التصعيد في الجنوب الليبي: صراع إرادات بلبوس قبلي

يتناول هذا التقرير صراع أطراف الأزمة الليبية بالجنوب الليبي الذي سيظل ساحة حرب لتصفية الحسابات بين المشير خليفة حفتر بالشرق وخصومه في الغرب، وفي غياب أية تسوية سياسية فمن المتوقع أن تستحوذ قوات حفتر على زمام الأمور إلى أن ينظِّم المجلس الرئاسي صفوف قواته هناك.
37877d58589e4affb5455d848844c29b_18.jpg
الجنوب الليبي مسرح لاصطفافات قبلية مستمرة (رويترز)

مقدمة 

منذ نشوء الدولة الحديثة في ليبيا في مطلع خمسينات القرن المنصرم، كان الخلاف والصراع بشتي صوره، يبدأ في الشمال بين برقة (الشرق الليبي) وطرابلس (الغرب الليبي)، ويتم حسمه في الجنوب، حتى القرارات المصيرية التي أقرها البرلمان في عهد المملكة الليبية، كانت أصوات نواب الجنوب هي المرجِّحة للكفة، كلما احتدم الخلاف بين برقة وطرابلس، مثل التعديلات الدستورية عام 1962، التي أحدثت نقلة دستورية في ليبيا وأطاحت بنفوذ اللوبيات المسيطرة ومهدت لقرار تحويل ليبيا من مملكة فيدرالية إلى مملكة موحدة في ربيع العام 1963، وذلك للحد من تغول سلطات حكومات الأقاليم على حساب الحكومة المركزية(1). وفي حقبة الجماهيرية التي عملت على تغيير سُلَّم التراتبية الاجتماعية في ليبيا، كان المتنفذون ورجالات الحكم، معظمهم من الجنوب الليبي والمنطقة الوسطى (وتحديدًا مدينة سرت)، وإن ظل الجهاز التنفيذي وتكنوقراطيو الدولة من الشمال، مع تهميش متعمد للمنطقة الشرقية. 

خلال الأزمة الراهنة في الجنوب الليبي، التي نالت قدرًا من الاهتمام الدولي، لوحظ في التقارير الإخبارية تضارب شديد في المعلومات، وغموض في تحديد طبيعة المشكلة، مع التركيز على قضية المرتزقة والصراع القبلي وإغفال محددات الصراع الراهن، الذي لا شك ستحدِّد مآلاته، طبيعة لاعبي الغد في المشهد السياسي الليبي المتقلب. 

الجنوب الليبي منذ اندلاع الأحداث وحتى الآن 

ظل الجنوب الليبي بالكامل على ولائه للنظام السابق، طيلة الأشهر الأربعة الأولى من اندلاع أحداث فبراير/شباط 2011، لكن مع تعدد وانتشار جبهات القتال في أكثر من مدينة ومنطقة في ليبيا، بدأ أنصار فبراير/شباط في الظهور والكشف عن أنفسهم في الجنوب وتحديدًا في مدينة سبها، نظرًا إلى أن معظم شباب الجنوب الموالي لنظام القذافي توزع على جبهات القبائل المختلفة. كان الانحياز إلى صف فبراير في البداية يتم بشكل فردي دون ولاءات قبلية أو تكتل جهوي كامل. ولأن تركيبة الجنوب قبلية، فقد صُنِّفت قبائل القذاذفة وورفلة والحساونة والمقارحة والطوارق كقبائل مناصرة للنظام، واختار التبو ومعظم أولاد سليمان الانحياز لمعارضة النظام، وإن ظل قرابة ثلث أولاد سليمان مع النظام السابق، حتى سقوطه، لينضموا لاحقًا بعتادهم لبقية القبيلة التي اختارت أن تكون في صف فبراير/شباط.  

وعلى مدار شهرين في الفترة الممتدة من انهيار النظام في أواخر أغسطس/آب 2011 وحتى أواخر أكتوبر/تشرين الأول من نفس السنة، استولت مجموعات الثوار التي حاربت النظام السابق، على المعسكرات والوحدات العسكرية في كل قرية وفي كل حي، ونظرًا إلى أن الترسانة العسكرية للنظام كانت مركَّزة أساسًا في الغرب، والمنطقة الوسطى (الجفرة) فقد استولت مجموعة ثوار مصراتة والزنتان على معظم العتاد العسكري الثقيل للنظام السابق ، ومع مطلع العام 2012، كان قرابة ثلاثة أرباع تسليح الجيش الليبي، تحت سيطرة ثوار مصراتة الذين كوَّنوا كتائب ضاربة، جيدة التسليح أسموها الدروع، وقد توزعت تلك الكتائب على عموم ليبيا وتحديدًا في الغرب والجنوب الليبيين. وكانت القوة الثانية في ليبيا من حيث التسليح لكتائب الزنتان، وتحالفت هاتان القوتان على تقاسم النفوذ في ليبيا وبسطتا سيطرتهما الكاملة فعلًا على عموم ليبيا مع حلول صيف 2012، قبل أن تندلع الخلافات بينهما في منتصف العام 2013. 

وفي الجنوب، أضحى جليًّا أن قوتين رئيستين من فبراير/شباط تتقاسمان السيطرة والنفوذ في الإقليم، وهما قبيلتا أولاد سليمان والتبو، مع انضمام أفراد من معظم قبائل الجنوب للكتائب التابعة لهاتين القوتين. وتحالف أولاد سليمان مع كتائب مصراتة في حين اختار التبو التحالف مع قوات الزنتان. 

برزت قوة أولاد سليمان بمجرد استيلائهم على كتيبة فارس (القوة الرئيسية للنظام السابق في الجنوب، معسكرها الرئيس في سبها)، واستولى التبو على وحدات أقل تسليحًا في أوباري والقطرون وتراغت وأم الأرانب، وظلت مناطق الطوارق البعيدة في جهات غات وجزءٍ من أوباري، ظلت بعيدة عن تجاذبات وتحالفات فبراير/شباط. 

عاش أولاد سليمان والتبو في وفاق حَذِر جرَّاء تقاسم النفوذ والغنائم حتى خريف 2012. وعندما بدأت المدخرات التي تركها النظام السابق في النضوب جرَّاء سخاء حكومة الكيب مع الميليشيات وثوار فبراير/شباط، ومع توقف تصدير النفط جرَّاء سيطرة ميليشيات الجضران على منطقة الهلال النفطي، الذي يحوي 70% من نفط ليبيا، بدأت الخلافات تطفو على السطح بين التبو وأولاد سليمان والتي تنحصر أساسًا في السيطرة على منافذ وطرق التهريب في الجنوب التي تدر مئات الملايين سنويًّا من وراء تهريب البضائع وتجارة المخدرات والاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية. 

السيطرة على طرق التهريب بالجنوب 

بدأ الصراع بين قبيلة أولاد سليمان والتبو، بحوادث فردية بين مهربين من كلا الطرفين في ربيع عام 2012، والتي تمخضت عن مقتل قائد تباوي وقائدين بارزين في اللواء السادس مشاة التابع لأولاد سليمان ( كتيبة فارس سابقًا)(2) ومن يومها وحتى الأحداث الأخيرة، عرف الطرفان 166 اقتتالًا تراوح بين حوادث فردية إلى معارك شرسة استُخدمت فيها الأسلحة المتوسطة والثقيلة، وتدوم لعدة أيام إلى أن تتدخل قبائل الجنوب وتبرم صلحًا وهدنة بين الطرفين، بيد أن هذه الهدنة لا تصمد عادة إلا لمدة أسابيع ثم يتجدد الاقتتال، هذا فضلًا عن الأحداث والمناوشات الفردية بين كلا الطرفين، في ظل محدودية الموارد والصراع الضاري للسيطرة على المنافذ والمعابر وطرق التهريب. 

وحتى منتصف العام 2015، كانت معظم الخسائر في جانب التبو نظرًا لفارق التسليح والعدة والعتاد، إلا أنه في منتصف العام 2016، بدأت الكفة تميل لصالح التبو جرَّاء العوامل التالية:

1. تأثر منطقة الجنوب بالصراع الحاصل في الشمال بين المشير خليفة حفتر وفايز السراج؛ حيث تحالف أولاد سليمان مع حكومة السراج، في حين اختار التبو معسكر خليفة حفتر، وكان هذا الأخير سخيًّا في موضوع تسليح وتزويد كتائب التبو لكسر شوكة أولاد سليمان المتحالفين مع مصراتة وحكومة السراج والإخوان المسلمين.

2. سخط معظم قبائل الجنوب على أولاد سليمان الذين يرون في أنفسهم حكام الجنوب الجدد، وحجم المظالم والانتهاكات التي مارسوها بحق القبائل الأخرى، وحجم الإذلال والقهر الذي مارسه أولاد سليمان بحق القذاذفة تحديدًا، والذي يرقى معظمه إلى جرائم حرب، ولاسيما جرائم الشرف والعِرض، المرفوضة والمستهجنة في عرف البدو في ليبيا.

3. العودة القوية لأنصار النظام السابق في منطقة الجنوب، وذلك بعد أن التقطوا أنفاسهم ونظموا صفوفهم من جديد، وبروز قوتين عسكريتين تُحسبان على أنصار النظام السابق، وهما:

  • القوات المسلحة الليبية في الجنوب: حيث قام ضباط وعسكريون من الموالين للنظام السابق في صيف العام 2016 بتشكيل قيادة للقوات المسلحة الليبية في الجنوب يترأسها الفريق ركن علي سليمان كنه الذي يعد من أبرز قادة الجيش الليبي خلال مرحلة ما قبل 2011. ومنذ تأسيس هذه القوات فإنها عملت على إخراج قوات الدروع التابعة لمصراتة من الجنوب، وقد نجحت في السيطرة على "قاعدة تمنهت" أهم قاعدة عسكرية في الجنوب الليبي. وهذه القوة عبارة عن قوة عسكرية منضبطة لا تزال وحتى الآن تنأى بنفسها عن الصرعات الجهوية والقبلية بالجنوب، مع أنها تنسق تارة مع قوات الكرامة في الشرق.
  • اللواء المجحفل 12، بقيادة محمد بن نائل: ويعتمد هذا اللواء على شباب المقارحة بمنطقة براك الشاطئ. وقد أعلن هذا اللواء ولاءه للمشير خليفة حفتر.

4. مذبحة قاعدة براك في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2017 التي نفذها "صقور الصحراء" التي يقودها أحمد الحسناوي، وهو جهادي يُنسَب لتنظيم القاعدة، وقد راح ضحية تلك المذبحة 141 قتيلًا. وقد لوحظ تواطؤٌ من قبل القوة الثالثة التابعة لمصراتة، في هذه المجزرة، كما تشير أصابع الاتهام إلى تنسيق بين أحمد الحسناوي وحميد العطائبي قائد اللواء السادس مشاة التابع لأولاد سليمان (كتيبة فارس سابقًا في سبها). المصدر.

5. دخول الإمارات الداعمة للمشير خليفة حفتر على خط التسوية في الجنوب، لكسر تفرد قطر بأوراق اللعبة بالجنوب الليبي؛ حيث يبدو أن أبوظبي لا تريد أن يتكرر من جديد اتفاق الدوحة الشهير نوفمبر/تشرين الثاني 2015 الذي أوجد هدنة دائمة بين التبو والطوارق في أوباري برعاية قَطَرية. 

هذه العوامل وغيرها، قلصت من سطوة ونفوذ أولاد سليمان الذين باتوا يحسون بخطر حقيقي على تواجدهم في الجنوب، وأن الدائرة تضيق عليهم جرَّاء السخط المتنامي ضدهم من قبل حلفاء الأمس (التبو) أو الأعداء التقليديين، أنصار النظام السابق. 

في مطلع أبريل/نيسان 2017، تم إبرام اتفاق مصالحة بين قبيلتي أولاد سليمان والتبو في العاصمة الإيطالية روما، بعد مفاوضات سرية ماراثونية استمرت 72 ساعة، بحضور حوالي 60 من شيوخ قبيلتي التبو وأولاد سليمان، وممثلين عن الطوارق وكذلك ممثل عن حكومة الوفاق الوطني الليبية التي تتخذ من طرابلس مقرًّا، وينص الاتفاق على ضبط حدود البلد الجنوبية حيث يتكثف نشاط مهربي البشر والمهاجرين وأنه "سيتم تشكيل قوة من حرس الحدود الليبيين لمراقبة 5000 كلم من الحدود في جنوب ليبيا"(3). 

ومن أهم بنود اتفاق الصلح بين التبو وأولاد سليمان في العاصمة الإيطالية روما:

  • الصلح الشامل والدائم بين الطرفين.
  • تتولى الدولة الإيطالية "دفع القيمة المالية لجبر الأضرار بين الطرفين وعلاج الحالات المستعصية".
  • إخلاء الأماكن العامة والبوابات من كل التشكيلات المسلحة وتسليمها إلى الشرطة من جميع أطياف الجنوب.
  • معاملة الذين سقطوا من الطرفين معاملة متساوية واعتبارهم شهداء.
  • رفع الغطاء الاجتماعي عن المجرمين. 

إلا أن هذا الاتفاق لم يصمد لأكثر من أربعة أشهر بسبب تلكؤ إيطاليا وعدم الوفاء بتعهداتها المالية. 

أما في الوقت الراهن فإن التبو وأولاد سليمان يتقاسمان مناطق النفوذ والسيطرة في مدينة سبها (عاصمة الجنوب الليبي)؛ حيث يسيطر أولاد سليمان على ثلاثة أحياء أهمها حي المنشية (أكبر أحياء سبها) في وسط المدينة، كما أنهم يبسطون سيطرتهم على شمال المدينة، ويسيطر التبو على حيين، هما: الطيوري والجديد، وعلى غرب المدينة، ويتواجد الطرفان في جنوب المدينة. أما خارج مدينة سبها فتميل الكفة لصالح التبو؛ حيث ينحصر تواجد أولاد سليمان في بوابة "قويرة المال" إضافة إلى حقل الشرارة النفطي الواقع على بعد 70 كلم غرب أوباري. وفي الوقت نفسه تسيطر كتائب التبو على المثلث الجنوبي القريب من الحدود الشمالية للتشاد، (القطرون- مرزق- أم الأرانب) وواحة زلة بالجفرة. كما يسيطر التبو على حقل الفيل، الذي تنتشر فيه كتائب من التبو وجزء من كتائب الزنتان الموالين للمشير خليفة حفتر، ومع أن التبو يتقاسمون النفوذ مع أولاد سليمان في مدينة سبها كما رأينا، فإنهم كذلك يتقاسمونه مع الطوارق في مدينة أوباري. 

صراع إرادات 

تؤكد المصادر في الجنوب الليبي على أن الأحداث الأخيرة هي بالمقام الأول محاولة من المشير حفتر لإنهاء الوجود المصراتي في الجنوب وتقليم أظافر حلفاء السراج، في سانحة قد لا تتكرر، طالما الفرصة مواتية، لخلق ظروف اضطراب وتصعيد، تكون فرصة لتدخل الجيش الوطني الليبي (قوات الكرامة التي يقودها المشير حفتر)، لاستتباب الأمن وإعادة الأمور إلى نصابها، كمدخل لسيطرة أتباع قوات الكرامة على المشهد في الجنوب. وبمجرد اندلاع الاشتباكات بين قوات التبو وقوات أولاد سليمان في مدينة سبها سارع المشير خليفة حفتر إلى إعلان حرب لاستعادة الأمن في الجنوب وبسط القانون في المنطقة، وسمى تلك الحرب بعمليات فرض القانون، وعلى الفور قام بتحريك سرب عمودي مكون من ثماني طائرات مقاتلة إلى قاعدة براك، وأمهل الأفارقة المتواجدين بليبيا مهلة تنتهي يوم 17 مارس/آذار 2018 لمغادرة الجنوب الليبي، وأعلن مكتب الإعلام بالجيش الوطني الليبي(4) التابع للمشير حفتر عبر بيانات متتالية أن ساحة العمليات هي الجنوب بالكامل، وأن قوات الجيش الليبي تمركزت بين قواعد الجفرة وتمنهنت وبراك في الجنوب، وأن غرفة عمليات القوات الجوية تحركت بالكامل وتمركزت بالجفرة، بإمرة اللواء محمد المنفور، الذي كان في استقباله اللواء محمد بن نائل، وتم تصوير وإنزال فيديوهات بهذه العمليات عبر اليوتيوب(5). 

الكتائب المشاركة في هذه العمليات:

  1. الكتيبة 21 صاعقة بإمرة اللواء جمال الزهاوي.
  2. الكتيبة 101 مشاة بقيادة المقدم امحمد ابسيط.
  3. كتيبة طارق بن زياد (مدرعات) بإمرة الرائد عمر امراجع.
  4. القوات الخاصة الصاعقة.
  5. اللواء 12 مجحفل بقيادة اللواء محمد بن نايل.
  6. الكتيبة 116 مشاة. 

بالمقابل، أدرك الطرف الآخر من المعادلة، أي المجلس الرئاسي بقيادة فايز السراج وحلفائه، أن الجنوب يكاد يخرج عن سيطرته، فبادر إلى اتخاذ خطوات احترازية ثلاث علَّها تحد من جموح المشير حفتر وتعمل على عدم تمكينه من السيطرة الكاملة على الجنوب وتفرده به، وهذه الخطوات هي:

  1. حملة إعلامية تصعيدية عملت على تجييش الرأي العام الليبي والعربي وأظهرت الصراع في الجنوب وكأنه صراع بين قوات ليبية وأخرى تشادية؛ حيث جعلت هذه الحملة التبو الليبيين مرتزقة تشاديين، مستندة على أن التبو الليبيين الذين يعيشون في الجنوب الليبي على تماس مع الحدود التشادية يسعون لإحداث تغيير ديمغرافي عبر جلب أعداد غفيرة من أبناء عمومتهم التبو التشاديين. وفي هذا السياق، أصدر المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني بطرابلس بيانًا، يوم 27 فبراير/شباط 2018، يتحدث عن قوات التبو بوصفهم مرتزقة(6)،  كما يتحدث البيان عن تغيير ديمغرافي في الجنوب. وفي انحياز واضح لأولاد سليمان، وأمام احتجاجات التبو الليبيين، وتنديد البرلمان وشريحة عريضة من النخبة الثقافية والسياسية الليبية بصيغة البيان المنحازة والمغالطات التي وردت فيه، وشماعة المرتزقة، وبضغط من المجتمع الدولي وتحديدًا بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا التي وصفت البيان بالمنحاز، قام المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج بعد يومين، بإصدار بيان متوازن في يوم 1 مارس/آذار 2018، سمَّى فيه المتقاتلين بالإخوة وأعلن فيه أن المجلس يقف على مسافة متساوية من جميع الأطراف(7).
  2. الإعلان عن تشكيل قوة عسكرية لتأمين وحماية الجنوب، وقد تم ذلك يوم الأحد 4 مارس/آذار 2018، من قبل فايز السراج، رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق في ليبيا(8)، وجاء هذا الإعلان عقب اجتماع فايز السراج مع عدد من القيادات العسكرية والأمنية، أبرزهم وزير الداخلية، ورئيس الأركان العامة، وآمر الحرس الرئاسي، ورئيسا المخابرات العامة والمباحث العامة، لتدارس الأوضاع الراهنة بالمنطقة الجنوبية، ووضع الحلول لرأب الصدع بين أطراف النزاع وبسط الأمن. وبحسب البيان، فقد أصدر رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، تعليماته بتشكيل قوة عسكرية لتأمين وحماية المنطقة الجنوبية من كافة الأخطار، إضافة إلى دعم القوة التابعة لحكومة الوفاق بالمنطقة والعمل على توفير احتياجاتها بالكامل. إلا أن الغريب في الأمر أن هذه القوات لم تصل بعد إلى الجنوب، في حين يتواصل توافد القوات التابعة للمشير خليفة حفتر إلى الجنوب تباعًا.
  3. مصالحة بين الأطراف المتنازعة والعمل على جعل الجنوب خاليًا من الوجود المسلح، وتحييده، وذلك لقطع الطريق على الحشود العسكرية التابعة لقوات المشير حفتر، وفي هذا الصدد قام المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني باستغلال تراخي وتراجع نفوذ المشير داخل قبة البرلمان، وابتعاد رئيسه تدريجيًّا عن دائرة المشير، فأعلن المجلس الرئاسي، لجنة مشتركة تضم أعضاء منه ومن مجلس النواب في شرقي البلاد والمجلس الأعلى للدولة (غرفة نيابية استشارية)، للوقوف على تحقيق التهدئة وإعادة الاستقرار في الجنوب(9). وعمل المجلس الرئاسي طيلة الأسبوعين الفائتين على التواصل مع المجلس الاجتماعي لقبائل فزان (محسوب على أنصار النظام السابق)، والذي يحظى بقبول الطرفين (التبو وأولاد سليمان). 

قضية المرتزقة في ليبيا 

تشير التقارير الاستخباراتية والتقارير الفنية الدورية التي يعدها فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة إلى تورط الأطراف الرئيسة في الصراع في ليبيا في هذه القضية؛ ففي الوقت الذي يجاهر فيه كل طرف باعتماده على عناصر وطنية ليبية ويتهم خصومه بالاستعانة بالمرتزقة، فإن الوقائع على الأرض والتقارير تدحض وتفنِّد هذا الزعم، وتتهرب أطراف النزاع الرئيسة في ليبيا من الاعتراف باستخدام مرتزقة بين صفوفها، لأنها جريمة يعاقب عليها القانون الدولي، وفق "الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم" الصادرة عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة(10). 

المرتزقة في صفوف القوات التابعة للمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني

تقول التقارير الغربية: إن قوات فجر ليبيا وتحديدًا "لواء الحلبوص" أقوى التشكيلات العسكرية بمصراتة (المدينة/الدولة)، يقاتل بين صفوفه مرتزقة من أوكرانيا، وصربيا، مدربين تدريبًا جيدًا، معظمهم سبق لهم أن شاركوا في حروب العصابات خصوصًا في النزاعات الإفريقية، بالإضافة إلى خبراء اتصالات تمكَّنوا من فكِّ تشفير اتصالات تنظيم "الدولة الإسلامية" في سرت، الذي تبيَّن أنه يستخدم أيضًا خبراء ومنظومات اتصال متطورة، وتم التشويش على تردداتها وتعقب اتصالاته. وأظهرت التقارير الاخبارية المصورة في صيف 2016 وجود فرق خاصة من إيطاليا وبريطانيا في الصفوف الخلفية لمقاتلي قوات المجلس الرئاسي أثناء حربها ضد تنظيم الدولة في سرت، قُدِّرت أعدادهم بثلاثين عنصرًا في مختلف التخصصات، من بينهم ضباط متقاعدون لتقديم الخبرة العسكرية وخبراء ألغام ومتفجرات وآخرون في مجال الاتصال، وقناصة أوكرانيون ذوو خبرة وتدريب للتعامل مع مقاتلي تنظيم الدولة الذين نجحوا في عرقلة تقدم قوات المجلس الرئاسي بشكل كبير داخل سرت(11). 

المرتزقة في صفوف القوات التابعة للجيش الوطني الليبي

أشار تقرير لجنة خبراء الأمم المتحدة، الصادر في مارس/آذار 2016، إلى أن حفتر هدَّد قبائل شرق ليبيا بأنه سيستعيض عنهم بمقاتلين أفارقة "مرتزقة" إذا لم يمتثلوا لطلبه بتقديم المزيد من المقاتلين(12). 

وأكد تقرير الأمم المتحدة عن السودان، في يناير/كانون الثاني 2017، أن حركة العدل والمساواة وجيش تحرير السودان "فصيل ميني ميناوي" يقومان بأنشطة تخريبية بليبيا ويرتكبان أعمالًا إجرامية كالنهب والاختطاف والاتجار بالبشر ومتورطان في تهريب المهاجرين والسلاح والوقود. وأوضح التقرير أن للحركتين "عدة مئات من المقاتلين" بليبيا منذ منتصف 2015، وكان نشاطهما في البداية يتمحور في مدينة الكفرة، جنوب شرق ليبيا. وخاضت عناصر "ميناوي"، في سبتمبر /أيلول 2015، مواجهة مع ميليشيا الزوية بالمدينة تكبدت خلالها خسائر فادحة. كما أشار تقرير الخبراء إلى أن الجماعات الدارفورية تمركزت في منطقة الهلال النفطي لمساعدة قوات المشير حفتر في السيطرة عليها، وما زالت هناك ومتورطة بأنشطة إجرامية(13). وفي ملحق خاص يقول التقرير: إن (حركة تحرير السودان) لديها مئات المقاتلين في ليبيا وما يقرب من 150 مركبة متحركة. وأضاف أن القيادة العسكرية للحركة في ليبيا تضم رئيس أركانها، جمعة حجار، ونائبه وقيادات أخرى. وقيادة المجموعة الموجودة في ليبيا تتلقى رواتب مباشرة من قوات المشير خليفة حفتر. وكشف التقرير عن أن المقاتل السوداني يحصل على أجر شهري يتراوح بين 250 إلى 500 دولار، إلى جانب الأسلحة والذخيرة. وأكد أن المجموعات المتمردة في دارفور تجني مبالغ طائلة من تهريب المهاجرين وتهريب الأسلحة بين دارفور وليبيا، لافتًا إلى أن تلك المجموعات تهرِّب الأسلحة الخفيفة من السودان إلى ليبيا، وتُدخِل الأسلحة المتوسطة والثقيلة مثل مدافع مضادة للطائرات والدبابات. 

وقد أشار أكثر من تقرير إلى استعانة المشير حفتر بطيارين أجانب في عملياته العسكرية؛ حيث يشير تقرير استخباراتي إلى أن المشير حفتر استعان بطيارين مرتزقة معظمهم أميركيون تابعون لإريك برنس، مؤسس شركة بلاك ووتر، لقصف خصومه(14). وقال أوليغ كرينيتسين، رئيس مجموعة (آر. إس. بي) الأمنية الروسية لرويترز: إن قوة من بضع عشرات من المتعاقدين الأمنيين المسلحين من روسيا عملوا حتى فبراير/شباط 2017 في جزء من ليبيا يسيطر عليه القائد العسكري خليفة حفتر(15). 

وخلال الأشهر الأخيرة، شهد الشريط الحدودي بين ليبيا والسودان على امتداد المنطقة الممتدة من الكفرة حتى إقليم دارفور، غارات جوية قام بها الطيران التابع لقوات المشير حفتر، ضد بعض تشكيلات المعارضة السودانية الدارفورية الخارجة عن سيطرته، والتي تمارس السطو والحرابة على طول الشريط الحدودي. 

المرتزقة من التبو

حارب العديد من التبو الليبيين والتشاديين في صفوف قوات المشير حفتر ولاسيما في معارك الهلال النفطي، خلال السنوات الأخيرة. وتشير التقارير إلى أن عدد التبو التشاديين في الجنوب الليبي يُقدَّر ببضع مئات يمتهنون التهريب ويتواجدون بعيدًا عن المدن الكبرى. أما قوات المعارضة التشادية الشمالية من التبو، فهي تتواجد في المثلث الحدودي الرابط بين ليبيا وتشاد والنيجر، ويقدر عددها بين ثمانمائة إلى ألفي مقاتل، يمتهنون التهريب ويسيطرون على طرق ومسارب الهجرة غير الشرعية، وتهريب البضائع والبشر والمخدرات، ويتقاسمون هذا الأمر مع مهربين من الطوارق وعناصر تنظيم القاعدة بمنطقة الساحل. 

المرتزقة في صفوف التنظيمات الجهادية في ليبيا

يصعب حصر عدد المقاتلين الأجانب والمرتزقة في صفوف داعش بليبيا، نظرًا لغياب المعلومات والتكتم الشديد الذي تحيط به الأجهزة الأمنية الليبية والأجنبية هذا الأمر. 

المساعي الحميدة 

قامت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بالتنديد بالاقتتال داخل المدن في الجنوب الليبي وطالبت الأطراف بضرورة ضبط النفس والعمل على وقف فوري لإطلاق النار، واللجوء إلى الحوار لتسوية الخلاف، وقد أرسلت وفدًا معظمه من الليبيين للوقوف على مجريات الأمور والعمل مع الفاعلين المحليين للوصول إلى هدنة، تفضي إلى تسوية، في حين اكتفت القوى العظمى بالتنديد بالاقتتال دون تقديم مقترحات إجرائية جادة تعمل على وقف الاقتتال بين الأطراف المتصارعة، ووقفت الدول العربية صامتة حيال الأحداث الدامية في الجنوب الليبي. 

وقد وصل إلى سبها وفد من البرلمان الليبي، واجتمع مع الطرفين المتصارعين ومع المجلس الاجتماعي لقبائل فزان. ولا تزال المساعي الحميدة من مختلف المناطق الليبية تتوافد على مدينة سبها، حتى كتابة هذا التقرير. 

أما أبرز المساعي الحميدة فهي التي يقوم بها المجتمع الأهلي بسبها والجنوب الليبي للمصالحة بين أولاد سليمان والتبو والعمل على تجنيب الجنوب الدخول في صراع مكاسرة بين شرق وغرب ليبيا، والوصول إلى تسوية دائمة، أبرز هذه المساعي تلك التي يقوم بها المجلس الاجتماعي لقبائل فزان الذي يضم شيوخ وعقلاء معظم القبائل الليبية في الجنوب والأعيان والأهالي، هذا المجلس الذي يقف على مسافة متساوية من الأطراف يحظى بقبول كبير لدى التبو وقبول بتحفظ من قبل أولاد سليمان. 

خلاصة 

طالما لم يتم التوصل إلى تسوية سياسية في ليبيا، تُنهي تنازع الشرعية الذي أوجد ثلاث حكومات وبرلمانين، وتشكيل حكومة مركزية واحدة تبسط نفوذها على عموم التراب الليبي، ووضع ترتيبات أمنية تفضي إلى حلِّ كافة المليشيات المسلحة ونزع سلاحها، فإن الجنوب الليبي سيظل ساحة حرب لتصفية الحسابات بين المشير خليفة حفتر في الشرق وخصومه في الغرب الليبي (حكومة الوفاق الوطني ومصراتة والإخوان المسلمين). ولا نتوقع حدوث ذلك الأمر خلال السنة الحالية، بل نتوقع في ظل المعطيات الراهنة أن تستحوذ قوات المشير حفتر على زمام الأمور في الجنوب لأسابيع وربما لأشهر، وأن تقلِّم أظافر القوات التابعة للمجلس الرئاسي، إلى أن تنظم القوات التابعة للمجلس الرئاسي صفوفها وتلملم شتات أمرها لتعاود الهجوم من جديد على قوات المشير حفتر في موجة عنف جديدة تتجدد كل أشهر في ليبيا المنكوبة بلعنة النفط والجغرافيا.

____________________________________

الحسين العلوي- باحث وأكاديمي موريتاني

References

1 – جبريل، طلحة، محطات من تاريخ ليبيا: مذكرات محمد عثمان الصيد، رئيس الحكومة الليبية الأسبق، (منشورات طوب، المغرب، 1996)، ط 1، ص 250. 

– "الصراع بين "أولاد سليمان" و"التبو" السبب الرئيسي"، عين ليبيا، 2 أبريل/نيسان 2012، (تاريخ الدخول: 12 مارس/آذار 2017):

http://www.eanlibya.com/archives/2305

3 – "مصالحة في روما بين قبائل من جنوب ليبيا"، إيلاف، 2 أبريل/نيسان 2012، (تاريخ الدخول: 12 مارس/آذار 2017):

http://elaph.com/Web/News/2017/4/1141282.html

4 – انظر: صفحة مكتب الاعلام، القيادة العامة للقوات المسلحة الليبية على الفيسبوك، (تاريخ الدخول: 12 مارس/آذار 2017):

 https://www.facebook.com/Maktab.Alam.AlGhaida.AlAma/

5 – انظر: صفحة المشاهد الأولى لوصول #غرفة_عمليات_القوات_الجوية إلى قاعدة براك الشاطئ الجوية على اليوتيوب، (تاريخ الدخول: 12 مارس/آذار 2017):

 https://www.youtube.com/watch?v=VpJFzD4xTYU

وكذلك: مشاهد من الطلعات للطيران الحربي من قاعدة براك الشاطئ الجوية/الجنوب الليبي، على اليوتيوب، (تاريخ الدخول: 12 مارس/آذار 2017):

 https://www.youtube.com/watch?v=Cbq-ioNlpX8

6 – انظر: "بيان المجلس الرئاسي بشأن أحداث المنطقة الجنوبية"، بتاريخ 27 فبراير/ شباط 2018 على الصفحة الرسمية لحكومة الوفاق الوطني، (تاريخ الدخول: 12 مارس/آذار 2017):

https://goo.gl/JBQZLU

7 – "بيان المجلس الرئاسي حول تطورات الوضع في الجنوب"، بتاريخ 1 مارس/ آذار 2018، نفس الموقع في الإحالة السابقة.

8 – "السراج يعلن تشكيل قوة عسكرية لتأمين وحماية الجنوب الليبي"، وكالة الأنباء الصينية (شينخوا)، 5 مارس/ آذار 2018، (تاريخ الدخول: 12 مارس/آذار 2017):

 http://arabic.news.cn/2018-03/05/c_137016051.htm

9 – "نزوح 120 عائلة جرَّاء الاشتباكات المسلحة بسبها الليبية"، البوابة، 3 مارس/آذار 2018، (تاريخ الدخول: 12 مارس/آذار 2017):

https://goo.gl/bfZaQ7

10 – "الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم"، المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، (تاريخ الدخول: 13 مارس/آذار 2018):

http://www.ohchr.org/AR/ProfessionalInterest/Pages/Mercenaries.aspx

11 – "ليبيا مسرح للمقاتلين المرتزقة الأجانب"، العربي الجديد، 4 يوليو/تموز 2016، (تاريخ الدخول: 13 مارس/آذار 2018):

https://goo.gl/Py8TPP

12 - تقرير لجنة خبراء الأمم المتحدة، 9 مارس/آذار 2016، (تاريخ الدخول: 13 مارس/آذار 2018):

http://archive2.libya-al-mostakbal.org/uploads/files/N1601822(1).pdf

13 - تقرير الأمم المتحدة عن السودان: الأمم المتحدة، 9 يناير/ كانون الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 13 مارس/آذار 2018):

https://reliefweb.int/sites/reliefweb.int/files/resources/N1700564.pdf

14 – “Prince à la rescousse des Emirats en Libye: intelligence online", 11 Janvier 2017, (13 mars 2018):

https://www.intelligenceonline.fr/intelligence-economique_ligne-rouge/2017/01/11/prince-a-la-rescousse-des-emirats-en-libye,108196389-ART

15 – "حصري، شركة أمن روسية تقول إنها أرسلت متعاقدين مسلحين لشرق ليبيا"، وكالة رويترز، 10 مارس/آذار 2016، (تاريخ الدخول: 13 مارس/آذار 2018):

https://ara.reuters.com/article/ME_TOPNEWS_MORE/idARAKBN16H2EW?sp=true