غزة: الدور والمآل في سياق الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي

تناقش الورقة جملة محددات تحكم مواقف كل الأطراف إزاء غزة، وخاصة الطرف الإسرائيلي الذي يريد تعزيز الفصل بين الضفة وغزة، وتستشرف مصير القطاع ومآلاته التي منها هدنة طويلة أو الانزلاق لحرب استئصال لحماس.
9f5e46c86f2b46cc8fe2ebbcc8d0a401_18.jpg
تأتي الغارات الجوية الإسرائيلية في قطاع غزة ضمن استراتيجية "المواجهة بين الحروب"، وتهدف إلى قضم مقدرات "المقاومة العسكرية" وإضعافها. (رويترز)

مقدمة
طرأت منذ ثلاثة عشر عامًا، أربعة تحولات مفصلية دفعت غزة إلى واجهة الأحداث وجعلتها الساحة الرئيسة للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ومحور الانقسام الفلسطيني الداخلي، إلى جانب إسهامها في جعل هذه البقعة الجغرافية في بؤرة بعض المشاريع الهادفة إلى تسوية الصراع.

فقد مهَّد التحول الأول، المتمثل في فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية، عام 2006، وتشكيل الحركة الحكومة الفلسطينية العاشرة، لمرحلة جديدة، لم تقتصر مظاهرها فقط على فرض الحصار المشدد على غزة، الذي أسهم في تدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية بشكل كبير، بل مثَّل أيضًا نقطة تحول فارقة في المواجهة العسكرية بين إسرائيل وحركات المقاومة العاملة في القطاع(1). 

 أما التحول الثاني فتمثل في اندلاع الاقتتال الفلسطيني الداخلي في صيف 2017 وسيطرة حركة حماس على قطاع غزة؛ الذي أدى إلى تكريس الانقسام الداخلي (الذي لم تنجح كل اتفاقيات المصالحة التي تم التوصل إليها منذ ذلك الوقت، في وضع حد له).

وتجسد التحول الثالث في صعود اليمين الإسرائيلي للحكم عام 2009، حيث عمدت حكومات اليمين إلى تبني سياسات تهدف إلى تكريس الفصل السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ليتسنى لتل أبيب تسويغ التخلي عن المسار التفاوضي مع السلطة الفلسطينية، بذريعة أن القيادة الفلسطينية لا تمثل الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ وهذا ما يمنح حكومات اليمين حسم مصير الضفة تحديدًا من خلال التوسع في تدشين المشاريع الاستيطانية التي تهدف إلى تهويد الضفة والقدس، ورفض الانسحاب من الضفة الغربية وإقامة الدولة الفلسطينية. وأسهمت سياسات حكومة اليمين في توفير البيئة التي تمهد لبروز مشاريع التسوية التي تستثني الضفة من الحلول.

والتحول الرابع يتمثل في صعود دونالد ترامب للحكم في الولايات المتحدة الأميركية، نهاية 2016، والذي أفضى إلى اهتمام الإدارة الأميركية الجديدة ببلورة صيغ تسوية للصراع، تؤكد بعض التسريبات أنها تنطلق من جعل غزة المرتكز الذي يستند إليه أي كيان فلسطيني مستقبلي، من خلال ضم مساحة من شمال سيناء إليه(2). وفي حال كانت بعض التفاصيل المسربة والمتعلقة بالخطة الأميركية صحيحة، فإن فرص تطبيقها ستكون متدنية جدًّا، حتى بمعزل عن المواقف الفلسطينية منها، على اعتبار أنها تتطلب حدوث تحولات جذرية في مواقف الدول العربية الأكثر ارتباطًا بالقضية الفلسطينية، سيما التي تؤوي اللاجئين الفلسطينيين(3).

وفي مقابل تأثير هذه التحولات، فإن طابع المواقف الفلسطينية، وتعارُض الاعتبارات التي توجه سياسات إسرائيل تجاه غزة وتناقض مصالح بعض القوى الإقليمية، قد تقلِّص فرص نجاح المحاولات الهادفة لجعل غزة المرتكز الرئيس لتسوية الصراع.

أزمة خيارات إسرائيلية
ترصد إسرائيل عدة مصادر تهديد استراتيجي تشكلها غزة تحت حكم حركة حماس؛ فحركة حماس ترفض الاعتراف بإسرائيل وتدعو إلى القضاء عليها من خلال العمل العسكري، ووظفت سيطرتها على القطاع لبناء قوة عسكرية، لاسيما على صعيد المنظومة الصاروخية، حتى باتت تمثل تحديًا جديًّا للعمق الإسرائيلي. إلى جانب ذلك، فإن تدهور الأوضاع الاقتصادية في القطاع بسبب الحصار وخشية الحركة من أن يسهم هذا الواقع في تفجر غضب جماهيري ضدها، يجعلها أكثر استعدادًا للتصعيد العسكري ضد إسرائيل على أمل أن تسفر أية تسوية أو تفاهمات، إثر ذلك، في تحسين الواقع الاقتصادي والإنساني(4). كما أن قرب غزة الجغرافي من تجمعات سكانية كبرى ومرافق عسكرية ومدنية حساسة داخل إسرائيل، فاقم من خطورة امتلاك المقاومة في غزة لقوة عسكرية تهدد هذه المرافق(5).

لكن على الرغم من مصادر التهديد التي تمثلها غزة، إلا أن هناك العديد من الأسباب تفسر تجنب حكومات اليمين القيام بعمل عسكري بري واسع يهدف إلى القضاء على البنية العسكرية للمقاومة الفلسطينية، من أهمها:

1. إن تفكيك البنية العسكرية لحماس يتطلب القيام بعملية برية تنتهي بإعادة احتلال غزة وإسقاط حكم الحركة(6)؛ حيث يبدي الرأي العام الإسرائيلي معارضة قوية لشنِّ عملية برية واسعة في القطاع لأنها ستفضي إلى سقوط عدد كبير من جنود الاحتلال(7).

2. يدرك اليمين الإسرائيلي أن إسقاط حكم حركة حماس سيُلزمه بالسعي لاستقدام جهة أخرى لإدارة قطاع غزة لمواجهة تبعات الفراغ في السلطة؛ حيث إن هذا الفراغ سيمثِّل مصدر تهديد خطير لجنوب إسرائيل. ولا يبدي اليمين الإسرائيلي استعدادًا لإعادة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة لملء الفراغ هناك، لإدراكه أن السلطة الفلسطينية لن تقبل القيام بهذا الدور إلا في إطار خطة شاملة تستند إلى "حل الدولتين"، بما يضمن موافقة إسرائيل على قيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، وهو ما يتعارض مع المنطلقات الأيديولوجية لهذا اليمين.

ومن أجل تكريس الفصل السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، فقد عمدت حكومة اليمين إلى عدم السماح للسلطة باحترام اتفاق المصالحة الذي تم التوصل إليه في القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول 2017، وهددت بإجراءات عقابية في حال عمدت إلى تطبيق بنوده(8). ولكي تتجاوز خيار اللجوء إلى السلطة الفلسطينية، فقد عرضت حكومة اليمين على عدد من الدول العربية إدارة مقاليد الأمور في القطاع في حال تم إسقاط حكم حركة حماس؛ إلا أن هذه الدول رفضت العرض(9).

هذا، وقد أفضى قرار ترامب بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، وما سبقه من قرارات بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، إلى تقليص فرص تعاون أي طرف فلسطيني أو عربي مع خطة التسوية الأميركية، خشية من أن يقدم الرئيس الأميركي على إصدار اعتراف مماثل بالسيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية(10).

واستنادًا إلى ما سبق، فإن خيارات التعامل مع غزة التي ستكون متاحة أمام حكومات اليمين مستقبلًا، ستنحصر في:

أولًا: العمل على ردع الفصائل الفلسطينية ومحاولة إجبارها على منع تنفيذ العمليات انطلاقًا من القطاع وذلك عبر تنفيذ غارات جوية ضد أهداف المقاومة في أعقاب أي سلوك عسكري ينطلق من القطاع(11). ويأتي تنفيذ الغارات الجوية في قطاع غزة ضمن استراتيجية "المواجهة بين الحروب"، وتهدف إلى قضم مقدرات "المقاومة العسكرية" من أجل إضعافها، بشكل يسهِّل على إسرائيل حسم الحروب المستقبلية لصالحها(12).

ثانيًا: محاولة التوصل لتفاهم تهدئة طويل الأمد مع حماس برعاية مصرية، تلتزم إسرائيل بموجبه بتخفيف الحصار على القطاع وتسمح بدخول المساعدات الخارجية، مقابل التزام حماس بوقف إطلاق الصواريخ وإنهاء المناشط "العنيفة" في حراك مسيرات العودة، مثل إطلاق البالونات الحارقة وعمليات اختراق الجدار الحدودي.

واستنادًا إلى تجربة تفاهمات التهدئة التي تم التوصل إليها بين حماس وإسرائيل برعاية مصرية منذ بدء حراك مسيرات العودة، في 30 مارس/آذار 2018، فإن فرص صمود مثل هذا التفاهم تبدو محدودة، على اعتبار أن هذه التفاهمات لم تسهم في إحداث تحول جدي في الواقع الاقتصادي والإنساني في القطاع. كما أن إسرائيل ترفض توجيه الدعم المالي الذي تقدمه دولة قطر لتسديد رواتب موظفي حكومة حماس؛ وهو ما يقلِّص فرص احترام الحركة للتهدئة لعدم إسهامها في تحسين الظروف المعيشية للعاملين في المؤسسات الحكومية والأجهزة الأمنية التابعة لها.

ثالثًا: التسليم بحكم حركة حماس والسماح بتدشين بنى تحتية ضخمة تحسِّن الواقع الاقتصادي، ومن ضمن ذلك تدشين ميناء ومطار، وفقًا لما تنص عليه الخطة التي أعدها يسرائيل كاتس، الذي يشغل حقائب الخارجية والاستخبارات والمواصلات في حكومة نتنياهو(13). ونظرًا لأن خطة كاتس ترمي بشكل أساس إلى تكريس الفصل السياسي بين الضفة وغزة لإسدال الستار على أية فرصة لتدشين دولة فلسطينية في الضفة؛ فإن فرص أن توافق الدول الأوروبية والعربية على تمويلها متدنية جدًّا، خاصة وأنها ستؤدي إلى تكريس حكم حركة حماس.

محددات موقف السلطة الفلسطينية
لدى كل من السلطة الفلسطينية وحركة فتح مصلحة واضحة في استعادة قطاع غزة من خلال الإقدام على خطوات تهدف إلى إفشال تجربة حكم حركة حماس ومحاولة دفعها لترك حكم القطاع؛ فقيادة السلطة تعي أن اليمين في إسرائيل يرمي من خلال تكريس الفصل السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة إلى توفير مسوغات لتبرير ضم الضفة الغربية أو أجزاء كبيرة منها(14). إلى جانب ذلك، فإن قيادة السلطة تحاجج بأن تفاهمات التهدئة التي تتوصل إليها حماس وإسرائيل برعاية مصرية يمكن أن تمهد الطريق أمام تطبيق ما تسمى بـ"صفقة القرن" من خلال احتضان قطاع غزة الكيان الفلسطيني العتيد. وتتخوف السلطة من أن تمس سيطرة حماس على غزة بقدرتها على تقديم نفسها كممثل للشعب الفلسطيني عند تحركها في المحافل الدولية، في حين أنها تحمِّل حركة حماس المسؤولية عن إفشال تطبيق اتفاقات المصالحة التي تم التوصل إليها برعاية مصرية.

هذا، وترى قيادة "فتح" أن استتباب الأمور لحماس في قطاع غزة سيمنح الحركة القدرة على تهديد استقرار السلطة في الضفة الغربية من خلال عمليات المقاومة التي تستهدف الاحتلال(15). وتتهم قيادة السلطة، في هذا السياق، حماس في غزة بالوقوف وراء تنفيذ العمليات في الضفة الغربية بهدف توفير مسوغات لإسرائيل للعمل ضدها(16).

ومن أجل تحقيق أهدافها، عمدت قيادة السلطة إلى فرض العقوبات الاقتصادية، مثل قطع رواتب آلاف الموظفين إلى جانب تقليص رواتب بقيتهم، وتقليص الموازنات التشغيلية لجميع الوزارات والتوقف عن تسديد فاتورة شراء الوقود الذي يشغِّل محطة توليد الكهرباء الوحيدة، وغيرها من الإجراءات.

ويمكن للعقوبات الاقتصادية التي تفرضها السلطة أن تقود حماس نحو التصعيد مع إسرائيل لتلافي تبعات انهيار الأوضاع الاقتصادية؛ ومن الممكن أن تُفضي مواجهة شاملة مع تل أبيب إلى إسقاط حكم حماس(17).

 وكانت قيادة السلطة قد شجعت الجماهير الفلسطينية على الاحتجاج على مظاهر تدهور الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة، من خلال دعم حراك "بدنا نعيش"، الذي انطلق في بعض مناطق القطاع في مارس/آذار الماضي (2019)؛ والذي تخللته مواجهات بين عناصر شرطة حماس والمتظاهرين(18). ومن أجل ضمان الحفاظ على تأثير عقوباتها الاقتصادية، اعترضت السلطة الفلسطينية على مظاهر تخفيف الحصار عن غزة الذي أقدمت عليه مصر، مثل إعادة فتح معبر رفح الحدودي؛ على اعتبار أنه يقلص فرص استجابة حماس لمطالب السلطة الفلسطينية(19).

وفي الوقت الذي قامت فيه الولايات المتحدة بقطع مساعداتها المالية عن الأجهزة الأمنية والمدنية في السلطة الفلسطينية، وأقدمت فيه إسرائيل على اقتطاع قيمة الرواتب والمخصصات التي تدفعها السلطة لعوائل الأسرى والشهداء والجرحى من عوائد الضرائب، التي تجبيها لصالح السلطة في رام الله، فإن قيادة السلطة تخشى أن تضطر إسرائيل تحت وطأة الحاجة إلى ضمان الهدوء على الحدود مع غزة، إلى تخصيص جزء من هذه العوائد لتحسين الواقع الاقتصادي في القطاع، ما يمكِّن حكومة حماس من الوفاء بالتزاماتها المالية لموظفي مؤسساتها وأجهزتها الأمنية(20).

غزة في اعتبارات حركة حماس
يعد الحفاظ على نفوذها في قطاع غزة أحد أهم الاعتبارات التي توجه حركة حماس في ظل الواقع الداخلي والإقليمي الحالي؛ فقد باتت غزة ساحة الفعل الرئيسة لحماس؛ حيث أمَّن لها نفوذها في القطاع القدرة على بناء قدرات عسكرية مكنتها من ممارسة برنامجها "العسكري"، بعدما تراجع حضورها في الضفة الغربية إلى حد كبير بفعل الضربات التي يوجهها لها الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية التابعة للسلطة. وأسهمت التحولات الإقليمية في تقليص قدرة الحركة على العمل خارجيًّا، سيما بعد تعاظم مظاهر عداء بعض أنظمة الحكم العربية لها، إثر دور الإسلاميين في "الثورات العربية". كما أسهمت نتائج الانتخابات الداخلية الأخيرة، والتي أفضت -لأول مرة- إلى فوز ممثل غزة، إسماعيل هنية، برئاسة المكتب السياسي للحركة، في تعزيز مكانة غزة في عملية صنع القرار داخل الحركة.

وعلى الرغم من أن الحركة وافقت في اتفاق المصالحة الأخير، على عودة حكومة "الوفاق الوطني" لاستلام مقاليد الأمور في غزة، إلا أنها أصرت على مواصلة احتفاظها بسلاحها وإمكانياتها العسكرية، على اعتبار أن "مهمة التحرير لم تُنجز بعد"، وهذا ما يمنحها قدرًا كبيرًا من النفوذ(21). لكن تدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في قطاع غزة إثر الحصار يمثل تحديًا كبيرًا لاستقرار سيطرة حماس على القطاع، فبحسب تقارير البنك الدولي، فإن معدلات البطالة في القطاع تعتبر الأعلى عالميًّا، حيث بلغت 47.7%، إلى جانب أن 65% من السكان يعيشون تحت خط الفقر؛ فضلًا عن انعدام الأمن الغذائي وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي إذ إن حوالي 80% من السكان يتلقون مساعدات المؤسسات الإغاثية الدولية(22).

وعلى الرغم من محدودية حراك "بدنا نعيش"، واقتصاره على مناطق محددة في القطاع، إلا أن حماس تعي أنَّ تواصل مظاهر تدهور الأوضاع الاقتصادية في القطاع قد يفضي في المستقبل إلى احتجاجات أوسع يمكن أن تهدد قدرتها على مواصلة إدارة القطاع، ما جعلها أكثر استعدادًا للتصعيد ضد إسرائيل، من أجل إجبار تل أبيب على فك الحصار أو تخفيفه، سواء عبر إتاحتها لـ"حراك مسيرات العودة"، أو المبادرة إلى استهداف العمق الإسرائيلي بالصواريخ.

غزة والحسابات الإقليمية
يعد التعامل مع قطاع غزة تحت حكم حماس معضلة للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي. فهو يعادي حركة حماس بوصفها إفرازًا لجماعة الإخوان المسلمين ويفضِّل عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، سيما بعد فشل التفاهمات التي توصلت إليها حماس مع محمد دحلان، القيادي السابق في حركة "فتح"، المقرَّب من القاهرة. واضطر السيسي للتعامل مع حركة حماس وتحسين علاقته معها بسبب حاجته لتعاونها في حفظ الحالة الأمنية في شمال سيناء، كما أنه يرى في دوره كوسيط لإنجاز تفاهمات التهدئة بين حماس وإسرائيل، أحد أهم الأوراق التي تخدم "مصالح نظامه" لدى كل من تل أبيب وواشنطن(23).

وفيما يتعلق بمواقف الدول الخليجية من غزة، فإنه في حال صحَّت بعض التسريبات المتعلقة بـ"صفقة القرن"، فإن إدارة ترامب تنطلق من افتراض مفاده أنه يقع على عاتق كل من السعودية والإمارات تحديدًا مسؤولية إحداث تحول جذري في الواقع الاقتصادي في قطاع غزة لتأهيله ليكون المركز السلطوي للكيان الفلسطيني المستقبلي(24).

سيناريوهات محتملة
إن السعي لتكريس الفصل السياسي بين الضفة والقطاع يملي على اليمين الإسرائيلي تجنب خيار شن عمل عسكري قد يفضي إلى إعادة احتلال قطاع غزة؛ ويدفعه لمواصلة تبني أنماط السلوك الحالية، التي تتراوح بين الرد بجولات من التصعيد على عمليات إطلاق الصواريخ، ومحاولة التوصل لتفاهمات تهدئة بين الحين والآخر عبر توظيف الوساطة المصرية.

لكن في حال فشلت إسرائيل في التوصل لتفاهم تهدئة طويل المدى مع حماس، وعمدت الفصائل الفلسطينية إلى مواصلة إطلاق الصواريخ على العمق الإسرائيلي ردًّا على تواصل تدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية، فإن حكومة اليمين، تحت ضغط الرأي العام الإسرائيلي، قد تلجأ إلى شنِّ عمل عسكري واسع للقضاء على البنى العسكرية والتنظيمية للمقاومة التي تمثل تهديدًا للعمق الإسرائيلي (سيما تلك المتعلقة بالمنظومة الصاروخية: مَعَامل، صواريخ، منصات إطلاق)، إلى جانب تنفيذ عمليات اغتيال ضد قادة سياسيين وعسكريين في حركة حماس، بهدف ترميم قوة الردع الإسرائيلية. ولتجنب إطالة أمد المواجهة العسكرية كما حدث خلال الحرب التي شنتها في صيف 2014، (وهو ما تسبب في حينه في توجيه مراقب الدولة انتقادات لاذعة للمستويين، السياسي والعسكري، في تل أبيب)، فإن حكومة اليمين قد تأمر الجيش بعدم الاكتفاء بحملة قصف جوية، بل الشروع في تنفيذ مناورة برية واسعة في عمق القطاع بهدف السيطرة على المناطق التي تحتضن المرافق العسكرية للمقاومة، لتحييدها في أسرع وقت ومحاولة المس بأكبر عدد من قيادات وعناصر الجهاز العسكري لحماس، وهذا ما قد يفضي عمليًّا إلى إعادة احتلال القطاع وإسقاط حكم الحركة.

ولا يمكن استبعاد أن يمهد إعادة احتلال غزة والقضاء على بنية المقاومة لتوفير بيئة تسمح بظهور أطراف محلية داخل القطاع يمكن أن تكون مستعدة لإدارة زمام الأمور هناك، عبر التعاون مع الأمم المتحدة وأطراف إقليمية؛ تحت وطأة الحاجة لمواجهة نتائج الحرب وتبعات الدمار الشامل، الذي سيلحق بقطاع غزة(25).

ولكن بين يدي هذا السيناريو، لا يمكن تجاهل تأثير الواقع الأمني والاقتصادي في الضفة الغربية على توجهات اليمين الإسرائيلي النهائية إزاء القطاع. ففي حال تحققت التقديرات الإسرائيلية التي تتوقع انفجار الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية بشكل يفضي إلى انهيار السلطة الفلسطينية هناك، فإن أنماط تعاطي اليمين الإسرائيلي تجاه غزة ستكون مغايرة. فحسب التقديرات السائدة في تل أبيب فإن محفزات انفجار الأوضاع الأمنية في الضفة تتمثل في تردي الأوضاع الاقتصادية إثر العقوبات المالية غير المسبوقة التي فرضتها حكومة اليمين وقرار إدارة ترامب قطع المساعدات المالية عن السلطة، ورغبة أحزاب اليمين الديني الإسرائيلية في إحداث تغيير على الوضع القائم في المسجد الأقصى، وتهاوي رهان الجمهور الفلسطيني على برنامج التسوية، إلى جانب تأثير الاعتداءات التي ينفذها المستوطنون، وتحديدًا التشكيلات الإرهابية اليهودية، وعلى وجه الخصوص تشكيل "شارة ثمن"(26).

وفي حال تحقق هذا السيناريو، فإنه سيقلِّص بشكل كبير من فرص اندلاع مواجهة مع غزة، على اعتبار أن إسرائيل ستكون معنية بالتفرغ لمواجهة التحولات في الضفة الغربية ذات الأهمية الاستراتيجية لأمنها "القومي"، وقد يضطرها ذلك لتكون أكثر استعدادًا لتحسين الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في غزة بشكل جذري، لتجنب خطر الاضطرار لخوض مواجهة على جبهتين في آن معًا.

_________________________________________________________________

*الدكتور صالح النعامي: باحث وصحفي متخصِّص في الشأن الإسرائيلي وتقاطعاته العربية والفلسطينية والإسلامية.

ABOUT THE AUTHOR

References

 

1- منذ ذلك الوقت شنَّت إسرائيل ثلاث حروب وأربع حملات عسكرية محدودة على قطاع غزة؛ إلى جانب اندلاع عدد كبير من جولات التصعيد العسكري.

2- هناك تسريبات متعارضة حول ما يفترض أن تتضمنه هذه الخطة بشأن غزة؛ فبعض التسريبات تشير إلى أن هذه الخطة تنطلق من افتراض أن غزة ستكون مركز الثقل السلطوي للكيان الفلسطيني المستقبلي عبر ربطها بأراض في شمال سيناء. وهناك تسريبات أخرى تشير إلى أن هذه الخطة تتعامل مع غزة كجزء من كيان يضم الضفة الغربية.

3-"110 مليارات لمصر والأردن وكونفيدرالية بين «دول» ثلاث"، الأخبار، 4 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول: 5 أبريل/نيسان 2019): https://bit.ly/2Ibm88w

 

4- يُجمع عدد كبير من الخبراء الأمنيين الإسرائيليين على أن تدهور الأوضاع الاقتصادية وعدم امتلاك غزة ما تخسره جعل حماس عصية على الردع. انظر: كاسبيت، بن، "القوة الإسرائيلية حقيقية، لكنها لم تكن في يوم من الأيام باهتة كما هي الآن"، معاريف، 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2018):  https://bit.ly/2ODKF7f

5- على بعد 20-30 كلم من حدود غزة، تقع مدن إسرائيلية ذات كثافة سكانية عالية، كما تنتظم هناك عدة مرافق حيوية، مثل أكبر محطة لتوليد الكهرباء، ومجمعات بتروكيماوية، وعدد كبير من القواعد والمطارات العسكرية.

6- يرى "مركز أبحاث الأمن القومي" الإسرائيلي أنه لا يمكن القضاء على البنية العسكرية لحماس وتحييد تأثير قوتها العسكرية إلا من خلال إعادة احتلال القطاع وإسقاط حكم الحركة. انظر: ديكل، أودي، "استراتيجية الردع في مواجهة حماس استنفدت"، مباط عال، 18 مارس/آذار 2019، (تاريخ الدخول: 18 مارس/آذار 2019):  https://bit.ly/2FqCxE5

7- كشف النقاب عن أن استطلاعات رأي عام سرية أُنجزت لصالح ديوان نتنياهو دلَّلت على أن الشارع الإسرائيلي يبدي معارضة قوية لشن عمل بري واسع على القطاع. انظر: لدار، عكيفا، "هل الحكومة القادمة ستتغلب على الحاجز وتتصرف بشكل مختلف مع غزة؟"، المونيتور، 28 مارس/آذار 2019، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2019): https://bit.ly/2YKzsqe

8- عدَّد المعلق الإسرائيلي بن كاسبيت الإجراءات التي اتخذها نتنياهو من أجل إحباط الاتفاق. انظر: كاسبيت، بن، "بإمكان إسرائيل منع المظاهرات على الجدار"، المونيتور، 25 أبريل/نيسان 2018، (تاريخ الدخول: 25 أبريل/نيسان 2018): https://bit.ly/2GlFovv

9- ميلمان، يوسي، "لنتنياهو يوجد تحديدًا سياسة تجاه غزة، وهي ستقود إلى حرب أخرى في الجنوب"، معاريف، 30 مارس/آذار 2019، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2019): https://bit.ly/2uBZJci

10- هذا على الأقل ما يتوقعه الكثير من المراقبين في إسرائيل. انظر: إلداد، آريي، "محقة نخب اليسار التي تتخوف من أن يمثل اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة على الجولان مقدمة لخطوة مماثلة إزاء الضفة الغربية"، معاريف، 2 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول: 2 أبريل/نيسان 2019): https://bit.ly/2YHO2Pi

11- يعدد "مركز أبحاث الأمن القومي" الإسرائيلي مظاهر الردع في مواجهة حركة حماس. انظر: ديكل، أودي، "استراتيجية الردع في مواجهة حماس استنفدت"، مباط عال، 18 مارس/آذار 2019، (تاريخ الدخول: 18 مارس/آذار 2019): https://bit.ly/2FqCxE5

12- للاطلاع أكثر على استراتيجية "المواجهة بين الحروب". انظر: شفطاي، شاي، "استراتيجية المواجهة بين الحروب"، معرخوت، (عدد 445، 2016)، ص ص 24-27.

13- إيخنر، إيتمار، "جزيرة اصطناعية قبالة غزة: كاتس يدفع للحسم في المجلس الوزاري المصغر لشؤون الأمن"، يديعوت أحرنوت، 21 يونيو/حزيران 2016، (تاريخ الدخول: 21 يونيو/حزيران 2016):  https://bit.ly/2FRc42I

14- زادت هذه المخاوف بعد إعلان نتنياهو خلال الحملة الانتخابية أنه عازم على ضم التجمعات الاستيطانية في الضفة لإسرائيل وفي أعقاب قرار ترامب الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان.

15- أحبطت إسرائيل خلال العام الماضي فقط 480 عملية حاولت حماس تنفيذها إلى جانب تفكيك واعتقال 219 خلية تابعة لها في أرجاء الضفة الغربية. انظر: سنيه، إفرايم، "يوجد بديل: على الحكومة القادمة العودة لتفاهمات أولمرت-أبو مازن"، المونيتور، 28 مارس/آذار 2019، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2019): https://bit.ly/2FC3wLY 

16- هذا ما أشار إليه الرئيس محمود عباس تعليقًا على عمليات المقاومة التي استهدفت جنود الاحتلال ومستوطنيه في الضفة في نوفمبر وديسمبر 2018، انظر: خليل، نائلة، "الرئيس الفلسطيني: الدستورية قررت حل المجلس التشريعي، ونحن ندفع ثمن عمليات حماس"، العربي الجديد، 22 ديسمبر/كانون الأول 2018، (تاريخ الدخول: 22 ديسمبر/كانون الأول 2018).  https://bit.ly/2EJenFJ

17- تتهم المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أبومازن صراحة بأنه يسعى من خلال فرض العقوبات الاقتصادية على القطاع إلى إشعال مواجهة مع حماس تفضي إلى إسقاط حكم الحركة في القطاع. انظر: فايس، دانا، "التقدير: أبومازن معني بمواجهة"، موقع القناة 12، 6 أكتوبر/تشرين الأول 2018، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2019): https://bit.ly/2TMMsaR

18- هذا ما عبَّر عنه وزير الشؤون المدنية وعضو اللجنة المركزية في "فتح"، حسين الشيخ. انظر: "الشيخ: نساند ونؤيد الحراك في غزة وهو شرف لا ندعيه وهناك معادلة بدأت تكسر"، سوا، 18 مارس/آذار 2019، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2019): https://bit.ly/2OClnGv

19- هذا ما عبَّر عنه عضو اللجنة المركزية للحركة محمد شتية، رئيس حكومة رام الله المكلف. انظر: "قيادي بفتح: لا نريد لمصر تنفيس إجراءاتنا ضد غزة"، صفا، 10 يوليو/تموز 2017، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2019): https://bit.ly/2HPWjLz

20-"عريقات: اقتطاع أموال الضرائب وتحويلها لغزة بهدف تمرير صفقة القرن"، القدس العربي، 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 31 مارس/آذار 2019): https://bit.ly/2FD1pHx

21- فسرت كل من إسرائيل والسلطة الفلسطينية إصرار حماس على الاحتفاظ بسلاحها في ظل عودة السلطة لتولي مقاليد الأمور في القطاع بأنها محاولة لاستنساخ تجربة حزب الله في لبنان.

22-"الوضع الاقتصادي في القطاع خلال العام 2018 الأشد كارثية"، فلسطين اليوم، 17 ديسمبر/كانون الأول 2018، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2019): https://bit.ly/2UnQbA4

23- يرى السفير الإسرائيلي الأسبق في القاهرة، حاييم كورين، أن مصر هو "الوسيط المؤتمن"، الذي يساعد إسرائيل على تحقيق مصالحها في القطاع. انظر: أيخنر، إيتمار، "40 عامًا على اتفاق السلام مع مصر: تجاوز اختبارات صعبة"، يديعوت أحرنوت، 26 مارس/آذار، 2019، (تاريخ الدخول: 26 مارس/آذار 2019):  https://bit.ly/2UocUfB

24-SPIRO, AMY," KUSHNER'S PEACE PLAN 'INCLUDES LAND SWAPS WITH SAUDI ARABIA,' BOOK CLAIMS", JERUSALEM POST, MARCH 20, 2019,( Wathed in: MARCH 20, 2019): https://bit.ly/2TV188h

25- في حال عاد أفيغدور ليبرمان، رئيس حزب "يسرائيل بيتينو"، لتولي منصب وزير الدفاع في الحكومة القادمة، كما يشترط للانضمام للائتلاف الجديد، فإن فرص شنِّ حرب على القطاع ستتعاظم؛ حيث إنه أوضح في حملته الانتخابية أن تصفية بنى المقاومة في القطاع يجب أن تكون على رأس أولويات إسرائيل.

26-  يتوقع إفرايم سنيه، الذي تولى قيادة الجيش الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، انفجار الأوضاع في الضفة وسقوط السلطة قبل انفجار مواجهة بين إسرائيل وحماس بسبب هذه العوامل. انظر: سنيه، إفرايم، "يوجد بديل: على الحكومة القادمة العودة لتفاهمات أولمرت-أبو مازن"، المونيتور، 28 مارس/آذار 2019، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2019):   https://bit.ly/2FC3wLY