يجد المدقِّق في شأن العملية السياسية الصومالية في البُعد المتعلق بأداء النظام السياسي منذ عام 2000 إلى 2016، تكرار المشهد التالي: تأييد شعبي عارم لرئيس الجمهورية الجديد في بداية عهده، ثم رغبة شعبية عارمة في تغيير الرئيسفي منتصف عهده، وتشتد وتيرتها في آخر عهده. كل هذا يأتي مع آمال شعبية كبيرة مبالغ فيها في كثير من الأحيان لا تأخذ في حسبانها وتقديراتها الإمكانيات المتواضعة للهيئات الحكومية، ولا تدقِّق في جملة التحديات المصاحبة للظروف المحلية والإقليمية والدولية، ومن ثم إحباط شعبي كبير يؤدي إلى رغبة جامحة في تغيير القيادة السياسية بأي ثمن، بل يصل الأمر إلى درجة حديث وتهديد البعض بالسير نحو التجزئة والانفصال في حالة تعذر تحقق مطلب التغيير.
ومع استمرار تكرار هذا المشهد السياسي الأليم منذ عام 2000 وحتى عام 2016، نجد أن الشعب الصومالي بكافة فئاته وشرائحه وبصورة أقرب ما يكون إلى الإجماع، خصوصًا أنه يقوم بترديد مقولته المأثورة وبصورة مستمرة وعفوية: "إن الصومال بلد غني بثرواته الطبيعية، وجُلُّ ما يحتاجه هو قيادة سياسية وطنية جادة في تحقيق آمال وتطلعات الشعب الصومالي في دولة موحدة ومستقرة وعادلة وقوية".
ولنا أن نتساءل عن الأسباب الذاتية والموضوعية التي تقف خلف تكرار مشهد الانحدار في العملية السياسية المتعلق بأداء النظام السياسي الصومالي منذ عام 2000 إلى 2016 والذي يبدأ بالتأييد العارم للقيادة السياسية الجديدة وينتهي بالرغبة الجامحة في تغييرها وبأي ثمن كان. أما آن للصوماليين أن يدققوا في مدى صحة مقولتهم المأثورة بأن مطلب تحقيق دولة صومالية موحدة ومستقرة وعادلة وقوية يتوقف فقط على إيجاد قيادة سياسية وطنية جادة، وما ذلك إلا بإتاحة المجال للأنفس وللعقول للنظر في إمكانية وجود متطلبات أخرى قد تساعد، في حال تعذر تلبيتها، في استمرار وتكرار مشهد الانحدار السياسي الأليم، ومن ناحية أخرى قد تساعد في حال توفرها وتلبيتها على تحقيق الآمال والتطلعات نحو التغيير المنشود.
يجد المتابع لشؤون العملية السياسية المتعلقة بأداء النظام السياسي الصومالي، منذ عام 2000 إلى 2016، فروقًا في مستويات التأييد والمعارضة للقيادات السياسية خلال الفترة الزمنية الممتدة ما بين هاتين السنتين (وهي الفترة الزمنية الفاصلة بين أول حكومة انتقالية وبين الحكومات الفيدرالية غير الانتقالية). ويتفق أغلب المحللين على أن رئيس الجمهورية الجديد، محمد عبد الله محمد (فرماجو)، قد تفوق على سابقيه بحصوله على تأييد شعبي منقطع النظير؛ حيث عبَّرت أغلبية فئات المجتمع الصومالي وشرائحه قبيل بدء الانتخابات الرئاسية الصومالية عن تأييدهم شبه المطلق لمطلب تغيير القيادة السياسية السابقة والمتمثلة بالدعوة إلى رحيل رئيس الجمهورية السابق، حسن شيخ محمود، عن سُدَّة الحكم رغم كل المحاولات المضنية لفريق الرئيس السابق باستخدام كافة الوسائل المتاحة لديهم لنشر وتعزيز شعارهم الانتخابي: "تكملة المشوار" لإنهاء ما تم البدء به من قبلهم منذ شهر سبتمبر/أيلول 2012.
وقد تحقق المطلب الشعبي بتغيير القيادة السياسية السابقة بأصوات أغلبية نواب مجلسي الشعب والشيوخ. غير أن المفاجأة لم تكن تكمن في التغيير بحدِّ ذاته الذي اعتاده الصوماليون وجُبلوا عليه، وإنما تمثَّلت فيما نتجت عنه الإرادة القوية لغالبية أعضاء مجلسي الشعب والشيوخ بضرورة الاستجابة للمطلب الشعبي في إيجاد قيادة سياسية وطنية جادة في السعي نحو تحقيق آمال وتطلعات الشعب الصومالي الراغب في إيجاد دولة صومالية موحدة ومستقرة وعادلة وقوية، والإقدام على الخطوة الأولى في الطريق الطويل للتحرر من هيمنة دول الجوار الإقليمي وتدخلهم "السافر" في الشؤون المحلية وتوجيهها. تجلَّت إرادة غالبية نواب الأمة المنبثقة من إرادة الشعب الصومالي بوضوح في انتخاب الرئيس، محمد عبد الله محمد فرماجو، في يوم الأربعاء الموافق 8 فبراير/شباط 2017(1)، الذي يصفه غالبية الشعب الصومالي بأنه شخص متواضع ووطني ونزيه.
الرئيس فرماجو يتجه بحذر نحو تغيير قواعد اللعبة السياسية الصومالية
تَمَثَّل التأييد الكاسح للرئيس المنتخب الجديد، في بداية عهده، أولًا باختياره من بين مرشحي الاستحقاق الرئاسي الذي جرى وحصوله على 186 صوتًا أي 56% من مجموع أعضاء مجلسي الشعب والشيوخ(2). كما تجلَّى ثانيًا في تنظيم مظاهرات تأييد حاشدة للمواطنين الصوماليين في داخل وخارج البلاد(3)، وتجلَّى أخيرًا في قيام مجلس الشعب بمنح الثقة بالإجماع وتزكية رئيس الوزراء المعين من قبل رئيس الجمهورية(4).
والجدير بالذكر هنا، أن القرار الجريء للرئيس فرماجو والمتمثل بتعيين رئيس الوزراء الجديد، حسن علي خيري، نتج عنه تغيير مهم في معادلة تقاسم السلطة والتمثيل على مستوى القبيلة الواحدة ضمن النظام السياسي الصومالي القائم على المحاصصة القبلية 4.5 (أربعة قبائل كبرى، والنصف للأقليات) لا يمكن عدُّه مجرد تغيير داخلي على مستوى قبائل (الهوية) فحسب؛ إذ إنه مع صدور القرار الرئاسي بتعيين رئيس وزراء ينتمي إلى قبيلة (مورورسدي)، وهي إحدى القبائل المتفرعة من قبائل (الهوية)، بدلًا عن المعادلة التقليدية التي حصرت تمثيل المناصب القيادية الكبرى للدولة عن قبائل (الهوية) ما بين قبيلة (الهبرغدر) وقبيلة (أبغال)، والتي تكرِّس ما تعارف عليه الصوماليون في مشهدهم السياسي منذ عام 1991، أدَّى هذا القرار، الذي يمسُّ جانبًا من المعادلة القبلية وانعكاساتها على المشهد السياسي، إلى فتح الباب على مصراعيه أمام إمكانية إجراء تغييرات مشابهة مستقبلية في مواقع القبائل المتفرعة من القبائل الكبرى وفي مقدمتها قبائل (الدارود) التي احتكر تمثيلَ مناصبها القيادية وفق المحاصصة القبلية قبيلتا (المجرتين) و(المريحان).
من ناحية أخرى، ومن خلال القيام بقراءة متأنية لتاريخ المشهد السياسي الصومالي المتصل بالحكومات الانتقالية ومن ثم الفيدرالية ما بين عام 2000 إلى 2016، يتبين لنا معها بوضوح أن التأزم السياسي في الدولة يبدأ مع قيام السلطة التنفيذية (رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء) بتشكيل أعضاء الحكومة الفيدرالية. والجدير بالذكر هنا، أن التوتر والتأزم في عهد الرئيس الجديد فرماجو قد بدأ هذه المرة مبكرًا جدًّا وقبل مرحلة تشكيل أعضاء الحكومة الفيدرالية، وتجسد التوتر في قرار تعيين رئيس الوزراء الجديد، حسن علي خيري، لأسباب عديدة أبرزها: انتماء خيري لقبيلة (مورورسدي) وعدم انتمائه لقبيلة (أبغال) وقبيلة (هبرغدر) اللتين جرت العادة والعُرف على اختيار منصب رئيس الجمهورية أو منصب رئيس الوزراء من إحداهما منذ عام 1991، وثانيًا: لكون رئيس الوزراء كان "عضوًا مساهمًا في شركة سوما للنفط والغاز، التي تأسست في عام 2013، من أجل البحث عن فرص التنقيب عن النفط والغاز في الصومال"(5) والتي دارت حولها وحول شخص رئيس الوزراء نفسه بعض الشبهات والشكوك المتصلة بالفساد وإمكانية وجود علاقات مع حركة الشباب الصومالية الإرهابية. غير أنه في نهاية المطاف ومن خلال تحقيقات أممية أجراها محققون دوليون تم التأكيد من عدم وجود أية أدلة قاطعة على مثل هذه الادعاءات والمعلومات، وتمت تبرئة خيري(6).
غير أنه يبقى التوتر المبكر جدًّا كامنًا وقابلًا للانزلاق نحو التوتر في أية لحظة، وخصوصًا في المرحلة الحالية التي تعد مرحلة بداية التأزم السياسي التقليدي في الدولة، والتي تبدأ مع قيام السلطة التنفيذية بتشكيل أعضاء الحكومة الفيدرالية؛ إذ يبدأ بعض النواب والمجموعات القبلية وجماعات المصالح الذين لم يتسنَّ لهم الحصول على عضوية في مجلس الوزراء بمعارضة مبكرة جدًّا وتبني سلوكيات مناهضة للحكومة والقيادة السياسية، واستخدام أدوات ووسائل مشروعة أحيانًا، وغير مشروعة أحيانًا أخرى.
والملاحظ هنا أن فئة النواب التي لم تحصل على مبتغاها في عضوية مجلس الوزراء هي التي تتصدر غالبًا مشهد التأزيم السياسي في العاصمة مقديشو، وذلك بإساءة استخدام بعض النواب حقهم الدستوري في الاستجواب البرلماني لبعض رموز السلطة التنفيذية الذي جرت العادة أن يكون ضحيته رئيس الوزراء. وهذا ما يعني تحويل هذا الحق الدستوري إلى أداة بيد أقطاب القيادة السياسية لاستخدامه في الوقت المطلوب. كما يلاحَظ أنه ليس كل المجموعات القبلية التي لم يحصل مرشحوها على عضوية مجلس الوزراء تتصرف بذات الطريقة في التعبير عن امتعاضها من التشكيلة الحكومية الجديدة، فقد جرت العادة على أن بعض القبائل الكبرى هي التي تتولى زمام المبادرة في إحداث الأزمات السياسية سواء من منطلق سيطرتها على زمام الأمور في الإدارات الفيدرالية، أو تواجدها بالمحيط الجغرافي الخاص بالعاصمة مقديشو. بينما تعمد جماعات المصالح المعارضة إلى القيام بممارساتها المناهضة للحكومة في أغلب الأحيان في الخفاء وبصورة غير معلنة، وفي الصفوف الخلفية، وتترك زمام المبادرة للفاعلين الرئيسيين الذين يتحركون وفق منطلقات مصلحية شخصية (بعض النواب) أو قبلية جيوسياسية (بعض المجموعات القبلية ورؤساء الإدارات الفيدرالية).
ولا يقف التأزم السياسي في الدولة عادة عند هذا الحد، بل يصل إلى ذروته حينما تتوتر العلاقات بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء. كما يتبين لنا أن أداء الحكومة يتوقف على نحو خاص على الشخصيات التي يتم التوافق على اختيارها ما بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء وذلك وفق المحاصصة القبلية للتمثيل وتقاسم السلطة السياسية والمعروفة محليًّا بـ4.5. وهذا الأداء الذي لم يكن في كثير من الأحيان على مستوى تطلعات وآمال الشعب الصومالي يساعد دائمًا وبقوة في تعزيز حالة التأزم السياسي وتكرار مشهد انحدار للنظام السياسي الصومالي.
مما لاشك فيه أن أداء وقدرة القيادة السياسية الجديدة، من ناحية، على تشكيل حكومة فيدرالية على مستوى طموحات وآمال الشعب الصومالي وقادرة على تحقيق إنجازات على أرض الواقع، ومن ناحية أخرى، في التعامل باحترافية مع طلبات النواب والقوى التي تعتلي سُدَّة الإدارات الفيدرالية والقوى القبلية التقليدية التي تتمتع بالقاعدة الاجتماعية والسيطرة على مناحي الحياة في العاصمة مقديشو فضلًا عن جماعات المصالح المتنفذة، سوف تكون بمثابة عامل رئيس في بقاء الزخم الشعبي المؤيد للقيادة السياسية الجديدة في حدوده الدنيا على أقل تقدير، ويسهم في تأسيس علاقة تعاون على أساس توسيع قاعدة المشاركة في الحكم.
ومثلما أنه في حال فشلت القيادة السياسية الجديدة في هذا الاختبار الصعب والمتمثل في تشكيل أعضاء الحكومة الفيدرالية دون طموحات وآمال الشعب الصومالي، وإظهار عدم القدرة في التعامل باحترافية مع طلبات القوى المؤثِّرة التي أشرنا إليها سابقًا، سوف تؤدي في نهاية المطاف إلى اشتداد التوتر (الكامن) واتجاهه نحو التصعيد والانفجار مع مرور الزمن، وتعزيز أركان مشهد الانحدار السياسي. ومما يؤكد على صحة رأينا أن القيادة السياسية الجديدة في جهودها المضنية لاختيار أعضاء مجلس الوزراء أمام اختبار صعب جدًّا، هو تجاوز رئيس الوزراء الجديد لمدة الأسبوعين التي طالبه رئيس الجمهورية أن يقوم بتشكيل مجلس الوزراء في غضونها(7).
السلطة التنفيذية الصومالية بين نفوذ القبيلة ومتطلبات بناء الدولة
لكي يتسنَّى لنا فهم الجوانب المختلفة الرئيسية للعملية السياسية المتعلقة بأداء النظام السياسي الصومالي، ينبغي علينا تسليط الضوء على البيئة الثقافية أو الثقافة السياسية السائدة في العاصمة مقديشو على نحو خاص، فالصومال يتمتع اليوم بثقافات سياسية متعددة بتعدد التكوينات السياسية والاجتماعية وتنوع ضروب النشاط الاقتصادي والتباعد الجغرافي للأقاليم الصومالية، مع عدم نفي وجود قواسم مشتركة. والمهم أنه باطلاعنا على البيئة الثقافية أو الثقافة السياسية السائدة في العاصمة مقديشو على نحو خاص سوف يساعدنا هذا الاطلاع على تكوين معرفتنا بمكونات وعناصر هذه الثقافة السياسية المصاحبة لتشكيل المؤسسات الرئيسية للدولة الفيدرالية، وبدوره سوف يتسنَّى لنا تفسير وفهم كيف تتشكل وتعمل المؤسسات السياسية الرئيسية في العاصمة مقديشو وفي مقدمتها مؤسسة الحكومة الفيدرالية ومؤسسة البرلمان الفيدرالي.
ورغم أنه تتعدد اجتهادات علماء السياسة في تحديد مضمون أو عناصر الثقافة السياسية، غير أنه يمكن تحديد بعض العناصر الأساسية للثقافة السياسية الصومالية، وفي مقدمتها التوجه نحو السلطة السياسية بما يتضمنه التوجه من "معارف واتجاهات وقيم وسلوك والتوجه نحو العملية السياسية والانتماء"(8).
وفي هذا الصدد، ونحن نتتبع عناصر الثقافة السياسية الصومالية في العاصمة مقديشو وفي مقدمتها عنصر الانتماء القبلي وعلاقته بالانتماء للدولة، فإننا نجد بوضوح أن الانتماء إلى القبيلة يعلو بكثير عن الانتماء إلى الوطن، نظرًا لأن النظام السياسي الصومالي حاليًّا يقوم على المحاصصة القبلية 4.5 (أربعة قبائل كبرى، والنصف للأقليات) في تقاسم السلطة السياسية والثروة في البلاد. وبدوره تصبح كل محاولات القيادة السياسية لوضع معايير لاختيار الوزراء والقياديين في الدولة، والشعارات الوطنية والعبارات التي يرددها السياسي الصومالي بأن الوطن يعلو القبيلة وشهاداته الجامعية الغربية كلها، غير قادرة على الصمود كثيرًا في أول تصادم مع الأطروحات والمساعي القبلية على أرض الواقع. ويكفينا هنا الاستشهاد بالحديث الذي صرَّح به رئيس الجمهورية السابق، حسن شيخ محمود، في إحدى المناسبات حول هذا الموضوع حيث أشار إلى "التوتر الكبير الذي يرتاب وزيرًا ما إذا أراد أن يقوم بإجراء تعديلات في المناصب في الوزارة وذلك خشية من ردَّة فعل قبيلة الموظف أو القيادي في الوزارة..، وأن شعبنا لا يقدِّم الولاء للدولة وإنما للقبيلة، حتى الأشخاص الذين تعتقد أنهم يتمتعون بدرجة عالية في العلوم الدنيوية أو الدينية وأنهم مؤهلون لتجاوز الانتماء إلى القبيلة،.. ووالله العظيم إذا تم التعرض لقبيلته عند توزيع الدرجات الوظيفية في الدولة فإنهم (يمرضون)"(9)، أي بمعنى أن المرض المستشري هو أن السياسي الصومالي يُعلي من شأن انتمائه لقبيلته أكثر من انتمائه للدولة، يطفو ذلك الانتماء إلى السطح ولا يردعه ولا يشفيه علمه ومعارفه الدنيوية أو الدينية من مرضه المزمن.
ومن ناحية أخرى، نجد أن الأحزاب السياسية العديدة التي ظهرت في الساحة السياسية الصومالية في داخل وخارج الصومال في السنتين السابقتين للانتخابات الرئاسية الصومالية لعام 2017 لا تأثير لها ولا وجود يُذكَر على ساحة المنافسة على السلطة السياسية في البلاد. كما نجد أن القوى السياسية الصومالية المتنافسة على السلطة في العاصمة مقديشو غالبًا ما تنطلق إما من منطلقات قبلية ضيقة أو مصلحية ضيقة على مستوى الأفراد والجماعات، أو كليهما معًا، مع الحرص على تأطير مساعيها بشعارات وأهداف وطنية رنَّانة تدغدغ عواطف المواطن البسيط الذي يحلم بدولة موحدة ومستقرة وعادلة وقوية. وغالبًا ما تميل القوى السياسية الصومالية المتنافسة على السلطة نحو التوجه إلى الصراع وعدم الالتفات إلى التعاون إلا في حالات ضيقة جدًّا، وأثناء فترات زمنية مؤقتة بغية تحقيق هدف مشترك قصير المدى، ومن ثم سرعان ما تقوم هذه القوى السياسية المتحالفة بالعودة إلى المربع الأول ولفظ الشركاء بمجرد وصول أحدهم إلى سُدَّة الحكم وتبوئه المناصب العليا في الدولة (منصب رئاسة الجمهورية ومنصب رئاسة مجلس الوزراء مثلًا). ومن ثم تبدأ القوى السياسية المستبعدة باختلاف طبيعتها في الالتحاق بركب المعارضين للقيادة السياسية الجديدة في مراحل مبكرة جدًّا.
كما نجد بوضوح، ونحن نتتبع عنصر التوجه نحو السلطة السياسية في الثقافة السياسية الصومالية في العاصمة مقديشو، تفشيًا مخيفًا، وبصورة مرضية، لظاهرة البحث عن المناصب القيادية في الدولة؛ حيث بلغ عدد المرشحين للانتخابات الرئاسية الفيدرالية في الصومال، لعام 2017، 24 مرشحًا(10). كما وصل عدد الباحثين عن عضوية مجلس الوزراء، الذي غالبًا لا يتعدى 25 وزيرًا، إلى مئات الطلبات في ظل غياب المعايير المطلوبة، وقيام بعض هؤلاء الباحثين عن عضوية مجلس الوزراء (وخصوصًا بعض النواب وبعض القوى القبلية ورؤساء الإدارات الفيدرالية) بتهديد وابتزاز القيادة السياسية الجديدة بعدم التعاون معها في حال عدم استجابتها لطلبهم تبوء منصب قيادي وخصوصًا منصب (وزير) في المرتبة الأولى. وسنرى أن السيناريو ذاته سوف يتكرر حينما تسعى تلك الفئات للحصول على مناصب قيادية أو غير قيادية في مؤسسات وأجهزة الدولة المختلفة.
على أن هذه الحالة المرضية المتفشية في العاصمة مقديشو ما فتئت تتعزز خاصة حينما ندرك جيدًا طبيعة بعض السلوكيات التي يتصرف بها السياسي الصومالي، مثل التباهي بالألقاب، والتباهي بالمناصب أثناء الحديث واللقاءات والاجتماعات، وتحديد مواقع ومراتب المتحدثين في الجلسة منذ الوهلة الأولى كالقول: وزير سابق، سفير سابق، محافظ سابق، نائب سابق، مستشار سابق.. إلخ. ومما يساعد على تشبث السياسيين الصوماليين بهده السلوكيات، وهم يتوجهون نحو طلب السلطة السياسية في العاصمة مقديشو، هو تجذر ثقافة الكلام في المجتمع الصومالي الذي يصفه أهله بأنه مجتمع شفوي والعزوف عن العمل والإنتاج على أرض الواقع في ظل غياب شبه كلي لثقافة العمل والإنتاج والمحاسبة والمتابعة. ولا تقف سلوكيات السياسيين الصوماليين عند حدِّ التباهي بالمناصب السابقة، التي تبوَّأها كل منهم غالبًا وفق المحاصصة القبلية وليس وفق الكفاءة، وإنما يتجاوز ذلك إلى التباهي بالقدرات المالية والشهادات الجامعية وحمل الجنسيات الغربية، وإعداد السير الذاتية التي غالبًا ما تضخِّم من إمكانيات وقدرات صاحبها وتتحدث عن إنجازات لا وجود لها غالبًا على أرض الواقع، وتكملة تعويض النقص وانعدام الثقة بالنفس باستسهال ادِّعاء أفكار وإنجازات الغير التي لا تمتُّ له بأي صلة، والبلاغة اللغوية وسلاطة اللسان ورصف الجمل والعبارات الحماسية التي يدرك السياسي الصومالي جيدًا أنها تدغدغ وتجذب إليه المواطن الصومالي البسيط في ظل دولة تفتقر إلى المعايير والتشريعات في اختيار قيادييها وتقييم أدائهم ومحاسبتهم ومجازاتهم، وفي ظل مجتمع شفوي يميل إلى البساطة في سدِّ احتياجاته، ولا يكترث مواطنوه كثيرًا بتقييم أداء السياسي والناشط في الشأن العام مقارنة بوعوده وأهدافه المعلنة سابقًا.
الرئيس فرماجو: هل سيعيد التاريخ نفسه؟
بناء على ما سبق، يتجلَّى لنا بوضوح أن تكرار مشهد الانحدار السياسي للعملية السياسية الصومالية منذ عام 2000 إلى 2016 المتمثل بـ"التأييد العارم للقيادة السياسية الجديدة ومن ثم الانتهاء بالرغبة الجامحة في تغيير هذه القيادة السياسية وبأي ثمن كان"، يعود للعديد من الأسباب الذاتية والموضوعية التي تتجاوز حدود القيادة السياسية ذاتها، وتتصل بفاعلين رئيسيين في الحقل السياسي الصومالي، من بينهم: النائب الصومالي، والمجموعات القبلية، وجماعات المصالح، والأحزاب السياسية، والسياسيون الصوماليون أنفسهم وحتى المواطنون وخصوصًا الناشطين منهم في الشأن العام. وفضلًا عن أن وراء هذا الانحدار المتوقع أسبابًا موضوعية عديدة، من بينها الثقافة السياسية الصومالية التي أشرنا إلى بعض ملامحها والتي تُعد جزءًا لا يتجزأ من الثقافة العامة السائدة في المجتمع الصومالي، فهي عامل رئيس في تعزيز وتكرار مشهد الانحدار السياسي. وهذا لا يعني تجاهل الدور المهم الذي يمكن أن تقوم به القيادة السياسية العليا سواء في اتجاه تعزيز استمرار وتكرار مشهد الانحدار المذكور، أو إنتاج مشاهد تعبِّر عن الاتجاه نحو آفاق جديدة ومغايرة تترجم على أرض الواقع بخطوات جادة وملموسة في طريق تحقيق آمال وتطلعات الشعب الصومال نحو التغيير المنشود. ولكن في الوقت ذاته أيضًا، وحتى لا نقوم بقصد أو بدون قصد بتحميل القيادات السياسية الصومالية أكثر مما تحتمل، هنالك بعض الأسباب الذاتية والموضوعية في هذا الصدد والجديرة بالانتباه إليها ومعالجتها. ويتجلَّى لنا بوضوح عدم صحة المقولة المأثورة بأن مطلب تحقيق دولة صومالية موحدة ومستقرة وعادلة وقوية يتوقف فقط على إيجاد قيادة سياسية وطنية جادة. إن هذه المقولة المأثورة بحاجة إلى تصحيح؛ ذلك أن طريق تحقيق مطلب دولة صومالية مستقرة وعادلة وقوية طويل جدًّا، وأولى خطواته العملية اختيار قيادة وطنية جادة في تحقيق آمال وتطلعات الشعب الصومالي نحو التغيير المنشود. والواضح أن غالبية الشعب الصومالي من شماله إلى جنوبه قد عبَّروا عن تأييد منقطع النظير للقيادة السياسية الجديدة بوصفها قيادة وطنية جادة في تحقيق تطلعاتنا نحو غد أفضل، وكذلك فإن الرئيس الجديد، فرماجو، أشار في خطابة الأول بعد التنصيب بكل وضوح إلى أن "تحديات كبيرة تواجه الدولة، وينبغي أن يتكاتف الشعب والحكومة في سبيل تجاوز هذه التحديات الجسيمة التي تحتاج إلى سنوات عديدة تتجاوز السنوات الأربع القادمة بسبب حجم الأزمة واتساع رقعتها وتعدد مجالاتها، وأن ما يمكن له ولحكومته القيام به وتحقيقه هو محدود نظرًا للإمكانيات الضعيفة للدولة سواء على المستوى الأمني أو الاقتصادي"(11).
وبناء على هذا، لابد من أن يتحرر الجميع من أسر المقولة المأثورة التي يتم ترديدها بعفوية والتي تضع آمالنا ومآسينا على عاتق القيادة السياسية فقط؛ حيث لابد من استبدالها بالقول: إن إيجاد قيادة وطنية جادة هو أحد المتطلبات وينبغي العمل جنبًا إلى جنب مع القيادة السياسية الجديدة على تلبية وتوفير المتطلبات الأخرى التي قد تساعد على بلوغ الأهداف المرجوة حتى لا يتكرر مشهد الانحدار السياسي الأليم في عام 2020.
المؤسسة الرئاسية ومستقبل الصومال
هنالك أربع دوائر متداخلة فيما بينها وستحدد علاقاتها المتشابكة وتفاعل بعضها ببعض مدى فعالية المؤسسة الرئاسية في الصومال وكيف يمكنها تجاوز التحديات والإكراهات التي تفرضها الساحة الصومالية:
الدائرة الأولى: القيادة السياسية الجديدة
إن إصدار الرئيس فرماجو قراره الجريء الذي نتج عنه تغيير مهم في معادلة تقاسم السلطة والتمثيل على مستوى القبيلة الواحدة ضمن النظام السياسي الصومالي القائم على المحاصصة القبلية (4.5)، هو خطوة جريئة وإنجاز عملي لا يستهان به. والمطلوب منه ومن رئيس الوزراء القيام بخطوات مهمة لا تقل جرأة عن الخطوة الأولى منها القيام بإدخال عناصر بشرية ذات كفاءة ومؤهلات عالية إلى مكتبي الرئيس ورئيس الوزراء، وتنظيم ساعات عمل هذين المكتبين حتى يتسنَّى لهما الإنجاز، والتشبث جيدًا بمبدأ توسيع قاعدة المشاركة في الحكم. وهذا لا يمكنه أن يكون فاعلًا ما لم يكن هنالك حذر من تضييق دائرة صنع واتخاذ القرار، وعدم لفظ شركاء الأمس القريب (ائتلاف التغيير في الصومال- Coalition of Change)، والالتقاء مع الفرقاء السياسيين الآخرين في المناطق المشتركة على أقل تقدير تمهيدًا للميثاق الوطني الذي ستتمحور حوله المصالحة الوطنية الحقيقية المرتقبة، وعدم محاولة التفكير في البدء من الصفر كأنه لم يكن للسابقين منذ عام 2000 دور يُذكَر، والتركيز على سلبياتهم فقط والتغافل عن الإيجابيات. وكل هذا لابد أن يتم مع التعامل باحترافية مع القوى السياسية والتقليدية الطامحة للمواقع القيادية في البلاد لينتج عنه من ناحية تشكيل حكومة فيدرالية على مستوى طموحات وآمال الشعب الصومالي، ومن ناحية أخرى إعطاء هذه القوى دورًا في عملية صنع واتخاذ القرارات العليا في الدولة، وتعزيز أدوار ومهام السلطات الأخرى في الدولة وخصوصًا السلطة القضائية والسلطة التشريعية، والتشبث بالخارطة السياسية التي أعلن عنها الرئيس الجديد مرارًا وتكرارًا قبل وأثناء وبعد انتخابه، وتحقيق الهدف المنشود بإجراء انتخابات مباشرة وحرة ونزيهة في عام 2020 وعدم محاولة تكرار الشعار الانتخابي الفاشل "تكملة المشوار" الذي أثبت الواقع أن الشعب الصومالي لا يحبذه ولا يستسيغه أبدًا.
الدائرة الثانية: نواب البرلمان
لا ينبغي للسلطة التنفيذية حرمان النائب في مجلس الشعب من حقه الدستوري في السعي وراء الحصول على عضوية مجلس الوزراء، لكن في الوقت ذاته لابد من الابتعاد عن السلوكيات المشينة لبعض النواب سواء بابتزاز القيادة السياسية الجديدة بالقول: "أنا صوَّتُ لك يا فخامة الرئيس؛ إذن أنا موجود في الحكومة"، أو التهديد بعدم التعاون وإساءة استخدام الحق الدستوري في الاستجواب البرلماني وجعله أداة للبيع والمساومة والابتزاز في الأزمات السياسية الداخلية. وفي المقابل، لابد لكافة أعضاء البرلمان من احترام الحق الدستوري للرئيس ورئيس الوزراء في اختيار أعضاء مجلس الوزراء، والانشغال بتفعيل دورهم التشريعي وذلك بمراجعة التشريعات الحالية وتنقيحها والإتيان بالتشريعات الجديدة المواكبة للتطورات التي تشهدها الدولة الصومالية، وتفعيل دورهم الرقابي والتصدي لظاهرة الفساد التي نخرت في جسد الدولة الهش.
الدائرة الثالثة: جماعات الضغط المالية والاقتصادية
لابد لدولة الصومال من تعزيز السوق الحرة وتشجيع امتلاك الشركات وتوليد فرص استثمارية تزيد من الأرباح مع المحافظة على النتائج الكبيرة والمستويات العالية التي بلغها العديد من المؤسسات والشركات الوطنية الخاصة في البلاد، ودعمها وتنميتها باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من الاقتصاد الوطني الصومالي. غير أنه في الوقت ذاته على رجال ونساء الأعمال في البلاد احترام المطلب الشعبي بإيجاد دولة صومالية موحدة ومستقرة وعادلة وقوية. وهذا يعني مساهمة الجميع، وفي مقدمتهم رجال الأعمال، في تشييد أركان الحكم الرشيد، وتعزيز قدرات المؤسسات الحكومية وتنمية الميزانية السنوية للدولة والرفع من مستوى مقدراتها حتى يتسنى للوزارات والهيئات الحكومية أداء واجباتها والتزاماتها تجاه المواطنين الصوماليين في داخل وخارج البلاد، وعدم التشبث بالمقولة السائدة عند البعض والتي مفادها "أن ضعف المؤسسات المالية والرقابية في الدولة وارتفاع معدلات الفساد في المؤسسات الحكومية يعني عدم دفع الضرائب"، وهي مقولة أقرب ما تكون إلى " كلمة حق أُريدَ بها باطل".
الدائرة الرابعة: الشعب الصومالي
إن كافة فئات وشرائح المجتمع الصومالي، وفي مقدمته الناشطون في الشأن العام، مطالبون بالتحرر من ثقافة الكلام المتجذرة في المجتمع الصومالي، والبدء في خطوات تحويل المجتمع الصومالي من مجتمع شفوي يتناقل أهله الأخبار ولا يميزون بين الآراء والأوهام وبين الحقائق في تعاطيهم للشأن السياسي الصومالي في بُعده الداخلي وبعده الخارجي، إلى مجتمع المعرفة الذي يتعدى أهله جمع الأخبار والمعلومات بلا تدقيق ولا تفكر إلى تدقيق وتمحيص الأخبار والمعلومات والتمييز بين الأوهام والحقائق وصولًا إلى المعرفة التي ينبغي أن تُبنَى عليها كافة الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فلابد من إيجاد وتعزيز ثقافة العمل والإنتاج والمحاسبة والمتابعة عند التعاطي في الشأن العام. وعلى كافة فئات وشرائح المجتمع الصومالي، وفي مقدمتهم الناشطون في الشأن العام، المحافظة على مكتسباتهم التي تحققت مؤخرًا ومن أبرزها تداول سلمي على السلطة أفرز قيادة يُجمِع الصوماليون على أنه قيادة وطنية وجادة، والعمل بجدٍّ بجانب هذه القيادة السياسية الجديدة على معالجة الأسباب الذاتية والموضوعية التي تقف وراء تكرار مشهد الانحدار في العملية السياسية في البلاد، والحرص على توفير المتطلبات الأخرى لتلبية تطلعاتنا وآمالنا نحو التغيير المنشود، وعدم اختزال مآسينا وآمالنا في القيادة السياسية فحسب، والتشبث جيدًا بالمقولة الجديدة التي مفادها أن طريق تحقيق مطلب دولة صومالية ومستقرة وعادلة وقوية طويل وشاق جدًّا، وأولى خطواته العملية اختيار قيادة وطنية جادة ومن ثم العمل معًا على تحديد وتلبية المتطلبات الأخرى في سبيل تحقيق آمال وتطلعات الشعب الصومالي نحو التغيير المنشود في وطن يتسع للجميع.
____________________________
عصام حسين الجامع- كاتب صومالي
1 – "انتخاب محمد عبد الله فرماجو رئيسًا للصومال"، موقع الجزيرة نت، (تاريخ الدخول: 20 مارس/آذار 2017):
2 – "فوز محمد عبد الله فرماجو بمنصب الرئاسة في الصومال"، موقع بي بي سي نت، (تاريخ الدخول: 18 مارس/آذار 2017):
http://www.bbc.com/arabic/middleeast-38904481
3 – "الصومال: مظاهرات شعبية ترحيبًا بفوز فرماجو بالانتخابات الرئاسية"، صحيفة هنا عدن الإلكترونية، (تاريخ الدخول: 15 مارس/آذار 2017):
http://hunaaden.net/news37241.html
4 – "البرلمان الصومالي يمنح الثقة لرئيس الوزراء الجديد"، الجزيرة نت، (تاريخ الدخول: 18 مارس/آذار 2017): إضغط هنا.
5 – "من هو رئيس الوزراء الجديد حسن علي خيري؟"، مركز مقديشو للبحوث والدراسات، (تاريخ الدخول: 18 مارس/آذار 2017):
6 – See: Hassan Ali Khayre, in WikiVisually, (visited 17 mars 2017):
http://www.wikivisually.com/wiki/Hassan_Ali_Khayre
7 – "الصومال: فرماجو يعيِّن رئيسًا للوزراء بتغريدة، موقع المتمِّم" (نقلًا جريدة الشرق الوسط)، (تاريخ الدخول: 18 مارس/آذار 2017):
http://motamemservice.com/eg/Story/Details/31603131
8 - موسوعة العلوم السياسية، جامعة الكويت، 1993–1994، ص: 479 – 480.
9 – See: Somali Channel, (visited 17 mars 2017):
10 – "الصومال: ارتفاع عدد المرشحين للانتخابات الرئاسية إلى 24 مرشحًا"، صحيفة صوت الصومال، (تاريخ الدخول: 18 مارس/آذار 2017):
11 – "أبرز ما جاء في خطاب الرئيس فرماجو خلال تنصيبه رئيسًا للبلاد"، مركز مقديشو للبحوث والدراسات، (تاريخ الدخول: 20 مارس/آذار 2017):