اقتصاديًّا وسياسيًّا. فقد تنامى هذا الدور بصورة كبيرة في ظل سُلطة ما بعد 3 يوليو/تموز 2013؛ ما أتاح للقوات المسلحة السيطرة على المشروعات الكبرى سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، لتصبح، منذ تولي السيسي السلطة، أهم لاعب اقتصادي، وتوسَّع دورها ليشمل مختلف القطاعات.
قد تكون هناك أسباب موضوعية لهذا التوسع غير المسبوق في دور الجيش في الشأن الاقتصادي، بعضها يرتبط بالظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها مصر منذ ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011, وما أعقبها من اضطرابات سياسية خلَّفت أضرارًا جسيمة بالاقتصاد المصري. وبعضها يرتبط بضعف وعجز مؤسسات الدولة المدنية عن القيام بمهامها في حلِّ الأزمات المتعددة التي تواجه البلاد. إلا أن هذا التوسع يرتبط بشكل أساسي برؤية السيسي الذي يبدو أكثر ثقة واطمئنانًا للمؤسسة العسكرية التي جاء منها، مقارنة بموقفه من باقي مؤسسات الدولة، وهذا ما جعله يعتمد بشكل رئيس على دور الجيش في تحفيز الاقتصاد والنمو وخلق فرص عمل جديدة. وقد تعزَّز اعتماد السيسي على دور الجيش مع تردد رجال الأعمال وشركات القطاع الخاص الوطني في ضخِّ مزيد من الاستثمارات، إلى جانب عزوف المستثمرين الأجانب عن دخول سوق يحيط بها وضع سياسي وأمني غير مطمئن.
وقد كان هذا التوسع في دور الجيش الاقتصادي، مدعاة لكثير من الانتقادات التي لم تقتصر على خصوم ومعارضي النظام السياسيين، بل شملت كذلك قطاعًا كبيرًا من خبراء الاقتصاد ورجال الأعمال في مصر، وحتى الأوساط المالية في الخارج؛ إذ يعتبر معارضو السلطة أن ما يحدث حاليًّا هو "عسكرة" للاقتصاد بعد تأميم وعسكرة السياسة وبشكل يكرِّس هيمنة الجيش على السلطة والثروة في مصر. بينما لا يُخفي كثير من رجال الأعمال، بمن فيهم الذين أيَّدوا السيسي ودعموا تحركه للإطاحة بالرئيس السابق، محمد مرسي، هواجسهم المتزايدة من التأثيرات السلبية لهذا التوسع في دور الجيش الاقتصادي، خصوصًا فيما يتعلق بفرص شركات القطاع الخاص في المساهمة في دفع عجلة الاستثمار. وتشاركهم هذه المخاوف أوساط اقتصادية خارجية تنظر للدور المهيمن للجيش اقتصاديًّا بوصفه عقبة أمام ضخِّ أي استثمارات أجنبية في شرايين الاقتصاد المصري المنهك. فقد اعتبرت وكالة بلومبرغ الاقتصادية الأميركية، في تقرير لها في شهر أغسطس/آب الماضي، أن إنهاء ما وصفته بالاحتكار الصناعي العسكري لكل شيء في مصر "من الغسالات إلى زيت الزيتون" هو أحد الشروط الأساسية لكي تعود مصر مكانًا يستحق الاستثمار فيه(4).
تسلِّط هذه الورقة الضوء على تاريخ النشاط الاقتصادي للجيش المصري منذ دخوله منافسًا للقطاع الخاص، والأسباب التي تقف وراء هذا التوسع الكبير في دوره في الحياة الاقتصادية في السنوات الأخيرة، لاسيما منذ تولي السيسي السلطة، وما إذا كان هذا الدور مؤقتًا فرضته الظروف الحالية، أم سيتحول، بفعل التطورات والحقائق على الأرض، إلى دور دائم. كما تحاول الورقة رصد التداعيات المترتبة على هذا التضخم في نفوذ ودور الجيش، على الوضعين الاقتصادي السياسي في مصر، أو على المهام الأساسية للمؤسسة العسكرية ومكانتها وصورتها في الشارع المصري.
نشاط قديم ومراحل عدَّة
يعود انخراط الجيش في الأنشطة الاقتصادية المدنية منافسًا للقطاع الخاص، إلى بداية ثمانينات القرن الماضي، وتحديدًا عقب توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979, وما ترتب عليها من تقليص للمهام القتالية للجيش وخفض ميزانية الدفاع، وهو ما دفع القوات المسلحة للالتفات للنشاط الاقتصادي لتعويض ذلك. وقد مرَّ هذا النشاط منذ ذلك التاريخ بعدة مراحل مهمة:
المرحلة الأولى
منذ بداية الثمانينات وحتى بداية التسعينات، أي السنوات العشر الأولى من حُكم مبارك، حيث أُنشئت الأذرع الاقتصادية الرئيسية للجيش المصري، وتنوعت الشركات التي يملكها.
المرحلة الثانية
كانت منذ بداية التسعينات وحتى عام 2000، حينما بدأ نظام مبارك في تطبيق خطة للتحرير الاقتصادي أو ما سُمي بسياسة الخصخصة الاقتصادية وفقًا لنصائح وشروط صندوق النقد والبنك الدوليين في ذلك الوقت. وقد شهدت هذه المرحلة توسع الجيش في إنتاج السلع والخدمات المدنية بشكل أكبر، كما أقام المزيد من الشركات والمصانع الجديدة، والمزارع الشاسعة. وكان الهدف هو توفير احتياجات الجيش الغذائية والدوائية وغيرها، خصوصًا مع بدء تصفية مؤسسات القطاع العام التي كانت تمد الجيش بهذه الاحتياجات في السابق. لكن مع الوقت توسع هذا النشاط وامتد لقطاعات أخرى مثل التطوير العقاري والسياحي وغيرها.
المرحلة الثالثة
منذ عام 2000 وحتى 2011، وخلال هذه الفترة اتخذ تدخل الجيش في الحياة الاقتصادية منحى أكثر عمقًا وتأثيرًا، لاسيما مع تصاعد النفوذ السياسي والاقتصادي لكبار رجال الأعمال الذين برز دورهم مع صعود نجم جمال (نجل مبارك)، وهو ما اعتبره الجيش تهديدًا لمصالحه الاقتصادية ونفوذه السياسي، خصوصًا مع الخشية من أن يصل قطار الخصخصة إلى الشركات التي تملكها المؤسسة العسكرية(5). وفي السنوات الأخيرة من حكم مبارك، دخل الجيش في صدام بعضه مكتوم والآخر معلن مع هذه المجموعة من رجال الأعمال، بسبب الخلاف حول سياسات الخصخصة. وكان المبرر المعلن لقيادة الجيش في ذلك الوقت أن هذه السياسات المنحازة للأغنياء تشكِّل تهديدًا للسلام الاجتماعي في مصر، بينما كان السبب الأهم، في رأي البعض، أن الجيش رأى في سياسة الخصخصة التي انتهجتها حكومة أحمد نظيف تهديدًا واضحًا لمصالحه الاقتصادية.
المرحلة الرابعة
وهي مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني وما رافقها من أجواء غضب شعبي واسع ضد مبارك ورجال أعماله، وقد وفرت هذه الأجواء فرصة ذهبية للجيش ليس فقط لإجهاض سيناريو توريث السلطة لجمال مبارك، بل للتخلص من رجال الأعمال المرتبطين به وتقديم بعضهم للمحاكمة بتهمة الفساد. وقد استفاد الجيش من الإطاحة بمبارك ومحاكمات الفساد اللاحقة؛ حيث حصل على حصة أكبر من النشاط الاقتصادي كانت مخصصة لرجال الأعمال , كما سعى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي تسلَّم السُّلطة عقب تنحي مبارك، لتحصين نشاطات ومكتسبات الجيش الاقتصادية عبر إصدار عدد من التشريعات والقوانين؛ ففي مايو/أيار 2011، عدَّل المجلس قانون القضاء العسكري ليضيف إليه مادة تعطي النيابة والقضاة العسكريين وحدهم الحق في التحقيق في الكسب غير المشروع لضباط الجيش، حتى لو بدأ التحقيق بعد تقاعد الضابط. وبالتالي تجعل هذه المادة الضباط المتقاعدين بمنأى عن أية محاكمة أمام القضاء المدني. وقد جاءت هذه الإجراءات على خلفية تصاعد مطالبات الشارع السياسي في تلك الفترة، بإخضاع أنشطة ومشروعات الجيش الاقتصادية للرقابة الشعبية والعمل على الحدِّ منها. وهو ما رد عليه آنذاك اللواء محمود نصر، مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية، بأن الجيش "لن يسلِّم أبدًا هذه المشروعات لأي سلطة أخرى مهما كانت"، وأن هذه المشروعات "ليست من الأصول التي تمتلكها الدولة، ولكنها إيرادات من عرق وزارة الدفاع والمشاريع الخاصة بها"(6).
المرحلة الخامسة
فترة حكم الإخوان المسلمين والرئيس مرسي القصيرة من عام 2012 وحتى 30 يونيو/حزيران 2013، وقد شهدت تلك الفترة نوعًا من التعايش الصعب والهشِّ بين الجيش والإخوان الذين سعوا لطمأنة القوات المسلحة على مصالحها الاقتصادية، بل إن الدستور الذي وضعته لجنة تسيطر عليها أغلبية إسلامية، جاء ليكرِّس نفوذ الجيش الاقتصادي ويجعله بعيدًا عن الرقابة الشعبية. لكن أزمة الثقة التاريخية بين الجانبين كانت، على ما يبدو، أعمق من أن يتم جسرها عبر هذه التطمينات، لاسيما مع بروز الخلاف بين الطرفين حول مشروع تنمية قناة السويس وطريقة إدارته. بل إن هناك من يرى أن أحد أسباب إطاحة الجيش بمرسي هو حينما حاول تهميش دور الجيش في المشاريع الكبرى مثل تطوير قناة السويس ومشروع "توشكى"، وهو مشروع لاستصلاح الأراضي الزراعية(7).
المرحلة السادسة
هي مرحلة ما بعد 30 يونيو/حزيران 2013 وتولِّي السيسي السلطة، وفيها تحولت القوات المسلحة، كما يرى خبراء، من كونها لاعبًا كبيرًا في الاقتصاد المصري إلى فاعل مهيمن. فمنذ مجيء السيسي للحكم توسعت الأنشطة الاقتصادية للجيش بشكل تجاوز كل ما سبق في تاريخه، لتشمل مختلف القطاعات من المقاولات والطرق والبنية الأساسية وصولًا إلى قطاعات الصحة والتعليم والاستزراع السمكي، كما بدأت سياراته تنتشر في الشوارع لبيع المواد الغذائية، حتى إنه دخل مؤخرًا على خط المنافسة في بيع مكيفات الهواء وتوريد الدواء للجامعات(8).
أذرع اقتصادية عديدة وأرقام متضاربة
تمتلك القوات المسلحة عددًا كبيرًا من الأذرع والشركات والمؤسسات التي يطلق عليها البعض: إمبراطورية الجيش الاقتصادية والتي تضم عشرات المصانع والشركات(9).
لكن رغم تعدد هذه الأنشطة الاقتصادية والمؤسسات والشركات، فإنه من الصعب معرفة الحجم الحقيقي لحصة الجيش في الاقتصاد المصري على وجه اليقين. ويعود ذلك إلى ما يعتبره كثيرون غياب الشفافية، فضلًا عن السرية التي تحيط بالنشاط الاقتصادي للمؤسسة العسكرية؛ فعوائد هذه الأنشطة لا تمر عبر الخزينة العامة للدولة؛ حيث يوجد مكتب خاص في وزارة المالية مسؤوليته التدقيق في حسابات القوات المسلحة والهيئات التابعة لها، ولا تخضع بياناته وتقاريره لسيطرة أو إشراف البرلمان أو أية هيئة مدنية أخرى(10). وفي ضوء تشعب وتوسع النشاط الاقتصادي للجيش وما يحيط به من سرية تجعل الحصول على معلومات دقيقة بشأنه أمرًا في غاية الصعوبة، فإن حجم هذا النشاط يبقى لغزًا غامضًا؛ وربما هذا ما يفسر الأرقام المتضاربة لحجم هذا النشاط، فبينما يقدِّر البعض حصة الجيش بنحو 5 في المئة من إجمالي حجم الاقتصاد، تذهب بعض التقديرات الأخرى إلى أن هذه الحصة لا تقلُّ عن 40 في المئة، بالنظر إلى حجم الأصول الصناعية والتجارية والخدمية التابعة للجيش، بينما قدَّر تقرير لموقع "ميدل إيست آي" البريطاني حصة الجيش الحالية من الاقتصاد المصري بما يتراوح بين 50 إلى 60 في المئة. وذهب آخرون كرجل الأعمال البارز، نجيب ساويرس، إلى أن هذه النسبة لا تتجاوز 20 في المئة(11). لكن السيسي قلَّل بشدة من النسبة التي تمثلها حصة الجيش في الاقتصاد، معتبرًا أن كل ما يتردد في هذا الشأن مبالغات غير صحيحة، وذكر في حوار مع وكالة رويترز وقت ترشحه للرئاسة في مايو/أيار 2014، أن هذه الحصة لا تتجاوز 2%، ثم أعاد التأكيد على هذا الرقم قبل أيام(12).
التبعات الاقتصادية لتغول الجيش: أكثر من قراءة
رغم إقرار وتفهم معظم القوى السياسية والاقتصادية في مصر لحاجة الجيش في أن يكون له نشاطه الاقتصادي الذي يلبِّي احتياجاته من السلع والمستلزمات، ويسدُّ جانبًا من ميزانيته الدفاعية، فإن ثمة خلافًا وانقسامًا حادًّا بين معارضي السلطة ومؤيديها بشأن حدود هذا النشاط وحجمه وأسبابه وأهدافه وتبعاته لاسيما في ضوء التنامي غير المسبوق للدور الاقتصادي للجيش. وتبرز في هذا الصدد قراءتان:
القراءة الأولى
تخص المعارضين والرافضين لهذا التوسع الكبير الذي طرأ على دور الجيش في النشاط الاقتصادي والحياة المدنية عمومًا. ووفق هذه الرؤية فإن هذا الدور بات يتجاوز مسألة تلبية الاحتياجات الخاصة بالقوات المسلحة، إلى السيطرة على مفاصل الاقتصاد الوطني، وإنه في ظل غياب قواعد الشفافية والرقابة الشعبية على الأنشطة الاقتصادية للجيش، فإن توسع تلك الأنشطة، ستكون له تداعياته السلبية على المستويين الاقتصادي والسياسي فضلًا عن تأثيراته السلبية على مهام المؤسسة العسكرية وصورتها ومكانتها في الشارع المصري.
ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن هيمنة مؤسسات وشركات الجيش على الاقتصاد تلحق الضرر بالنشاط الاقتصادي في مصر عمومًا وتتناقض مع قواعد المنافسة، خصوصًا في ظل الامتيازات التي تتوفر للجيش دون غيره، سواء بالنظر لاستخدامه عمالة شبه مجانية من المجندين الذين يؤدون الخدمة العسكرية، أو لعدم تحمله أية أعباء ضريبية أو جمركية. فرغم تأكيد السيسي على أن الأنشطة الاقتصادية للجيش تُسدَّد عنها الضرائب وتخضع لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات، فإن التوازنات الحالية والتشريعات والقوانين القائمة تعزِّز قدرة الجيش الاقتصادية وتجعل من الصعب على الشركات المدنية منافسته اقتصاديًّا. ففضلًا عن الإعفاءات الجمركية والضريبية والعمالة شبه المجانية(13)، تحصل القوات المسلحة، بوصفها مالكًا لأراضي الدولة، على الأراضي اللازمة لإنشاء مشروعاتها الاقتصادية، دون سداد تكلفة هذه الأراضي لخزانة الدولة(14). وتُظهر هذه العوامل مجتمعة أن الجيش يحظى بميزات نسبية في أنشطته التجارية لا تتوفر لباقي الشركات المملوكة للدولة أو شركات القطاع الخاص(15).
ولا تقتصر التبعات السلبية لهيمنة الجيش الاقتصادية على فرص شركات القطاع الخاص الوطني فحسب، بل تُشكِّل، في رأي عديد من خبراء الاقتصاد، عقبة في وجه أي استثمارات أجنبية جديدة تبدو مصر في مسيس الحاجة إليها؛ فغياب قواعد التنافسية يجعل أي مستثمر أجنبي يتردد كثيرًا في الدخول إلى سوق يرى أن الجيش هو اللاعب الاقتصادي الأهم فيها، ويغيب عنها تكافؤ فرص المنافسة العادلة(16).
القراءة الثانية
تخص السُّلطة ومؤيديها وتعتبر أن ثمة مبالغة واضحة في الحديث عن الدور الذي يلعبه الجيش في النشاط الاقتصادي، أو الآثار التي يمكن أن تترتب على هذا الدور. ووفق هذا الرأي، فإن تزايد الاعتماد على الجيش في الاقتصاد، وإسناد العديد من المشروعات الكبرى لشركاته، هو أمر مؤقت فرضته الأوضاع الحرجة التي تعيشها مصر بعد سنوات من الاضطرابات وحالة عدم الاستقرار السياسي التي أعقبت الإطاحة بحكم مبارك. ويدعم هذا الموقف خبراء اقتصاديون يعتقدون بصعوبة الفصل بين هذا التوسع في دور الجيش وبين الظرفين الاقتصادي والسياسي في مصر، لاسيما في مرحلة ما بعد 30 يونيو/حزيران 2013، وحاجة السُّلطة الجديدة لتعزيز شرعيتها من خلال دفع عجلة النمو الاقتصادي ورفع معدلات التشغيل والاستثمار. وقد جرى التعويل على الجيش وشركاته لتحقيق هذا الهدف، لاسيما مع تراجع حجم الاستثمارات الخاصة وتردد كبار رجال الأعمال المصريين وكذلك الأجانب، في ضخِّ مزيد من الاستثمارات في السوق المصرية، لعدم تيقنهم من استقرار الأوضاع السياسية والأمنية(17). ووفق هذا الرؤية، فإنه لم يكن أمام السيسي سوى الاعتماد بشكل أساسي على دور الجيش، لتحقيق التعافي اقتصاديًّا والخروج سريعًا من حالة الركود الحالية، بما يمكِّن السلطة من مواجهة استحقاقات اقتصادية واجتماعية ملحَّة.
وبغضِّ النظر عن صحة الحُجج التي يسوقها المؤيدون والمعارضون لدور الجيش الاقتصادي، فإن الإشكالية الأساسية، كما يرى كثيرون، لا تتمثل في حق الجيش في أن تكون له مشروعاته الاقتصادية، وإنما في طريقة إدارة هذه المشروعات بعيدًا عن الرقابة والمحاسبة. كما أن الأمر يتعلق بحجم هذا النشاط الذي لم يعد يقتصر على المشروعات الكبرى، التي ليس بمقدور القطاع المدني تنفيذها، بل توسع ليشمل أنشطة ومجالات أخرى. أما المسألة المهمة في هذا الصدد فترتبط بمدى استمرارية هذا الدور المهيمِن على الاقتصاد في المستقبل من عدمه؛ إذ إن استمرار هذا الدور يعني أن القوات المسلحة ستصبح بديلًا عن شركات القطاع المدني بشقيه العام والخاص؛ ما قد يعني القضاء على وجود بيئة تنافسية حُرَّة مبنية على الكفاءة والشفافية والمساءلة، وهي الشروط اللازمة لنهضة الاقتصاد المصري وإقالته من عثرته.
وإلى جانب ذلك، فإن الأزمات الاقتصادية المعقَّدة والمتراكمة التي تواجه مصر حاليًّا، تبدو أكبر وأعقد من أن يتصدى لها الجيش وحده، مهما كانت إمكاناته، وهو ما يحتِّم عليه في نهاية المطاف السماح للقطاع الخاص والشركات المدنية بلعب دور أكبر في النشاط الاقتصادي. ولعل هذا ما يفسر محاولة السيسي تطمين المستثمرين بشأن دور الجيش الاقتصادي، وتأكيداته على أن هذا الدور ليس منافسًا لدور القطاع الخاص. فرغم اعتماده المتزايد على الجيش يدرك السيسي حاجته للقطاع الخاص في تحفيز النمو ورفع معدلات التشغيل وخلق فرص عمل جديدة، لاسيما في ظل ارتفاع نسبة البطالة (نحو 23 في المئة من القوة العاملة)، وعجز الدولة عن استيعاب الأعداد المتزايدة من العاطلين، وما قد يشكِّله ذلك من كلفة سياسية باهظة على السيسي ونظامه؛ إذ إن استمرار هذه المعدلات العالية من البطالة يمثِّل تهديدًا لوعود النظام بإرساء الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد(18).
التداعيات السياسية: البقاء في السُّلطة
تشير تبقى التداعيات السياسية لتنامي الدور الاقتصادي للجيش، هي الأكثر خطورة وتأثيرًا، لاسيما فيما يتعلق بتحديد مستقبل ودور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية، ورسم العلاقات المدنية-العسكرية، وفرص التحول الديمقراطي في مصر. ومن خلال قراءة معطيات المشهد السياسي الراهن، فإن ثمة مؤشرات على أن الصيغة القديمة التي كانت معتمدة في عهد مبارك، وهي بقاء الجيش خارج السياسة مقابل الحفاظ على مكتسباته وامتيازاته الاقتصادية، لم تعد مقبولة من جانب المؤسسة العسكرية، في ظل توجه داخل المؤسسة يرى أن الحفاظ على هذه المصالح يقتضي دورًا أكبر للجيش في الحياة السياسية سواء بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر، عبر تكوين طبقة جديدة من السياسيين ورجال الأعمال ترتبط مصالحها بشكل أكبر بالسلطة الجديدة، وتكون أكثر تـأييدًا لبقاء الجيش لاعبًا رئيسيًّا في السياسة والاقتصاد. وقد تَعَزَّز هذا التوجه عقب عدَّة وقائع، أظهرت للنظام ومن خلفه المؤسسة العسكرية، أنه لا يمكن الوثوق أو الاعتماد بشكل كبير على النخبة القديمة التي تنتمي لنظام مبارك، والتي بدت أكثر تمردًا على دور الشريك الصغير الذي تريد منها السلطة أن تقوم به. وقد برز ذلك سواء في موقفها المتردد من المشروعات والأنشطة التي يتولاها الجيش، أو عدم استجابة عدد من رجال الأعمال المحسوبين عليها لدعوات السيسي المتكررة للتبرع لصندوق "تحيا مصر" الذي أسسه لدعم الاقتصاد المصري.
وَضِمْنَ هذا التوجه سعى النظام لتشكيل كيانات سياسية بدعم من الجيش، مثل حزب "مستقبل وطن" الذي يتردد على نطاق واسع أن المخابرات الحربية كانت وراء تأسيسه، ويضم عددًا من وجوه الصف الثاني في الحزب الوطني المنحل، بالإضافة إلى بعض الوجوه الشبابية التي برزت عقب 30 يونيو/حزيران، وحظي بدعم واضح من أجهزة الدولة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. وفي إطار نفس التوجه جرت هندسة وتخطيط هذه الانتخابات واختيار المرشحين لها بإشراف مباشر من المخابرات العامة لضمان تشكيل مجلس نواب موال في أغلبيته للسلطة التنفيذية، وذلك بشهادة الدكتور حازم عبد العظيم، العضو السابق في حملة السيسي الانتخابية(19). كما يجري حاليًّا تجهيز مجموعة كبيرة من الشباب لخوض العمل السياسي تحت إشراف ورعاية رئاسة الجمهورية والمؤسسات الأمنية، ولدخول انتخابات المحليات، عبر البرنامج الذي تديره وزارة الشباب والرياضة. وتؤكد هذه المعطيات وغيرها أننا بصدد خلق حالة زبائنية بين السلطة الحالية وبين هذه الطبقة الجديدة التي يجري تكوينها من السياسيين ورجال المال وحتى الإعلام؛ ما يعني إعادة إنتاج ما كان قائمًا في عهد مبارك من شبكات مصالح وزواج السُّلطة برأس المال، ولكن بوجوه وأسماء جديدة. كما أنها تدعم القول بأن الجيش يسعى حاليًّا من خلال سيطرته السياسية والاقتصادية على البلاد، إلى ترجمة هذا الوضع لنفوذ سياسي يضمن له مكتسباته ومصالحه مستقبلًا(20). ومما يكرس هذا الوضع أن المؤسسة العسكرية أصبحت اللاعب الأهم، وربما الوحيد، في ساحة سياسية تتميز بالهشاشة والضعف، مع استمرار قمع وحظر أكبر تنظيم سياسي منظَّم في البلاد، وهو جماعة الإخوان المسلمين، إلى جانب ضعف وتشظي القوى والأحزاب السياسية المدنية. وفي ظل مشهد غابت عنه التوازنات التي كانت قائمة في عهد مبارك والتي كان فيها الجيش لاعبًا مهمًّا ولكن ضمن لاعبين آخرين، كالحزب الوطني، ولجنة السياسات، ورجال الأعمال المتحالفين مع النظام، ووزارة الداخلية، فضلًا عن دور القوى السياسية المعارضة بما فيها الإخوان المسلمون(21).
وتكمن الخطورة السياسية لهذا الوضع في أنه يمثِّل عقبة أمام أي تحول سياسي وديمقراطي حقيقي أو بناء دولة مؤسسات قوية، كما كان يراهن المصريون بعد ثورة يناير/كانون الثاني، كما أنه يحول دون الحد من تدخل الجيش في السياسة مستقبلًا، ويجعل مصر عالقة في منظومة تقتضي المصالح الاقتصادية للجيش زيادة سيطرته على السياسة(22).
صورة المؤسسة العسكرية
لا تقتصر تأثيرات تمدد دور الجيش في الأنشطة المدنية، على الأوضاع الاقتصادية والسياسية، بل تمتد أيضًا إلى المهام الأساسية للقوات المسلحة في الدفاع عن البلاد وحماية حدودها وأمنها، لاسيما في ظل التحديات والتهديدات المتصاعدة، سواء في ضوء الأزمات والانهيارات التي يشهدها النظام الإقليمي العربي، أو بالنظر إلى الوضع الأمني في سيناء؛ حيث يخوض الجيش وقوات الأمن مواجهات دامية صعبة مع المجموعات المسلحة التابعة لتنظيم ولاية سيناء. ويعكس الجدل الواسع حاليًّا بشأن الآثار المترتبة على توريط الجيش في الحياة المدنية، مخاوف قطاع واسع من المصريين بشأن تأثيرات ذلك على الوظيفة الأصلية للقوات المسلحة، في الدفاع عن البلاد(23). كما ألقى هذا الانخراط الكبير للجيش في الأنشطة الاقتصادية والتعامل مع الأزمات اليومية، بظلاله على صورة القوات المسلحة التي تحظى بمكانة واحترام كبيرين عند جموع المصريين، وهو ما أظهرته حملة الانتقادات اللاذعة على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي وصلت لحد السخرية من دخول الجيش لقطاعات جديدة، مثل قطاع التعليم أو الدواء أو لحل أزمات صغيرة مثل أزمة نقص لبن الأطفال(24).
خاتمة
إذا كان لمعظم الجيوش في العالم أنشطتها الاقتصادية، وأن الجيش المصري لا يبدو استثناء في ذلك، فإن هناك جملة من القواعد والضوابط التي ينبغي أن تحكم هذه الأنشطة، في مقدمتها: أن تخضع للرقابة الشعبية والبرلمانية، وأن تقتصر على مجالات وأنشطة بعينها تخدم احتياجات الجيش، وأن تكون في ظل قواعد المنافسة العادلة، وأن لا تكون بديلًا عن مؤسسات الدولة المدنية الأخرى، وبشرط، وهذا هو الأهم، ألا تسعى عبر هذه الأنشطة لتحقيق مكاسب سياسية. وفي ظل عدم توفر معظم هذه الشروط في الحالة المصرية، فإن تدخل الجيش في الحياة المدنية وتنامي دوره الاقتصادي بهذا الشكل، قد تكون عواقبه وخيمة لاسيما في حال استمر هذا الدور وتحوَّل من مؤقت إلى دائم. فهذا الدور الضخم الذي يلعبه الجيش في حل مشاكل البلاد الاقتصادية والمعيشية قد يفسد الاقتصاد ويضر بوضع وموقع الجيش نفسه. أما على الصعيد السياسي، فإن هذا الدور من شأنه أن يكرِّس حقائق على الأرض تجعل من الصعب تجاوزها عند أي حديث مستقبلي محتمل عن تحجيم دور المؤسسة العسكرية في الحكم والعودة لممارسة مهامها الأساسية. كما أن الاعتماد المتزايد على الجيش بهذا الشكل في الحياة المدنية والاقتصادية، ودون أن ترافقه محاولة إعادة بناء مؤسسات الدولة الأخرى وإعادة تأهيلها للقيام بدورها، بقدر ما يحول دون أي تحول سياسي وديمقراطي حقيقي، فإنه يمنع إعادة بناء الدولة، ويُبقي مصر عالقة في مرحلة "شبه الدولة"، حسب توصيف السيسي نفسه.
_________________________________