خيارات الاتحاد العام التونسي للشغل بعد المؤتمر

منذ إنشائه في أربعينيات القرن الماضي ظل الاتحاد العام التونسي للشغل فاعلًا هامًّا في الشأن العام. ويواجه، بعد مرور ست سنوات على الثورة، جملة تحديات برزت مع انعقاد مؤتمره الـ23 في نهاية يناير/كانون الثاني 2017؛ يرصدها التقرير الذي يُقدِّم قراءة في مسار عمله وعلاقته بمحيطه السياسي.
36f3cade3f354e94915da16f40a59af9_18.jpg
مقر الاتحاد العام التونسي للشغل (رويترز)

الترابط القوي بين الاتحاد العام التونسي للشغل، الهيئة النقابية الأبرز في تونس، وبين المشهد السياسي التونسي أمر ليس بالجديد، وقد ازدادت هذه العلاقة التحامًا وتونس تعيش وضعًا اقتصاديًّا صعبًا بعد ست سنوات من الثورة؛ لقد تراجع الاستثمار وضعف النمو، ولم تستطع حكومات ما بعد الثورة المتعاقبة حلحلة المطالب الاجتماعية والاقتصادية؛ التي كانت أهم محرك للشارع التونسي غداة تنحي الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، كما تضرَّرت القطاعات الإنتاجية من طاقة ومناجم وقطاع السياحة والقطاع الخدمي وارتفعت البطالة؛ مما زاد هشاشة الوضع العام للمواطن التونسي. 

والاتحاد العام التونسي للشغل من أبرز الفاعلين المعنيين بهذا التطور الاقتصادي وتأثيراته الاجتماعية والسياسية، فكما تواجه الحكومة بمختلف أجهزتها هذه التحديات فإن الاتحاد هو الآخر -نظرًا إلى خصوصيته النقابية- يواجه تحديات مماثلة؛ حيث أصبحت الحماية الاجتماعية وضمان الحقوق الدنيا للعاملين تحديًا جسيمًا في ظل استشراء التجارة الموازية والاقتصاد غير المنظم؛ الذي ينخر الاقتصاد الوطني. وتأتي بطالة الشباب لتطرح تحديًا آخر على الاتحاد المطالب بالبحث مع شركائه الاقتصاديين عن فرص للعمل لهؤلاء العاطلين. وفضلاً عن ذلك فقد باتت مراجعةُ الاتحاد العام التونسي للشغل منظومات التعليم والتكوين والبحث العلمي باعتماد مقاربة تشاركية تفيد الجميع ضربة لازبٍ. ويأتي الفساد الإداري والضرائب المجحفة وهشاشة صناديق الضمان الاجتماعي وإغراق القطاع العام على حساب القطاع الخاص ليجعل الصورة العامة لمجال العمل في تونس مقلقة. وإضافة إلى هذه التحديات العامة هناك تحديات خاصة؛ حيث إن الاتحاد العام التونسي للشغل معرض للاختراق من طرف فاعلين سياسيين كثيرين بهدف إرباكه وضرب وحدته الداخلية؛ وذلك بقصد إضعافه وتحجيم دوره الوطني العام. فالاتحاد بات ملزَمًا بإعادة هيكلته وبناء مؤسساته لمواجهة كل هذه التحديات العامة والخاصة؛ حتى يظل بنيةً نقابية مستقلة عن الأحزاب السياسية وعن الحكومة.

يتجدَّد الجدل حول دور الاتحاد العام التونسي للشغل في الشأن السياسي الوطني عادة عندما يحصل التوتُّر بين المركزية النقابية والسلطة السياسية الحاكمة؛ التي تتهم المنظمة النقابية بتجاوز وظيفتها الطبيعية: من المطلبية الاجتماعية إلى الشأن السياسي. غير أن العلاقة بين السياسي والاجتماعي في مجال تحرُّك الاتحاد يعدُّ إحدى خصائص هذه المنظمة وفرادتها؛ لذلك تبدو مسألة الفعل الوطني (السياسي) لهذه المنظمة النقابية الوطنية مسألة "محسومة" ماضيًا وراهنًا وربما مستقبلاً. 

فتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل (20 من يناير/كانون الثاني 1946) في ظل النظام الاستعماري الفرنسي، وفي خضم النضال الوطني التونسي كان تعبيرًا عن الهوية الوطنية العربية الإسلامية للعمال بالفكر والساعد، كما لم يقتصر نضال الاتحاد العام منذ التأسيس على البعد الاجتماعي المطلبي؛ بل انخرط مباشرة في النضال الوطني العام، وأثَّر في أشكاله؛ بل حتى في خطابه (مطالبه)؛ ما يعني أن الاتحاد كان طرفًا أساسيًّا في الحراك السياسي الوطني العام؛ وتجسَّد ذلك في المشاركة في أول مؤتمر وطني(1)؛ الذي كان أول لقاء بين جميع الأطراف السياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية في تونس، رُفع فيه لأول مرة شعار الاستقلال، وانطلاقًا من ذلك ناضَلَ الاتحادُ العام التونسي للشغل -جنبًا إلى جنب- مع الحركة الوطنية التونسية، وأدمج النضال الوطني والنضال المطلبي النقابي، ولم يفصل بينهما على عكس رغبة النقابات الفرنسية وإدارة الحماية؛ اللذان حاربا هذا التوجه بكل الطرق، وهو ما أدى لاحقًا إلى اغتيال الأمين العام المؤسِّس للاتحاد فرحات حشاد من قِبَل منظمة إرهابية ذات علاقة بالإدارة الاستعمارية. 

وعلى هذا الأساس خاض الاتحاد العديد من الإضرابات ذات الطابع الوطني (السياسي)؛ منها: الإضراب العام السياسي في 30 من أغسطس/آب 1946 للمطالبة بإطلاق سراح القادة الوطنيين؛ الذين اعتقلوا إثر انعقاد مؤتمر الاستقلال (ليلة القدر)، وإضراب 25 من نوفمبر/تشرين الثاني 1951 لمساندة المساعي التي قامت بها حكومة محمد شنيق(2). وبعد انطلاق الثورة التونسية العنيفة ضد الاحتلال الفرنسي سنة 1952، ومطاردة القيادة السياسية الوطنية (سجن، إبعاد إداري، إقامة جبرية، نفي)؛ تولى الاتحاد قيادة النضال الوطني بجميع أشكاله في الداخل والخارج؛ كما أسهم الاتحاد في عملية بناء الدولة الوطنية التونسية الحديثة؛ من ذلك أن كوادره هم الذين قاموا بصياغة البرنامج الاقتصادي والاجتماعي لمؤتمر الحزب الحر الدستوري التونسي سنة 1955(3)؛ وهو البرنامج الذي تبنَّته أول حكومة تونسية وطنية. كما شارك بعضُ مؤسِّسيه وأعضائه في الحكومات التونسية المتعاقبة(4)، وكان للاتحاد أكثر من 17 نائبًا في المجلس القومي التأسيسي الذي صاغ أول دستور للجمهورية التونسية المستقلة وذلك سنة 1959، كما شارك في الانتخابات البلدية بعد الاستقلال؛ واستمر هذا الدور خلال جميع الفترات وإن كان بتفاوت وبتجاذب حادٍّ أحيانًا بين الاتحاد والسلطة الحاكمة؛ وذلك على خلفية معارضة الاتحاد للتوجهات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة، وظلَّ هذا الأمر على ذاك الحال إلى حدود سنة 1978، عند وصول الخلاف العميق بين الاتحاد -بقيادة الحبيب عاشور- وبين حكومة الهادي نويرة إلى نقطة اللاعودة؛ وهو ما أدى إلى اندلاع أحداث "الخميس الأسود"؛ التي سقط فيها العشرات من الضحايا النقابيين في العاصمة وبقية المدن التونسية، إضافة إلى مئات من الجرحى، وأُعلنت على إثرها حالة الطوارئ، وزُجَّت القيادات المركزية والوسطى للاتحاد في السجن؛ وذلك بعد مقاضاتهم في محاكمات وُصفت بأنها "صورية"(5). 

وبعد تولي محمد المزالي حقيبة الوزارة الأولى، حاول إيجاد حلٍّ مع قيادة الاتحاد، وانعقد مؤتمر قفصة 1980، فتجاوز هذه الأزمة ظرفيًّا؛ وذلك من خلال إيجاد مَخْرَج مشرِّف للزعيم النقابي الحبيب عاشور، المغضوب عليه من قِبَل النظام، وذلك بإسناده الرئاسة الشرفية للاتحاد، في حين تولى الطيب البكوش الأمانة العامة، ومع اشتداد الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، وفي ظل توتر العلاقة بين الحكومة التونسية والنظام الليبي وأحداث الخبز عام 1984، وتداعيات العملية الإرهابية الإسرائيلية على مدينة حمام الشط سنة 1985؛ خاصة مع احتدام الصراع على الخلافة، وتزايد قوة المعارضة السياسية ضد النظام، تصاعد الخلاف بين المركزية النقابية وحكومة محمد مزالي؛ الذي حاول الهروب إلى الأمام بتأسيس منظمة نقابية بديلة عن الاتحاد العام التونسي للشغل، وذلك بالاعتماد على بعض القياديين القدامى، غير أن محاولته تلك فشلت وضاعفت من الأزمة؛ التي استمرت على حالها إلى حدود سنة 1989 بعد أن بادر "النظام الجديد" بالاعتراف بالقيادات النقابية الشرعية، وسمح لها بعقد مؤتمرها الشرعي صيف سنة 1989، وبرزت قيادة شرعية اختارت أمينًا عامًّا جديدًا للمنظمة. 

تميزت مرحلة 1989-2010 إجمالاً باتفاق القيادات المركزية للاتحاد العام التونسي للشغل مع النظام السائد؛ وذلك من خلال إبرام اتفاقيات حول الزيادة في الأجور كل ثلاث سنوات، وتطوير القوانين الأساسية، ودخل الاتحاد في هدنة غير معلنة مع نظام زين العابدين بن علي الاستبدادي حفاظًا على وجوده وهياكله، وإن ابتعد عن ممارسة دوره "السياسي" المعتاد؛ فلم يكن النقابيون بعيدون عن العمل الوطني العام إذ استمرَّ الاتحاد في ممارسة نضاله النقابي العام(6).

كما احتضن كل التيارات السياسية ومنظمات المجتمع المدني غير المعترف بها والمعارِضة للنظام، وانطلقت من مقرَّات فروعه المختلفة الاحتجاجاتُ الاجتماعية منذ يوم 17 من ديسمبر/كانون الأول 2010، وأسهمت الإطارات الوسطى والقواعد المنتمية للاتحاد بدور فعَّال في تلك الاحتجاجات وتنظيمها وقيادتها أحيانًا، وصولاً إلى إعلان الهيئة الإدارية الوطنية الإضرابات الجهوية يوم 8 من يناير/كانون الثاني؛ التي بلغت ذروتها بجهة صفاقس يوم 12 من يناير/كانون الثاني، وإضراب جهة تونس الكبرى يوم 14 من يناير/كانون الثاني إلى أن توجَّه النقابيون من ساحة محمد علي (المقر المركزي للاتحاد) إلى مقر وزارة الداخلية ورفع شعار "ديغاج" أي (ارحل) باللغة الفرنسية. 

وبعد الثورة أسهم الاتحاد في تشكيل "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي"(7)؛ مما ساعد في إنجاح اعتصامَيِ القصبة 1 والقصبة 2، كما كانت قيادة الاتحاد تُستشارُ في تكوين الحكومات قبل انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، وبالتوازي مع ذلك كان للاتحاد دور أساسي في إنجاح انتخابات المجلس التأسيسي، وفي التصدِّي للتطرف والإرهاب، وكانت مقرَّاته ضحية أعمال عنف متعددة، وتعرَّض بعض قيادييه للتهديد بالاغتيال عدة مرات (الحسين العباسي وأبو علي المباركي)؛ من جهة أخرى اتُّهِمَتْ قيادة الاتحاد من قِبَل "الترويكا" الحاكمة بالعمل ضد توجهاتها، وبمحاولة إضعافها؛ وصولاً إلى إسقاطها لصالح أطراف سياسية معارضة؛ وذلك من خلال شنِّ إضرابات في كل القطاعات الحساسة، وقيادة احتجاجات ذات طابع سياسي(8)؛ وذلك في الوقت الذي اتَّهَم الاتحادُ "الترويكا" ومناصريها بالتحرُّش بقيادييه، والاعتداء على مقرَّاته بهدف إبعاده عن "الاشتغال" أو "الاهتمام بالشأن السياسي". 

العلاقة التي تربط الاتحاد بالمشهد السياسي الحالي 

على خلفية كل ذلك تبدو تجربة الاتحاد العام التونسي للشغل فريدة من نوعها من حيث تنوُّع قاعدته الاجتماعية (عمال وموظفون من درجات مختلفة)، وحجمه (أكثر من 650 ألف منخرط)، وتمدده الجغرافي، ودقة تنظيمه، وانضباط قواعده؛ وذلك على اختلاف أفكارهم وتوجهاتهم النقابية والسياسية... كما تبدو العلاقة بين السياسي والنقابي داخل هذا الفضاء النقابي "زئبقية"؛ لا يمكن أن يلمسه المرء في حين يمكن أن يدركه. 

ويظهر أن الواقع السياسي -فيما بعد الثورة- الذي تميز بصراع أيديولوجي حادٍّ، وحداثة التجربة الحزبية، ومحدودية حجم الأحزاب وضَعْف إشعاعها، وعجزها عن قيادة مرحلة الانتقال الديمقراطي قد هيَّأ الظروف للاتحاد العام التونسي للشغل -بما يملك من شرعية تاريخية ونضالية، وتنظيم مركزي محكم ممتد جغرافيًّا واجتماعيًّا- أن يملأ بكل ثقله ذاك الفراغ السياسي؛ فعمل مع بعض الأطراف السياسية ومنظمات المجتمع المدني المناهضة لحكومة "الترويكا" باتجاه إسقاطها، وأسهم في إنجاح اعتصام الرحيل، المعادي لتلك الحكومة؛ وفي المقابل لم توافق قيادة الاتحاد على مطلب المعارضة المتمثِّل في حلِّ المجلس الوطني التأسيسي اعتقادًا منها بأن حلَّ المجلس الوطني التأسيسي سيُدخل البلاد في متاهة أخرى وحلقة مفرغة(9)؛ وذلك في الوقت الذي استمرَّ فيه في العمل من أجل حلِّ حكومة الترويكا، وبادر بالإعداد للحوار الوطني العام مع بقية المنظمات (سبتمبر/أيلول 2013)، وذلك للبحث عن رئيس حكومة توافقي لاستكمال المرحلة الانتقالية قبيل الانتخابات التشريعيَّة والرئاسيَّة نهاية سنة 2014. وبفضل "الرباعي" والأحزاب السياسية الفاعلة تجنَّبت البلاد سيناريوهات كادت تغرقها في فوضى عامة.. وهو أمر نال عليه الرباعي الراعي للحوار ثناءً واسعًا في الداخل والخارج، تُوِّج بحصوله على جائزة نوبل للسلام في 9 من أكتوبر/تشرين الأول 2015. 

كما لم يتردَّد الاتحاد العام التونسي للشغل في التوقيع على وثيقة" قرطاج"(10)، وتأييد حكومة "الوحدة الوطنية"؛ التي شكلها السيد يوسف الشاهد، ورفضت المنظمة الشغيلة دعوات المشاركة في الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، وآخرها الدعوة للمشاركة في الحكومة المنبثقة عن اتفاق قرطاج؛ وذلك على الرغم من ضمِّها لعضوين سابقين في المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل (عبيد البريكي ومحمد الطرابلسي).. 

غير أن انخراط الاتحاد العام بالشأن السياسي (الوطني) وإن وُجد قبولاً عامًّا من قِبَل بعضٍ من مكونات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، بل حتى من قِبَل الأطراف الخارجية ذات العلاقة بمصير تونس، فإن بعضهم يرى أن الأوضاع السياسية في البلاد بعد الثورة قد تغيَّرت، وأن العملية السياسيَّة قد تقدَّمت (سنُّ دستور 2014، تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية خريف 2014، وتشكيل الهيئات الدستوريَّة.. إلخ)؛ لذا يرى هؤلاء أنه من الضروري أن يتخلَّى الاتحاد العام عن الشأن السياسي، ويهتم أساسًا بـ"المسألة الاجتماعيَّة، ليترك للأحزاب المسائل السياسية العامة ومعارضة الحكومة أو مساندتها"(11)؛ وهو أمر رفضه المؤتمر الأخير للاتحاد وقيادته الجديدة خلال انعقاده في نهاية يناير/كانون الثاني 2017؛ إذ أكَّد الأمين العام الجديد للمنظمة نور الدين الطبوبي أن المرحلة القادمة هي "مرحلة صعبة ودقيقة جدًّا، تتطلَّب ضرورة الحفاظ على مبادئ المسؤولية المشتركة بين الفاعلين السياسيين في البلاد، والمحافظة على ثقافة الحوار الاجتماعي، والحوارُ الوطني الهادئ والهادف سيبقى دائمًا يُوازن بين دوره الاجتماعي ودوره الوطني، وهذه الميزات ستبقى توجهاتٍ عامة للاتحاد طوال مسيرته"(12). 

ما الجديد الذي سيُضيفه الأمين العام 

يُعَدُّ نور الدين الطبوبي(13) ابن "جهاز المؤسسة" المنظمة، ويُحْسَبُ على "الخط العاشوري"(14)، كما يُوصف بأنه "نقابيٌّ كلاسيكيٌّ"، كما يبدو توجُّهُه النقابي غيرَ بعيدٍ عن توجُّه الأمين العام السابق حسين العباسي، ما يعني أنه سيحافظ على سلوك القيادة السابقة نفسه وخيارات المنظمة النقابية ومـــواقفها، وهو أمر أكده الطبوبي نفسه؛ عندما نادى بضرورة "الحفاظ على مبادئ المسؤولية المشتركة بين الفاعلين السياسيين في البلاد، والمحافظة على ثقافة الحوار الاجتماعي والحوار الوطني الهادئ والهادف"(15)؛ وذلك مع الاهتمام بالشؤون التنظيمية للمنظمة وتطوير أدائها، وتعميق الممارسة الديمقراطية داخلها. 

تحديات خارجية وداخلية 

تَمُرُّ البلاد التونسية بعد 6 سنوات من الثورة بوضع اقتصاديٍّ صعب ودقيق من مظاهره ضعف نسق النموِّ والاستثمار، وارتفاع حجم الديون، وتراجع إنتاج بعض القطاعات الأساسية (مناجم وطاقة(؛ خاصة قطاع السياحة؛ الذي تضرَّر نتيجة العمليات الإرهابية التي عرفتها بعض المناطق السياحية (متحف باردو، المنطقة السياحية بسوسة)، انعكس ذلك على الوضع الاجتماعي العام؛ خاصة ارتفاع نسبة البطالة 15.5?، واستمرار التهميش الاجتماعي والجغرافي، وتراجع فعالية الأحزاب السياسية.. وباعتبار أن الاتحاد العام التونسي للشغل جزءٌ من المجتمع وله علاقة مباشرة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية؛ فإن انعكاس تلك الأوضاع على منظوريه مؤكد وعميق؛ لذلك يطرح عليه الإسهام في معالجة التحديات نفسها التي تُواجه الحكومة والمجتمع، وإن كان ذلك من زوايا وطرق مختلفة، وإجمالًا يمكن القول: إن أهم التحديات التي تُواجه الاتحاد في الفترة القادمة تتمثَّل في(16):

  • محاربة مظاهر التجارة الموازية والاقتصاد غير المنظم؛ الذي ينخر الاقتصاد الوطني، ولا يحترم الحدَّ الأدنى من الحماية الاجتماعية والحقوق الدنيا للعاملين.
  • خلق فرص التشغيل؛ خاصة للشباب العاطل من حاملي الشهادات العليا.
  • مراجعة المنوال التنموي الهشِّ؛ الذي عجز إلى الآن في خلق مواطِنِ شغل، وصياغة منوال جديد من خلال مراجعة جدية لمنظومات التعليم، والتكوين والبحث العلمي باعتماد مقاربة تشاركية لاستكمال ما شرع فيه بين الأطراف الاجتماعية.
  • محاربة الحيف الجبائي، والعمل من أجل إدماج الاقتصاد الموازي في الدورة الاقتصادية المنظمة.
  • استهداف مختلف مظاهر الفساد؛ التي تُشَجِّع الاقتصاد المارق عن القانون.
  • حماية الصناديق الاجتماعية؛ وإصلاحها وفق رؤية شاملة وبعيدة المدى، وإيجاد الحلول المناسبة.
  • خوض الانتخابات البلدية والجهوية والإقليمية لتكريس البعد الاجتماعي، وتطبيق الخيارات الاقتصادية في المجال المحلِّيِّ.
  • العمل على تحسين ظروف العمل والتشريعات المنظمة له؛ التي يرى الاتحاد من خلالها محاولة للانقلاب عبر إغراق القطاع العام على حساب القطاع الخاص. 

أمَّا التحديات الداخلية للمنظمة فتتمثل خاصة في:

  • حماية المنظمة من الاستهداف والاختراق، وهي مخاوف طفت على السطح تزامنًا مع السباق الانتخابي للمؤتمر الـ23 الأخير.
  • العمل على صدِّ كل محاولات إرباك الاتحاد وضرب وحدته الداخلية بقصد إضعافه وتحجيم دوره الوطني العام. 

ومن أهم التحديات أيضًا "إعادة هيكلة الاتحاد العام التونسي، وتطوير الأداء النقابي، وكذلك تدعيم عود المنظمة النقابية، وبناء مؤسساتها بناءً صحيحًا قادرًا على مواجهة كل التحديات الصعبة.. 

ولا شك أن أهم تحدٍّ يُواجه القيادة المركزية الجديدة للاتحاد العام التونسي للشغل المنظَّمة هو مدى قدرتها على المحافظة على استقلالية المنظمة أمام محاولات الأحزاب السياسية؛ التي تسعى لتوظيفها في معاركها وأجنداتها السياسية والأيديولوجية، وهو أمر سيكون محدِّدًا لمواصلة المنظمة دورها التاريخي بأبعاده الاجتماعية والمطلبية والوطنية العامة.

_______________________________

د. عبد اللطيف الحناشي: أستاذ التاريخ السياسي المعاصر والراهن، جامعة منوبة- تونس

ABOUT THE AUTHOR

References

1 - مؤتمر الاستقلال أو ليلة القدر: انعقد في 23 من أغسطس/آب 1946م الموافق ليوم 26 رمضان 1365هـ، وكان أول مناسبة تجتمع فيها القوى الوطنية التونسية بعد سنوات طويلة من التباعد والخلاف.

2 - محمد شنيق (1889-1976): تولى الوزارة الكبرى مرتين؛ أولاهما عام 1943، والثانية في مطلع الخمسينات، وهي أول حكومة تونسية بدأت التفاوض حول الاستقلال الداخلي لتونس أثناء فترة الحماية الفرنسية.

- انحاز الاتحاد للزعيم الحبيب بورقيبة في صراعه مع الزعيم صالح بن يوسف، وكان هو الذي نظم مؤتمر صفاقس 1955 للحزب الدستوري، وأشرف على حمايته.

4 - تولى الوزارة في أواخر الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي نحو 13 نقابيًّا نذكر منهم: أحمد بن صالح، مصطفى الفلالي، محمود المسعدي، أحمد نور الدين، محمود الخياري.. إلخ.

5 - تشير بعض التقارير المستقلة إلى أن حوالي أربعمائة شخص قتيل سقطوا في الأحداث، وجُرح أكثر من ألف مواطن نتيجة المواجهات بين الجيش والأمن من جهة، وبين المتظاهرين من جهة أخرى، في حين أقرت حكومة الهادي نويرة بسقوط 52 قتيلاً و365 جريحًا فقط، كما شهد يوم 26 من يناير/كانون الثاني 1978 حملات اعتقالات واسعة في صفوف النقابيين مركزيًّا وجهويًّا، تلاها تنصيب قيادة نقابية موالية للحكومة خلفًا للحبيب عاشور؛ الذي زُجَّ به في السجن ليبدأ بعد ذلك نظام بورقيبة في سلسلة من المحاكمات لرموز اتحاد الشغل بسبب إقرار الإضراب العام.

6 - تبنَّى 382 إضرابًا و27 اعتصامًا عماليًّا سنة 2007، و412 إضرابًا و28 اعتصامًا سنة 2008. انظر: الحناشي (عبد اللطيف): "الأحزاب والمنظمات الوطنية التونسية ودورها في الثورة ومجراها"، في ثورة تونس: الأسباب والسياقات والتحديات، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة –بيروت 2012، ص198.

7- هي هيئة ثورية شبه تشريعية أُسِّست في 15 من مارس/آذار 2011 بعد أسابيع من الثورة التونسية، وكان هدفها الإشراف على مسار الانتقال الديمقراطي في تونس، وعلى الإصلاحات السياسية والدستورية في البلاد، صادقت على عدة قوانين؛ أهمها قانون الانتخابات وتكوين الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، أنهت الهيئة أعمالها في 13 من أكتوبر/تشرين الأول 2011 قبل تنظيم انتخابات 23 من أكتوبر/تشرين الأول 2011، أول انتخابات حرة في تاريخ البلاد، لتفسح المجال للمجلس الوطني التأسيسي، المجلس التشريعي الجديد المنتخب.

8 - تضاعفت نسبة الإضرابات بين سنتي 2010 و2012 بنسبة 105%، في كلِّ الجهات تقريبًا وفي مختلف القطاعات، لتشمل ما يقارب 411 مؤسَّسة عموميَّة وخاصَّة؛ إضافة إلى إضرابين عامَّيْنِ عقب اغتيال السياسيَّيْنِ شكري بلعيد في 6 من فبراير/شباط 2013، ومحمد الإبراهمي في 25 من يوليو/تموز من السنة نفسها: قبيل مؤتمر الاتحاد: 6 سنوات من الصراعات والتوافقات الصعبة.

انظر: "القيادة الجديدة للاتحاد وإعادة تشكيل مربَّع الحركة"، موقع نواة بتاريخ 21 يناير 2017، (تاريخ الدخول: 23 من يناير/كانون الثاني 2017):

https://nawaat.org/portail/2017/01/21/%D9%82%D8%A8%D9%8A%D9%84-

 9 – "الاتحاد العام التونسي للشغل: بين المطلبية والعمل السياسي والدور التعديلي"، (تاريخ الدخول: 23 من يناير/كانون الثاني 2017): إضغط هنا.

10 - وثيقة قرطاج: تضم أولويات حكومة الوحدة الوطنية، وُقِّعت من قِبَل اثنتي عشر منظَّمة وحزبًا سياسيًّا. انظر: نص ''وثيقة قرطاج'' المتعلقة بأولويات حكومة الوحدة الوطنية، (تاريخ الدخول: 23 من يناير/كانون الثاني 2017):

http://www.babnet.net/cadredetail-128240.asp

11 – انظر: "في رسالة مفتوحة.. جامعيون, نقابيون للمؤتمرين: المطلوب إعادة النظر في طبيعة عمل اتحاد الشغل"، موقع الصباح، بتاريخ 20 جانفيي 2017، (تاريخ الدخول: 23 من يناير/كانون الثاني 2017):

http://www.assabah.com.tn/article/130476/%D9%81%D9%8A-%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D9%85%D9%81%D8%AA%D9%88%D8%AD%D8%A9-%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D9%8A%D9%88%D9%86-%D9%86%D9%82%D8%A7%D8%A8%D9%8A%D9%88%D9%86-%D9%84%D9%84%D9%85%D8%A4%D8%AA%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B7%D9%84%D9%88%D8%A8-%D8%A5%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%B7%D8%A8%D9%8A%D8%B9%D8%A9-%D8%B9%D9%85%D9%84-%D8%A7%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%AF

12 - انظر: بسام حمدي، نور الدين الطبوبي: مؤتمر الاتحاد لن يحيد عن السكة.. والعباسي ربان عرف كيف يقود سفينة الاتحاد، موقع حقائق أونلاين بتاريخ 22 يناير 2017، (تاريخ الدخول:  24 من يناير/كانون الثاني 2017):

https://www.hakaekonline.com/content/%D9%86%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%A8%D9%88%D8%A8%D9%8A-%D9%85%D8%A4%D8%AA%D9%85%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%AF-%D9%84%D9%86-%D9%8A%D8%AD%D9%8A%D8%AF-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%83%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D8%B1%D8%A8%D8%A7%D9%86-%D8%B9%D8%B1%D9%81%C2%A0-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D9%8A%D9%82%D9%88%D8%AF-%D8%B3%D9%81%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%AF

13 - نور الدين الطبوبي: المولود في 8 من فبراير/شباط 1961 بباجة، ينحدر من وسط اجتماعي "متوسط الحال" ومن بيئة "محافظة"، انخرط في العمل النقابي في مطلع تسعينات القرن الماضي نقابيًّا قاعديًّا، ثم تحمَّل مسؤولية النقابة الأساسية لشركة اللحوم التابعة لجامعة الفلاحة (1990)، ثم خــطة كاتب عام للفرع الجامعـي للفـلاحة بتونس الكبرى (2001)، ثم الأمين العام للاتحاد الجهـــوي بتونس (سنـــة 2009)، وهو أهمُّ جهة نقـــابية مـــن حيــث حجمه وتأثيره في القرار النقابي، ثم انتخب بعد الثورة في مؤتمر طبرقة (2011)، ليشغل خطة أمين عام مساعد، مكلف بالنظام الداخلي). انظر: نـور الديــن الطبّـوبي: نقـابي كلاسيكي بدون لـون سياسي وإيديــولوجي، موقع أرابيك ليدرز بتاريخ 15 يناير 2017، (تاريخ الدخول: 32 من يناير/كانون الثاني 2017):

 http://ar.leaders.com.tn/article/1440-%D9%86%D9%80%D9%88%D8%B1-

14 - نسبة للنقابي الحبيب عاشور (1913-1999)؛ وهو من مؤسسي الاتحاد العام التونسي للشغل، وقد تولى أمانته العامة في مرات عديدة، خاصة إبان أزمة 1978، ويُوصف هذا التيار بأنه تيار وطني متحرر من كلِّ ارتهان للسياسي والإيديولوجي، لصالح البعد "النقابي البراغماتي" و"الوطني".

15 - انظر: بسام حمدي، نور الدين الطبوبي: مؤتمر الاتحاد لن يحيد عن السكة.. مرجع سبق ذكره.

16 – انظر: "هذه قائمة أهم المطالب الاقتصادية والاجتماعية التي جاءت في كلمة حسين العباسي في افتتاح المؤتمر الـ23 لاتحاد الشغل"، الجمهورية، 22 يناير 2017، (تاريخ الدخول: 24 من يناير/كانون الثاني 2017): إضغط هنا.