أتت جولة التفاوض في الخرطوم في إطار جهود المنظمة الحكومية للتنمية (الإيغاد)، وهي منظمة دول القرن الإفريقي التي تتكون عضويتها من ثماني دول، هي: جيبوتي، وإثيوبيا، وإريتريا، وكينيا، والصومال، وجنوب السودان، والسودان، وأوغندا.
رعت إثيوبيا جولات التفاوض في الصراع السياسي في جنوب السودان الذي أفرز اقتتالًا بين أنصار رياك مشار، النائب السابق لرئيس جمهورية جنوب السودان، مع حكومة جنوب السودان بزعامة الفريق سلفاكير ميارديت، منذ يناير/كانون الثاني 2014، حتى توقيع اتفاق السلام، في أغسطس/آب 2015. غير أن ذلك الاتفاق فشل في صياغة فترة انتقالية سلسة، وعاد القتال محل الهدوء النسبي بعد فرار رياك مشار من العاصمة جوبا، في يونيو/حزيران 2016، وإعلانه العودة إلى القتال من الخرطوم في سبتمبر/أيلول 2016(1).
وجَّهت المنظمة الحكومية للتنمية (الإيغاد) أطراف الصراع في الحركة الشعبية المعارضة جناح رياك مشار، وحكومة جنوب السودان بالإضافة إلى مجموعة قادة الحركة الشعبية (المعتقلين السابقين) والمجموعات الأخرى بالعمل على نبذ العنف وتقديم أطروحاتها في جلسات إحياء الاتفاقية وفقًا للمادة (5) من إعلان مجلس وزراء خارجية منظمة الإيغاد الصادر في 5 يوليو/تموز 2017(2).
رغم الانتكاسة التي لحقت باتفاقية السلام نتيجة عودة الاقتتال بين قطبي الصراع، في يونيو/حزيران 2016، فإن إقرار منظمة الإيغاد باحتواء رياك مشار في ضيافة جنوب إفريقيا والإعلان بأن الاتفاقية هي الإطار الأوحد لحل الصراع مع مطالبتها حكومة الوحدة الانتقالية بالتطبيق الكامل للاتفاقية الموقعة في أغسطس/آب 2015(3)، منع انزلاق البلاد لحرب شاملة.
صدرت دعوة إعلان رؤساء منظمة الإيغاد لتنظيم عملية تنشيط اتفاقية السلام عبر تنظيم جولات لاحقة في محاولة لإحياء عملية السلام تتضمن إشراك القوى السياسية المعارضة والأجنحة المتمردة الجديدة التي لم تكن جزءًا من اتفاقية السلام سنة 2015، كما منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية الأخرى(4)، وفق جدول زمني محدد وموجهات عامة(5)، فيما نص قرار مجلس الرؤساء على أجندة ملتقى إحياء الاتفاقية وفق النقاط الثلاث التالية(6):
- إنشاء ملتقى لمشاركة المسؤولية بين أطراف اتفاقية السلام وإشراك المجموعات الغريبة عن الاتفاقية.
- العمل على إعادة وقف إطلاق النار الدائم بين الأطراف المتقاتلة.
- إعادة النظر في الجدول الزمني لتطبيق الاتفاقية.
مثَّلت النقاط الثلاث أجندة عملية إحياء اتفاقية السلام بين أطراف الصراع في جنوب السودان، مع دفع الأطراف للاعتراف بعدم وجود حل عسكري والسعي نحو وقف إطلاق نار دائم وحسم الصراع في إطار التسوية السياسية، وهو ما أُمِّن عليه بحسب المادة (3) من اجتماع مجلس سلم وأمن الاتحاد الإفريقي بالاعتراف بوجود اتفاق سلام بطيء التطبيق هو الأفضل للتسوية السياسية(7).
تمخضت الجولة الأولى في أديس أبابا، من ملتقى إحياء اتفاق السلام، عن اتفاق لوقف العداء ووقف إطلاق النار، كما تم الاتفاق على تحديد نقاط الخلاف في النقاط الثلاث التي تستهدفها عملية إحياء الاتفاقية.
أما الجولة الثانية في أديس أبابا، فانصبت على مطالبة الأطراف المتفاوضة بتقريب وجهات النظر لإتاحة الوساطة للتفاوض المباشر الذي طالب به الفرقاء، ومنحت الوساطة ذلك الطلبَ الاعتبارَ اللازم بترك التفاوض بين أطراف الصراع برعاية وفد مجلس كنائس جنوب السودان المراقب وسكرتارية قدمها ممثلو منظمات المجتمع المدني.
أما الجولة الأخيرة في أديس أبابا، في شهر يونيو/حزيران 2018، فقد حاولت وضع نهاية للركود عُبِّر عنه بتنظيم لقاء مواجهة بين الرئيس سلفاكير ميارديت وخصمه الرئيس رياك مشار، ثم اختتمت الجولة بتقديم مسودة اتفاق سلام سُميت باتفاق التجسير، لكنه رُفض من كافة أطراف النزاع.
سياق مبادرة الخرطوم
استشف رئيس الوزراء الإثيوبي غياب وحدة الموقف الإقليمي بعد أن تبين أن هنالك رغبةً جادةً في إنهاء الصراع في جنوب السودان. وبوصفه رئيس منظمة الإيغاد، اقترح أن تنتقل الوساطة إلى دول أخرى. وعلى هذا الأساس، اقترحت قمة رؤساء الإيغاد، في 21 يونيو/حزيران 2018، بناء على طلب السودان تكليفها برعاية الوساطة وفق المادة (9) من إعلان الرؤساء، وبتنظيم جولة تفاوض يتم فيها لقاء مباشر بين الرئيس سلفاكير ميارديت ورياك مشار في جولة ثانية بعد لقاء أديس أبابا.
نص قرار مجلس رؤساء الإيغاد على أن يبحث السودان القضايا العالقة في الترتيبات الأمنية والقضايا المتعلقة بالحكم والسلطة التي أوردتها مسودة اتفاقية التجسير التي قُدِّمت بالإضافة إلى بحث سبل تحسين الاقتصاد في جنوب السودان وفق اتفاق التعاون بين جنوب السودان والسودان(8).
كما جاء في إعلان رؤساء قمة الإيغاد أيضًا ضرورة أن تستهل الخرطوم الوساطة بتقديم الرئيس السوداني، عمر البشير، الرئيسَ أوهور كينياتا، رئيس كينيا، مشاركًا إياه نتيجة جهوده بحسب المادة (10). على أن ينظِّم الرئيس أوهور كينياتا الجولة الثالثة بين الرئيس سلفا كير ميارديت ورياك مشار في نيروبي وبعده يقدم تقريرًا لمجلس رؤساء الإيغاد في الجولة العادية القادمة(9).
بدأت الخرطوم عملية الوساطة بزخم التنسيق مع رئيس جمهورية أوغندا الغريم اللدود للسودان، فأوغندا الجارة الجنوبية لجنوب السودان ظلت العمق الاستراتيجي لحزب الحركة الشعبية الحاكم، بينما كانت الخرطوم المأوى التاريخي للمعارضة المسلحة مع بدء صراعات الحركة الشعبية الداخلية منذ العام 1991 بقيادة أقطابها رياك مشار ولام أكول أجاويين.
كان للتحرك السوداني صداه؛ إذ إن تعاون السودان وأوغندا، وهما الطرفان الإقليميان الأساسيان، مكَّنهما من الضغط سويًّا على أطراف الصراع في جنوب السودان لوضع تعهد شامل بإنهاء كافة أشكال النزاع المسلح وتوقيع إعلان الخرطوم في 27 يونيو/حزيران 2018.
آفاق اتفاق مبادرة الخرطوم
ظل مجلس رؤساء الإيغاد يثمِّن أية جهود تسعى لحل الأزمة في جنوب السودان وإيجاد حلول سياسية حتى مع ظهور جهود موازية لجهوده، كما ظل يعترف بها كجهود مكملة للوساطة. ومن ذلك، جهود الرئيس الأوغندي، يوري موسيفيني، المنسقة مع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، لإعادة توحيد الحركة الشعبية لتحرير السودان(10).
لم يَضِنَّ مجلس الرؤساء عن تقديمه الدعم حتى لجهود الرئيس سلفاكير ميارديت، رئيس جمهورية جنوب السودان، حين سعى لتنظيم مبادرة حوار وطني شامل بقيادة كبار رموز جنوب السودان السياسية في محاولة لضم أكبر قدر من المعارضين للمشاركة سواء العناصر السياسية المناوئة والمعارضة والمقاتلة(11).
يُنظر بإيجابية للوساطة التي يقوم بها السودان في إطار التحركات الإقليمية تلك، كما يُتوقع أن لا تثير أية اتفاقية تنتج عن منبر الخرطوم ردود أفعال دولية نظرًا لحساسية وضع جمهورية جنوب السودان بالنسبة لمحيطها الإقليمي ودور الفاعلين الدوليين بها. لذا، فإن النظر لآفاق أي اتفاق ينتج عن مبادرة الخرطوم ينبغي اختزاله وفق النقاط التالية:
- تأثيره على السودان.
- تأثيره على جنوب السودان.
- تأثيره على الإقليم.
- التوازنات الدولية.
المعطى الأول: تأثير الاتفاقية على السودان
تعتبر وساطة السودان بين أقطاب الصراع في جنوب السودان فرصة تاريخية للجميع، فهي أولى خطوات تقاطع خطوط السودان مع جنوب السودان في الإطار الإيجابي بعيدًا عن الجوانب السلبية التي دأبت على طبع العلاقة والصلات بين البلدين، وما يترتب على ذلك من صراع مباشر ومن عمل على دعم وتقوية الحركات المتمردة لإسقاط نظام الحكم في جوبا(12)، وحرب حدودية على منطقة بان طاو (هجليج) في 2012.
إن التغير في سلوك الخرطوم مؤخرًا يتوافق مع الشروط الأميركية لرفع العقوبات عن السودان وإدماجه في المجتمع الدولي، وتقيد الخرطوم بالالتزام بدور إيجابي في جنوب السودان. وفضلًا عن هذا فللسودان نفسه مصلحة في لعب دور الوسيط في صراع جنوب السودان على المستوى الإقليمي ليتحول إلى فاعل أساسي ومؤثر.
من ناحية أخرى، يعمل السودان على تجسيد صورة الأخ الأكبر الحريص على تحسين الأوضاع الأمنية في جنوب السودان نظرًا للأواصر التاريخية، فضلًا عن تضرر السودان من توافد اللاجئين والصعوبات الاقتصادية التي تصنعها الحرب في جنوب السودان وانعكاسات توقف تصدير البترول جنوب السوداني عبر السودان وعليه.
ولا شك أن فرصة لعب السودان دورًا فاعلًا كصانع للسلام لكفيلة بأن يتناسى العالم الحروب الأهلية التي تدور رحاها بالسودان والتي لم تضع أوزارها بعد في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق. يمكن أن تتجسد فؤائد الوساطة السودانية في نقطتين، هما:
- أولًا: كسب حضور إقليمي للخرطوم: ونعني به أن دور منظمة الإيغاد في السودان محوري، وهي المنظمة التي أنهت أطول حرب أهلية في إفريقيا حيث قامت برعاية الاتفاقية التي أدت إلى قيام دولة في جنوب السودان عام 2011. غير أن السودان لم يكن يظهر بمظهر المُخيَّر في صناعة القرار في المنظمة حينذاك. وتعتبر وساطة الخرطوم ونتيجتها الإيجابية المأمولة فرصة لإعادة دمج السودان في ريادة الإقليم، كما تعتبرها الخرطوم فرصة لفرض حضورها في شأن جنوب السودان الذي انفردت به إثيوبيا طويلًا، فيما سلام واحد يُغلق إحدي البؤر يعتبر إنجازًا يُحتفى به في إقليم مضطرب.
- ثانيًا: تمرير بعض الأجندات الاستراتيجية: حيث يعتبر السودان استقرار جمهورية جنوب السودان أمرًا استراتيجيًّا بالنسبة له، خصوصًا إذا كان ذلك الاستقرار سيسفر عن تشكيل حكومة موالية له أو قيام سُلطة مشكَّلة من فاعلين من ساسة جنوب السودان لا تنازع السودان في الحدود. على أن إعلان اتفاقية الخرطوم وخصوصًا المادة (5) قد تضمنت أولويات استراتيجية بالنسبة للسودان ومنها العمل على إعادة تأهيل حقول النفط في جنوب السودان في مربعات 1، 2، 4 و5A، فضلًا عن استعانة حكومة جنوب السودان بجيش السودان لحماية مناطق إنتاج البترول(13). وعليه، يمكن تلخيص هذه الأولويات على النحو الآتي:
- نفوذ سوداني جديد على حقول النفط في جنوب السودان.
- إيجاد موطئ قدم للعمالة السودانية بجنوب السودان.
- نشر الجيش السوداني داخل أراضي جنوب السودان.
- تمديد أجل اتفاقية المساعدة بالمالية (النفط) الذي انتهى قبل ثلاث سنوات عام 2015.
- فرصة صناعة السلام وفق نظرية تبادل المصالح: حيث يعي قادة أطراف الصراع السياسي في جنوب السودان أن الخرطوم لم تستضف مبادرة الوساطة بينهم رغبة في إنهاء النزاع فحسب، بل أيضًا تبحث الخرطوم عن حضور سوداني له ما بعده؛ سواء أكان إقليميًّا أو دوليًّا كما في جنوب السودان. وكانت الخرطوم قد قدمت مسودة أولى ليوقع عليها الرئيس سلفاكير ميارديت ورياك مشار، يوم 26 يونيو/حزيران 2018، لكنهما تفاديا توقيعها بحنكة ودبلوماسية. وقد تجاوزت الوساطة السودانية عدم التوقيع على المسودة الأولى لصناعة السلام وسعت لفرض أجندة الخرطوم في وضع مناطق البترول في جنوب السودان تحت حماية جيش السودان، كما سعت لتحديد عاصمة البلاد بتقديم اقتراح بتنقل العاصمة في ثلاثة أقاليم متجاوزة بذلك اقتراح التجسير الذي تم تقديمه في أديس أبابا. إن توقيع إعلان الخرطوم كان لأغراض إعلامية كما يمكن اعتباره احتفالًا مبكرًا بأمر لم يتم بعد نظرًا لاستمرار خروقات وقف إطلاق النار، وهي تطورات قد لا تبشر بحضور الخرطوم المرجو والمأمول في شأن جنوب السودان.
2. الحل السلمي وبناء الوحدة الوطنية: يعتبر منبر الخرطوم فرصة لإنهاء الحرب، وهو مكسب لشعب جنوب السودان رغم عدم ثقة الجميع في وساطة السودان؛ لكونها الدولة الوحيدة التي تُصنِّف جمهورية جنوب السودان "دولة عدوة" وفق قانون صادر بالإجماع من برلمان السودان، بتاريخ 16 أبريل/نيسان 2012، وهو تشريع لم يُعدَّل ولم يُلغَ بعد(14). كما أن قادة الحركة الشعبية على تباين أجنداتهم لم يتناسوا سياسة السودان التي أعلنها رئيس البرلمان السوداني حين قال: "نعلن أننا سنصادم الحركة الشعبية إلى أن ننهي حكمها في جنوب السودان، وقد جمعنا كل جهودنا للوصول إلى هذا الهدف"(15). لذا، يتساءل المراقب عن مدى صدقية الجهود المبذولة في منبر الخرطوم للوصول إلى رأب الصدع بين فرقاء الحركة الشعبية لتحرير السودان.
المعطى الثالث: التأثيرات المترتبة إقليميًّا
إن الحضور الأوغندي في منبر الخرطوم لم يأت خاليًا من الاشتراطات أيضًا؛ فأوغندا تريد أن تمتنع الخرطوم عن دعم الجماعات المناوئة لكمبالا مثل جيش الرب، كما أن السودان سيجني نجاحًا أكيدًا لتمرير مبادرته من وجود أوغندا على الطاولة أو في أروقة التفاوض، كما ستستفيد كمبالا من تهدئة الجبهة الحدودية وسيزيد توقيع الاتفاقية من تحسين صورتها دوليًّا وإقليميًّا.
إن التحالف الجديد بين السودان وأوغندا يهدف إلى عودة قوية لكليهما في الساحة الإقليمية نظرًا لكونهما الأقرب جغرافيًّا لجنوب السودان والأكثر تفهمًا لقضاياه بدلًا من استئثار إثيوبيا وكينيا بصناعة القرار الإقليمي.
المعطى الرابع: التوازنات الدولية
تقف الولايات المتحدة الأميركية في منطقة وسط بين التشكيك في مساعي منظمة الإيغاد ومساندة جهودها؛ ذلك أن واشنظن تساند المنظمة بالمال تارة، وتقف بالمرصاد لجهودها تارة أخرى. لقد فرضت أميركا عقوبات على خمس عشرة شركة من شركات النفط جنوب السودانية، كما فرضت عقوبات على قادة من جيش جنوب السودان الموالي للحكومة، وعلى بعض الحركات المتمردة واصفة إياهم بالمسؤولين عن انتهاكات تمس حقوق الإنسان. كما فرضت واشنطن عقوبات أحادية تجسدت في حظر بيع السلاح لجنوب السودان، ثم فرضت عقوبات ضد أفراد لاتهامها إياهم بالعمل ضد السلام. ورغم نجاح مبادرة الخرطوم في إعلان وقف دائم لإطلاق النار، فقد استمرت جهود الولايات المتحدة في فرض عقوبات حظر السلاح عبر مجلس الأمن الدولي؛ وذلك له دلالتان: الأولى: أن الإدارة الأميركية لا تعترف باتفاقية الخرطوم وما قد ينتج عنها من وقف شامل للحرب، والثانية: أنها تريد أن تنزع الشرعية عن حكومة جوبا وتشجع المعارضة المسلحة على تغيير النظام بما يقود لتعطيل جهود الوساطة واستعار أوار الحرب من جديد. على أن نجاح مبادرة الخرطوم في الوصول بأطراف النزاع للتوقيع على اتفاق شامل بما يتناسب مع أجندة عملية إحياء اتفاقية السلام التي وضعها رؤساء الإيغاد، يُعرِّي الهدف الأميركي، ويُعطي الفرصة للسودان للظهور كلاعب إقليمي يسعى لصناعة السلام.
العراقيل التي تعترض مبادرة الخرطوم
تعاني مبادرة الخرطوم من عدة عراقيل يمكن استخلاصها من قراءة التأثيرات الدولية والإقليمية والداخلية في جنوب السودان. إن السياق الذي وُلدت فيه أولى مسودات مبادرة السلام بجنوب السوادن مثل إعلان الخرطوم حول اتفاقية أطراف النزاع في جنوب السودان المتعلق بالوقف الدائم لإطلاق النار، وكذلك المسودات التي قُدِّمت بهدف إنهاء الخلاف حول المسائل العالقة تعاني من عدد من العراقيل، من أبرزها:
1. غياب التفاوض المباشر: ذلك أن مبادرة الخرطوم ركزت على التفاوض غير المباشر عبر الوسيط، كما عمدت الخرطوم إلى تشكيل فريق وساطة خاص بها برئاسة وزير خارجية السودان، ثم ظهر جليًّا أن الخرطوم تدفع بأجندة تستوعب مصالحها الذاتية في المقام الأول في خضم المواد المتعلقة بترتيبات مصالحة الأطراف المتصارعة.
إن عملية تركيز الوساطة في يد الدولة المضيفة لها بدلًا من المبعوث الخاص للمنظمة يعد إضعافًا للدور الإقليمي؛ لأن إدخال المصالح الوطنية يصطدم برغبة دول الإقليم الأخرى الساعية للحفاظ على مكتسباتها ومصالحها، وهذا ما قد يقود إلى صراع إقليمي أو تكالب نفوذ على السلطة في جنوب السودان والذي شهد له السيد أتيم قرنق بأنه "الدليل على صراع حكومات دول (الإيغاد) حول كيف يمكن أن تخرج كل دولة بغنيمة ما من جنوب السودان، فالمهم لدى هذه الحكومات ليس استقرار جنوب السودان وإنما ما تستفيده وتنتفع منه كل حكومة وإلا فليستمر القتال!"(16).
2. التفاوض مع الوسيط بدلًا من الغريم: أن يتسني للوسيط أن يجعل نفسه طرفًا في الصراع ويصبح مفاوضًا إما باسم آخرين دون علمهم، أو يطرح مواقف تفاوضية كحلول توفيقية يفاوض عليها الأطراف أمر يعقد الوساطة، وكان من الأجدر أن ينحصر التفاوض بين الغرماء فيما يسعى الوسيط إلى توفير البيئة الملائمة لبناء الثقة.
أما أن يجعل الوسيط نفسه طرفًا في الصراع فذلك يعني أنه أصبح جزءًا من المشكلة وليس طرفًا في الحل، كأن يلوم أحد الأطراف مثلما فعل وزير الخارجية السوداني لائمًا حكومة جنوب السودان واصفًا إياها بالطرف الوحيد الذي رفض توقيع مسودته(17)، ذاكرًا أن كل الأطراف وافقت عليها مما جعل الوسيط غريمًا وطرفًا في الصراع؛ مما حدا بالسيد مايكل مكوي، وزير الاعلام والبث والناطق باسم حكومة جنوب السودان لأن يصفه "بأنه لم يكن صادقًا مع نفسه"(18).
3. غياب الثقة: تهدف عملية الوساطة إلى تغيير سلوك الفرقاء من الخصام إلى الشراكة سعيًا لإيجاد حل لمعضلتهم التي استوجبت الوساطة، غير أن الوسيط الذي يضع نفسه صانعًا للحلول لا يبغي السلام إنما يبغي نصرًا مؤقتًا سينتهي إلى صراع جديد بين ذات الفرقاء نظرًا لأن العامل الأساس في خلافهما لم يُحل.
تسعى الخرطوم بشكل حثيث للنجاح في وساطتها بتقديم وثيقة نهائية؛ مما جعلها تغفل الدور الرئيس للوسيط وهو تقليل حدة العداء وبناء الثقة بين الفرقاء، مما جعل الناطق باسم البيت الأبيض الأميركي يصرِّح بأن الولايات المتحدة الأميركية تتشكك في قدرة نجاح الرئيس سلفاكير ميارديت ونائبه الأول على إكمال الفترة الانتقالية والانتقال السلمي إلى التحول الديمقراطي في الفترة المرجوة(19).
إن غياب الثقة لا يقتصر على الفرقاء فقط وإنما يشمل الثقة في الوسيط أيضًا؛ حيث إن حكومة السودان تمثل العدو التقليدي لجنوب السودان؛ لذا قوبلت وساطة الخرطوم بالتشكيك من قبل قادة الرأي والسياسة حيث كتب السيد أتيم قرنق دي كويك، وهو عضو برلمان جمهورية جنوب السودان، أنه "من الصعب منطقيًّا تقبُّل العقل جدية الخرطوم وأهليتها لقيادة ما يمكن أن يجلب الخير والسلام والاستقرار لجنوب السودان"(20).
خلاصة
تهدف مبادرة الخرطوم إلى وضع اتفاقية سلام بين فرقاء جنوب السودان، بينما نجاح المبادرة سيعيد للخرطوم حضورها الإقليمي كما سيعيد لها بريق صناعة القرار في جنوب السودان.
وأيًّا كانت الآراء حول نوايا الخرطوم، فإنه يحسن أن يتم النظر إلى أي اتفاق قد ينتج عن مبادرة الخرطوم من واقع نصوصه، ومن الأجواء الإقليمية والمواقف الدولية التي تتم في ظلها عملية صناعة القرار في الوساطة التي تقودها حكومة السودان.
إن الخرطوم، بتواصلها مع أوغندا، فرضت على الإقليم التريث في شأن جنوب السودان واعتبارهما جزءًا من الحل وليسا جزءًا من الأزمة، كما أن التعاون بينهما أعاد ترتيب الأوراق داخل الإيغاد؛ بحيث إن استبعادهما من صناعة السلام ربما كان له الأثر في تأخير الوصول إلى اتفاقية شاملة ومرضية.
كما يجب على الأطراف الدوليين والإقليميين النظر في موضوع العقوبات التي تأتي دون مراعاة للتطورات التي تحرزها الوساطة، فالعقوبات سلاح ذو حدين، قد تخدم القضية بتركيز انتباه الأطراف صوب الحلول المطروحة، وقد تعيدهم للمربع الأول.
___________________________________________________
* أليو قرنق، باحث في قضايا الأمن والسلام في القرن الإفريقي وشرق إفريقيا.
(1) "مشار يدعو إلى حرب جديدة ضد حكومة جنوب السودان"، قناة العالم، 25 سبتمبر/أيلول 2016، (تاريخ الدخول: 1 يوليو/تموز 2018):
http://www.alalam.ir/news/1865711 /مشار-يدعو-الى-حرب-جديدة-ضد-حكومة-جنوب-السودان،
(2) “Communiqué of the 57th Extra-Ordinary Session of the IGAD Council of Ministers on South Sudan”, 02 July 2017, Addis Ababa.
(4) “Communiqué of the 60th Extra-Ordinary Session of Council of Ministers on the Situation in South Sudan”, 27 January, 2018, Addis Ababa, Ethiopia.
(5) “Communiqué of the 57th of Extra-Ordinary Session of the Council of Ministers on South Sudan, 02 July 2017”, Addis Ababa, Ethiopia.
(6) “Comuniqué of the 31st Extra-Ordinary Summit of IGAD Assembly of Heads and Government on South Sudan”, 12th June 2017, Addis Ababa – Ethiopia.
(7) “Communiqué of the African Union’s Peace and Security Council, 720th Meeting (at the Level of Ministers)”, New York, USA, 20th September 2017.
(8) “Communiqué of the 32nd Extra-Ordinary Summit of IGAD Assembly of Heads of State and Government on South Sudan”, 21st June 2018, Addis Ababa, Ethiopia.
(10) “Communiqué of the 58th Extra-Ordinary Session of IGAD Council of Minsters on the Situation on South Sudan”, 23 – 24 July 2017.
(12) Eric Reeves, “The Arming of Rebels in Sudan and South Sudan: What is the Evidence?”, sudanreeves, 17 June 2013, (Visited on 1 July 2018):
http://sudanreeves.org/2013/06/17/the-arming-of-rebels-in-sudan-and-south-sudan-what-is-the-evidence /,
(13), Khartoum Declaration of Agreement Between Parties of the Conflict of South Sudan, signed on 27th June 2018.
(14) صحيفة الرائد السودانية، الصادرة في الخرطوم بتاريخ 17 أبريل/نيسان 2012.
(15) "البرلمان يصنف حكومة الجنوب "عدو للسودان"، سودان سفاري، بتاريخ 17 أبريل/نيسان 2012، (تاريخ الدخول: 2 يوليو/تموز 2018):
https://www.sudaress.com/sudansafari/18891
(16) قرنق، أتيم، "جنوب السودان ووساطة المؤتمر الوطني وعدالة الذئاب"، جوبا، 25 يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول: 2 يوليو/تموز 2018):
https://www.alrakoba.net/articles-action-show-id-89454.htm
(17) “Statement of the Sudan’s Minister of Foreign Affairs on postponement of the initially ceremony”, Khartoum, 19 July 2018.
(18) “Sudan FM ‘is not honest with himself’: Michael Makuei”, radiotamazuj, 20 July 2018, (Visited on 22 July 2018):
https://radiotamazuj.org/en/news/article/sudan-fm-is-not-honest-with-himself-michael-makuei
(19) “Govt agrees on pending issues except power sharing in states”, radiotamazuj, 23 July 2018, (Visited on 22 July 2018):
http://radiotamazuj.org/en/news/article/govt-agrees-on-pending-issues-except-power-sharing-in-states
(20) قرنق، "جنوب السودان ووساطة المؤتمر الوطني وعدالة الذئاب"، مرجع سابق.