واجهت المبادرة العربية رفضًا سريعًا وحاسمًا من قادة النظام في سوريا، وأكدت دمشق "إدانتها هذا القرار الذي جاء في إطار الخطة التآمرية الموجهة ضد سوريا" (الجزيرة) |
في خطوة مفاجئة، وبالرغم من الخلافات العربية–العربية حول التقرير الأول لفريق المراقبين العرب في سوريا، فاجأ مجلس وزراء الخارجية العرب الرأيين العامَّين العربي والدولي بالإعلان عن مبادرة عربية جديدة للتعامل مع الأزمة السورية. تُعتبر المبادرة خطوة عربية كبيرة في اتجاه التصدي للحل الأمني الذي يراهن عليه النظام السوري، وسيصعب على القوى الدولية المعنية بمستقبل سوريا تجاهلها.
وهذه قراءة سريعة للوضع السوري في ضوء المبادرة العربية الجديدة.
المبادرة
هذه هي المبادرة العربية الثالثة منذ اندلاع الثورة السورية، وبدء التحرك العربي، بضغط من الرأي العام الشعبي، للتعامل معها في صيف 2011. وقد جاءت المبادرة، التي أعلنها المجلس الوزاري العربي مساء الأحد 22 يناير/كانون الثاني 2012، في اختتام اجتماعاته بالقاهرة، لتعبر عن تقدم كبير في الموقف العربي الرسمي من الثورة السورية. فبخلاف المبادرتين السابقتين، اللتين لم تدعوا صراحة لتنحي الرئيس الأسد عن موقعه، وغُلفتا في عبارات غامضة أو إجراءات مديدة في استجابتهما للمطلب الشعبي بتغيير النظام، جاءت المبادرة الجديدة صريحة وواضحة.
دعت المبادرة العربية إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية خلال شهرين، تشارك فيها الحكومة الحالية وقوى المعارضة السورية، وتترأسها شخصية متفق عليها. ونصت المبادرة على أن تكون مهمة هذه الحكومة تطبيق بنود خطة الجامعة العربية السابقة، والإعداد لانتخابات برلمانية ورئاسية تعددية حرة بموجب قانون وبإشراف عربي ودولي. والأهم، أن المبادرة طالبت بأن يفوض رئيس الجمهورية، بشار الأسد، نائبه الأول (فاروق الشرع)، بصلاحيات كاملة للتعاون التام مع حكومة الوفاق الوطني وتمكينها من أداء واجباتها؛ بمعنى أن يتخلى الرئيس عن مسؤولياته التنفيذية خلال المرحلة الانتقالية. وأكدت المبادرة على أن تقوم الحكومة السورية بالإفراج عن المعتقلين وإخلاء المدن والأحياء السكنية من جميع المظاهر المسلحة، وفتح المجال أمام منظمات الجامعة ووسائل الإعلام العربية والدولية للتنقل بحرية في سوريا والاطلاع على حقيقة الأوضاع ورصد ما يدور من أحداث.
وكان مجلس الوزراء العرب قد قرر إحالة قراراته بشأن سوريا، بما في ذلك مبادرته الجديدة، إلى مجلس الأمن الدولي، لطلب دعم الأمم المتحدة للموقف العربي. وبينما امتنع لبنان عن التصويت على قرارات المجلس الوزاري، لم تواجه المبادرة معارضة ملموسة من جانب العراق، الذي اعتاد اتخاذ مواقف تميل إلى جانب النظام السوري؛ ربما لأن العراق يرغب في تمهيد الطريق لعقد القمة العربية المقبلة في بغداد، وأن المالكي، الذي يواجه أزمة داخلية مستحكمة، يخشى العزلة العربية.
والواضح، أن المبادرة حول سوريا استلهمت المبادرة الخليجية الخاصة باليمن، التي يعتقد أغلب المراقبين الآن أنها نجحت بالفعل، وإنْ بعد تأخير وعقبات، في تحقيق انتقال السلطة في صنعاء. سوريا، بالطبع، ليست اليمن، ففي حين لم يجرؤ الرئيس اليمني مطلقًا على رفض المبادرة الخليجية، بالرغم من بذله كل الجهود لإفشالها، فقد واجهت المبادرة العربية رفضًا سريعًا وحاسمًا من قادة النظام في دمشق.
ردود الفعل
جاء الرفض السوري للمبادرة العربية على لسان مصدر مسؤول في تصريح لوكالة الأنباء السورية الرسمية، سانا، بعد ساعات قليلة على إعلان قرارات مجلس الجامعة، مشيرًا إلى أن "سوريا ترفض القرارات الصادرة عن مجلس الجامعة العربية على المستوى الوزاري، خارج إطار خطة العمل العربية والبروتوكول الموقَّع مع الجامعة العربية، وتعدها انتهاكًا لسيادتها الوطنية، وتدخلاً سافرًا في شؤونها الداخلية، وخرقًا فاضحًا للأهداف التي أُنشئت الجامعة العربية من أجلها وللمادة الثامنة من ميثاقها". وقال المصدر السوري: إن دمشق "تؤكد إدانتها هذا القرار الذي جاء في إطار الخطة التآمرية الموجهة ضد سوريا من قِبل أدوات تنفذ هذه المخططات التي باتت مكشوفة لجماهير شعبنا في سوريا والوطن العربي". يوم الثلاثاء، 24 يناير/كانون الثاني 2012، أعاد وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، في مؤتمر صحفي عُقد في العاصمة دمشق، موقف بلاده الرافض للمبادرة العربية وقرارات المجلس الوزاري.
لم يخطئ المجلس الوطني السوري، الذي يمثل القوة الرئيسة للمعارضة السوري، التقاط الدلالات الإيجابية للمبادرة العربية، وسارع في بيان أولي قصير إلى الترحيب بالمبادرة. ثم عاد المجلس إلى التوكيد على موقفه بعد اجتماع لقيادته في العاصمة المصرية القاهرة. كما أن الإخوان المسلمين السوريين، الممثَّلين في المجلس الوطني، أصدروا بيانًا منفردًا رحب بالعناصر الإيجابية في المبادرة العربية.
وجدت المبادرة تأييدًا من كافة الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. ولعل التعبير الأكثر تفصيلاً عن الموقف الغربي كان ذلك الذي صدر عن سفير ألمانيا لدى الأمم المتحدة، بيتر فيتيج، الذي أكد (الاثنين، 23 يناير/كانون الثاني 2012) على أن طلب الجامعة العربية من مجلس الأمن الدولي تأييد دعوتها الرئيس السوري بشار الأسد إلى نقل سلطاته إلى نائبه، قد ينطوي على تغيير في قواعد اللعبة بالنسبة لمجلس الأمن الذي وصل إلى طريق مسدود في هذا الشأن. وقال فيتيج: "الجامعة العربية قررت مطالبة مجلس الأمن بتأييد قراراتها. هذا شيء لا يمكن لأعضاء المجلس تجاهله أو رفضه بسهولة." وأوضح السفير الألماني أن طلب الجامعة العربية تأييد مجلس الأمن لقراراتها "يتخطى بعثة المراقبين ويطالب أعضاء مجلس الأمن بدراسة الخطة العربية بكاملها".
لم يصدر موقف واضح من إيران، الحليف الإقليمي الرئيس لسوريا، ربما لأن الإيرانيين فوجئوا بحجم التوافق العربي على المبادرة.
ولكن اللافت كان صدور تصريح غير معتاد لميخائيل مارغليوف، مبعوث الرئيس الروسي لإفريقيا، وأحد المسؤولين عن تقرير السياسة الروسية تجاه سوريا؛ فقد نقلت وكالة إيتار الروسية للأنباء (23 يناير/كانون الثاني 2012) عن مارغليوف قوله: "إن روسيا لا يمكنها عمل المزيد للرئيس السوري بشار الأسد". وأضاف مارغيلوف، الذي يترأس أيضًا لجنة الشؤون الدولية في مجلس الاتحاد، الغرفة العليا للبرلمان الروسي: "استخدامنا لحق النقض (الفيتو) ضد قرار مجلس الأمن الدولي كان آخر أداة للسماح للرئيس بشار الأسد بالحفاظ على الوضع القائم على الساحة الدولية، وإشارة جادة للرئيس (الأسد) من روسيا بأننا استنفدنا ما في جعبتنا من مثل هذه الموارد". وأشار إلى أنه ينبغي على الرئيس السوري "أن يقرأ هذا الموقف بوضوح؛ الإصلاحات وإنهاء العنف والانتخابات الحرة، هذا هو ما ينبغي أن تفعله القيادة السورية فورًا اليوم".
بيد أن المكتب الصحفي لميخائيل مارغيلوف سرعان ما أصدر بيانًا (24 يناير/كانون الثاني 2012) يقول بأن نص تصريحه السابق، والذي وزعته وكالة الأنباء رويترز على نطاق واسع، يعود في الحقيقة إلى 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2011؛ بمعنى أنه ليس ثمة من جديد في الموقف الروسي. الحقيقة، بالطبع، أن تصريح مارغليوف نُقل عن وكالة أنباء روسية؛ ولذا، فإن التكذيب، أو التصحيح، الصادر عن مكتب المسؤول الروسي لا يمكن تفسيره إلا بأحد احتمالين؛ الأول: أنه خُطط لصدوره وتكذيبه كرسالة للرئيس السوري للإسراع بإيجاد حل لأزمته، لأن موسكو باتت تعتقد أن الوقت ينفد أمام معارضتها للموقف الدولي، الذي يلتقي الآن مع شبه إجماع عربي. أما الثاني: فإن التصريح كان اجتهادًا خاصًا من مارغيلوف، وأن سلطة أعلى في الكرملين طالبته بالتخلي عنه.
المهم، أن موسكو شهدت خلال الأيام الثلاثة 24–26 يناير/كانون الثاني 2012 زيارات متتالية من مساعد وزير الخارجية الأميركي للشرق الأوسط، جيفري فيلتمان، ووزير الخارجية التركي، أحمد داود أوغلو، والزعيم اللبناني وليد جنبلاط. كانت سوريا هي الموضوع الرئيس، وربما الوحيد، لمباحثات ثلاثتهم مع وزير الخارجية الروسي ومسؤولين روس آخرين. وقد جاء الموقف الذي عبّر عنه وزير الخارجية الروسي، في المؤتمر الصحفي المشترك مع نظيره التركي، متطابقًا مع المقاربة الروسية للأزمة السورية حتى الآن: رفض أي قرار دولي لفرض عقوبات على سوريا، أو تدخل عسكري فيها، والدعوة لمباحثات بين النظام والمعارضة، ترحب روسيا باستضافتها.
أفق المبادرة
لم تأت هذه النقلة النوعية في الموقف العربي من سوريا من فراغ؛ فالنظام عاجز، بما لا يدع مجالاً للجدل، عن قمع الحركة الشعبية، بالرغم من مستويات العنف وسفك الدماء التي وظفها طوال ما يقارب العام ضد شعبه. وقد برزت وحدات الجيش السوري الحر، سواء على مستوى قدرتها على مواجهة قوات النظام أو اتساع مساحة نشاطاتها، باعتبارها متغيرًا كبيرًا في معادلة القوة بين النظام ومعارضيه. ومن جهة أخرى، لم يعد أمام الجامعة العربية، بعد إخفاق بعثة المراقبين في إيقاف العنف، من طريق أخرى للاستجابة لضغوط الرأي العام العربي.
بيد أن أحدًا لم يتوقع أن يستجيب النظام في دمشق للمبادرة العربية، التي تعني بوضوح انتقالاً حثيثًا للسلطة وتنحي الرئيس الأسد. فلا توازن القوى بين النظام ومعارضيه، حتى اللحظة، ولا طبيعة النظام، توحي بأنه وصل إلى منعطف القبول بفكرة التنحي وانتقال السلطة.
فأي أفق إذن للمبادرة العربية؟
تعتبر المبادرة خطًا فاصلاً في موقف النظام العربي الرسمي من النظام السوري، وربما سيصعب بعد الآن أن تتخلى الجامعة العربية عن الموقف الذي تضمنته المبادرة. هذه ضربة موجعة لشرعية النظام السوري، لا تقل، إن لم تزد عن تجميد عضويته في أعمال الجامعة ومنظماتها.
وستدفع المبادرة بروح جديدة إلى مجلس الأمن، الذي بدا طوال الشهور القليلة الماضية كأنه يرغب في تجاهل الوضع السوري، أو أنه عاجز عن تطوير موقفه من الأزمة؛ فرئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم وأمين جامعة الدول العربية نبيل العربي يعتزمان التحرك في الأمم المتحدة للتوصل إلى توافق دولي حول الخطة العربية، بدت ملامحه في مسودة مشروع القرار العربي-الأوربي الذي سيُعرض على مجلس الأمن الدولي. ومن جهة أخرى، فإنه طبقًا للغارديان البريطانية (25 يناير/كانون الثاني 2012) تسعى الاتصالات الغربية الكثيفة بموسكو إلى تعبيد الطريق لإصدار قرار من مجلس الأمن يؤيد المبادرة العربية والدعوة لتنحي الأسد.
مثل هذا القرار غير ممكن بدون تغيير في الموقفين الروسي والصيني. وهنا تأتي الأهمية الثالثة للمبادرة العربية؛ فالجدير بالذكر أن روسيا أيدت النسخة اليمنية من التصور العربي لحل الأزمة وانتقال السلطة في سوريا. وربما ستجد روسيا، والصين بالتأكيد، صعوبة متزايدة في تجاهل موقف عربي، صدر بما يشبه الإجماع العربي.