أخلاق العائلية ومستقبل الديمقراطية في العالم العربي: جينيالوجيا متلازمة محاباة الأقارب وانعكاساتها السياسية

تُقدِّم هذه الورقة ملخصًا لدراسة موسعة نُشرت في العدد الثاني من مجلة لباب، الصادرة عن مركز الجزيرة للدراسات، وتبحث متلازمة المحاباة العائلية في المجتمعات العربية، منظورًا إليها من زاوية محدداتها، وتستقصي جذورها الضاربة في سطوة عوامل بنيوية تتجسد في الاقتصاد والبيولوجيا والمناخ والثقافة.
731371b44efc49479d0a25b17908d638_18.jpg
المحاباة العائلية تشكِّل خاصية ثقافية مشتركة بين المجتمعات العربية وتحتل مصر وموريتانيا واليمن والسودان المراتب العليا فيها (الجزيرة)

تنبني المجتمعات العربية من الناحية الوجدانية على مركزية القرابة كمتلازمة ثقافية وأخلاقية. فبالرغم من التحولات الديمغرافية والاجتماعية التي مسَّت بعضًا من ملامحها العامة، لا تزال هذه البنية تمارس تأثيرات جوهرية على الشخصية القاعدية للإنسان العربي في شتى مجالات الحياة. ويعني ذلك أن الحداثة البيولوجية المرتبطة بانقلاب الوظائف السياسية والاجتماعية للدم لم تنفذ إلى العمق الذي يسمح لها بزحزحة إحداثيات بنى القرابة، وأن المبدأ البيولوجي الذي كشفت عنه الأنثروبولوجيا الانقسامية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط ما زال يتولَّى هندسة المعتقدات والمواقف والسلوكيات المحددة للروابط الاجتماعية.

وبصرف النظر عن الأعراض الجانبية للتحديث الاجتماعي على مستوى التقلص العائلي، لا يزال عقد القرابة يُغذِّي الاقتصاد الأخلاقي للعلاقات الاجتماعية. ويبدو أن التغيير الذي طال الاتجاهات الثقافية الجماعية، قد أفضى -كما كان متوقعًا- إلى فردانية قرابية عمودية أضحت اليوم النموذج المهيمن للسيكولوجيا الثقافية. والحال أن هذا النموذج لا يخلو بدوره من التوتر الناتج عن الصراع بين التطلع إلى الحداثة الفردية وسطوة الأخلاق التي يفرضها عقد القرابة، وهو ما ينتج عنه ضرب من الهجانة الثقافية يستعصي أحيانًا على الإحاطة النظرية والأمبريقية.

يُنْظَر عادة إلى الارتباطات العائلية كعماد أساسي للعيش المشترك والعمران البشري. وتقوم وجهة النظر هذه على مصادرة مفادها أن هذه الارتباطات تزيد من قوة الرابط الاجتماعي وتساهم في تكثيف التبادلات بين المجموعات الاجتماعية. ويعتبر الإنسان العادي في هذا المضمار أن استقلالية الأفراد عن المحيط الأسري علامة على الفوضى الاجتماعية والانحطاط الأخلاقي للأفراد. غير أن صلاحية تلك المصادرة تظل موضع تساؤل حينما نأخذ في الحسبان مبادئ التنشئة الأسرية في سياقات ثقافية مختلفة. فقوة روابط القربى لا تستلزم بالضرورة توخي الإيثار والغيرية، خاصة في المجتمعات العاجزة عن إجراء فصل جوهري بين الفضاء المؤسساتي الذي تحكمه العقلانية القانونية، والفضاءات العائلية التي تخضع للغرائز الفطرية. 

غير أن الارتباط العائلي لا يطرح تحديات كبيرة أمام السياسات العامة إلا إذا كان مصحوبًا بالتبريرات الأخلاقية المساهمة في تكريس التمايز وتجذير الرأسمال الاجتماعي، وبصيغة أكثر وضوحًا، حين تتسرب تأثيراته عن قصد من فضاءات التقارب الطبيعي إلى مجالات الاقتصاد والسلطة والاجتماع. ولا شك أن التحيز والمحاباة لفائدة مجموعات الانتماء، كمظاهر مألوفة للعائلية، تغزو بشكل مكشوف دواليب الأجهزة البيروقراطية والسياسية من المحيط إلى الخليج. ويؤشر ذلك في الواقع على عدم قدرة الدولة العربية بتشكيلاتها الإثنية والطائفية وثقافتها السياسية المتعددة، على التخلص من دور الجينيالوجيا الجينية في تشكيل الهياكل البيروقراطية منذ النصف الثاني من القرن العشرين. ولا غرو أن وراء ذلك عوامل بنيوية تغذِّي استراتيجيات إرادات الهيمنة التي تراقب الأشخاص والموارد على السواء، ساعية وراء التحكم في كمية الكوناتوس(Conatus) الضرورية للبقاء في مواقع الصدارة.

تبحث هذه الدراسة في صنو خاص من العائلية يُصطلح عليه في أدبيات الأنثروبولوجيا السياسية بالعائلية غير الأخلاقية؛ وهي عبارة عن عقدة ثقافية تقوم على إجراء مفاضلة بين الأفراد في الحياة العامة والخاصة بناء على متغير درجة القرابة، وتقتضي بالمقابل أخذ الحيطة والحذر من الأغيار، بصرف النظر عن أساليب اللباقة السطحية التي تفرضها طقوس التفاعل في مجتمعات يزداد فيها رويدًا رويدًا استعمال أقنعة مزيفة من أجل تدبير التبادلات الاجتماعية بأقل تكلفة.

ينبني البحث على مصادرة ضمنية مفادها أن بنيوية عقد القرابة في الاجتماع العربي، يمنع الفضاءات العامة وعلاقات السلطة من الاشتغال على شاكلة الالتزامات التعاقدية. ولا شك أن هذه المعادلة، منظورًا إليها كبنية ماكروسياسية، تلقي بظلالها على الاتجاهات الفردية للمواطن العربي تجاه قضايا السياسة والحكامة المؤسساتية. غير أنه يجب التنبيه إلى أن ما يعتري المشهد المؤسساتي في بلدان العالم العربي لا يمكن ربطه اختزالًا بالفعالية السببية لبنى القرابة التي لا تشكِّل سوى عامل من بين عوامل أخرى جوهرية. 

وتجدر الإشارة إلى أن أولوية المبدأ البيولوجي المؤسِّس للعائلية غير الأخلاقية ليست نتاجًا للبنية السياسية للدولة، ولكنها مبدأ متجذر في البنى الثقافية القاعدية لمجتمعات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ولا شك أن العوامل الإيكولوجية كالمناخ وكمية الموارد المتوافرة، إضافة إلى التقسيمات الاجتماعية والإثنية واللغوية والعوامل الديمغرافية المتعلقة بأنظمة الزواج، توفر الشروط المثالية لفعالية العائلية غير الأخلاقية. ونثير الانتباه إلى أنه بالرغم من التباين الدلالي بين مفهومي أخلاق العائلية والعائلية غير الأخلاقية، فإننا نستعمل المفهومين بنفس المعنى تقريبًا وذلك بالنظر إلى كون أخلاق العائلية في الاجتماع العربي تنطوي ضمنيًّا على جانب مهم من انتهاك أخلاق التشارك وأخلاق المبادئ منظورًا إليها من زاوية فلسفة جون راولز (John Rawls).

تحاول هذه الدراسة مقاربة العوامل التي تتحكَّم في تباين العائلية غير الأخلاقية في المجتمعات قيد الدراسة وتأثيراتها في مجال الثقافة السياسية. وتتناول دراسة العلاقات الإحصائية بين المتغيرات على المستوى المجتمعي، معتمدة قاعدة متنوعة للبيانات تم تحليلها باستعمال حزمة الأدوات الإحصائية للعلوم الاجتماعية (SPSS) وبرنامج (Process) لتحليل التوسطات التفاعلية بين المتغيرات المختارة. 

وتنطلق منهجية الدراسة من خلفية مفادها أن متلازمة المحاباة العائلية في المجتمعات العربية، منظورًا إليها من زاوية محدداتها، هي سليلة عقدة ثقافية-أخلاقية تتجاوز البناء الفينومينولوجي للعالم المعيش، بما يقتضيه ذلك من اختيارات عقلانية أو دوافع أكسيولوجية، لتضرب بجذورها في سطوة عوامل بنيوية تتجسد في الاقتصاد والبيولوجيا والمناخ والثقافة. وتجدر الإشارة إلى أن تحليل المعطيات يسلك مرحلتين متكاملتين: 

أ- المرحلة الأولى: تتعلق بدراسة التأثير الذي تمارسه المتغيرات المستقلة في تباين أخلاق المحاباة العائلية على المستوى المجتمعي. وفي هذا الإطار، تم إدراج البيانات الخاصة بـ180 دولة من بينها 15 بلدًا عربيًّا. ويتعلق الأمر بالمغرب، والجزائر، وتونس، وموريتانيا، وليبيا، ومصر، والسودان، واليمن، والسعودية، وسوريا، ولبنان، والعراق، والأردن، وعُمان، والكويت. 

ب- المرحلة الثانية: تشمل دراسة التأثير الذي تمارسه أخلاق العائلية على المتغيرات السياسية التابعة كما يوضحها الجدول أسفله. ويتعلق الأمر بالديمقراطية الفعلية والفعل الاحتجاجي والديمقراطية التوزيعية وغيرها من المتغيرات السياسية. وتسمح نتائج الدراسة بانكشاف أحد العوامل الكابحة للانتقال الديمقراطي في البلدان العربية وتقدير الوزن السلبي الذي يرهن من خلاله مستقبل الوجودية السياسية ويمنع تفتق طاقات التغيير الاجتماعي والسياسي. وتغطي البيانات قيد الدراسة العوامل الثقافية والديمغرافية والإيكولوجية والاقتصادية والسياسية. 

ومن أهم النتائج التي خلصت إليها الدراسة أن الهندسة المؤسساتية والقانونية لا تكفي لتحصين الاجتماع السياسي من اعتناق الثقافة غير الديمقراطية في المجتمعات التي تتأرجح على عتبة الانتقال الديمقراطي. فالمواطنة كعماد للديمقراطية إنما تترعرع في خضم ثقافة سياسية أشبه بمزروعات البستان التي تتطلب السقي والشذب والعناية المستمرة. ويستلزم ذلك أن ضعف المشاعر المدنية المبنية على المساواة والنزاهة والعمومية يشكِّل مركَّب نقص يصعب معه استبطان أخلاق الحداثة السياسية. 

كما أن العائلية تؤثِّر بشكل لافت للنظر على المتغيرات المرتبطة بجوهر الديمقراطية الفعلية وتمنع انبثاق الشروط القيمية والثقافية الضرورية التي تجعل الأفراد والجماعات يتخلون تدريجيًّا عن النوازع الفطرية لفائدة المشاعر المدنية المضادة للفساد المؤسساتي والبيروقراطي. وإذا كانت هذه الدراسة قد سلَّطت الضوء بما فيه الكفاية على الجذور البعيدة للعائلية غير الأخلاقية، فإنها بالمقابل قد أغفلت عوامل أخرى بسبب محدودية المعطيات المتوافرة. ومما لا شك فيه أن إغفال العامل الديني يشكِّل إحدى النقائص الأساسية؛ فقد افترض الباحثان أن خطاب المؤسسات الدينية حول ذوي القربى يحمل دلالات أنثروبولوجية ليست في منأى عن أخلاق العائلية، وتساءلا حول ما إذا كانت هناك علاقة بين عدد المسلمين في المجتمعات المختلفة وتباين درجات أخلاق العائلية، لكنهما وجدا أن أحسن طريقة للتحقق من وجود العلاقة المفترضة تكمن في فحصها على المستوى الفردي، أي بين التوجهات الدينية للأفراد ومدى استبطان أخلاق العائلية. والحال أن بحث المسألة في هذا المسلك يقع خارج سياق هذه الدراسة. 

للاطلاع على النص الكامل للدراسة (اضغط هنا) وللاطلاع على عدد المجلة كاملًا (اضغط هنا)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*د. عثمان الزياني، أستاذ باحث في القانون العام والعلوم السياسية بجامعة محمد الأول، وجدة، المغرب.

*د. بن أحمد حوكا، باحث في علم الاجتماع السياسي بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس، المغرب.

ABOUT THE AUTHOR