لقد اعتمد (تنظيم الدولة) في عقيدته القتالية على حرب العصابات والعمليات الهجومية التعرضية التي تمتاز بالصدمة والترويع وسرعة الحركة والانتشار، الذي مكنه من السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي في العراق وسوريا، ثم تحول من حرب العصابات إلى الحرب النظامية، ومن الهجوم إلى الدفاع. كما أنه استطاع أن يحصل على قدرات مالية وإدارية وتسليحية عالية جداً من خلال حقول النفط والكبريت التي استولى عليها، وكذلك من البنوك والمؤسسات الحكومية إضافة إلى القدرات العسكرية التي غنمها من القوات العسكرية في محافظة نينوى، والأنبار، وصلاح الدين، ولكن جميع عوامل القوة التي امتلكها التنظيم وأشعرته بنشوة القوة لم تسعفه في المحافظة على هذه المناطق، بسبب التفوق الجوي واللوجستي لقوات التحالف الدولي، وقلة العنصر البشري، وترهل (دولة الخلافة)، لذا فقد فشل في الدفاع عن دولته المزعومة، وخسر جميع المناطق التي سيطر عليها، ولكنه لا يزال يحتفظ بعناصر قوة تمكنه من العمل بمرونة عالية.
وفي الجانب الآخر، كانت القوات الحكومية العراقية قد استوعبت صدمة انهيارها الكبير أواسط العام 2014، وبدأت باستعادة المدن التي استولى عليها (تنظيم الدولة) بالتنسيق مع تحالف دولي يضم عشرات الدول بقيادة الولايات المتحدة.
انطلقت أول المعارك في تاريخ 2 مارس/أذار 2015 لاستعادة مدينة تكريت، ثم تلتها معارك أخرى في بيجي، ثم الرمادي، والفلوجة، والقيارة، والموصل وتلعفر، والشرقاط، والحويجة، ومدينة عانة وراوه، والقائم، وصولاً إلى الحدود السورية. وفي تاريخ 9 ديسمبر/كانون الأول عام 2017 أعلن حيدر العبادي، رئيس الوزراء السابق، النصر واستعادة جميع المدن والأراضي التي كان يسيطر عليها (تنظيم الدولة)(4) بعد نحو ثلاث سنوات من المعارك الدامية، والاستنزاف الكبير لموارد الدولة في مناطق غرب العراق وشماله. غير أن هذا الإعلان كان خطأً استراتيجياً كبيراً جداً وتخبطاً سياسياً مفضوحاً، لأن المعلومات التي كانت لدى الاستخبارات العسكرية العراقية تختلف بشكل كبير جداً عما أعلنه العبادي الذي استعجل إعلان النصر ليوظفه في انتخابات عام 2018.
جاء رد التنظيم على العبادي سريعاً من خلال سلسلة عمليات، كان أكثرها خطورة إقامة حاجز تفتيش وهمي على طريق طوزخورماتو ـ داقوق الموازي لسلسلة جبال حمرين، وإعدام (8) أفراد من الشرطة الاتحادية، وبث صور لذلك، كما قام بنصب حواجز أمنية مزيفة واقتحام قرى وحواجز عسكرية في مناطق نائية تحت جنح الظلام، وقد شهد الطريق الرابط بين كركوك وبغداد هجمات متعددة، كما نفّذ التنظيم حملة من الاغتيالات وقطع الطرق الرئيسية بين المحافظات للحصول على الأموال.
وشملت هجمات التنظيم عمليات استهدف خلالها بشكل خاص قيادات، وعناصر أمنية، ومن الحشد العشائري، والحشد الشعبي. وكذلك ذكرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أنه تم تسجيل حوالي (1200) هجوم عام 2018 في مناطق متفرقة من العراق منذ إعلان النصر على (تنظيم الدولة) وانتهاء الأعمال العسكرية في البلاد (5).
المنطقة الثانية: تشمل مطيبيجة (شرق مدينة سامراء في محافظة صلاح الدين)، وتمتد نحو الشمال الشرقي داخل محافظة نينوى لتشمل جزيرة الحضر وصحراء البعاج وسلسلة جبال العطشانة، ثم تنزل نحو الجنوب الغربي لتصل إلى وادي حوران داخل محافظة الأنبار على حدود سوريا، وتصل كذلك داخل صحراء الأنبار نحو الحدود مع السعودية. ويضم هذا المثلث مناطق صحراوية واسعة يصعب على القطعات العسكرية السيطرة عليها ومراقبتها، وقد سبق وأن اتخذها (تنظيم القاعدة) ثم (تنظيم الدولة) قواعد أمنية له من العام 2007م وحتى العام 2014.
المنطقة الثالثة: يطلق عليها "مثلث الموت" وتربط بين محافظة نينوى في الشمال، ومحافظة صلاح الدين في الجنوب، ومحافظة كركوك في الشمال الشرقي، وهي منطقة وعرة تحيطها تلال جبال حمرين، ويمر عبرها الطريق الرئيسي بين شمال العراق ووسطه.
وتوفر هذه المناطق النائية ملاذات لعناصر (تنظيم الدولة)، ونقاط انطلاق لشن هجمات جديدة، تتخذ صيغة كر وفر، بعد أن خسر التنظيم مقومات القوة للسيطرة على مدن جديدة، وفقد الكثير من قدراته العسكرية والبشرية، وكذلك فقدانه للحاضنة الاجتماعية التي ترفض وجوده في مناطقها، بسبب الخراب الذي سببه لها، وأصبحت مهمة تجنيده للشباب شبه مستحيلة، ولكنه بنفس الوقت لا يزال يشكل تحدياً أمنياً، لا سيما وأن عناصره التي نجحت بالانسحاب دون قتال من المدن، صارت بين خياري الاعتقال والإعدام أو القتال حتى الموت.
وتتخذ هجمات التنظيم الحالية شكل الغارات التي يضرب فيها أهدافاً محددة، كالاغتيال، والخطف، أو يدمر فيها أهدافاً معينة كنقاط المراقبة، والحراسة، أو حواجز التفتيش، أو حتى قطع الطرق لفترات معينة، أو القيام بشن عمل عسكري واسع النطاق بالتعرض على عدة نقاط وفي أماكن متعددة ومناطق مختلفة، ثم ينسحب إلى قواعده الأمنية التي انطلق منها، وبالطبع فالهدف هو تعزيز المؤشرات على بقاء التنظيم واستمرار قدرته على زعزعة الأمن.
وفي آخر التصريحات الأمريكية فيما يخصّ قوة (تنظيم الدولة) قال مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية دان كوتس في تقرير استعرضه أمام الكونغرس في 30 يناير/كانون الثاني2019 "إن (تنظيم الدولة) ما يزال يشكل تهديداً قوياً في الشرق الأوسط، ويدير آلاف المقاتلين في العراق وسوريا، ولديه ثمانية فروع وأكثر من (12) شبكة وآلاف المناصرين المنتشرين حول العالم رغم خسائره الجسيمة في القياديين والأراضي". وأضاف "إن التنظيم استولى في السابق على مناطق واسعة من سوريا والعراق ولكنه تراجع حالياً إلى جيب صغير، وسيستغل فرصة تراجع الضغوط ضد الإرهاب للعودة"، ورجح كوتس أن يواصل التنظيم السعي لشن هجمات خارجية من العراق وسوريا ضد أعدائه في المنطقة والغرب بمن فيها الولايات المتحدة. فيما قال وزير الدفاع الأميركي بالوكالة باتريك شاناهان "إنّ التنظيم أوشك أن يخسر جميع مناطقه المتبقية في سوريا "خلال أسبوعين" وأنّ خطر الإرهاب تم تقليصه بشكل كبير". (12)
ويبدو أنّ الأجهزة الأمنية والعسكرية لم تأخذ العبرة من أحداث يونيو/حزيران عام 2014، حيث كانت التصرفات الاستفزازية للقوات الأمنية تجاه السكان المحليين من أهم الأسباب التي دفعت هذه المناطق للخروج على الحكومة، واليوم تعود نفس التصرفات من الأجهزة الأمنية مثل اعتقال الكثير من الرجال والشباب ممن لا صلة لهم بـ(تنظيم الدولة)، وإطلاق التهم الكيدية للابتزاز، وتغييب أعداد كبيرة من المدنيين إلى يومنا هذا، بالإضافة إلى ابتزاز الناس وفرض الأتاوات وهذا ما يجعلها بيئة غير مستقرة أمنياً وسياسياً واجتماعياً، وتشكل تحدياً أمنياً كبيراً قد يدفع باتجاه خروج هذه المناطق مرة أخرى بسبب الاستفزازات التي تتبعها القوات الحكومية مع السكان المحليين.
لقد اقتصر دور القوات الحكومية في مواجهة (تنظيم الدولة)، بعد خروجه من المدن، على العمل الاستخباري ووضع خطط لتمشيط المناطق النائية والصحراوية التي تعتبر شاسعة ومترامية الأطراف، ولا يمكن السيطرة عليها، وغالباً ما تتركز هذه العمليات على تعقّب خلايا التنظيم القريبة من المدن لأبعاد خطرها كي لا تمنحه فرصة شن هجمات جديدة على المدن وإرباك الوضع الأمني، علماً أنّ طيران التحالف الدولي والطيران العراقي ينفذان ضربات مستمرة تستهدف مواقع تواجده وتنقل أفراده، كما تحاول الاستخبارات العسكرية وجهاز المخابرات العراقي متابعة تفكيك الخلايا النائمة لـ (تنظيم الدولة) وتقديم المعلومات اللازمة للقوات الأمنية والاستخباراتية والعسكرية لمواجهته.
أولاً: الأخطاء الإستراتيجية الكبيرة التي وقع فيها (تنظيم الدولة) والتي منها إعلان الدولة التي لم يحسب كيفية الدفاع عنها ومواجهة التفوق الجوي للطرف الآخر.
ثانياً: غياب الرؤية لدى التنظيم حينما قام بفتح المواجهة مع الأكراد واليزيديين، وهو ما تسبب في فتح جبهات جديدة، في حين كان يبدو أنّ هدفه يتحدد باستهداف بغداد.
غير أن سيناريو آخر يمكن أن يظهر في حال تعامل (تنظيم الدولة) بطريقة مختلفة مع أخطائه الاستراتيجية، والتوقعات هنا تتجه إلى:
وقد خسر (تنظيم الدولة) جميع المدن والأراضي التي سيطر عليها في العراق، ولكنه لا يزال ينفذ عمليات أمنية بمجموعات صغيرة متحركة لا يستهدف فيها السيطرة على المدن والأراضي، وإنما القيام باستنزاف القوات الحكومية، فنهاية (تنظيم الدولة) في العراق لن تكون إلا بانتهاء الأسباب الموضوعية التي أوجدته وساعدت على ظهوره. ومن هذه الأسباب الفوضى السياسية والأمنية، نتيجة تفشي ظاهرة انتشار السلاح، وظهور الميليشيات المسلحة خارج إطار الدولة، وتردي الخدمات، والاستبداد السياسي والفساد والغبن الاجتماعي، وعدم توفر العدالة والسياسات الطائفية التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة.
إن تضارب المصالح بين الفاعلين يجعل التنظيم يستفيد منها ويعيد ترتيب صفوفه، فهو يحاول التموضع في ثنايا الاختلافات المحلية والإقليمية والدولية ومنها: تصاعد حدة التهديدات بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وتأثير هذه المواجهة المحتملة على الملف العراقي، وكذلك يحاول التنظيم أن يستغل ويستثمر حالة عدم الاستقرار السياسي الداخلي وضعف الحكومة المركزية وأجهزتها الأمنية، والاستفادة من الخلافات الداخلية بين المكونات الرئيسية، والخلافات بين الكتل السياسية ضمن الطائفة الواحدة، وبين الحكومة المركزية وحكومة الإقليم في كردستان، ويحاول التنظيم أن يوظف الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها الحشد الشعبي في المناطق السنية ليقوم بتجنيد الشباب فيها، وسيوظف أيضا عدم قدرة الحكومة على إعادة الإعمار لإيجاد حاضنة اجتماعية داعمة له.
وبرغم خسارة التنظيم للمدن الكبرى في العراق وسوريا والاستنزاف الواسع لقدراته البشرية والمادية، إلا أنه لا يزال يشكل تهديداً حقيقياً، خصوصاً وأنّه انسحب من الكثير من المدن في العراق بدون قتال تاركاً بعض وحدات التعويق، لذلك جاء رد التنظيم سريعاً على إعلان النصر الذي أعلنته الحكومة العراقية في 9 ديسمبر/كانون الأول 2017م بسلسلة من العمليات في مناطق متفرقة من العراق، وذلك من خلال القيام بعمليات الخطف والاغتيال ونصب نقاط التفتيش الوهمية والكمائن، وبذلك فهو سيبقى يشكل تهديداً للأمن القومي، لكنه لن يستطيع السيطرة على المدن كما حصل بعد حزيران عام 2014.
وقد تظهر تنظيمات جديدة تكون أشد قسوة من (تنظيم الدولة) بعد أن تقوم بانتقاد الأخطاء التي وقع فيها التنظيم لكي تكون لهم مقبولية، ولكسب الحاضنة من جديد، وهذا يحتاج إلى وقت طويل. وستحاول هذه التنظيمات أن تستفيد من تصرفات القوات الحكومية لتوظيفها، وخاصة وجود الحشد وسيطرته على المناطق السنية، بالإضافة إلى الانتهاكات الخطيرة والتي قامت بها القوات الحكومية في أثناء استعادة المناطق ومن ضمنها المغيبين قسراً، ومنع المهجرين من الرجوع إلى منازلهم، والخلافات السياسية بين الكتل السياسية في العراق.
(1) الاتفاقية الأمنية العراقية الامريكية،4 ديسمبر/ كانون الأول 2008، (تاريخ الدخول: 29يناير 2019): https://goo.gl/yWLnVc
(2) روسيا اليوم، قائد العمليات: تحرير الفلوجة بالكامل من "داعش"، 26يونيو/حزيران 2016، (تاريخ الدخول: 29يناير 2019): https://arabic.rt.com/news/829518
(3) انطلاق معركة تكريت، 9 ديسمبر/ كانون الأول 2017، (تاريخ الدخول: 29يناير 2019):
(4) رئيس الوزراء العراقي يعلن رسميا انتهاء الحرب مع تنظيم الدولة الإسلامية، 9ديسمبر/ كانون الأول 2017(تاريخ الدخول: 29يناير 2019): https://www.youtube.com/watch?v=_ff2kLPdIrk
(5) نيويورك تايمز: 1200 هجوم لتنظيم الدولة "داعش" بعد إعلان هزيمته في العراق، 22يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول: 29يناير 2019): https://yaqein.net/politics/171487
(6) واشنطن بوست: داعش الإرهابي لا يزال قوة إرهابية قاتلة في سوريا والعراق، 20ديسمبر/كانون الأول 2018، (تاريخ الدخول: 29يناير 2019): http://albaghdadiyagroup.com/news/articles/oashntn-bost-daash-alrhabe-l…
(8) نفس المصدر السابق.
(9) الشرطة العراقية تنعي جنودا أعدمهم تنظيم داعش، 24مارس/أذار 2018، (تاريخ الدخول: 29يناير 2019):https://sptnkne.ws/hcJU
(10) التايمز: ما مدى دقة التقارير القائلة بانتهاء تنظيم الدولة؟،16أغسطس /أب 2018، (تاريخ الدخول: 29يناير 2019): https://arabi21.com/story/1116235
(11) ما حقيقة انتهاء تنظيم الدولة؟ ،21يناير/ كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول:29 يناير/كانون الثاني 2019) :https://goo.gl/GtcJ8j
(12)الاستخبارات الوطنية الأميركية: تنظيم الدولة لا يزال لديه آلاف المقاتلين، 30يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول 30يناير/كانون الثاني 2019) : https://goo.gl/oLmRUZ