حزب الله: تعزيز نفوذ أم هيمنة على الدولة اللبنانية؟

تتناول هذه الورقة الانعطافة التي يقوم بها حزب الله في الساحة اللبنانية، وذلك بالانخراط في الدولة لاستعادة ثقة جمهوره وللتعامل مع العقوبات التي تُفرض عليه أو على إيران. وتراجع العقوبات والتحديات التي تواجهه على هذا الصعيد.
90a996f54e0141f7a37f5ddea324cc5e_18.jpg
اهتمام حزب الله بالملفات الداخلية وسعيه للمشاركة في الحصة الشيعية بأجهزة الدولة والوزارات سيجعله في مواجهة حليفه حركة "أمل" (رويترز)

أعلن "حزب الله" قبل شهور من الانتخابات اللبنانية في مايو/أيار 2018، نيته الانخراط بقدر أكبر في العمل الحكومي، مُحددًا مكافحة الفساد والهدر أولوية خلال المرحلة المقبلة، فيما تتقلص مشاركته في الحرب السورية، وترتفع الأصوات الداخلية المطالبة بتحسين الواقع المعيشي.

في سياق التوجه نحو الانخراط أكثر في السياسات الداخلية، تبرز جملة تحديات إقليمية ودولية، أولها: الرفض الأميركي لتولي حزب الله وزارة رئيسية، وثانيها: تصاعد التوتر بين واشنطن ودول الخليج من جهة، وإيران من جهة أخرى، على خلفية العقوبات وتداعيتها على الوضع الداخلي الإيراني.

جاء إعلان الانخراط الأوسع في الحكومة اللبنانية وفي مكافحة الفساد، على لسان الأمين العام لـ"حزب الله"، حسن نصر الله، في خطابات متتالية ركزت في أغلبها على انتخابات دائرة بعلبك الهرمل(1). ذلك أن المنطقة، ورغم كونها معقل الحزب وخزان مقاتليه منذ ثمانينات القرن الماضي، لم تشهد تغيرًا جذريًّا في بنيتها التحتية، وواقعها الاجتماعي. وغني عن القول أن "حزب الله" كان، لولا التعبئة والنشاط الشاق قبل الانتخابات، سيخسر مقعدًا شيعيّا أو مقعدين هناك، وهي دائرة حساسة للغاية.

لذا، رأى "حزب الله" أن هناك ضرورة للغوص في ملفات داخلية ورسم خط فاصل بين المرحلتين السابقة والحالية، عبر التأكيد على دور مختلف سيؤديه داخل الحكومة ومؤسسات الدولة خلال المرحلة المقبلة. في إحدى خطاباته، وتحديدًا في 21 مارس/آذار 2018، دخل نصر الله في تفاصيل لم يخض بها سابقًا في لبنان، قائلًا: إن "وضع البلد والمالية العامة خطير، ونحن في مرحلة خطرة اقتصاديًّا وماليًّا واجتماعيًّا، وصار لزامًا على الجميع أن يتعاطوا مع قضية مكافحة الفساد في جميع مؤسسات الدولة باعتبار الموضوع أحد أهم أسباب دفع البلد إلى الكارثة". لذا، صار لزامًا على الحزب، وفقًا لكلام نصر الله، أن يعتبر مكافحة الفساد "أولوية مطلقة"(2)
في الجانب العملي من خطابه، تحدث عن "قرار في قيادة حزب الله بتشكيل إطار تنظيمي خاص تكون مهمته مواجهة الهدر والفساد"، على أن يتابعه "شخصيًّا لأننا أمام مرحلة خطرة"، وفق تعبيره.

والواقع أن "حزب الله" اليوم، وبعد شهور على الانتخابات (مايو/أيار 2018)، يُعِدُّ لدخول المعترك الحكومي من بوابته العريضة، من خلال حقيبة حكومية أساسية وتعيينات في مراكز مهمة، بعدما احتل العمل المسلح في لبنان منذ تأسيسه وسوريا منذ عام 2012، المساحة الكاملة من نشاطه وانشغالاته التنظيمية. ورغم أن التنظيم دخل معترك العمل الحكومي إثر اغتيال رئيس الوزراء السابق، رفيق الحريري، عام 2005، إلا أن مشاركته كانت هزيلة واقتصرت على حقائب غير مهمة أو خدماتية مثل الزراعة والصناعة. واعتُبرت المشاركة سياسية آنذاك؛ إذ أراد الحزب إثبات وجوده وتوفير الحماية لترسانته العسكرية، لذا ترك الحقائب والتعيينات الخدماتية المهمة لمصلحة منافسه الشيعي، حركة "أمل"، بهدف الحفاظ على تحالفه الوثيق معها.

كان اهتمام الحزب في علاقته بالحكومة أمنيًّا أيضًا؛ إذ شمل جهازه التنظيمي هيكلًا خاصًّا بالتنسيق الأمني والعسكري مع قطاعات مهمة في الدولة اللبنانية، اسمه "لجنة التنسيق والارتباط المركزية" المعروفة شعبيًّا باسم "اللجنة الأمنية"، ويتولى رئاستها وفيق صفا. بنى هذا الجهاز نفوذًا واسع النطاق منذ تسعينات القرن الماضي، وبات اسمه واسم مسؤوله متداولين بقوة في الإعلام واللقاءات السياسية. إلى جانب اللجنة، حظيت المناصب الأمنية الحساسة المخصصة للطائفة الشيعية في الدولة اللبنانية مثل مدير جهاز "أمن المطار" أو مدير عام جهاز "الأمن العام"، بأهمية خاصة لدى الحزب، وهو يُوفر لها الحماية المعنوية والفعلية أيضًا. عندما قررت الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة، عام 2008، عزل رئيس جهاز أمن المطار حينها، وفيق شقير، من منصبه وإحالة شبكة الاتصالات الخاصة بالحزب إلى التحقيق لتفكيكها، شنَّ التنظيم وحلفاؤه حربًا مُنسقة على خصومه السياسيين من قوى "14 آذار"، ونجح في السيطرة مع مروحة من الميليشيات الحليفة، على أحياء رئيسية من بيروت الغربية، والضغط على الحكومة للتراجع عن قراريْها، وهو ما حصل لاحقًا وثُبِّت سياسيًّا بعد أسبوعين في اتفاق الدوحة، في 21 مايو/أيار 2008(3). حينها، أعاد التنظيم رسم خطه الأحمر حول سلاحه، وفق دائرة أوسع، تاركًا الحصة الشيعية في الدولة، بين أيدي حليفه، رئيس حركة أمل، نبيه بري.

الحصة الشيعية

وفقًا لاتفاق الطائف، هناك مناصفة في المقاعد الحكومية والنيابية بين المسلمين والمسيحيين، ومن ثم بين السنة والشيعة بعد احتساب الحصتين الدرزية والعلوية من النصف المُسلم. لذا، تقتصر الحصة الشيعية في حكومة ثلاثينية على 6 وزراء. ضمن هذه الحصة، حصل الشيعة على حقائب أساسية في الحكومات السابقة، مثل وزارات: الخارجية والصحة والأشغال والدفاع، وأخيرًا المالية. لكن "حزب الله" لم يحصل على حصته المفترضة من هذه المواقع، بل حمل وزراؤه غالبًا حقائب أقل أهمية مثل الزراعة والصناعة، تاركًا حصة الأسد لحليفه حركة "أمل".

كما احتكرت "أمل" حتى أمد قريب، المواقع الأساسية المخصصة للطائفة الشيعية في وظائف الدولة، من مراكز الفئة الأولى (مدير عام، سفير) ونزولًا لما بعدها، وشمل ذلك حتى دورات تجنيد عناصر أمنية وعسكرية جديدة. بالنسبة للحزب، كان هذا "الترفع" عن التدخل في التعيينات، ثمن وحدة الصف الشيعي على الساحة السياسية رغم التبدلات والحروب والضغوط الداخلية والدولية، وأيضًا استمرارًا لسياسة سابقة بالتركيز على "مواجهة إسرائيل" وحماية سلاحه من أي مخاطر.

والواقع أن تجربة حزب الله في العمل الوزاري بدأت قوية مع التشكيلة الأولى لرئيس الحكومة، فؤاد السنيورة، بعد الانتخابات النيابية عام 2005، وتحديدًا في يوليو/تموز من ذلك العام، حيث شارك الحزب بحقيبتين، هما: "وزارة الطاقة" للحزبي محمد فنيش، ووزارة "العمل" لشخصية قريبة من الحزب، هي طراد حمادة.

ورغم أن المشاركة للمرة الأولى في الحكومة، برَّرها الظرف الاستثنائي المتمثل بالانسحاب السوري من لبنان (عام 2005)، والتبعات السياسية لذلك وعلى رأسها التدخل الأميركي المعادي للحزب، إلا أن التنظيم سبق أن راكم خطابًا سياسيًّا إصلاحيًّا خلال الشهور السابقة. ومن أُسُسِ هذا الخطاب: المطالبة بإصلاح النظام اللبناني من خلال تعديل قانون الانتخاب ليكون نسبيًّا، وأيضًا خفض سن الاقتراع من 21 إلى 18 عامًا. كما دعا الحزب إلى سياسة إنمائية متوازنة تُنصف مناطق محرومة مثل بعلبك الهرمل.

هذا، وكان نصر الله، وفي خطاب له في 14 يناير/كانون الثاني 2005، أي قبل شهور من اغتيال رئيس الوزراء السابق، رفيق الحريري، وضع خطوطًا عريضة لهذه السياسة من بوابة خفض سن الاقتراع، ومن ذلك قوله: "في الماضي كان يقال لنا: إن سوريا هي العقبة في هذا الأمر (خفض سن الاقتراع) ولكن تبين أن بعض المجاملات اللبنانية التي لا طعم لها ولا لون ولا رائحة هي العقبة. لا يجوز أن نصادر رأي الشباب اللبناني المسلم والمسيحي على حد سواء من أجل إرضاء مرجعية معينة أو شخصية معينة... أنا أقول لرئيس الجمهورية العماد، إميل لحود: أنت أمام إنجاز وطني كبير لا يقل أهمية عن الإنجاز الوطني بتحرير جنوب لبنان، وهذه هي مقدمة التحرير السياسية، من الإقطاع السياسي والإقطاع الديني والإقطاع المالي"(4).

بحسب نصر الله، جيل الشباب يجب أن يُمنح هذا الحق لأن أي إصلاح وتغيير حقيقيين، "لا يمكن أن يتحققا ما دام الشباب مشطوبًا من المعادلة السياسية". في الخطاب ذاته أيضًا، تطرق الأمين العام لـ"حزب الله" حينها إلى مسألة إصلاح القانون الانتخابي بصفته مدخلًا ثانيًا لتصحيح التمثيل بعد خفض سن الاقتراع، واعتبر: "قانون الانتخاب..مفتاح مهم جدًّا من مفاتيح معالجة الأزمة السياسية"، ودعا لقانون "منصف.. وأن يتمثل اللبنانيون والقوى المختلفة في المجلس النيابي المقبل من خلال نوابهم الذين فازوا في الانتخابات، وأن يتحول المجلس النيابي إلى مؤتمر دائم للحوار بين اللبنانيين، وإلى المؤسسة المؤهلة لمعالجة المشاكل الرئيسية، وحسم الخلافات الأساسية القائمة على المستوى الوطني"(5).

وتناول نصر الله أيضًا موضوع إصلاح الجامعة اللبنانية، وطالب بـ"رفع الأيادي عنها وتحويلها إلى مؤسسة علمية أكاديمية بحتة" من خلال إعادة كامل الصلاحيات الى مجلسها، والواقع أن المعايير السياسية والانتماء السياسي أو الحزبي أو الزعامات السياسية، تتحكم بتعيين العمداء والأساتذة (6). وذهب نصر الله في اهتمامه بمجال الجامعة اللبنانية إلى حد الاستعداد لتبنيها من "حزب الله" وبتشكيل لجان لجمع التبرعات لها "شرط أن يصبح لدينا جامعة موثوق بمستواها الأكاديمي ونزاهتها وقدراتها".

هذا الاهتمام السياسي وبالملفات الداخلية يصطدم لا محالة بحركة "أمل"، بصفتها صاحبة حصة الطائفة الشيعية بالدولة، بعدما اقتصر دور "حزب الله" على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وبناء القدرات لردعه في مرحلة ما بعد الانسحاب عام 2005. لذا، لم يستمر هذا الاهتمام بالشؤون الداخلية اللبنانية بعد اغتيال الحريري والانسحاب السوري، نظرًا إلى أهمية التحالف مع "أمل" للحفاظ على وحدة الصف الشيعي. واللافت أن حصة "حزب الله" في كل حكومة تقلصت منذ المشاركة الأولى في يوليو/تموز 2005، من حقيبتي "العمل" و"الطاقة" المهمتين، إلى "وزارة العمل" (محمد فنيش) في عام 2008. ومن ثم توالت المشاركة على الشكل الآتي:

- وزارة التنمية الإدارية (محمد فنيش)، ووزارة الزراعة (حسين الحاج حسن) في نوفمبر/تشرين الثاني 2009.

- وزارة الزراعة (حسين الحاج حسن)، ووزارة "دولة" (عمليًّا لا حقيبة، محمد فنيش) في يونيو/حزيران 2011.

- وزارة الصناعة (حسين الحاج حسن)، ووزارة الدولة للشؤون النيابية (عمليًّا لا حقيبة، محمد فنيش) في أبريل/نيسان 2013.

- وزارة الصناعة (حسين الحاج حسن)، ووزارة "الشباب والرياضة" (محمد فنيش) في ديسمبر/كانون الأول 2016. 

بالمقابل، كانت "حركة أمل" على الدوام تُمسك بالحقيبة الكبرى في حصة الطائفة الشيعية، من الصحة إلى الخارجية والمال، علاوة على التعيينات الأساسية وآلاف الوظائف الصغيرة في مؤسسات الدولة.

واقع جديد

اليوم، هناك مؤشرات عديدة على أن هذه الحالة بدأت بالتغير. والحقيقة أن مسؤولي الحزب ونوابه يؤشرون إلى أن المرحلة المقبلة أشبه بالتحولات الكبرى السابقة، لناحية نوعيتها، مثل دخول المعترك النيابي للمرة الأولى عام 1992، والوزاري عام 2005. حتى إن مسؤولين من الاتحاد الأوروبي فوجئوا بأن نائبًا من "حزب الله" تحدث عن الدور المرتقب للتنظيم في العمل الحكومي، بهذه العبارات البارزة، أي إن مرحلة جديدة من تاريخه ستبدأ مع تشكيل الحكومة المقبلة (7).

وفقًا لمنطق الحزب، فإن ثلاثة أسباب وراء هذا القرار الاستراتيجي (8):

أولًا: هناك تطورات إقليمية تتطلب تحصين الساحة الداخلية. عام 2005، اضطر "حزب الله" إلى الانخراط بشكل أوسع في العمل السياسي نتيجة الانسحاب السوري، وبالتالي انكشاف الساحة الداخلية أمام خيارات جديدة معادية لسلاح التنظيم، وربما علة وجوده.

ثانيًا: بات جمهور "حزب الله" يُطالب بتغييرات خدماتية. بيد أن الحزب شعر بالخطر المحدق به نتيجة حال التذمر العام في البلاد إثر احتجاجات صيف عام 2015، وانعكاساتها على الانتخابات البلدية عام 2016، سيما في بيروت وبعلبك وبنت جبيل. فجمهور الحزب، رغم الانضباط المؤسساتي وتوافر الخدمات، ليس بمنأى عن السخط العام في لبنان. ويتطلب إطفاء هذا السخط انخراطًا أوسع نطاقًا من الحزب في الشأن العام.

ثالثًا: أثارت التقارير المتتالية عن الوضع المالي في لبنان، قلق الحزب من انعكاسات بعيدة المدى. ذاك أن الحزب صار هدفًا دائمًا للعقوبات المالية والتضييق الاقتصادي عليه وعلى مناصريه، في حين تتزايد الضغوط لاستهداف لبنان بأسره بصفته بيئة حاضنة للتنظيم. وهذه الضغوط تأتي ضمن استراتيجية يدفع باتجاه تحقيقها مسؤولون إسرائيليون وأميركيون (9).

ويأتي هذا الاهتمام في ظل انحسار القتال في سوريا. بيد أن جمهورًا خسر المئات من شبانه من أجل تحقيق مثل هذا الإنجاز على الصعيد العسكري، ينتظر تحسنًا في واقعه المعيشي والخدماتي الذي سيلتفت إليه الناس بعد سنوات من الحرب.

وحدة مكافحة الفساد وتعزيز دور الأجهزة الرقابية

يعي الحزب مخاطر الواقع المستجد، ويخشى تبدلًا في الرأي العام الشيعي. وبحسب شخصيات سياسية قريبة وحليفة من الحزب، فإن اجتماعات عُقدت مع قيادات في حركة "أمل" من أجل تنسيق المرحلة المقبلة في ظل التبدلات الحاصلة في استراتيجية التنظيم. الأساس في مقررات هذه الاجتماعات أن الحزب يريد تفعيل المسابقات في التعيينات، بدلًا من حصر المسألة بالحركة. والحُجة أو مسار المنطق هنا أن تعيين 600 موظف شيعي بالمحسوبية (الواسطة)، بدلًا من اعتماد الامتحانات ومجلس الخدمة المدنية، يعني تلقائيًّا أن آلافًا ممن تقدموا من الشيعة سيتحولون إلى ساخطين على الثنائية الشيعية المتحكمة بالقرار. ذاك أن الحزب اليوم يخشى من اتساع رقعة المستائين من أداء الثنائي الشيعي في المواقع العامة، بين صفوف الطائفة الشيعية. لذا، فإن التنسيق مع "أمل" جار على مستويين:

الأول: وقف الفساد، مع عدم ملاحقة المخالفين في الماضي، نظرًا لإشكالية ذلك. وهذه سياسة تطرق اليها نصر الله في خطاب له، قائلًا: إن الحزب سيُكافح الفساد من الآن فصاعدًا (10). ولهذا الغرض، شكَّل الحزب وحدة لمكافحة الفساد تخضع لإشراف النائب حسن فضل الله، الذي يعكف على تشكيل فريقه لمتابعة ملفات عديدة. والأرجح أن يبدأ بملف تخصص به خلال السنوات الماضية في مجلس النواب وهو "الاتصالات"؛ إذ تولى رئاسة اللجنة المختصة به لاسيما أن المخالفات هنا ليست إشكالية على الصعيد السياسي، كونها تتعلق بفريق خصم هو تيار "المستقبل"، أي لا كلفة سياسية لهذا الملف.

ونظرًا إلى حساسية العلاقة مع "أمل"، فالأرجح أن الحزب قد حصر مهمة متابعة أي ملف في هذا المجال، في لجان التنسيق بين الطرفين. لذا، هناك علاقة سببية بين الحفاظ على التحالف الاستراتيجي مع "أمل"، ريثما يحصل تغيير على صعيد قيادتها، وبين التخفيف من حدة الاحتكاك. وهذا يتطلب غض النظر عن بعض المخالفات، مقابل تركيز كبير على فضح ملفات الخصوم السياسيين. وهذه سياسة قد تُرضي البيئة الحاضنة للحزب، رغم انتقاصها من صدقيته على الصعيد الوطني.

الثاني: تفعيل الهيئات الرقابية، وهذه السياسة ذات شقين: 

في الشق الأول، يريد الحزب تفعيل دور الهيئات بشكل عام، لاسيما تلك المعنية بالتوظيف في القطاع العام (مثل ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي، إضافة إلى مجلس الخدمة المدنية)؛ ومن ثم فصل السياسة عن دور هذه الهيئات، من خلال دعم عملها حتى لو خالف ذلك مصالح حلفائه السياسيين. من ذلك مثلًا أنه قدم دعمًا خفيًّا إلى رئيس إدارة المناقصات (جان العلية) في مواجهة محاولة رئيس التفتيش المركزي (جورج عطية)، الهيمنة على هذا الجهاز المستقل. رغم أن هذا الأخير محسوب على حليفه التيار الوطني الحر.

أما الشق الثاني، فهو تفعيل الهيئات الرقابية التي لها علاقة بالمواقع أو الحصة الشيعية، وتحديدًا: رئاسة ديوان المحاسبة في المقام الأول، وتليه مراكز أخرى مثل المفتش العام (من الحصة الشيعية) داخل التفتيش المركزي. وللديوان صلاحيات واسعة تنص عليها مواد المرسوم الاشتراعي رقم 82 عام 1983، وتحديدًا المادتين 27 و28، وفيهما: "وللديوان، أو للمدعي العام لديه، تكليف إدارة التفتيش المركزي إجراء أي تفتيش أو تحقيق تقتضيه المصلحة العامة. وعلى إدارة التفتيش المركزي أن تعطي هذه المهمات الأولوية إذا طلب إليها ذلك" (11).

من المنطقي تفعيل هذا الجهاز بكل قوة خلال المرحلة المقبلة، على أن تشهد الأروقة القضائية استدعاءات واسعة النطاق، تلعب فيها قيادة الحزب ووحدة مكافحة الفساد التابعة لها دورًا (12). وفي كل ما سبق، يلعب المركز الاستشاري للأبحاث والتوثيق برئاسة عبد الحليم فضل الله، دورًا في التخطيط، وربما لاحقًا في التنفيذ على الصعيد الحكومي. ذاك أن الحزب اليوم وضع نُصب عينيه موقع وزارة الصحة في الحكومة المقبلة، وهو بات "شبه محسوم" له وفق وسائل الإعلام الموالية للتنظيم (13).

قطاع الصحة

بعدما اعتبرت وسائل إعلام حزب الله أن وزارة الصحة محسومة لمصلحته، بدأ التحضير لتولي هذه الوزارة فعليًّا، من خلال البحث عن شخصية حزبية مناسبة لهذه المهمة، وتشكيل فريق عمله (14). والجدير بالذكر، أن للحزب مؤسسة صحية فاعلة، هي الهيئة الصحية الإسلامية، وشبكة مستشفيات ومستوصفات، منها الرسول الأعظم. وقد اكتسب المستشفى شهرة على الصعيد الوطني، في مجال عمليات القلب المفتوح. وفي مجال الصحة أيضًا، سبق أن نشر المركز الاستشاري قبل سنوات دراسة عن إمكانية تعميم الضمان الصحي ليشمل كل المواطنين عبر تمويله من الموازنة العامة بعد سلسلة إجراءات، منها ضبط الاحتكارات والأسعار في مجالي الاستشفاء والدواء، ورفع الضرائب على أصحاب الدخل المرتفع نسبيًّا. وفي ظل الوضع المالي المتأزم في لبنان، من المرجح أن لا يلجأ الحزب إلى مثل هذه الخطة بشكل متكامل، بل أن يبدأ بتوسيع رقعة الضمان الاجتماعي كخطوة في هذا الاتجاه.

خاتمة

بعد الوعود الانتخابية على لسان أمينه العام ومع انحسار القتال في سوريا، من الصعب على "حزب الله" التراجع في الملف الحكومي، وبات لزامًا عليه تنفيذ بعض برنامجه في مكافحة الفساد وتفعيل أجهزة الرقابة والشفافية في التوظيف، وكذلك في قطاع الصحة لو تمكن من الحصول على هذه الحقيبة الخدماتية الأساسية.

لكن أمام تحقيق هذا البرنامج، جملة تحديات محلية وخارجية. على الصعيد المحلي، سيكون التوفيق بين "مكافحة الفساد" من جهة، وبين الحفاظ على تحالف الحزب مع التيار الوطني الحر وحركة "أمل"، بالغ التعقيد. ذاك أن الحزب يحصل على موازنة من إيران لتمويل نشاطاته التنظيمية والخدماتية، في حين تعتمد الأحزاب والقوى اللبنانية على الخدمات والمواقع العامة لضمان ديمومة نفوذها. وبالتالي، من الصعب حصول تبدل جذري في علاقة الأحزاب اللبنانية بمؤسسات الدولة، بصفتها موردًا لتوزيع الخدمات والوظائف مقابل الولاء في المجال العام، وفي صناديق الاقتراع. ومن المنطقي توقع مقاومة شديدة لمثل هذه السياسة من الأحزاب التقليدية اللبنانية ومن مواقع نفوذها داخل هذه المؤسسات.

على الصعيد الدولي، ترفض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تعيين عضو من "حزب الله" على رأس وزارة خدماتية أساسية مثل الصحة، وتُهدد ضمنًا بمراجعة مساعداتها المالية لو حدث ذلك. وهذه المساعدات أساسية في ظل أزمة اللجوء السوري، وشح موارد الدولة. وقد يفتح حصوله على هذه الحقيبة، بابًا من العقوبات الاقتصادية لمحاصرته؛ إذ إن واشنطن ستُعرقل أية خطوة لتعزيز نفوذ الحزب عبر الخدمات، وذلك من خلال محاصرة أية حقيبة أساسية يحصل عليها. ذاك أن أية "خطوات إصلاحية" ستؤدي إلى اتساع دائرة شعبية الحزب في لبنان، وتحديدًا خارج الطائفة الشيعية، نظرًا إلى خروجه عن نمط الفساد الملازم لأداء الحكومات المتعاقبة.

ولو أضفنا إلى العقبات الإقليمية والدولية المرتقبة أمام مشاركة الحزب بشكل أوسع في السلطة، أن حلفاءه المحليين، مثل حركة "أمل" والتيار الوطني الحر، قد يُقاومون هذه التغيرات بالعرقلة والسياسة أيضًا وربما بعناوين إصلاحية أيضًا، فتزداد هذه المهمة تعقيدًا. وسُرعان ما قد يجد الحزب القادم من عالم القتال والمحاور الإقليمية، أن "الإصلاح ومكافحة الفساد" وفق الرؤية التي يقدمها، قد لا يتفقان مع تحالفاته المحلية الضرورية للحفاظ على سلاحه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*د. مهند الحاج علي - باحث في مركز كارنيغي بيروت.

ABOUT THE AUTHOR

References

 (1)   "حزب الله يعلن برنامجه الانتخابي.. الأولوية لمكافحة الهدر والفساد"، 21 مارس/آذار 2018، الميادين، (تاريخ الدخول: 22 أغسطس/آب 2018):https://tinyurl.com/y7ru3y9u

(2)   المرجع السابق.

(3)   "اتفاق الدوحة: الإنقاذ الثاني لـ"حزب الله"، 24 مايو/أيار 2008، ليبانون فايلز، (تاريخ الدخول: 23 أغسطس/آب 2018):https://tinyurl.com/y9gfkof8

(4)   "كلمة السيد نصر الله عن قانون الانتخاب 14 يناير/كانون الثاني 2005"، موقع العلاقات الإعلامية في حزب الله، (تاريخ الدخول: 25 أغسطس/آب 2018):https://tinyurl.com/yd4e3kj2

(5)    المرجع السابق.

(6)   أحد أسباب اهتمام الحزب بالجامعة اللبنانية، يرتبط بحقيقة أن أغلب قيادييه وكوادره المتعلمين من خريجيها، وهم يشكون عادة من هيمنة حركة "أمل" على شؤونها.

(7)    مقابلة مع مسؤول أوروبي طلب عدم نشر اسمه، 21 أغسطس/آب 2018، بيروت، لبنان.

(8)    مقابلة مع قاسم قصير، 27 أغسطس/آب 2018، بيروت لبنان.

(9)      Bob, Jonah Jeremy, “Former Mossad chief reveals revolutionary plan for defeating Hezbollah”, jpost, 18 August 2018, (Accessed: 20 August 2018): https://www.jpost.com/Israel-News/Former-Mossad-chief-reveals-revolutionary-plan-for-defeating-Hezbollah-565086

(10)    "نصرالله: لا حكومة في الأفق!"، الأخبار، 20 سبتمبر/أيلول 2018، (تاريخ الدخول: 22 سبتمبر/أيلول 2018)https://tinyurl.com/y7byxsws

(11)    انظر هنا للاطلاع على كامل المرسوم من موقع الحكومة اللبنانية على الإنترنت: https://tinyurl.com/y9r9uf4d

(12)    بالفعل، بدأت بعض الاستدعاءات تحصل بالتنسيق مع التيار الوطني الحر لملاحقة بعض المسؤولين في الإدارات العامة.

(13)    الفرزلي، إيلي، "الصحة" لحزب الله حتمًا، الأخبار، 7 سبتمبر/أيلول 2018، (تاريخ الدخول: 22 سبتمبر/أيلول 2018):https://al-akhbar.com/Politics/257500/الصحة-لحزب-الله-حتما

(14)    مقابلة مع أحد المسؤولين المحسوبين على "حزب الله"، 28 أغسطس/آب 2018، بيروت-لبنان.