الدور الأردني في سوريا: المناطق الآمنة ومستقبل الأزمة

طرح الأردن المناطق الآمنة في بداية الأمر للتغلب على أزمة اللاجئين على حدوده، لكنها أصبحت جزءًا من تفكيره الأمني لمواجهة تهديدات تنظيم الدولة وللحدِّ من تمدد الجماعات المسلحة المدعومة من إيران.
0f3216147b3142ba95e56eab6517d78d_18.jpg
الأردن يتشارك مع واشنطن في خلق مناطق آمنة تشمل منطقة "التنف" الاستراتيجية، لمنع إيران من تشكيل جسر بري من طهران إلى بيروت (الجزيرة)

فرضت الثورة السورية منذ تحولها إلى "حرب عسكرية" تحديات جوهرية على المملكة الأردنية الهاشمية من عدة نواحٍ، كان الأمن والاقتصاد من أبرزها. فعلى الجانب الاقتصادي، بلغ نصيب الأردن من اللاجئين السوريين ما يقرب من 700 ألف لاجئ مسجلين رسميًّا وفق وكالة الأمم المتحدة للاجئين(1)، ومع إضافة اللاجئين غير المسجلين يصل العدد إلى ما يقرب من مليون و400 ألف لاجئ تقريبًا، وهو ما كبَّد الخزينة الأردنية مصاريف مباشرة وغير مباشرة بلغت زهاء 6.6 مليارات دولار؛ حيث شكَّل التمويل الخارجي منها حوالي 35% فقط(2). هذا بالإضافة إلى الخسائر الاقتصادية التي تكبَّدها الأردن جرَّاء إغلاق المعابر الحدودية، وانخفاض معدلات التجارة البينية. 

أما على الجانب الأمني، فقد شكَّلت التهديدات المتأتية من الجماعات السلفية-الجهادية، والميليشيات الشيعية التابعة لإيران الهاجس الأكبر لصنَّاع القرار الأردني بما تمثله من خطر على حالة السلم والأمن الداخليين من جهة، أو على الأمن القومي المتعلق بتشكل الهلال الشيعي. وتتداخل الأعباء الاقتصادية والهواجس الأمنية وتتقاطع بعضها مع بعض لتشكِّل معًا المنطلقات الأساسية التي قامت عليها السياسة الأردنية تجاه الأزمة السورية. 

المناطق الآمنة وتدفق اللاجئين 

وقف الأردن كغيره من دول الجوار السوري أمام الخيار الصعب في المواءمة بين متطلباته الأمنية والاقتصادية، وبين الالتزامات الإنسانية ومبادئ القانون الدولي التي تفرض على الدول عدم إغلاق حدودها أمام اللاجئين الفارِّين من مناطق النزاع. في البداية، اتبع الأردن سياسة الباب المفتوح أمام اللاجئين السوريين، ومع تفاقم الوضع الإنساني جرَّاء الحرب السورية، وتزايد أعداد الفارين من مناطق النزاع بشكل كبير إلى الأردن، بدأت الحكومة الأردنية تطالب المجتمع الدولي بضرورة إنشاء مناطق عازلة من أجل تأمين ملاذات آمنة للاجئين، ولكن لم تلقَ دعواتها استجابة من المجتمع الدولي. ومع تفاقم أزمة اللاجئين أكثر داخل الأردن -حيث شكَّل الفقر بين أولئك اللاجئين غير القاطنين في المخيمات ما يقرب من 93%- أغلق الأردن حدوده في العام 2015، وأخذت تبعًا لذلك تتشكَّل بحكم الأمر الواقع مناطق عازلة بين الحدود الأردنية والسورية عُرفت باسم Berm أو مخيم الركبان، والذي أصبح بحدِّ ذاته يشكِّل مصدر صداع كبير للسلطات الأردنية لما يُعتقد أنه يضمُّ الكثير من عناصر "تنظيم الدولة" أو من المتعاطفين معه؛ حيث احتوت هذه المناطق على ما يقرب من 70 ألف لاجئ سوري أو يزيد(3). 

كان الدافع وراء المطالبة بتشكيل مناطق عازلة مبدئيًّا ينبع من الرغبة الأردنية في السيطرة على تدفق اللاجئين، ولكن مع تتابع التطورات الدراماتيكية على خريطة الاقتتال داخل الأراضي السورية، وخصوصًا بعد سقوط حلب الشرقية بيد النظام والميليشيات الإيرانية الداعمة له؛ وهو ما شكَّل بحدِّ ذاته تحولًا استراتيجيًّا في مسار الصراع، أخذت الرغبة الأردنية في تشكيل المناطق العازلة تنحو نحو الهواجس الأمنية أكثر من غيرها. فبعد مؤتمر لندن، الذي عُقد في فبراير/شباط 2016، لمعالجة أزمة اللاجئين السوريين، أحدث الأردن تغييرًا جوهريًّا في مقاربته للتعامل مع أزمة اللاجئين لتحييدها جزئيًّا؛ حيث تم الانتقال من التعاطي مع اللاجئين من الحل المرحلي إلى الحل طويل الأمد من خلال برامج لإدماجهم في سوق العمل، وتحسين أوضاعهم المعيشية وفق ما بيَّنته خطة الاستجابة الأردنية للأزمة السورية 2016-2018(4)، وبذلك يكون الأردن من خلال تسكين ملف اللاجئين -إلى حدٍّ ما- في وضع الاستعداد للانخراط أكثر في الترتيبات الأمنية المتعلقة بالمناطق الآمنة في جنوب سوريا. 

الخطر الأمني المزدوج 

حدَّد الأردن مصادر التهديد لأمنه من جهتين؛ إذ كان تنظيم الدولة والجماعات المنضوية تحت لوائه الخطر الأكثر إلحاحًا، في حين كان الخطر المتأتي من الميليشيات الشيعية المدعومة من الحرس الثوري الإيراني يتزايد يومًا بعد يوم ليشكِّل أيضًا "مصدر تهديد لا يمكن التغافل عنه أو التسامح معه"، على حدِّ قول الملك عبد الثاني في المقابلة التي أجراها مع صحيفة الواشنطن بوست في أبريل/نيسان 2017(5)، خصوصًا وقد أصبحت هذه الميليشيات على بُعد أقل من 70 كم من الحدود الشمالية للأردن. 

1. تنظيم الدولة ومعضلة إعادة الانتشار

كان الأردن من أوائل الدول التي شاركت في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم الدولة، وعمل كقاعدة لوجستية للتحالف، سواء للمجهود العسكري المباشر أو من خلال الإسهام في عمليات التدريب والمشورة للفصائل "السورية المعتدلة" التي تم تشكيلها لطرد التنظيم من المناطق التي سيطر عليها في المناطق الجنوبية من سوريا. ولكن مع تطور الأحداث، أخذ الانخراط الأردني يتزايد، ويصبح أكثر فاعلية. أدى الاستهداف المباشر للأردن من قبل تنظيم الدولة، سواء من خلال إعدام الطيار الأردني، معاذ كساسبة، حرقًا، أو من خلال استهداف حرس الحدود بالسيارات المفخخة، أو من خلال تنفيذ عمليات بالعمق الأردني، مثل عملية الكرك -التي راح ضحيتها ثمانية من عناصر الأمن الأردنية- إلى إحداث نقلة نوعية في المقاربة الأمنية الأردنية في التعامل مع التنظيم؛ والانتقال من استراتيجية "الوسادات" التي كانت تقوم على مبدأ الاعتماد على فصائل الجيش السوري الحر من أجل تأمين المناطق الجنوبية(6)، إلى استراتيجية المواجهة المباشرة والتي تمثَّلت بتوجيه ضربات جوية لمواقع تنظيم الدولة في جنوب سوريا، بمقاتلات الـF16، وتنويع الأساليب القتالية باستخدام الطائرات بدون طيار، وذخائر دقيقة التوجيه(7). 

يسيطر "جيش خالد من الوليد" التابع لتنظيم الدولة، والذي أُعلن عن ولادته في مايو/أيار 2016، عبر اتحاد ثلاث فصائل إسلامية (هي: لواء شهداء اليرموك، وجيش الجهاد، وحركة المثنى الإسلامية)، على منطقة وادي اليرموك في ريف محافظة درعا، جنوب سوريا(8). ويشكِّل القرب الجغرافي لمناطق تمركز التنظيم من الحدود الأردنية الشمالية مصدر قلق للأردن من ناحيتين رئيسيتين: أولهما: تتعلق بقدرة التنظيم على توجيه هجمات ضد قوات حرس الحدود الأردنية باتباع أسلوب الكرِّ والفرِّ، وهو ما يفرض نمطًا من معارك الاستنزاف التي يمكن أن تثقل كاهل الجيوش النظامية. وثانيهما: إمكانية أن تشكِّل هذه البؤر مراكز جذب لعناصر جديدة من تنظيم الدولة خصوصًا من المناطق التي يفقد السيطرة عليها في العراق وسوريا. وفي ظل العدد الكبير من الأردنيين الملتحقين بصفوف تنظيم الدولة (يصل العدد إلى 2500 تقريبًا) (9)، فإن الغالبية منهم ربما تفضِّل الانتقال إلى مراكز قريبة من الحدود الأردنية لتسهيل عملية التسلل وتنفيذ عمليات بالعمق الأردني، وبذلك تكون منطقة القنيطرة التي تعد تحت سيطرة التنظيم إحدى البؤر الجذابة لعملية إعادة الانتشار التي قد يتبعها التنظيم في المرحلة المقبلة مع اشتداد الخناق عليه شمالًا. 

وبناء على ذلك، قد يعمد الأردن، وبالتنسيق مع الولايات المتحدة وبريطانيا وربما أيضًا بدعم من إسرائيل، إلى التدخل بشكل مباشر في الأراضي السورية تحت اسم –ربما- "درع اليرموك" في محاكاة لعملية "درع الفرات" التي قامت بها القوات التركية في الشمال، وذلك من أجل تطهير هذه البؤر بشكل كامل من أعضاء تنظيم الدولة، وتشكيل حزام من المناطق الآمنة خصوصًا مع احتدام المعارك ضد التنظيم في الشمال السوري في الرقة ووادي الفرات ودير الزور، من أجل قطع الطريق أمام أية عمليات محتملة لإعادة الانتشار قد يقوم بها تنظيم الدولة. يدرك الأردن بشكل كبير أن طرد تنظيم الدولة من المناطق المركزية التي يسيطر عليها كالموصل والرقة ودير الزور لا يعني أبدًا هزيمته نهائيًّا، وإنما ستكون فاتحة جولة جديدة من الصراع بمتطلبات مختلفة عمَّا كانت عليه طبيعة المعركة في السابق. فكيان هلامي كتنظيم الدولة يتمتع بمرونة كبيرة قادر على التكيف بشكل سريع مع مستجدات المرحلة خصوصًا أن للتنظيم خبرة طويلة بأسلوب حرب العصابات. 

وقد عبَّر عن هذه المخاوف بشكل صريح الملك عبد الله في مقابلته مع الواشنطن بوست، عندما قال: "إن المشكلة الوحيدة -بالرغم من أن الأوضاع في سوريا والعراق بخصوص هزيمة الإرهاب تسير بشكل جيد- هي أن [الميليشيات وعناصر تنظيم الدولة] تتحرك جنوبًا باتجاه الأردن، مما يشكِّل تحديًا، ولكن الأردن وبالتعاون مع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا مستعد لذلك"(10). وأضاف (معبِّرًا عن الرؤية الأردنية) أن: "جهود مكافحة تنظيم الدولة يجب ألا تقتصر على سوريا والعراق، بل يجب تبني مقاربة دولية بحيث تتم محاربة "الإرهابيين" أينما وُجدوا"(11). 

2. الميليشيات الشيعية والهدف الإيراني

أما بخصوص الخطر الآخر، فإن الأردن يحذر من التحول الجيوستراتيجي الهائل الذي ستؤول إليه خريطة المنطقة في حال استطاعت إيران، من خلال الميليشيات التابعة لها، السيطرة على مساحة من الأرض تسمح لها بإقامة جسر بري آمن يربط بين أراضيها والضفاف الشرقية من البحر المتوسط عبر كلٍّ من العراق وسوريا ولبنان. سيكون تشكيل ما يسمى "الحزام" أو "الهلال الشيعي" بمثابة التتويج الحقيقي للهيمنة الإيرانية على المنطقة. ولا شك بأن وجود الحرس الثوري على الحدود الشمالية والشرقية للأردن سيكون بمثابة الكابوس لصُنَّاع القرار بعمَّان، خصوصًا أن الملك عبد الله الثاني كان من أوائل القادة العرب الذين حذَّروا من تكون الهلال الشيعي عام 2004 إثر سقوط نظام صدام حسين وتمدد النفوذ الإيراني في العراق. 

بعث الأردن برسائل واضحة وحازمة تقضي بأن أمن الحدود الشمالية يأتي على رأس سُلَّم الأولويات للأمن القومي الأردني. وذلك يتحقق فقط من خلال منع أي وجود لتنظيم الدولة بالقرب من الحدود الشمالية من جهة أو أية ميليشيات تابعة للحرس الثوري الإيراني من جهة أخرى. وإذا كان التعامل مع الخطر الأول، نظرًا للإجماع الدولي على محاربته، يسير بخطوات حثيثة ومتواصلة، ويحقق إنجازات على الأرض، فإن سياسة التعامل مع الخطر الثاني ما زالت عالقة، نظرًا لتعقيدات المشهد وتداخل المصالح وتضاربها بين اللاعبين الرئيسيين وعلى رأسهم إيران وروسيا والولايات المتحدة.  

يدرك الأردن خطورة المشهد وتعقيداته، ولذلك يحاول اتباع سياسة حذرة جدًّا في التعامل مع مجريات الأحداث من أجل تجنب انفجار الأوضاع بما لا يخدم مصالحه الأمنية. بهذا الصدد، فإن الأردن يتشارك مع الولايات المتحدة بالهدف ذاته والمتمثل بخلق شريط من المناطق الآمنة؛ ممتد من القنيطرة غربًا وحتى التنف شرقًا مرورًا بالسويداء؛ على أن يكون هذا الشريط خاليًا تمامًا من تواجد عناصر تنظيم الدولة أو الميليشيات الشيعية المدعومة من الحرس الثوري الإيراني. 

يسعى الأردن لدعم وتعزيز الحوار بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا من أجل الوصول إلى اتفاق حول المناطق الآمنة من خلال البناء على ما تم التوصل إليه في العاصمة الكازاخية، آستانا، في 4 مايو/أيار 2017، بين كل من روسيا وتركيا وإيران بإنشاء أربع مناطق منخفضة التصعيد (De-escalation Zones)، واحدة منها تقع في الجنوب السوري على الحدود مع الأردن. ومن الجدير بالذكر أن الأردن كان الدولة العربية الوحيدة التي دُعيت إلى محادثات آستانا، وذلك لأهمية دوره ومحوريته. 

يمنح الأردن الحلول السياسية الأولوية على الحلول العسكرية لحفظ الأمن وسلامة الحدود، وهو يدرك أهمية التواصل مع الروس في هذا المجال نظرًا لنفوذهم الكبير على الساحة السورية، فبالرغم من تلاقي الأهداف العامة مع الولايات المتحدة، يرى الأردن أن إشراك روسيا في أي ترتيبات سياسية أو أمنية يعد غاية في الأهمية، ودعامة رئيسية في تثبيت أي اتفاقيات لاحقة. وبناء على ذلك، فقد استضاف الأردن في العاصمة، عمَّان، نهاية مايو/أيار 2017، عددًا من المسؤولين الروس والأميركان للتباحث في شأن المناطق الآمنة. وقال مصدر أميركي طلب عدم الكشف عن اسمه للمونيتور: "هذا الاجتماع يأتي في سياق جهود كل من الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل والأردن للعمل سويًّا فيما يتعلق بالمناطق منخفضة التصعيد"(12). 

لم تشارك الولايات المتحدة في اجتماعات آستانا حول المناطق منخفضة التصعيد، ولذلك يعدُّ حضورها في اجتماعات عمَّان لاحقًا والتقاؤها مع روسيا حول هذه القضية مؤشرًا على حرص الطرفين على الوصول إلى تفاهمات حول مناطق النفوذ تجنبًا لأي تصادم مباشر بينهما. فمن جانبهم، يرى الروس ضرورة التوصل مع الولايات المتحدة إلى تفاهمات تشمل الأخذ بعين الاعتبار الهواجسَ الأمنية لحلفاء واشنطن كالأردن وإسرائيل حول المناطق الآمنة، خصوصًا بعد أن أدركوا التوجهات الجديدة لإدارة الرئيس ترامب في التعاطي مع الأزمة السورية والتي تتسم بأنها أكثر جدية من سياسة سلفه أوباما، وذلك من خلال ما عبَّرت عنها الضربة الأميركية على مطار الشعيرات في سوريا بداية شهر أبريل/نيسان 2017، وزيادة الدعم النوعي الذي يشمل معدات ثقيلة لقوات "سوريا الديمقراطية"  ذات الغالبية الكردية من أجل حسم معركة الرقة وطرد تنظيم الدولة منها. 

المعركة الكبرى 

لا يمكن عزل مصير المناطق الآمنة في الجنوب السوري عن "المعركة الكبرى" (حسب توصيف مجلة الفورين أفيرز)(13) التي ستدور رحاها في شرق سوريا خصوصًا في الرقة ودير الزور والبوكمال؛ والتي ستحدد القوى التي ستهيمن على البادية الشامية وبذلك يكون لها ضمنًا اليد العليا في تحديد مستقبل كل من سوريا والعراق وما يتعلق بمخططات التقسيم المحتملة. 

تحافظ الولايات المتحدة على تواجد عسكري لقواتها بمشاركة كل من بريطانيا والأردن في قاعدة التنف العسكرية والتي تضم أيضًا قوات جيش سوريا الجديدة المدعوم من قوات التحالف الدولي. فرضت القوات الأميركية منطقة عازلة بمساحة 55 كلم حول القاعدة العسكرية، وأظهرت تصميمًا كبيرًا على حمايتها من خلال القيام باستهداف مباشر بغارات عسكرية لبعض المجموعات العسكرية المقاتلة المدعومة من إيران بعدما حاولت الأخيرة التوغل باتجاه القاعدة في حادثتين كانت الأولى في 18 مايو/أيار 2017، والثانية في 6 يونيو/حزيران 2017، على إثر محاولة قامت بها قوة قوامها 60 مقاتلًا مسلحة بالدبابات والأسلحة المضادة للطائرات لدخول المنطقة العازلة حول القاعدة العسكرية(14)؛ الأمر الذي استدعى ردًّا لاحقًا من الميليشيات الإيرانية من خلال توجيه ضربات بطائرات من غير طيار ضد قوات مدعومة أميركيًّا في 8 يونيو/حزيران 2017(15)؛ ما يفتح الباب أمام مزيد من التصعيد في حرب الوكالة بين الولايات المتحدة وإيران. 

تحقق السيطرة على منطقة التنف قيمة استراتيجية للولايات المتحدة؛ حيث تعمل على وضع حدٍّ للطموح الإيراني بتشكيل الجسر البري من طهران وحتى بيروت من خلال السيطرة على الطريق الدولي الرابط بين بغداد ودمشق؛ حيث يمر هذا الطريق حتمًا من منطقة التنف، كما أنها قد تشكِّل قاعدة متقدمة لإطلاق عمليات عسكرية لضرب تشكيلات تنظيم الدولة في البادية السورية. 

يعتقد الإيرانيون والنظام السوري ومن خلفهم الروس أن الولايات المتحدة تسعى إلى خلق مناطق عازلة بحكم الأمر الواقع من خلال سعيها لفرض سيطرتها على منطقة البادية وذلك بإنشاء حزام جغرافي يربط ما بين مثلث التنف على الحدود بين العراق وسوريا والأردن شمالًا عبر البوكمال ودير الزور حتى الرقة، لذلك ومن أجل قطع الطريق على الولايات المتحدة يدفع الإيرانيون بالجيش السوري خصوصًا الفيلق الخامس، والميليشيات التابعة لها شرقًا من مدينة حلب إلى حوض الفرات (والتي سيطر فيه الجيش السوري على منطقة مسكنة الاستراتيجية في 4 يونيو/حزيران 2017)(16)، ثم الاستمرار وصولًا إلى البوكمال عبر دير الزور، مستفيدين من الانتصارات التي يحققها الحشد الشعبي على الجانب الآخر في العراق (على سبيل المثال: استطاع قوات الحشد الشعبي السيطرة على بلدة باعج والقرى المحيطة بها والمحاذية للحدود السورية في 4 يونيو/حزيران 2017)(17). وقد باتت قوات الحشد الشعبي تتمركز على الحدود السورية العراقية، وبوضعية الجهوزية التامة تجاه تقديم الدعم المباشر لقوات النظام السوري من أجل فرض السيطرة على ضفتي الحدود. 

قد تكون الخطة الايرانية طموحة أكثر مما ينبغي نظرًا لصعوبة السيطرة على هذه المنطقة الشاسعة في ظل نقص القوة البشرية لدى النظام وحلفائه، فدفْع النظام بقواته إلى الشرق جعله يفقد بعض المناطق الحساسة في الغرب خصوصًا في شمال مدينة حماة، ومن هنا يمكن أن نفهم حرص إيران على إنشاء المناطق مخفضة النزاع وذلك من أجل تحرير أكبر عدد ممكن من التشكيلات المقاتلة للزج بها في معارك الشرق السوري.  

وفي هذا السياق، تعتبر إيران والنظام السوري التحركات الأردنية جزءًا من السياسة الأميركية، ولذلك ينظرون إليها بعين الريبة والتوجس؛ فقد دفعت المناورات العسكرية الضخمة المسمَّاة: "الأسد المتأهب"، التي جرت في الأردن في مايو/أيار 2017 -بالإضافة إلى لقاء الملك الأردني مع ترامب في البيت الأبيض بتاريخ 4 مايو/أيار من العام نفسه- الرئيس السوري بشار الأسد إلى اتهام المملكة بأنها "جزء من خطة أميركية" تهدف لنشر قوات عسكرية على الأراضي السورية(18). جاءت هذه التصريحات بعد مخاوف لدى القيادة السورية من قيام الأردن بعملية استباقية وشيكة في الأراضي السورية؛ حيث اعتبرت سوريا على لسان وزير خارجيتها أنه سيتم التعامل مع أية قوة أردنية داخل الأراضي السورية، من غير تنسيق مع الحكومة السورية، كقوة معادية(19). 

لذلك، وكجزء من قطع الطريق على أية خطة أردنية للدخول إلى الأراضي السورية تحت مظلة الضربة الاستباقية لحماية الأمن القومي، تحاول القوات السورية، مدعومة بميليشيات شيعية، تصعيد عملياتها في محافظة درعا في محاولة للسيطرة على ما تبقى في يد المعارضة من مناطق استراتيجية مثل البلدة القديمة في المدينة، وحتى إن لم تستطع القوات السورية أن تمنع الأردن من إرسال قوته إلى الأراضي السورية في حال اضطرت الأخيرة إلى ذلك، فإن وجهة نظر النظام تقوم على أساس تعزيز أوراق القوة في يديه للمساومة مع الأردن والولايات المتحدة لاحقًا في حال تم الحديث عن تبادل السيطرة على الأراضي -أو ما شابه- ضمن ترتيبات الحل النهائي، خصوصًا وأن الأردن ومنذ بداية الأزمة السورية لا يسعى أبدًا للاشتباك بشكل مباشر مع قوات النظام السوري، فإذا ما تمت معالجة مخاوف الأردن الأمنية المتعلقة بتنظيم الدولة والميليشيات المدعومة إيرانيًّا، عندها لا يكون هناك مبرر لتدخل مباشر للقوات الأردنية، وسيكون التوصل إلى تفاهمات سياسية في متناول اليد. وسيكتفي الأردن بالاستمرار في الانخراط بالحد الأدنى من خلال تنفيذ عمليات نوعية باستخدام القوات الخاصة لضرب أهداف محددة ضد تنظيم الدولة، والاتكاء على عمليات الطائرات بدون طيار، وتوفير الدعم اللوجستي لقوات التحالف الدولي، والتدريب والمشورة لقوات سوريا الجديدة وقوات القبائل التي يتم تجهيزها لاستلام المناطق التي يتم تحريرها من تنظيم الدولة. 

خاتمة 

بعد زيارة الرئيس ترامب للمنطقة، في مايو/أيار 2017، وتصاعد الحرب على الإرهاب، وبداية تشكُّل معالم الناتو العربي، وتفجر الأزمة ضد دولة قطر، يبدو أن المنطقة مهيأة لمزيد من التصعيد، وأن هامش الحلول الدبلوماسية آخذ بالتراجع لصالح الحلول الصفرية؛ الأمر الذي يمهد الطريق أمام مزيد من المغامرات العسكرية. فالأردن يواجه خطر تواجد تنظيم الدول بالقرب من حدوده الشمالية بإنشاء مناطق آمنة، وإن كان يعطي الحلول السياسية الأولوية في تحقيق هذا الهدف إلا أن التدخل العسكري أحادي الجانب يبقى خيارًا مطروحًا خصوصًا إذا كان هناك ضوء أخضر من روسيا التي تسيطر على القرار السياسي في سوريا. أما فيما يخص الميليشيات المدعومة من الحرس الثوري الإيراني، فيبدو أن الأردن لا يرغب إطلاقًا بدخول مواجهة عسكرية مباشرة مع الميليشيات المدعومة من إيران في المنطقة، ويفضل بدلًا من ذلك أن يدعم جهود الولايات المتحدة التي تسعى بشكل حثيث للتصدي للنفوذ الإيراني في منطقة البادية الشامية، فكلٌّ من واشنطن وتل أبيب لا ترغبان أبدًا في رؤية إيران تتمتع بحرية الحركة من طهران إلى بيروت عبر بغداد ودمشق لما يشكِّله ذلك من تحول جوهري في توازن القوى الأمر الذي من شأنه أن يزيد من حالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط.

__________________________

 نبيل عودة- باحث في الشؤون الدولية

References

1-  United Nation Refugee Agency (UNHCR), “Syria Regional Refugee Response”, Inter-agency Information Sharing Portal, 1 June  2017:

 http://data.unhcr.org/syrianrefugees/country.php?id=107

2- منير، محمود، "اللجوء السوري يكلِّف الأردن 6.6 مليارات دولار"، الجزيرة نت، (تاريخ الدخول: 4 يونيو/حزيران 2017): إضغط هنا.

3-  Cone, Jason, “Save the Refugees on the Berm”, The New York Times, 10 August 2016, (Visited on 4 June 2017):

 https://www.nytimes.com/2016/08/10/opinion/save-the-refugees-on-the-berm.html?_r=1

4-  HASHEMITE KINGDOM OF JORDAN Ministry of Planning and International Cooperation,  Jordan Response Plane For the Syria Crisis 2016-2018, Jordan Response Platform for the Syria Crisis. (Visited on 4 June 2017): إضغط هنا.

5-  Weymouth, Lally, “King Abdullah: Compromise with Russia on Crimea to get its help in Syria”, Washington Post, 6 April  2017, (Visited on 5 June 2017):

https://www.washingtonpost.com/opinions/king-abdullah-compromise-with-russia-on-crimea-to-get-its-help-in-syria/2017/04/06/b985b894-1a61-11e7-bcc2-7d1a0973e7b2_story.html?utm_term=.4a946d3cd292

6- أبو رومان، محمد، " لماذا تغيَّرت المعادلة؟"، الغد، 6 فبراير/شباط 2017، (تاريخ الدخول: 5 يونيو/حزيران 2017):

 http://alghad.com/articles/1418592-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%91%D8%B1%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D9%84%D8%A9%D8%9F

7- “Jordan hits ISIL targets in southern Syria”, Aljazeera, February 5, 2017, (Visited on 6 June 2017): http://www.aljazeera.com/news/2017/02/jordan-isil-syria-170205054336070.html

8- ريان، محمد، "جيش خالد بن الوليد": ذراع "داعش" ضد المعارضة بدرعا"، العربي الجديد، 22 فبراير/شباط 2017، ( تاريخ الدخول: 6 يونيو/حزيران 2017):

https://www.alaraby.co.uk/politics/2017/2/21/%D8%AC%D9%8A%D8%B4-%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF-%D8%A8%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%AF-%D8%B0%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D8%B6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D8%B6%D8%A9-%D8%A8%D8%AF%D8%B1%D8%B9%D8%A7

9-  Ashley Kirk, “Iraq and Syria: How many foreign fighters are fighting for Isil?” The telegraph, 24 March 2016, (Visited on 7 June 2017):

http://www.telegraph.co.uk/news/2016/03/29/iraq-and-syria-how-many-foreign-fighters-are-fighting-for-isil/

10- Weymouth, April 6, 2017

11- المصدر السابق.

12-  Al Sharif, Osama, “Jordan pins hopes on US-Russian accord on southern Syria”, Al-Monitor, 6  June 2017, (Visited on 7 June 2017):

http://www.al-monitor.com/pulse/originals/2017/06/jordan-talks-washington-russia-safe-zones-border-syria.html#ixzz4jG9GGRq3

13- Tabler , J., Andrew, “The Scramble for Eastern Syria: With ISIS Weakening, the Game Is On”, Foreign Affairs,  3June  2017, (Visited on 7 June 2017): https://www.foreignaffairs.com/articles/syria/2017-06-03/scramble-eastern-syria?cid=int-lea&pgtype=hpg

14-  MCLEARY, PAUL, “blog_thecable_full3 U.S. Bombs Iranian Militia in Syria, As Fight For Raqqa Begins”, Foreign Policy, 6 June 2017, (Visited on 8 June 2017):

 http://foreignpolicy.com/2017/06/06/u-s-bombs-iranian-militia-in-syria-as-fight-for-raqqa-begins/?utm_content=buffer83a76&utm_medium=social&utm_source=facebook.com&utm_campaign=buffer

15-  Mcleary, Paul, “Iranian-Backed Militias Employ Drone Against U.S. Forces in Syria”, Foreign Policy, 8 June 2017, (Visited on 8 June 2017):

http://foreignpolicy.com/2017/06/08/iranian-backed-militias-employ-drone-against-u-s-forces-in-syria/?utm_content=buffer184ad&utm_medium=social&utm_source=facebook.com&utm_campaign=buffer

16-  “LAST ISIS STRONGHOLD IN ALEPPO PROVINCE FELT INTO HANDS OF SYRIAN ARMY”, South Front, 4 June  2017, (Visited on 8 July 2017):

https://southfront.org/last-isis-stronghold-in-aleppo-province-felt-into-hands-of-syrian-army/

17-   “POPULAR MOBILIZATION UNITS LIBERATE STRATEGIC TOWN OF AL-BAAJ, NEARBY AREA”, South Front, June 4, 2017, (Visited on 8 July 2017): https://southfront.org/popular-mobilization-units-liberate-strategic-town-of-al-baaj-nearby-area/

18-   “Jordan Planning to Deploy Troops in Syria in Coordination With US – Assad”, Sputnik, 24 April  2017, (Visited on 7 June 2017):

https://sputniknews.com/middleeast/201704211052854131-assad-syria-jordan-us-troops/

19-  Al-Moallem : Syrian Government supports de-escalation zones memorandum due to its keenness on stopping bloodshed and improving living conditions of the Syrians, SANA, 8 May 2017, (Visited on 8 June 2017):

 http://sana.sy/en/?p=105711