مقدمة
اتخذ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في 19 يناير/كانون الثاني 2018، قرارًا مفاجئًا، وغير متوقع بالنسبة لمعظم القوى الفاعلة على الأرض السورية، يقضي بالانسحاب السريع للقوات الأميركية من سوريا (1). ومن جهتها، تلقتها وسائل الإعلام المقربة من تركيا و"الجيش السوري الحر" بكثير من التفاؤل حول المصير -السيئ- المتوقع لوحدات حماية الشعب والتنظيمات السياسية المرتبطة به بعد الانسحاب الأميركي، بينما تلقتها وسائل الإعلام المقربة من تلك القوى الكردية في سوريا بكثير من التشاؤم حول مصيرها، غير أن الحقيقة بدت غير متوافقة مع تفاؤل وتشاؤم الطرفين بعد أيام من إعلان الرئيس الأميركي، فرغم تأكيد الولايات المتحدة على حق تركيا في حماية حدودها وأمنها القومي، أصرت الإدارة الأميركية على ضرورة حماية حلفائها الكرد في سوريا.
إن اقتراب القضاء على تنظيم الدولة في آخر معاقله بريف دير الزور الشرقي، وقرار الولايات المتحدة سحب قواتها من سوريا، رغم التخبط الذي أظهره ترامب والإدارة الأميركية في تحديد موعد الانسحاب، وإصرار تركيا على طرد مقاتلي وحدات حماية الشعب من شرق الفرات ومنبج في غربها، يضع مستقبل الكرد في سوريا أمام سيناريوهات ونتائج تبدو أقل مما كانت تطمح إليه القوى السياسية والعسكرية الكردية في سنوات الثورة السورية. كما يرتبط مصير تلك القوى الكردية ومآلاتها المستقبلية بمصير تحالفاتها، والمناطق التي تسيطر عليها، فمنهما تستمد قوتها الاقتصادية، وخزانها البشري الذي يمدها بالجماهير والمقاتلين.
معظم السيناريوهات تعتمد على مصالح الدول الخارجية ذات التأثير على الخارطة العسكرية بوجه خاص، والسياسية في سوريا عمومًا، وشرق الفرات خصوصًا، وأهمها من حيث قوة التأثير -حاليًّا- والتي تمتلك مصالح لها في شرق الفرات، هي: (تركيا، والولايات المتحدة، وروسيا، وإيران، ومعها النظام السوري)، بالإضافة لتأثير بسيط لدول مثل فرنسا، وبريطانيا.
مصالح الدول ذات التأثير في شرق الفرات
كانت الولايات المتحدة من أكثر الدول تأثيرًا في شرق الفرات، ولديها مصالح تمس أمنها القومي عندما كان تنظيم الدولة مسيطرًا على الرقة، ودير الزور، وريفهما، ومناطق من ريف الحسكة. أما اليوم -وبعد الاقتراب من القضاء على التنظيم وغياب الخطر على أمنها القومي- تقلصت مصالح الولايات المتحدة في شرق الفرات ومع الكرد هناك، ومعها تقلصت أهمية تلك المناطق بالنسبة لواشنطن. ولكن لايزال النفوذ الإيراني حاليًّا من أهم ما يؤرق الولايات المتحدة، والتي يمكن أن تقلِّل من خطورته عبر اتفاق مع روسيا لإبعاد إيران عن الميدان السوري، ومنعها من فتح طريق بري يصل طهران بلبنان عبر العراق ودمشق، كما فعلت إسرائيل حينما اتفقت مع روسيا على إبعاد الإيرانيين ما يقارب 80 كم عن حدودها (2).
يمكن اعتبار تركيا -حاليًّا- من أكثر الدول التي سيكون لها تأثير كبير في مستقبل شرق الفرات، والمناطق الكردية، لوجود مصالح تمس أمنها القومي، فوجود ما يقارب من 450 كم من حدودها تحت سيطرة وحدات حماية الشعب التي ترتبط بصلات وثيقة مع حزب العمال الكردستاني، الذي تعتبره أنقرة منظمة إرهابية ويقاتل تركيا منذ عام 1984(3)، واستغلال تلك الرقعة الجغرافية لتهريب الأموال والمقاتلين للحزب عبر حدود إقليم كردستان من أهم ما تسعى تركيا لوضع حد له، كما أن حصول الكرد في سوريا على حكم ذاتي، أو فيدرالي سيشكِّل إلهامًا لكرد تركيا للمطالبة بالمثل، والاستشهاد بكرد العراق وسوريا الأقل عددًا، والأصغر أرضًا، وجغرافية. لذلك، فأنقرة تعتبر وجود حزب العمال الكردستاني أو المرتبطين به، أو إحداث حالات خاصة للاعتراف بالوجود الكردي في سوريا جغرافيًّا وسياسيًّا، خطرًا يهدد أمنها القومي.
إن مهمة تركيا في تحقيق مصالحها وحماية أمنها القومي سيصطدم بالكثير من العوائق والتناقضات بين الدول ذات المصالح، والتأثير في سوريا، فبما أن تركيا ملزمة بمسار (آستانة) والدول المشاركة فيه، وأيضًا باتفاق (سوتشي) حول إدلب، فلابد لها أن تنسق مع الطرف الروسي لكي تضمن تفاهم موسكو معها في ملف (إدلب) وتحرير الشام، لاسيما بعد التطورات الأخيرة وسيطرة الهيئة على معظم محافظة إدلب وريفها وريف حماة.
وبدورها، ستحاول روسيا إقناع تركيا بأن يكون للنظام دور كبير في المنطقة الآمنة، وسيساعدها في ذلك قبول "وحدات حماية الشعب" بوجود النظام كطرف قوي في المنطقة الآمنة إن أنقذها ذلك من التدخل العسكري التركي، ولكن قد يصطدم ذلك برفض الطرف الأميركي ودول التحالف إن بقي النظام السوري بشكله الحالي دون تغيير. أما إن نجحت (اللجنة الدستورية) في كتابة دستور جديد، وتغيير شكل النظام بما يحفظ ماء وجه الولايات المتحدة وحلفائها، فقد تسمح لدور كبير للنظام -بشكله الجديد- في المنطقة الآمنة وشرق الفرات عمومًا، لذلك فقد يرتبط الشكل النهائي لتلك المناطق بما سيصدر عن اللجنة الدستورية، وكيفية تغييرها لشكل النظام السوري الحالي.
لن تستطيع تركيا فرض المنطقة الآمنة من طرف واحد إلا بعملية عسكرية كبيرة ضد وحدات حماية الشعب، وقوات سوريا الديمقراطية، وهذا ما لن تقبله أميركا وغيرها من دول التحالف. لذلك، لابد لأنقرة من التنسيق مع الجانب الأميركي في شكل المنطقة الآمنة، وهذه الأخيرة قد ترفض أي دور لروسيا أو للنظام في هذه المنطقة دون ضمان حماية مصالحها، ووضع حد للتوغل الإيراني في سوريا، وهو ما قد يصعِّب المهمة التركية في شرق الفرات.
أما روسيا، فتعتبر من الدول التي لها مصالح غير مباشرة في شرق الفرات فهي من جهة تريد عودة تلك المناطق لسيطرة النظام السوري لاستكمال عودة معظم الأراضي السورية لسيطرته، بالإضافة لغنى تلك المناطق بالثروات الباطنية والزراعية والتي ستخفف الضغط الاقتصادي على حليفته (النظام السوري) الذي أنهكته سنوات الحرب. كما تريد روسيا أن تلعب دورًا مؤثرًا في شرق الفرات عن طريق النظام السوري، أو عن طريق قيادات مقربة منها من حزب العمال الكردستاني، ولاسيما أن روسيا لا تزال تحمي الحزب في مناطق الشهباء (تل رفعت، منغ ...) بريف حلب الشمالي، وقد تحاول الضغط على الحزب عبر بوابة التهديد بالسماح لتركيا باستكمال السيطرة على تلك المناطق لتحصل على تنازلات أكثر لصالح النظام في مفاوضاته مع الإدارة الذاتية، وخصوصًا أن روسيا أصبحت وسيطًا بين النظام وقوات سوريا الديمقراطية في المفاوضات الأخيرة بين الطرفين.
قد تكون إيران الأقل تأثيرًا في شرق الفرات بسبب غياب وجود أية قوة عسكرية يمكن أن تعتمد عليها في تلك المنطقة الخالية من "الميليشيات الشيعية"، إلا أنها قد تستطيع أن تلعب دورًا عن طريق بعض القيادات من حزب العمال الكردستاني المقربين منها، وتؤثر عليهم لصالح تقريب وجهات النظر بينهم وبين النظام السوري؛ حيث لعبت إيران نفس هذا الدور في بدايات الثورة السورية، عام 2011، عندما توسطت بين الطرفين لإعادة العلاقات بينهما، والتي كانت قد تضررت بعد اتفاقية أضنة عام 1998(4)، وطرد عبد الله أوجلان من سوريا.
أما النظام السوري، فلا يمكنه الخروج عمَّا سترسمه له روسيا في شرق الفرات، فمصالحه لا تختلف عن مصالح روسيا، وهو غير قادر على لعب أي دور بمعزل عن الدعم الروسي له. وتبقى هناك بعض الدول الأقل تأثيرًا وقوة في رسم خارطة شرق الفرات المستقبلية وأهمها فرنسا التي رفضت سحب قواتها من شرق الفرات، كما ترفض أية عملية عسكرية تركية تستهدف الكرد في سوريا. وينبع الموقف الفرنسي من سببين رئيسيين، الأول: وجود خلافات تاريخية بين تركيا وفرنسا (5)، والثاني: خشية فرنسا من أن تقوم قوات "سوريا الديمقراطية" بإطلاق سراح عناصر "تنظيم الدولة" الفرنسيين المعتقلين لديها (حوالي 130)؛ إذ كانت فرنسا تسعى لأن يُحاكموا خارج أراضيها. ولا يبدو أن الموقف الفرنسي سيكون مؤثرًا جدًّا ولا تملك باريس القدرة على لعب دور منفرد دون واشنطن، فهي لا تملك القوة العسكرية والمادية الكافية للوقوف بوجه دولة مثل تركيا لها مصالح متعلقة بأمنها القومي، هذا والجدير بالذكر أن باريس أعلنت مؤخرًا أنها ستعيد عناصر "داعش" الفرنسيين من أجل محاكمتهم في فرنسا(6).
القوى الكردية والمصالح المتضاربة
بالنظر لما سبق، نجد أن تركيا ستكون الأكثر تأثيرًا على منطقة شرق الفرات والقوى الكردية فيها، وقد تبذل الكثير من المال والنفس والتنازلات للولايات المتحدة وروسيا، لكي يكون مصير تلك المنطقة متوافقًا مع مصالحها وأمنها القومي. وستكون تلك المناطق أمام عدد من السيناريوهات المحتملة، أهمها:
- الاتفاق مع النظام: بعد إعلان تركيا أنها ستبدأ بعملية عسكرية في شرق الفرات، بدأ النظام السوري وحزب الاتحاد الديمقراطي بمفاوضات برعاية روسية حول مصير المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية(7)، ورغم تضارب البنود المسربة حول الاتفاق(8) كانت معظم التسريبات متفقة على الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، والاعتراف بالسيادة السورية على الأراضي، وخلت جميعها من أي ذكر أو إشارة إلى الفيدرالية أو الحكم الذاتي، واقتصرت بعض التسريبات على ذكر الاعتراف بالإدارات الذاتية التي أعلنها حزب الاتحاد الديمقراطي في مناطق سيطرته. من الواضح من خلال البنود التي ستُناقَش أن الكرد في مفاوضاتهم لن يحصلوا على أي شكل من أشكال الإدارة التي تخولهم السيطرة الكاملة على مناطقهم، فالنظام السوري ومعه روسيا مصرَّان على السيادة الكاملة للنظام على الأراضي السورية. لذلك، فقد تفشل المفاوضات بجولاتها الأولى بسبب الخلافات التي ستحصل بين الطرفين على السيادة والنفوذ في شرق الفرات، ولكن في النهاية سيصلان لاتفاق، وخاصة إذا تعرض الكرد لضغوطات عسكرية من قبل تركيا، وهو ما لن تتردد أنقرة في فعله. غير أن تركيا من غير المتوقع أن تثق بأي اتفاق بين الطرفين دون أن يكون لها دور في حماية حدودها عبر إنشاء منطقة آمنة، وهو ما تحاول تركيا إقناع الولايات المتحدة وروسيا به.
وبالنسبة للمنطقة الآمنة التي تعتزم كل من تركيا والولايات المتحدة إنشاءها، فستكون وفقًا لسيناريو التوافق مع النظام السوري خاضعة لسيطرة هذا الأخير، وللأجهزة العسكرية والأمنية التابعة له؛ وهذا من شأنه أيضًا أن يخفف العبء الاقتصادي والعسكري على تركيا والولايات المتحدة معًا. وبهذا، تخضع المنطقة الآمنة لمراقبة تركيا كي تضمن تطبيق الاتفاقات المعقودة مع النظام، وقد تسعى أنقرة لتفعيل اتفاقية أضنة مرة أخرى كي يتسنى لها التدخل بشكل مباشر في تلك المناطق في حال لم تلتزم الأطراف بتعهداتها، وهو أمر بات يتكرر كثيرًا على لسان المسؤولين الأتراك في الآونة الأخيرة(9).
النقطة الأهم في المنطقة الآمنة أن تركيا لن تقبل أن تقتصر المنطقة الآمنة على حدودها فقط، بل ستصر على أن تشمل الحدود العراقية مع المناطق الكردية أيضًا مثل (ريف المالكية/ديرك، والهول، وتل حميس، وتل كوجر) والتي يبلغ طولها ما يقارب (170) كم تقريبًا(10)، وذلك كي تفصل بين فرع حزب العمال الكردستاني في سوريا ومصدر قراره في قنديل، وتمنع بالتالي تهريب المقاتلين والأموال لهم.
أما قوات سوريا الديمقراطية، فمن الصعب أن تحافظ على خصوصيتها، فلن يقبل النظام السوري بوجود قوة عسكرية مستقلة في قراراها، لذلك فستصبح قوات سوريا الديمقراطية تابعة في قرارها للجيش السوري، ومع مرور الزمن ستنحل هذه القوات ضمن الجيش، وستغيب الخصوصية الحزبية والكردية عنها. بالإضافة لوجود احتمالات كبيرة لأن يستميل النظام بعض المكونات المنضوية في قوات سوريا الديمقراطية كـ(قوات الصناديد) التابعة لعشيرة شمر العربية، و(المجلس العسكري السرياني)، و(قوات السوتورو) المسيحية، والكثير من العناصر العربية. فهذه الأطراف هي بالأساس مقربة من النظام السوري، وأبعدها عنه الدعم الأميركي وسيطرة قوات سوريا الديمقراطية على المناطق التي تتواجد فيها هذ القوات، فضلًا عن المصالح الاقتصادية والأمنية والسياسية لتلك القوى مع قوات سوريا الديمقراطية، وهو ما لن تستطيع تأمينه لها بعد اتفاقها مع دمشق. كما أن إبرام اتفاق بين النظام وقوات سوريا الديمقراطية سيُدخلها للمعسكر الروسي-الإيراني، وهو ما سيبعدها تلقائيًّا عن الولايات المتحدة.
سيكون هذا السيناريو متوافقًا مع مصالح معظم الدول (تركيا وروسيا وإيران أيضًا)، والعائق الوحيد سيكون الولايات المتحدة التي قد ترفض تسليم المناطق التي طرد منها التحالف الدولي "داعش"، للنظام السوري بشكله الحالي، لذلك قد تستخدم الولايات المتحدة منطقة شرق الفرات ورقة ضغط على روسيا وإيران لتغيير شكل النظام ورئيسه بشار الأسد من خلال اللجنة الدستورية، بالإضافة لعقد اتفاق مع روسيا مشابه لاتفاق "روسيا وإسرائيل"، لمنع إيران من إنشاء طريق بري يصل طهران ببيروت عبر سوريا. وإن تمكنت تركيا من اقناع روسيا وإيران بمراعاة مصالح الولايات المتحدة فسيكون هذا السيناريو هو الأكثر قابلية للتحقق.
- إقليم كردي في سوريا: في حال فشل المفاوضات بين دمشق والكرد، ورفضت الولايات المتحدة أي دور قوي للنظام وحلفائه الروس والإيرانيين في شرق الفرات، سيكون هذا السيناريو بديلًا للأول. وفق هذا السيناريو، ستحاول الولايات المتحدة إصلاح البيت الكردي الداخلي، والتقريب بين الأحزاب والقوى الكردية، لإنشاء إقليم كردي يتمتع بحكم ذاتي وصلاحيات تمكنها من حماية مصالح الولايات المتحدة. وقد بدأت بالفعل مبادرات لإصلاح البيت الداخلي الكردي ومنها السماح لأحزاب "المجلس الوطني الكردي" غير المرخصة من الإدارة الذاتية، والمعارضة لها، بفتح مكاتبها(11)، والبدء بمحاولة عقد سلسلة من الحوارات بين الأطراف الكردية للاتفاق. كما بدأت مفاوضات لمحاولة إدخال "بيشمركة روج" المقربة من إقليم كردستان وتركيا، وأيضًا إدخال عناصر من "قوات النخبة" التابعة لأحمد الجربا(12) إلى مناطق شرق الفرات لتلعب دورًا أمنيًّا ولاسيما في المناطق الحدودية مع تركيا والعراق؛ حيث من المتوقع أن تنتشر قوات النخبة في المناطق ذات الغالبية العربية، بينما بيشمركة روج في المناطق ذات الغالبية الكردية، وقد يقضي الاتفاق بتسليم المنطقة الآمنة لهاتين القوتين بالإضافة لتركيا والولايات المتحدة كداعميْن ومراقبيْن لهما.
في هذا السيناريو ستشهد المناطق الكردية صعود قوى سياسية وعسكرية كانت مقموعة من قبل مثل حزب الاتحاد الديمقراطي ومؤسساته العسكرية والأمنية، ومنها المجلس الوطني الكردي في سوريا الذي يتألف من أكثر من 10 أحزاب كردية مقربة من إقليم كردستان العراق، وتعتبر أيضًا حليفة لتركيا، بالإضافة لظهور قوى عربية سياسية وعشائرية كانت تخشى القبضة الأمنية لقوات سوريا الديمقراطية. وصعود قوى كردية وعربية جديدة سيكون متوافقًا مع مصالح تركيا التي سترفض أي دور لوحدات حماية الشعب، أو القوى المقربة منها في المنطقة الآمنة، وكذلك قد ترفض الولايات المتحدة وبعض دول التحالف أي دور لقوات النظام السوري وحلفائه الروس، فحينها سيكون اختيار قوى محلية كردية وعربية مقربة من تركيا والولايات المتحدة هو الخيار الأفضل للطرفين. وتعتبر حاليًّا بيشمركة روج(13) وقوات النخبة، هي من تمتلك صفة القرب من واشنطن وأنقرة. ولكن صعود هذه القوى الجديدة لا يعني أنها ستستلم إدارة المنطقة الكردية منفردة، وبالتالي سيتم استبعاد حزب الاتحاد الديمقراطيPYD ووحدات حماية الشعب، فالأخيرة لن تقبل بذلك. ولكن سيتم إنشاء إدارة جديدة مكونة من القوى السياسية والعسكرية (الكردية والعربية) الموجودة على الأرض والتي تم استبعادها خلال السنوات الماضية، وهذا من شأنه أن يقوِّض السلطة المطلقة لحزب الاتحاد الديمقراطي وسيُرضي تركيا نوعًا ما.
في حال تم تطبيق هذا السيناريو لن تكون قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب ضمن القوى العسكرية التي ستشرف على المنطقة الآمنة، وسيتم إخراجها إلى مناطق ما وراء المنطقة الآمنة، أي إبعادها مسافة تُقدَّر بـ32 كم عن الحدود التركية والعراقية كي تضمن تركيا عدم تهريب المقاتلين والأموال لقنديل. في هذا السيناريو، سيكون إصرار تركيا أكبر على أن تشمل المنطقة الآمنة الحدود العراقية أيضًا لمنع تهريب الأموال والمقاتلين لحزب العمال الكردستاني في قنديل، وسنجار (شنكال).وسيكون الرفض التركي وكذلك الروسي عائقًا أمام تطبيق مثل هذا السيناريو؛ فتركيا تجد في إنشاء إقليم كردي خطرًا على أمنها القومي، ولكن إصرار الولايات المتحدة قد يجبر تركيا على القبول بهذا الخيار للحفاظ على حدودها.
إذا تم تطبيق هذا السيناريو أو آخر قريب منه، فستتغير البنية التنظيمية لقوات سوريا الديمقراطية بالإضافة لمناطق انتشارها، فدخول بيشمركة روج وعناصر من قوات النخبة للمناطق الحدودية سيبعد قوات سوريا الديمقراطية إلى ما وراء المنطقة الآمنة، وسيخفف من قبضتها الأمنية.
تكمن مصلحة الولايات المتحدة في هذا السيناريو من خلال ضمان حماية مصالحها، ووجود قوة عسكرية حليفة لها في سوريا، وكذلك في إرضاء تركيا من خلال إبعاد فرع حزب العمال الكردستاني عن الحدود، بالإضافة لاستعمالها كورقة ضغط في أية تسوية سياسية مقبلة في سورية.
- فصل تركي بين كوباني والجزيرة: في حال لم تتمكن تركيا من فرض السيناريو الأول أو الثاني فسيكون الخيار العسكري هو ما ستختاره لإجبار حزب الاتحاد الديمقراطي، وقوات سوريا الديمقراطية، على قبول سيناريو آخر يكون متوافقًا مع المصالح التركية. ولكن من غير المتوقع ومن غير الممكن أيضًا أن تكون العملية العسكرية شاملة لمناطق شرق الفرات، ولكنها غالبًا ستكون محدودة بين منطقتي تل أبيض، ورأس العين (سري كانيه)، والتي يبلغ طولها 110 كم تقريبًا. في هذه الحالة ستفصل تركيا بين منطقتي كوباني والجزيرة، وستتمكن من فرض حالة متوافقة مع مصالحها تحت تهديد استكمال عملياتها العسكرية في مناطق أخرى من شرق الفرات. ومما يقوي فرضية تحقق مثل هذا السيناريو: وجود الكثير من أبناء العشائر العربية التي هربت من منطقة تل أبيض باتجاه تركيا، ويسكنون كلاجئين في مدن وقرى حدودية بانتظار عودتهم لقراهم ومنازلهم، وما تقوم به وحدات حماية الشعب من تحضيرات على الأرض من حفر للأنفاق والخنادق وتحضيرات ميدانية أخرى، وكأنها تتجهز لعملية عسكرية مرتقبة، وكذلك احتمالات قوية لرفض قوات سوريا الديمقراطية تقديم أي تنازلات لتركيا كما حصل في عفرين.إنْ نفذت تركيا تهديداتها بتنفيذ عملية عسكرية فمن الممكن أن يستغل الكثير من الفصائل والعناصر العربية ضمن قوات سوريا الديمقراطية هذه العملية للانشقاق والانضمام للطرف التركي، ولاسيما في حال امتدت تلك العمليات لمناطق عميقة من ريف الرقة الشمالي باتجاه بلدة عين عيسى؛ وذلك لسببين رئيسيين: الأول: هو عدم رغبة الكثير منهم في سيطرة الكرد المستدامة على تلك المناطق، وثانيًا: هي الهوية الأيديولوجية ذات الطابع اليساري والماركسي الذي تحمله وحدات حماية الشعب، والمؤسسات السياسية والإدارية التابعة له، وهو طابع غير مقبول لدى معظم سكان تلك المناطق.
سيكون الرفض الأميركي والدولي أيضًا لمثل هذه العملية عائقًا كبيرًا أمام تركيا، ولاسيما أن دولًا في التحالف الدولي مثل فرنسا وبريطانيا ترفض أية عملية عسكرية تستهدف الكرد في شرق الفرات. إلا أنه إذا أحست أنقرة بوجود خطر حقيقي على حدودها وأمنها القومي، وانعدمت فرص الحل السلمي، فقد تضطر لمثل هذه العملية العسكرية.
- توسيع نموذج منبج: من السيناريوهات الواردة أن تقوم الولايات المتحدة بالتسريع في تطبيق اتفاق منبج مع تركيا من خلال إخراج وحدات حماية الشعب منها، وتأسيس إدارة مدنية من السكان المحليين، وبالتالي إقناع تركيا بتعميم هذا النموذج على مناطق شرق الفرات، إلا أن تأسيس إدارة مدنية في كل منطقة على حدة لن يكون بالأمر السهل تنظيميًّا وإداريًّا وأمنيًّا، ولابد من سلطة مركزية تقوم بإدارة هذه المؤسسات والإدارات، والتنسيق بينها، وهو أمر لا يمكن القيام به إلا عن طريق الإدارة الذاتية-الكردية، أو النظام السوري، أو تركيا وحلفائها. أما تأسيس إدارة جديدة تستطيع القيام بهذه المهمة فهو أمر بالغ الصعوبة بسبب عدم وجود أحزاب وتنظيمات سياسية وعسكرية قوية تستطيع إدارة هذه المناطق باستثناء الأطراف الثلاثة المذكورة، ومن الصعب أن تتفق تلك الأطراف على شكل الإدارة بسبب تضارب مصالحها، لذلك فالسيناريو الأكثر قابلية للتحقق هو أن تركيا ستضطر لتنفيذ عملية عسكرية محدودة، أو ضربات عسكرية، وبالتالي إلزام الأطراف الأخرى بسيناريو الاتفاق معها ومراعاة مصالحها.
خلاصة
جميع السيناريوهات المحتملة لدور القوى الكردية في سوريا بعد القضاء على تنظيم الدولة، والانسحاب الأميركي السريع أو التدريجي من سوريا، تبدو وكأنها لن تجري بما يتوافق مع سفينة الأكراد في الثورة السورية. فالقوة العسكرية الكردية المتمثلة بقوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب إما ستُدمج في الجيش السوري، وتفقد خصوصيتها مع مرور الوقت، أو سيتقلص دورها لحساب قوى جديدة ستدخل الساحة الكردية وشرق الفرات. بالإضافة لوجود احتمالات قوية بانسحاب بعض مكونات قوات سوريا الديمقراطية وانضمامها للنظام أو تركيا، كما أنها ستخسر جزءًا كبيرًا من الأراضي التي سيطرت عليها وخاصة تلك التي على الحدود التركية، والعراقية.
سياسيًّا، فالقوة السياسية، حزب الاتحاد الديمقراطي وتفريعاته التي استأثرت بالعملية السياسية والإدارية خلال سنوات ما بعد الثورة السورية، ستكون أمام خيار التنازل عن كثير من صلاحياتها ومواردها: إما لصالح النظام، أو لقوى سياسية كردية وعربية وعشائرية ستشاركها في إدارة المنطقة.
أما زمنيًّا، فالعديد من الخطوات في طريق تنفيذ نموذج يتوافق مع المصالح التركية ستقوم بها أنقرة قبل نهاية شهر مارس/آذار 2019، حيث موعد انتخابات الإدارة المحلية في تركيا، ويحتاج التحالف المكون من حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، لتعزيز وتقوية فرص نجاحه وفوزه بأكثر عدد من البلديات، من خلال تحقيق إنجازات متعلقة بالموضوع الكردي والمتعلق بحزب العمال الكردستاني. لذلك، فالأيام المقبلة ستحمل بين طياتها تغييرات في الخارطة السياسية والجغرافية في شرق وغرب الفرات، ولكن لا يمكن للمحسوبين على المعسكر التركي سواء من المعارضة السورية أو الكرد المعارضين للإدارة الذاتية أن يكونوا متفائلين أمام توقعات بالقضاء –نهائيًّا- على وحدات حماية الشعب، فهذه القوة حاربت تنظيم الدولة وباتت تمتلك آلاف المقاتلين والكثير من الأسلحة، ولديها حلفاء كالولايات المتحدة وغيرها من دول التحالف الذين يصرون على ضرورة حماية الكرد - وتحديدًا وحدات حماية الشعب-، لذلك فمن غير المتوقع أن تتخلى واشنطن عنهم وتجعلهم لقمة سهلة للجيش التركي وحلفائه السوريين.
بين تفاؤل المعسكر التركي وتشاؤم المعسكر الكردي من قرار الانسحاب الأميركي يبدو أن واشنطن ستحاول الحفاظ على جميع حلفائها في المنطقة، تركيا والكرد دون أن تخسر أحدًا منهم؛ فقد ترضي واشنطن تركيا بإبعاد فرع حزب العمال الكردستاني عن حدودها مسافة تقدر بـ 32 كم، وقد تُرضي الكرد بحل وسط بينهم وبين النظام، أو ترضيهم بالتوسط بينهم وبين تركيا لعقد تفاهمات تقضي بإشراك قوى عربية وكردية في إدارة منطقة شرق الفرات بما يضمن إبعاد المقربين من حزب العمال الكردستاني عن حدودها، وبما يحول دون عودة النظام السوري إليها. وليرضى الجميع بحل وسط فلابد من إبرام اتفاقات بين تركيا وأميركا أولًا، وبين أميركا وروسيا للحد من النفوذ الإيراني ثانيًا، وبين النظام السوري والكرد -إن وافقت الولايات المتحدة- لتوزيع النفوذ والسلطة في المنطقة الكردية ثالثًا، وهذا سيستغرق الكثير من الوقت، وبعض الضغوط العسكرية أيضًا حتى يتحقق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عبد الرحيم سعيد، باحث في الشؤون الكردية.
(1) في خطوة مفاجئة واشنطن تقرر سحب قواتها من سوريا، الجزيرة نت، 19 ديسمبر/كانون الأول 2018. (تاريخ الدخول بتاريخ: 24 يناير/كانون الثاني 2019). https://goo.gl/94RGzc
(2) صحيفة: إبرام "صفقة" بين روسيا وإسرائيل، وكالة سبوتنيك، 22 يوليو/تموز 2018، (تم الدخول بتاريخ 24 يناير/كانون الثاني 2019). https://goo.gl/WhVarV
(3) تأسس حزب العمال الكردستاني عام 1978، وأعلن العمل المسلح في آب عام 1984
(4) تنص اتفاقية أضنة على تعهد سوريا بعدم السماح لعناصر حزب العمال الكردستاني في الخارج بدخول سوريا، واغلاق جميع معسكرات حزب العمال الكردستاني وعدم السماح لها بالعمل، وعدم سماح سوريا لأعضاء حزب العمال الكردستاني باستخدام أراضيها للعبور إلى دول ثالثة. الحق لتركيا في اتخاذ جميع الإجراءات الأمنية اللازمة داخل الأراضي السورية حتى عمق 5 كم. بالإضافة لغيرها من البنود المتعلقة بحزب العمال الكردستاني.
(5) من الخلافات بين البلدين (موقف فرنسا من انضمام تركيا للاتحاد الأوربي، وموقفها من قضية الأرمن، وغيرها)، لمعرفة المزيد عن الخلافات بين تركيا وفرنسا انظر: باكير، علي حسين، العلاقات التركية-الفرنسية والاستدعاء السياسي للتاريخ الأرمني، الجزيرة للدراسات، 22 يناير/كانون الثاني 2012، (تم الدخول بتاريخ 30 يناير/كانون الثاني 2019). http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2012/01/201212274215789295.html
(6) ينظر، سمير يوسف، فرنسا ستعيد نحو 130 جهادياً من سوريا إلى أراضيها، يورو نيوز، 29 يناير/تشرين الثاني 2019، (تاريخ الدخول 29 يناير/تشرين الثاني 2019). https://bit.ly/2GeXpyO
(7) مسؤول كردي: أكراد سوريا يسعون لاتفاق مع الحكومة بغض النظر عن الانسحاب الأمريكي، رويترز، 4 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول بتاريخ 24 يناير/كانون الثاني 2019). https://ara.reuters.com/article/topNews/idARAKCN1OY1EV
(8) شيخو، كمال، «خريطة طريق» كردية للتفاوض مع دمشق برعاية روسية، الشرق الأوسط، 10 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول 24 يناير/كانون الثاني 2019). https://goo.gl/XDqeKS
وانظر أيضاً : مضمون البنود التي ستناقشها الإدارة الذاتية مع النظام السوري، وكالة هوار، 19 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول بتاريخ 24 يناير/كانون الثاني 2019). https://goo.gl/PNn2uX
(9) أردوغان يشدد على ضرورة إعادة طرح "اتفاقية أضنة" للتداول، الأناضول، 24 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول بتاريخ 26 يناير/كانون الثاني 2019). https://goo.gl/ydg2u9
(10) الحدود العراقية مع المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية تبلغ أكثر من (350) كم، ولكن الأهم منها هي ما تقع على الحدود مع اقليم كردستان، ومنطقة سنجار، ويبلغ طولها ما يقارب (170) كم.
(11) "الإدارة الذاتية" تسمح بفتح مقرات الأحزاب الكردية غير المرخصة، عنب بلدي، 5 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول بتاريخ 25 يناير/كانون الثاني 2019). https://www.enabbaladi.net/archives/274795
(12) أحمد الجربا يتحرك على الأرض لدور واسع شرق الفرات، عنب بلدي، 5 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول بتاريخ 25 يناير/كانون الثاني 2019). https://www.enabbaladi.net/archives/274722
(13) بيشمركة روج هي قوة عسكرية من الكرد السوريين المقربين من مسعود البرزاني، وموجودين في اقليم كردستان العراق، وتسعى للعودة للمناطق الكردية في سوريا. بينما ترفض قوات سوريا الديمقراطية عودتها. لا توجد إحصائيات رسمية لعدد بيشمركة روج، تتراوح أعدادهم بين (7000 – 10000) عنصر.
(14) عمر، جابر، "حرييت" عن المنطقة الآمنة: حدود متفاوتة بين أنقرة وواشنطن وموسكو، العربي الجديد، 2 فبراير/شباط 2019، (تاريخ الدخول 3 فبراير/شباط 2019): https://goo.gl/EtZM3R