المقاربة الأمنية الفرنسية بالساحل الإفريقي في عهد ماكرون

يستوجب وصول إيمانويل ماكرون للرئاسة في فرنسا إعادة تركيب المشهد السياسي والأمني داخل فرنسا وخارجها خصوصًا أن موضوع التحدي الأمني حاضر بقوة في أولويات الإليزيه، ويتناول التقرير مقاربة فرنسا الأمنية في دول الساحل الإفريقي بعد زيارة ماكرون لمالي: دلالاتها الاستراتيجية وأهدافها المرجوة.
65a6ccd2ceab403eb56d1d3e623df4e8_18.jpg
موضوع التحدي الأمني بدول الساحل الإفريقي يتصدر أولويات الإليزيه (أسوشيتد برس)

شكَّل وصول إيمانويل ماكرون لسدَّة الحكم في فرنسا زلزالًا سياسيًّا يستوجب إعادة تركيب المشهد السياسي عامة في داخل فرنسا وخارجها؛ فالقوة الخامسة في العالم تعرف تغييرات كبرى في بنية الدولة وفي توجهاتها العامة بعد انتصار الشعبوية الليبرالية في الانتخابات. فانتصار ماكرون في الانتخابات الرئاسية الأخيرة يشكِّل انتصارًا لقيم العولمة والحرية الاقتصادية والدفاع عن مشروع الاتحاد الأوروبي، لكن يبقى التحدي الأمني حاضرًا بقوة وأحد أهم الأولويات بالنسبة لساكن الإليزيه والذي طالما وعد خلال حملته الانتخابية بمواجهة الإرهاب من خلال منظومة متكاملة تخص الداخل والخارج وتهتم بمحاور أمنية، عسكرية وسياسية واجتماعية. وقد شهدت السنوات الأخيرة أحداثًا إرهابية عديدة في فرنسا كما تعمَّق التدخل العسكري الفرنسي في إفريقيا والشرق الأوسط. 

نخصص هذا التقرير لسبر أغوار كيفية البُعد الأمني في السياسة الخارجية لماكرون، مع تسليط الضوء على مقاربة فرنسا في دول الساحل الإفريقي، خاصة أن الزيارة الأولى للرئيس الفرنسي خارج فرنسا كانت إلى القوات الفرنسية بمالي. كما نسلِّط الضوء على استراتيجية ماكرون لمكافحة الإرهاب مع توضيح الدلالات المتعددة لهذه الاستراتيجية وأهدافها المرجوة.

البُعد الأمني في السياسة الخارجية لماكرون 

تعتبر العلاقات الدولية والسياسة الخارجية أهم أركان الدولة الحديثة، فإقامة علاقات مع أطراف متعددة والبحث عن تكتلات اقتصادية مهمة رئيسية للقيادة السياسية في أية دولة، كما أن السياسة الخارجية هي بوابة للبحث عن الفرص الاستثمارية وتحسين شروط العيش داخل البلد وحمايته بشراكات وتحالفات دفاعية. وترتكز العلاقات الدولية في العلوم السياسة على إدارة موازين القوى من خلال إيجاد تموضع استراتيجي للبلد يمكِّنه من طرح أسلوبه، وقناعاته، وشروطه على باقي الفرقاء كما يدخل في علاقات متشابكة تطغى عليها التفاعلات السياسية النابعة من أهداف محددة، أدوار مسؤولة ورهانات مستقبلية، فنجد المشهد العام مقسَّمًا إلى تحالفات، وصراعات، وكذلك توازنات. 

وفي هذا الصدد، لابد من إدراك أن إدارة السياسة الدولية تقوم على إدارة المصالح، فيتم تغليب المصلحة حتى وإن لم تكن مستدامة، فهي مرهونة بسياق سياسي وعسكري، وزمن إنساني، وتحديات موضوعة من طرف الدول المعنية، بل إن إدارة السياسة الدولية هي إدارة المتناقضات فالبحث عن التوازن والقبول بالهيمنة يجعل الدول صانعة للأضداد وإن ظهرت بعض الصداقات فهي ليست نتاجًا عاطفيًّا أو أخلاقيًّا كما هو شأن العلاقات الإنسانية في حالتها المثلى، بل هي علاقات براجماتية تستند إلى القوة. ومما تجدر الإشارة إليه أن القوة ليست فقط بالمعنى العسكري والحربي ولكن بمكانة الدولة السياسية، وأدوراها المحورية في منطقتها، وإنجازاتها الاقتصادية، ورقعتها الجغرافية، وكذلك عوامل أخرى كالتعداد السكاني، والموارد الطبيعية، والرأسمال غير المادي، وكلها محددات لرصيد الدولة في مواجهة الخارج. 

وإذا أردنا أن نصف المشهد الدولي، فإن العالم يعيش فراغًا في القيادة والتنافس على أشدِّه بين القوى التقليدية كالولايات المتحدة الأميركية، وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي، ومنها فرنسا الساعية للتحكم في ناصية القرار الدولي، كما تبرز قوى صاعدة تتطلع للعب أدوار محورية خاصة في مناطقها الجغرافية، كالصين، والهند، والبرازيل، وإيران، وتركيا. ومفهوم القوة الذي تُبنى عليه العلاقات الدولية يرتكز على مقومات وعناصر داخلية تتجلَّى في إرساء منظومة ديمقراطية متكاملة تضمن الحريات العامة والأساسية، كما تستلزم تنمية اقتصادية وعدالة اجتماعية توفر للفرد شروط عيش كريم بدون عراقيل مالية أو هواجس أمنية تمنعه من تأدية واجبه كمواطن مشارك في الارتقاء ببلده، لا فقط كصوت انتخابي يُنادَى عليه للانتخاب مرة كل أربع أو خمس سنوات بل صانع قرار مؤثِّر في سياسات بلده العامة. 

وعلى هذا النحو، تشكِّل السياسية الخارجية في فرنسا صرحًا مهمًّا في الحكم وإدارة البلاد، فهي ما يميز فرنسا عن باقي الدول الأوروبية التي تتوفر على نفس الإمكانات الاقتصادية لكن ليس لها ذاك الحضور القوي الذي تتمتع به فرنسا عالميًّا. فلدى فرنسا أكبر شبكة دبلوماسية بالعالم تقودها وزارة الخارجية الفرنسية ذات التقاليد العريقة والتي تتبنى منهجًا علميًّا في علاقاتها الخارجية فهي على تنسيق وتواصل كبيرين بمؤسسات بحثية ومراكز الفكر الاستراتيجي والتي حدَّدت على مرِّ الزمان الثوابت الفرنسية. فالمراقب الحصيف للسياسة الخارجية الفرنسية يدرك تمامًا أن هذه السياسة لا تخضع للحسابات السياسية الضيقة الناجمة عن تغيير رأس الحكم، فتاريخيًّا وعلى الرغم من تداول السلطة بين اليمين واليسار ظلت السياسة الخارجية متوازنة وقائمة على مبادئ رئيسية، ففرنسا تقسِّم العالم إلى مناطق جغرافية وتحدد داخل كل منطقة دولة حليفة قادرة على أن تكون محاورًا لفرنسا ولها القدرة على بسط النفوذ والأمن في تلك المنطقة، فاهتمام فرنسا مثلًا بالقارة الإفريقية راجع للحمولة التاريخية والإرث الثقافي الناتج عن الفترة الاستعمارية لغالب الدول الإفريقية وكذلك بسبب الرهانات الاقتصادية التي تمثلها إفريقيا؛ وبذلك تفضِّل فرنسا التعامل مع حلفاء محددين ينوبون عنها في تلك المناطق الاستراتيجية، أو كما يقول المثل الفرنسي: "من له أصدقاء كُثر ليس له صديق". 

زيارة ماكرون لمالي 

قام الرئيس الفرنسي بأول زيارة له خارج أوروبا إلى مالي يوم التاسع عشر من شهر مايو/أيار 2017؛ حيث زار قاعدة "غاو" التي تعرف وجود قوات الجيش الفرنسي وذلك من أجل إعطاء بُعد جديد للالتزام العسكري لفرنسا الموجودة منذ أربع سنوات لمكافحة الجهاديين في هذا البلد. وتعتبر منطقة الساحل الإفريقي بؤرة للإرهاب يوجد فيها العديد من التنظيمات المتطرفة والتي تهدد المصالح السياسية والاقتصادية لفرنسا، ويطلق مصطلح الساحل أو الشاطئ الإفريقي على منطقة سافانا شبه قاحلة استوائية وهو حزام له طابع بيئي متجانس يحد الصحراء الكبرى من الجنوب في إفريقيا. 

وكانت فرنسا قد نشرت حوالي أربعة آلاف جندي في منطقة الساحل الإفريقي، بعد إرسال جنودها إلى مالي، لملاحقة الإسلاميين المتشددين، كما تم نشر قوة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة لضمان استقرار البلاد، غير أن قوة الأمم المتحدة كانت تفتقر إلى العتاد والموارد مما جعل التسوية بين الطوارق والحكومة المركزية في مالي هشة ومهَّد الطريق للإسلاميين المتشددين وللمهرِّبين لاستغلال الفراغ في شمال البلاد. وتعتبر منطقة الساحل الإفريقي عرضة للخطر، كما يتسم الوضع السياسي في منطقة الساحل بالهشاشة وتمتد صحاريها التي تتخذ مجموعة من الجماعات الجهادية منها قاعدة لها من موريتانيا غربًا إلى السودان شرقًا. 

وقال ماكرون في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس مالي إبراهيم أبو بكر كيتا: "آمُل في تسريع" اتفاق السلام الموقَّع قبل سنتين في باماكو بعد أشهر من المفاوضات في الجزائر بين الحكومة المالية والمجموعات المسلحة القريبة من باماكو وحركة تمرد الطوارق السابقة. وأضاف: "نعرف أين تكمن الصعوبات الكبرى وماذا علينا أن نفعل. لنفعل ذلك بلا تباطؤ". في حين أبرز الرئيس المالي أن الخطر الحقيقي للإرهاب في مالي قادم من ليبيا التي أصبحت مشتلًا للإرهابيين؛ حيث يخضع المتطرفون إلى تكوينات وتدريبات عسكرية للقتال في مالي، مشددًا على ضرورة إشراك كل الدول المجاورة وخاصة الجزائر، النيجر وليبيا في التحالف الفرنسي(1). 

وقام الرئيس الفرنسي بالتحدث إلى 1600 جندي فرنسي من المنتشرين في قاعدة غاو والمشاركين في عملية برخان، مؤكدًا على أن فرنسا ستكثف جهودها لمحاربة المتشددين الإسلاميين في شمال إفريقيا وغربها وستعزز تعاونها مع باقي الأطراف الإفريقية. ومن الملاحظ في هذا الشأن، سعي ماكرون لمساعدة جيوش المنطقة على السيطرة على أراضيها خصوصًا المناطق الحدودية الضعيفة، كما يهدف إلى مواصلة عمل سلفه، فرانسوا هولاند، في مكافحة المجموعات الجهادية في منطقة الساحل عسكريًّا، مع إعطاء دفعة قوية في مجال التنمية. فرؤية ماكرون لمواجهة الإرهاب تستوجب العمل بالتوازي بين الخط الأمني-العسكري والخط التنموي، فقد أعلنت الوكالة الفرنسية للتنمية أنها قد خصصت أكثر من 470 مليون يورو كمساعدات للمنطقة لتحسين شروط العيش بها فيما يخص الصحة، والغذاء، والتعليم. 

وعلى هذا النحو، فسياسة ماكرون في الساحل تعتمد على المزيد من الربط بين المعالجة العسكرية وسياسات التنمية، كنوع من الاستجابة لدعوات العديد من المنظمات الإنسانية التي ترى أن المقاربة العسكرية غير كافية لمواجهة العنف، فقد كان الاتحاد الدولي لمنظمات حقوق الإنسان قد نبَّه إلى أن السياسة الفرنسية في إفريقيا هي عسكرية بامتياز ومفرطة في الإجراءات الأمنية، وبذلك دعا فرنسا إلى الاستثمار في قطاع الحوكمة من خلال تحديد وتوضيح صلاحيات ومسؤوليات القوات الفرنسية وباقي القوات مع إشراك الحكومة المالية وإعطائها هوامش واسعة لبسط سلطتها مع إبراز المناطق الآمنة من تلك الملتهبة. علاوة على ذلك، يستدعي الأمر مكافحة الإفلات من العقاب عبر إعادة توجيه مساعدات فرنسا إلى العدالة، مُدينًا في ذات الوقت المستوى غير المسبوق من غياب الأمن في مالي. وكانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" قد دعت الرئيس الفرنسي إلى حضِّ رئيس مالي على التصدي للمشاكل التي أدت إلى عقود من عدم الاستقرار وخصوصًا الحكومة الضعيفة والفساد المستشري وانتهاكات قوات حفظ النظام، حيث تثبت الوقائع انتشار ظواهر اقتصاد الحرب متمثلة في عمليات الخطف، والنهب والابتزاز ناهيك عن تضخم الأسعار وغلاء المعيشة من خلال ممارسات احتكارية وسرقة المساعدات الإنسانية، كما تعرف المنطقة تجارة غير شرعية تصل إلى حدِّ الاتجار في المخدرات والبشر. 

إضافة إلى كل ما سبق، أشار ماكرون إلى أن فرنسا تريد أن تلعب ألمانيا دورًا متزايدًا في ملفات الأمن والدفاع، بما في ذلك ملفات إفريقيا والساحل، خصوصًا أن ألمانيا أكبر دولة مساهمة في بعثة الأمم المتحدة في مالي. 

وكان الرئيس الفرنسي يشدِّد خلال حملته الانتخابية على ضرورة وجود سياسية دفاعية مشتركة بين دول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها ألمانيا ويهدف بذلك إلى توحيد الجهود الأوروبية والتحدث باسم الاتحاد الأوروبي فيما يخص الشِّقَّ العسكري كما يسعى إلى أن تتقاسم دول الاتحاد الأوروبي تكلفة التدخلات العسكرية الفرنسية في الخارج والتي تثقل كاهل الميزانية الفرنسية. 

فرنسا ومكافحة الإرهاب 

وَعْد الرئيس الفرنسي الجديد بأن يجعل من قضية "مكافحة الإرهاب" أولى الأولويات، لن يتأخر في إيجاد عشرة آلاف وظيفة في الشرطة والدَّرك، من دون رفع حالة الطوارئ، مع الإسراع بعقد اجتماع لمجلس الدفاع، ثم إنشاء خلية تنسيق في الشؤون الاستخبارية، بين مختلف الأجهزة. وفي ذات السياق، أبرز ماكرون أنه يسعى إلى إنشاء خلية لمحاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" تتكوَّن من حوالي مئة عنصر وتضم ممثلين عن أجهزة الاستخبارات والجيش والشرطة والعدل، تشتغل بشكل يومي تحت إمرة الرئيس مباشرة في قصر الإليزيه، ويشرف عليها الأمين العام لقصر الرئاسة، ألكسيس كولر، وهو الذراع اليمنى للرئيس وأقرب مقرَّبيه. ويعوِّل ماكرون على هذه الخلية الرئاسية لتكون بمثابة رأس الحربة في مواجهة التهديدات الإرهابية التي يمثِّلها تنظيم الدولة للمصالح الفرنسية في الداخل والخارج. 

ولفهم السياسة الفرنسية في مكافحة الإرهاب، يجب الغوص في ظاهرة الإرهاب وفهم وجهة النظر الفرنسية في ذلك؛ فقد أصبح الإرهاب محطَّ اهتمام من طرف جميع دول العالم، فتوسُّعه وقوة تأثيره عبر منظمات عابرة للحدود جعلت منه أبرز ظاهرة في القرن الحادي والعشرين؛ حيث تخطى جميع الحدود الجغرافية ولم يعد ارتباطه مقتصرًا على منطقة معينة بل ظاهرة عالمية تثير متابعة الباحثين، والكتَّاب، والمثقفين وتحظى كذلك بانتباه الفعاليات السياسية والدينية التي تسعى لتحليل الظاهرة ومعالجتها. بالإضافة إلى تطور ظاهرة الإرهاب من خلال تنوعه، وإعادة انتشاره بأشكال مختلفة فتارة عبر انتحاريين، وتارة أخرى بتفجيرات استهدافية لمواقع استراتيجية للدول. وبالموازاة مع ذلك، صار الإرهاب مركز السياسات العالمية ومحورًا رئيسيًّا في السياسات العامة لكل دولة على حدة، كما ازداد التعاون والتنسيق الأمني بغرض صياغة الاستراتيجيات الأمنية لمكافحة الإرهاب، وحماية الحدود، والقيام بالحرب عليه. 

وإذا تأمَّلنا في خلفية الإرهاب، فهو ذاك العمل الذي يهدف إلى ترويع فرد أو جماعة أو دولة بغية تحقيق أهداف لا تجيزها القوانين المحلية أو الدولية. ويشير الإرهاب إلى منهج حُكم أو إلى طريقة عمل مباشرة ترمي إلى إثارة "الرهبة"؛ أي إلى إيجاد مناخ من الخوف والرعب والهلع بين السكان، وهو بذلك عبارة عن تقنية عمل عنيفة تستعملها مجموعةٌ سرِّيةٌ ضد مدنيين بهدف الحصول على مطالب سياسية معينة. ويصنَّف الإرهاب إلى إرهاب جماعي وآخر فردي؛ ويتخذ الأخير عدَّة أشكال: الإرهاب الفكري، والضغط النفسي، والتسفيه، والتحقير والقذف، والعنف الجسدي، والتكفير وهدر الدم، كما يرتكز هذا النوع من الإرهاب على الحصول على المبتغى بشكل يتعارض مع القانون أو المفاهيم الاجتماعية السائدة، وكذلك على أسباب دينية أو مذهبية. 

أما الإرهاب الجماعي فينقسم إلى منظَّم وغير منظَّم؛ فالإرهاب الجماعي غير المنظَّم تقوم به عصابات غير منظمة لتحقيق مآرب خاصة من خلال أعمال التخريب، والنهب، والسطو المسلح، والعنف الجسدي والقتل الجنائي. والإرهاب الجماعي المنظَّم هو الإرهاب الذي تمارسه جماعات منظَّمة تموِّلها وتشرف عليها مؤسسات أو هيئات أو دول معلنة أو غير معلنة، سعيًا لتحقيق أهداف سياسية أو دينية أو مذهبية، ناهيك عن الإرهاب الدولي فذلك الذي تمارسه دولة واحدة أو أكثر عن طريق تسخير إمكاناتها الدبلوماسية أو العسكرية لتحقيق هدف سياسي، أو الاستيلاء على مكتسبات أو ثروات غيرها من الدول، ويستعمل الإرهاب الدولي الضغط الدبلوماسي، والحصار الاقتصادي، والقوة العسكرية والقتل المنظَّم للمدنيين. 

وقانونيًّا، على الرغم من أن موضوع مكافحة الإرهاب مدرجٌ في جدول أعمال منظومة الأمم المتحدة منذ عقود من الزمن، إلا أن التحرك الكبير نحو هذا الموضوع جاء بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، من خلال إصدار القرار 1373، الذي أنشأ للمرة الأولى لجنة مكافحة الإرهاب. وفيما بعد ذلك، تمت الموافقة من طرف جميع الدول الأعضاء في الجمعية العامة للمرة الأولى على الإطار الاستراتيجي المشترك لمكافحة آفة الإرهاب، وذلك بالتصويت على استراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب. وتهتم هذه الأخيرة بمعالجة الأوضاع التي تساعد على انتشار الإرهاب، ومنع الإرهاب ومكافحته، وبناء قدرات الدول الأعضاء على منع الإرهاب ومكافحته وتعزيز دور منظومة الأمم المتحدة في هذا الصدد، وضمان احترام حقوق الإنسان للجميع وسيادة القانون باعتبارهما الركن الأساسي لمكافحة الإرهاب(2). 

وفي الدول الغربية، تباينت أساليب معالجة قضايا الإرهاب؛ ففي فرنسا مثلًا يُعرَّف الإرهاب على أنه خرق للقانون، يُقدِم عليه فرد من الأفراد، أو تنظيم جماعي بهدف إثارة اضطراب خطير في النظام العام عن طريق التهديد بالترهيب. 

ويلجأ القضاء الفرنسي لقانون العقوبات والذي يحدد بعض الأفعال المجرَّمة والتي يتعاطى معها بصرامة باعتبارها جرائم إرهابية إذا اتصلت بمشروع إجرامي فردي أو جماعي بهدف الإخلال بالنظام العام من خلال التخويف والترويع. 

على الجانب الأخر، يعرِّف المشرِّع الأميركي الإرهابَ على أنه خرق للقانون، يقدم عليه فرد من الأفراد، أو تنظيم جماعي بهدف إثارة اضطراب خطير في النظام العام عن طريق التهديد بالترهيب. فهو ذاك السلوك الجنائي العنيف الذي يُقصَد به بوضوح التأثير على سلوك حكومة ما عن طريق الاغتيال أو الخطف، بينما عرَّفه مكتب التحقيقات الفيدرالي بأنه عمل عنيف أو عمل يشكِّل خطرًا على الحياة الإنسانية وينتهك حرمة القوانين الجنائية في أية دولة، غير أن المشرِّع الأميركي لم يتعامل مع الإرهاب باعتباره جريمة مستقلة حتى صدور قانون عام 1996 ثم توالت القوانين بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وخاصة فيما يتعلق بمكافحة تمويل الإرهاب. وكانت الولايات المتحدة الأميركية سبَّاقة في إصدار مجموعة من القوانين المتعلقة بالإرهاب، منها قانون مكافحة اختطاف الطائرات عام 1971. كما سَنَّ الكونغرس عقوبات تُفرَض على البلدان التي تعاون الإرهابيين أو تحرضهم أو تمنحهم ملاذًا في عام 1976. 

ولا يمكن فهم أواصر الإرهاب دون الغوص في التطرف باعتباره عنصرًا مركزيًّا في صناعة الإرهاب ومنظومة إنتاج لفكر الكراهية الممزوجة بالجهل، فالتطرف هو اتخاذ الفرد موقفًا متشدِّدًا يتسم بالقطيعة في استجاباته للمواقف الاجتماعية التي تهمه، والموجودة في بيئته الزمنية والمكانية، واستُخدم مفهوم التطرف في الإشارة إلى الخروج عن القواعد الفكرية، والقيم والسلوكيات المتعارف عليها والشائعة في المجتمع، معبَّرًا عنه بالعزلة، أو بالسلبية والانسحاب، أو تبني قيم ومعايير مختلفة، قد يصل الدفاع عنها للجوء إلى العنف بشكل فردي أو جماعي منظَّم، بهدف إحداث التغيير في المجتمع وفرض الرأي بالقوة على الآخرين. وبذلك، يتحول التطرف في العديد من الأحيان من مجرد فكر إلى سلوك ظاهري، عمل سياسي أو ممارسة اجتماعية، يتم استعمال العنف فيه كوسيلة لتحقيق المبادئ التي يؤمن بها الفكر المتطرف، أو اللجوء إلى الإرهاب النفسي، المادي، أو الفكري ضد كل من يقف عقبة في طريق تحقيق الأفكار المتطرفة(3). 

في هذا الصدد، يرتبط التطرف بالجمود العقائدي والانغلاق الفكري، فالتطرف هو أسلوب مغلق للتفكير، أحادي الرؤية، غير قادر على تقبل المعتقدات الأخرى المختلفة عنه ولا يقبل فكرة التسامح والتعايش معها. ويعتمد التطرف على التعصب للجماعة التي ينتمي إليها، والتعصب هو اتجاه عقلي وحالة نفسية من الكراهية تستند إلى حكم عام جامد، فالتعصب بمثابة انحراف عن المعايير العقلانية مفرط في التعميم، رافض لأي تعديل ويسعى إلى تصنيف الغير في قوالب نمطية(4). 

في السياق نفسه، تتجلَّى مظاهر التطرف في التشدد والغلو في الرأي مع عدم القدرة على إجراء حوار ونقاش متبادل يعتمد على الحجج والبراهين العلمية والفكرية، والعمل على محاسبة الناس دون قبول العكس، وسوء الظن في الآخرين ووضعهم في قفص الاتهام والإدانة، وكذلك العزلة عن المجتمع، وازدراء الآخر، وإطلاق الأحكام عليه، وتعنيفه وتجريده من حقوقه وخاصة حقه في الحياة. ويتخذ التطرف مظاهر عديدة؛ أهمها: التطرف الفكري الذي يخص الخروج عن الأطر الفكرية والثقافية السائدة في المجتمع، وكذلك التطرف الديني الذي يعتبر أكثر أنواع التطرف انتشارًا من خلال التشدد في السلوك الديني فكرًا وعملًا(5). 

وفي المجمل، فاهتمام فرنسا بالإرهاب جاء متأخرًا ولم يصبح أولوية استراتيجية إلا بعد الهجمات الإرهابية المتعاقبة التي تعرضت لها فرنسا والتي وصلت ذروتها سنتي 2015 و2016 بعد أحداث شارلي إبدو، في هجمات الثالث عشر من نوفمبر/تشرين الثاني، واعتداء نيس، والتي أثبتت أن خطر الإرهاب داخلي في فرنسا؛ حيث يلجأ شبابها إلى التطرف كنوع من الهجرة التاريخية، يهاجر من اليأس والبؤس، للخلاص في الآخرة، بعد أن أصبحت الدنيا جحيمًا في أعينهم، فيتجهون نحو التطرف الديني والإرهاب، ويصير النقل بديلًا للعقل، والتكفير بديلًا للتفكير. علاوة على ما ذُكِر، لابد من الإشارة إلى أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين الأحداث الإرهابية في فرنسا وبين التدخلات العسكرية لهذه الأخيرة في إفريقيا والشرق الأوسط، فالأعمال الإرهابية في فرنسا عرفت تنوعًا من حيث الأداء والشكل؛ إذ تنوعت بين الأعمال الانتحارية، والتفجيرات، واستهداف رجال الأمن والجيش بالسلاح الأبيض، ولطالما أعلن منفِّذوها أنها ردٌّ على التدخل العسكري لفرنسا في بؤر التوتر. 

وفي ذات النطاق، فقد نشر قائد أركان الجيش الفرنسي، الجنرال بيار دو فيلي، مقالة في يومية "لاتريبيون"، 20 ديسمبر/كانون الأول 2016، بعنوان "مجهود الحرب هو ثمن السلام". على الرغم من ارتياحه لميزانية الجيش الفرنسي الحالي (مقدَّرة بـ32.68 مليار يورو لعام 2017)، إلا أنه يطالب برفعها إلى 2% من إجمالي الناتج المحلي (أكثر من 40 مليار يورو) قبل نهاية العهدة الرئاسية المقبلة، أبريل/نيسان 2022. ويرى "أن هذا المجهود الذي يتوافق والالتزام الدولي لفرنسا حيال شركائها في الحل الأطلسي لا يمكن، لا تخفيفه، ولا تأجيله، على الرغم من تعقد معادلة الميزانية الدولتية المرتقبة". 

يرمي هذا المجهود المطلوب، حسب قائد أركان الجيش الفرنسي، إلى تحقيق ثلاثة أهداف متكاملة، لتدعيم القوات الفرنسية وزيادة فعاليتها، أولها: استرجاع القدرات السابقة للجيش الفرنسي التي توجب التخلي عن عنفه مؤقتًا، لأسباب تخص الميزانية، في وقت كان فيه الوضع الأمني مختلفًا. ثانيها: التوفيق بين العقود العمليتية وحقيقة القدرات (من رجال، وعتاد، ودعم لوجستي وذخيرة...) التي تُستخدم في العمليات. لا تستجيب هذه العقود لمقتضيات الالتزام الحقيقي والحالي للقوات الفرنسية، ولم يعد هذا الوضع محتملًا في سياق التدهور الأمني المستمر. ثالثها: ضمان المصداقية الضرورية للردع النووي (الفرنسي) من خلال تحديث مكوِّنيْه: البحري والجوي. انسجام المنظومة الدفاعية الفرنسية مرهون بذلك، في وقت تتسلح فيه دول كثيرة. ولتحقيق هذا الهدف، يتعين بذل المجهود العسكري الضروري، خلال السنوات الخمس عشرة المقبلة، وأي تأجيل لهذا القرار يعني عدولًا حقيقيًّا. 

واستباقًا لأية حُجَّة مالية-اقتصادية ضد ما ذهب إليه، يذكر قائد الأركان أن تطوير قدرات الجيش تعود بالفائدة على البلاد؛ ذلك أن كل يورو يُستثمر في الدفاع يمثِّل اثنين يورو عائدات بالنسبة للاقتصادي الفرنسي (تشغيل، بحث وتنمية، التصدير...)، فضلًا عن استفادة الصناعة الفرنسية من البحث التكنولوجي العسكري-المدني، موضحًا أن وجود قاعدة صناعية متينة ودائمة، يسمح لفرنسا بالحفاظ على استقلاليتها الاستراتيجية. 

ويبرِّر الجنرال، بيار دوفيلي، ضرورة رفع الميزانية العسكرية بالقول: إنه "مع "قطيعة" سنتي 2015 و2016، انتقلنا من عصرٍ إلى آخر، يتعين فيه العمل مجدَّدًا من أجل السلام؛ لأن ربح الحرب لم يعد يكفي لربح السلام، وذلك بسبب عدم الاستقرار والوضع الأمني، ويرى أن الجيش الفرنسي يواجه بحزم "ظاهرة الإرهاب الإسلاموي الراديكالي الذي حوَّل العنف إلى نظام". ويرى أن العدو الذي يحاربه الجيش الفرنسي مختلفٌ عن النماذج الكلاسيكية. لكن، يجب ألا يحجب هذا "التهديد الأقرب والحقيقي" الرؤية عن تحولات القوة الدولية، فعلى مشارف أوروبا، في آسيا وفي الشرقين: الأدنى والأوسط، هناك مزيد من الدول التي تنفذ استراتيجيات تقوم على علاقة القوة، بل وحتى على الأمر الواقع، وتتسلح. وفي تحليله لوضع الجيش الفرنسي في السياق الحالي، يقول بيار دو فيلي: إن الجيش الفرنسي الذي يؤدي المهام المنوطة به لحماية البلاد، وأداء مسؤوليته الدولية، وللتكيُّف مع التداخل بين الأمنين، الداخلي والخارجي، يوجد تحت ضغط كبير بسبب تسارع وتيرة الالتزامات (الدولية)، وتعدُّد الأزمات، ما يجعله تحت توتر كبير يستنزفه. وعليه، فهو يرى أن أية هوة بين التهديدات من جهة والمهمات والوسائل من جهة ثانية ستضر بالمنظومة الدفاعية للبلاد، مضيفًا: إن "الجميع فهم أننا لا نربح حربًا من دون مجهود حرب". 

إذن، ما العمل، خصوصًا أن ضغط الوقت كبير، ورهان الميزانية ما زال قائمًا؟ يقول الجنرال: إن المسألة في غاية من الوضوح: يجب الحفاظ على قدرات الجيش الفرنسي، حتى يبقى قادرًا على حماية البلاد ومواطنيها ضد مختلف التهديدات، محذِّرًا من أن "الوقت يلعب ضد متانة النموذج (العسكري الفرنسي). ويرى أن 2017 يجب أن تكون سنة الشروع في عملية مراجعة استراتيجية شاملة، على أساسها يتم التصويت (في البرلمان) على قانون برمجة عسكرية جديد والتحضير لميزانية عسكرية لعام 2018، تكون متينة ومتماسكة، وخطوة نحو الصعود القوي الضروري للمنظومة الدفاعية للبلاد. 

أثارت هذه المقالة ردود فعل كثيرة في فرنسا، مساندة، في أغلبيتها، إن لم تكن كلها، ما ذهب إليه قائد أركان الجيش. ففي وقتٍ دانت فيها المعارضة عمومًا محدودية الغلاف الإضافي المالي الذي خصصته الحكومة للجيش، لمواجهة الإرهاب في الخارج وفي الداخل، أكدت الأخيرة أهمية المخصصات المالية التي خصَّت بها القوات المسلحة في السنوات الثلاث الأخيرة(6). وبذلك، ففرنسا في عهد ماكرون ترمي بكل ثقلها لمواجهة الإرهاب وتجعل مكافحته مشروعًا وطنيًّا كبيرًا له دلالات في الداخل والخارج. 

خاتمة 

يهدف الرئيس الفرنسي الجديد إلى توطيد الحضور الأمني لفرنسا في الساحل، فهو يدرك تمامًا أن التدخلات العسكرية الفرنسية في حاجة إلى تنسيق ودعم من أطراف أوروبية؛ وهنا يأتي سعيه إلى سياسة دفاعية أوروبية مشتركة تقودها فرنسا بالتعاون مع ألمانيا، وأطراف متوسطية؛ وبذلك يَعِدُ بإحياء الاتحاد من أجل المتوسط وتوحيد جهوده لمكافحة الإرهاب وكذلك بالتعاون مع الأطراف الإقليمية وهنا تأتي أهمية الزيارات المنتظرة لكلٍّ من المغرب والجزائر باعتبارهما دولتين محوريتين في المنطقة وقادرتين على المساعدة سواء عسكريًّا، أو أمنيًّا أو معلوماتيًّا. 

ويكمن العمق الاستراتيجي لهذه التدخلات العسكرية لدحر الإرهاب الذي يضرب أطنابه على الأرض الفرنسية ويهدد مصالحها الاقتصادية في إفريقيا حيث تتواجد أبرز الشركات الفرنسية وتقطن استثماراتها التي تدرُّ على الاقتصاد الفرنسي ثروات كبيرة. ويبقى نجاح هذه المقاربة الجديدة لماكرون بالساحل رهينًا بالتوافق الفرنسي مع باقي الأطراف وكلك مواجهة منابع التطرف في إفريقيا بليبيا، والصومال، ونيجيريا، وغيرها.

_____________________________

يونس بلفلاح - كاتب وأكاديمي مغربي مقيم بفرنسا.

References

1– انظر: "الرئيس ماكرون يزور مالي لتفقد القوات الفرنسية وتأكيد التزام فرنسا بمكافحة الإرهاب"، موقع فرنسا 24، (تاريخ الدخول: 10 يونيو/حزيران 20177):

http://www.france24.com/ar/20170519-%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D8%A7-%D9%85%D8%A7%D9%83%D8%B1%D9%88%D9%86-%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A-%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%AF-%D9%85%D9%83%D8%A7%D9%81%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%A8

2 – انظر: "دليل التعاون الدولي في المسائل الجنائية لمكافحة الإرهاب"، موقع مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، (تاريخ الدخول: 8 يونيو/حزيران 20177): إضغط هنا.

3 – Voir: PLENEL,  “Pour les musulmans" ,(Ed La Découverte 2016). p. 140.

4- Voir: Ramadan, T, "Le génie de l’Islam. Initiation à ses fondements, sa spiritualité et son histoire", (Presses Chatelet 2016), p. 20.

5 - يونس بلفلاح، "صناعة الإرهاب في العالم العربي"، موقع مجلة ذوات، العدد السادس والثلاثون، ص 88- 96، (تاريخ الدخول: 9 يونيو/حزيران 20177):

http://magazine.mominoun.com/flash/thewhat36/#88

6 – انظر: عبد النور بن عنتر، "فرنسا...ضرورة تدعيم قدرات الجيش، موقع صحيفة العربي الجديد"، بتاريخ 31 ديسمبر/كانون الأول 2016، (تاريخ الدخول: 9 يونيو/حزيران 2017):

https://www.alaraby.co.uk/opinion/2016/12/30/%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D8%A7-%D8%B6%D8%B1%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%AA%D8%AF%D8%B9%D9%8A%D9%85-%D9%82%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D8%B4-1#sthash.Jy5IN8FA.dpuf