رئاسيات الجزائر: فرصة لإصلاح النظام السياسي أم خطر يهدد الدولة الوطنية؟

يشكِّل الشباب أغلبية الجزائريين ولم تعد الانتخابات الشكلية تستهويه مثل سكان المدن بالشمال حيث الكثافة الديمغرافية فانتخابات لا تستهوي سوى جزء من سكان الجنوب ومناطق الهضاب العليا أي أن هذا الاستحقاق المتجاهل مطالب الحراك الشعبي سيكون كالاستحقاقات السابقة التي أفرزت مزيدا من الزبونية والمحسوبية.
f30052e67a0b4301a1e229c02074b477_18.jpg
المحتجون يرفضون تنظيم الانتخابات قبل التخلص من رموز نظام بوتفليقة (رويترز)

هل ستلاحق لعنة الانتخابات مرة أخرى، رئاسيات الجزائر المقررة في 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، رغم اختلافها في بعض الأوجه، عما سبقها من انتخابات رئاسية نظمتها الجزائر، خلال فترتي الأحادية والتعددية، منذ استقلالها سنة 1962؟ انتخابات رئاسية دعت إليها السلطة للمرة الثالثة، في وقت قصير وهي تعيش حالة اضطراب قصوى. فشلت السلطة في تنظيم استحقاقين انتخابيين في 18 أبريل/نيسان و4 يوليو/تموز 2019؛ الأول منهما نتيجة الرفض الشعبي بعد ترشح بوتفليقة لها للمرة الخامسة، أما الثاني فقد ألغي بحجة عدم تقدم مرشحين له في الآجال القانونية نتيجة المقاطعة الشعبية الكبيرة التي قوبل بها.

في المقابل، تقدم إلى هذه الانتخابات المفترض إجراؤها في 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، 143 مرشحًا حزبيًّا، وعدد كبير من المستقلين غير المعروفين على مستوى الساحة السياسية في الغالب، باستثناء بعض الوجوه الإعلامية، وقد عبَّروا عن نيتهم التقدم لها. تمت غربلة 23 مرشحًا منهم فقط، وهم من تمكنوا من إيداع ملفاتهم شكليًّا لدى الهيئة المستقلة للانتخابات، ولم يبق منهم في المرحلة الأخيرة للترشح الرسمي إلا خمسة مرشحين استوفوا شروط الترشح الرسمي(1)، والتي على رأسها جمع خمسين ألف إمضاء تزكية مصادق عليها من قبل الإدارة المحلية في خمس وعشرين ولاية من الولايات الوطن البالغة ثماني وأربعين ولاية. والمترشحون كلهم ذكور لا توجد من بينهم أي امرأة، علمًا بأن عدم جدية المرشحين كانت من أسباب تشويه العملية الانتخابية برمتها في أكثر من محطة انتخابية بما فيها هذه الأخيرة، التي أعاد فيها المرشحون استمارات التزكية فارغة تحت عدسات التليفزيون(2).

وتتم هذه الانتخابات في إطار قانوني جديد(3) جاء بعد الإعلان عن تكوين هيئة وطنية عليا وُصفت رسميًّا بالمستقلة للإشراف عليها وتنظيمها، بدل إدارة وزارة الداخلية. وقد تم تنصيب هذه الهيئة بعدما سُمي بجولة الحوار الوطني التي قاطعتها القوى السياسية الرئيسة، وبعد الانتهاء من عملها بتسرع. ولم يحظ هذا التنصيب بالإجماع الذي كان مطلوبًا في هذه التجربة السياسية الأولى التي يعول عليها كثيرًا لإحداث القطيعة مع النظام السياسي المرفوض شعبيًّا خصوصًا آليات عمله القديمة.

ويبقى الحراك الشعبي أهم متغير سياسي ميَّز هذه المرحلة التي شهدت استقالة الرئيس بوتفليقة واستقالة الكثير من الوجوه المرتبطة بنظامه، بل وصل الأمر إلى حدِّ سجن العديد منهم بتهم الفساد والتربح وسوء التسيير، على غرار الوزيرين الأولين السابقين: أحمد أويحيى وعبد المالك سلال والعديد من الوزراء ورجال الأعمال المعروفين بعلاقاتهم برجال السلطة وحاشية الرئيس القريبة منه والتي كان على رأسها السعيد بوتفليقة شقيق الرئيس ومستشاره.

ظل الحراك يرفض بشكل واضح إجراء هذه الانتخابات الرئاسية، في تاريخها المعلن، 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، مشترطًا حزمة من المطالب، من بينها: ذهاب من تبقى من الرموز السياسية لنظام بوتفليقة، وفتح الساحة الإعلامية أمام الجميع وعلى رأسها المجال السمعي البصري، وإطلاق سراح المعتقلين من شباب الحراك، والتوقف عن التحرش الأمني بالمسيرات التي تنظم في العاصمة تحديدًا كل يوم جمعة. كما طالبت أغلبية القوى السياسية والشخصيات المعارضة بإجراءات تكون على شكل تطمينات قبل الذهاب للانتخابات مما يخلق جوًّا توافقيًّا يسمح بمشاركة شعبية يوم الاقتراع، وهذا ما سيسمح باختيار رئيس يتمتع بقدر كبير من الشرعية. فهل ستطبع هذا الاستحقاقَ تلك اللعنةُ التاريخية التي ارتبطت بها الانتخابات في الجزائر، كما حصل في 1991 على سبيل المثال عندما كانت تلك الانتخابات من أسباب دخول البلاد في أتون الحرب الأهلية، بعد إلغاء التشريعيات التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ؟ وهل ستنتقل الجزائر من انتخابات ملغاة إلى انتخابات دون مرشحين ومن ثم إلى انتخابات من دون مقترعين كما يمكن أن يحصل في ديسمبر/كانون الأول المقبل؟

وبدل التطمينات المطلوبة شعبيًّا، ذهبت السلطة الفعلية، عكس الاتجاه فزادت في عدد الاعتقالات، وأحكمت إغلاق الساحة الإعلامية بشقيها العام والخاص، ورفعت من منسوب التهديد والوعيد لفرض إجراء الانتخابات في تاريخها المعلن(4). ولهذا قاطع الكثير من الأحزاب والقوى السياسية والشخصيات من مختلف الطيف السياسي، والتي كانت سباقة في وقت مضى للمشاركة في كل استحقاق، الدعوةَ لهذه الانتخابات وتحفظت عليها(5).

الدروس السوسيولوجية للانتخابات في الجزائر

قبل الدخول في تفاصيل المشهد الانتخابي المتعلق بهذا الاستحقاق الانتخابي المبرمج في 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، ارتأينا التذكير بعجالة ببعض الدروس المستخلصة، مما تسمح به دراسات السوسيولوجية الانتخابية في الجزائر، كاتجاهات ثقيلة، وليس كأرقام ونتائج لا يمكن الركون إليها أو الثقة بها بعد أن اعترف الكل بأنها كانت مزورة، بمن فيهم الذين كانوا مستفيدين من هذا التزوير لوقت طويل. هذه الاتجاهات الثقيلة يمكن أن تفيدنا في فهم المشهد الحالي وما يمكن أن يؤول اليه.

لم يُعوَّل يومًا وبشكل جدي داخل نظام سياسي على الانتخابات كوسيلة تغيير أو إنتاج نخبة سياسية بديلة أو مشاركة شعبية في الشأن العام. على أن خلاصة هذه الدروس تخبرنا أن الشباب الذي يشكِّل أغلبية المجتمع الجزائري ابتعد مع الوقت وبشكل جلي ومتزايد عن المشاركة في هذا النوع من الانتخابات التي نادت بها السلطة تاريخيًّا، ولم يعد يشارك فيها الا بنسب ضئيلة جدًّا. والحال عكس ذلك بالنسبة لكبار السن الذين كانوا أكثر ارتباطًا بالخطاب الوطني الرسمي. ونفس الحال بالنسب لسكان المدن الكبرى والمتوسطة في الشمال على وجه الخصوص التي يعيش داخلها أغلبية الجزائريين (ثلثا السكان)، فهؤلاء السكان لم تعد تستهويهم هذه الانتخابات المحسومة النتائج مسبقًا. وهذه الفئات الحضرية تحولت مع الوقت إلى القاعدة الأساسية لكل أنواع الحركات الاجتماعية المطلبية التي عرفها المجتمع الجزائري منذ سنوات. وقد أصبحنا أمام نوع من القانون السوسيو/سياسي يربط بين المشاركة في الانتخابات والكثافة الديمغرافية؛ بحيث كلما زادت تلك الكثافة تقل المشاركة في هذا النوع من الانتخابات التي لم تعد تستهوي سوى جزء من سكان الجنوب وبعض مناطق الهضاب العليا، وهي مجالات قليلة الكثافة السكانية، عكس الشمال المكتظ ديمغرافيًّا(6).

وبالإضافة إلى السن والكثافة السكانية، يمكن أن نذكر المستوى التعليمي كعامل مفسِّر للسلوك الانتخابي لدى الجزائريين، مثل الكثير من الشعوب الأخرى. ويمكن اختصاره في المعادلة التالية. كلما ابتعد الجزائري(ة) عن الأمية وتحسن تعليمه، زاد رفضه للمشاركة في هذه النوع من الانتخابات التي تعودت السلطة على الدعوة إليها، بكل عيوبها ونواقصها المعروفة(7). فهل هي مفاجأة أن يرفض الحراك الشعبي، الذي اندلع منذ 22 فبراير/شباط 2019، الانتخابات التي تدعو لها السلطة، دون تغيير في شروط أدائها؟ ومن المعلوم أنه حراك تقوده القوى الحضرية في المدن الكبرى والمتوسطة بكل تنوعها، ويحتل فيه الشباب مكان الصدارة، خصوصًا أنه حراك نشأ في مجتمع عرف انتشارًا واسعًا للتعليم في المدينة والقرية، واستفادت منه فئات شعبية واسعة. وقد أفرزت هذه الوضعية الاجتماعية فئات وسطى عبَّرت بعدة أشكال عن تذمرها من أوضاعها، ليس بالضرورة في الشق الاقتصادي، بل ورفضها للنظام السياسي القائم(8). وتكون هذه الصورة أوضح إذا أضفنا إلى هذه المعطيات نسب المشاركة الضعيفة تقليديًّا، بل المقاطعة التي ميزت منطقة القبائل وأبناء الجالية الجزائرية بالخارج المعروف عنهم مشاركتهم الضعيفة في هذه الاستحقاقات(9).

المشاركون في انتخابات 12 ديسمبر/كانون الأول 2019؟

قد لا يعني هذا أن هذه الانتخابات ستكون فاقدة لأي حضور شعبي من أي نوع. فهذه الانتخابات، حتى في الظرف السياسي القَلِق الذي تتم فيه، يمكن أن تُعول على القاعدة الاجتماعية للنظام المؤلفة من بقايا أحزاب السلطة، حتى ولو كان بشكل محتشم نتيجة حالة الاضطراب التي تعيشها هذه الأحزاب الضعيفة أصلًا، والمعتمدة تقليديًّا على قربها من مؤسسات الدولة، وذلك بعد انطلاق الحراك الشعبي وحملة محاربة الفساد التي مسَّت قياداتها(10). وستعول هذه الانتخابات أيضًا على ما يمكن أن يجنده عامل الخوف من الفراغ السياسي لدى مواطنين غير متحزبين بالضرورة ومتخوفين على حال البلد، بعد تأثرهم بخطاب السلطة الرافض للذهاب إلى مرحلة انتقالية أو إلى تأخير الانتخابات بسبب ما يمكن أن ينجرَّ عنها من فراغ سياسي تم الترويج له إعلاميًّا، بعد أكثر من ستة أشهر من استقالة بوتفليقة. ودون أن ننسى ما يمكن أن تجنده المؤسسات الرسمية من مشاركة في الاقتراع وسيكون مصدره بيروقراطية الدولة والأسلاك الرسمية من قوات مسلحة ودرك وشرطة وحماية مدنية، وهي قطاعات يصعب التحكم أكثر فأكثر في اتجاه اقتراعها، في الظرف الحالي الذي تحررت فيه سلوكيات ومواقف الجزائريين، مهما كانت فيه مواقعهم الاجتماعية داخل دواليب الدولة. علمًا بأن هذه القوة الانتخابية الضاربة ذات الأهمية في الانتخابات التشريعية، يمكن أن تتحول إلى شبه أغلبية في المناطق الجنوبية، ذات الكثافة الديمغرافية الضعيفة، وسوف تحدد لمن تكون نتائج الانتخابات التشريعية، كما هي الحال في ولايات الجنوب الحدودية والتي تتميز بحضور عسكري منتشر في تلك الولايات.

وعلى الرغم من أن المشهد السياسي الحالي قد يوحي مسبقًا بأن نسب المشاركة في هذه الانتخابات الرئاسية التي دعت إليها السلطة هذه المرة ستكون ضعيفة للغاية في حالة تمت هذه الانتخابات بهدوء، ولم تعرف انزلاقات أمنية نتيجة المعارضة التي يبديها جزء مهم من الحراك الشعبي والقوى السياسية لهذا الاستحقاق الانتخابي(11). على أن هذا الاستحقاق لن يكون محطة لإنتاج مشهد سياسي جديد تنتج عنه قطيعة مع النظام السياسي المرفوض شعبيًّا والمتهم بمحاولة تجديد جلده من خلال هذه الانتخابات. ومع أن هذه الانتخابات قد ترشحت لها وجوه قديمة ارتبطت لسنوات بالنظام، وتحوم حول بعضها شبهات بالفساد، إلا أن ذلك لن يساعد قطعًا في تجنيد المواطنين للمشاركة فيها يوم الاقتراع، أو تجنيدهم خلال الحملة الانتخابية التي يصعب تصور تنظيمها بشكل طبيعي في الظرف السياسي والأمني الذي تمر به الجزائر الآن، رغم أنه لا توجد لحد الساعة قوى سياسية منظمة وفاعلة دعت صراحة إلى منع إجراء الانتخابات أو التشويش عليها في حالة تنظيمها في وقتها المحدد. وحتى في منطقة القبائل التي ستعرف دون مرية مستويات مقاطعة كبيرة نتيجة شبه الإجماع الرافض لها بين أبناء هذه المنطقة وأحزابها وقواها السياسية(12).

تحديات ما بعد الانتخابات 

إن كل ما تستطيع هذه الانتخابات تقديمه هو فوز بعض وجوه النظام القديم المعروفة، على غرار رئيسي الحكومة السابقين، عبد المجيد تبون وعلي بن فليس، وهذا في حد ذاته إعادة إنتاج نفس المشهد السياسي القديم، في غياب مرشحين كان من الممكن أن يخلقوا الفارق النوعي، ليس على مستوى النتائج فقط، لكن على مستوى التجنيد الشعبي للمشاركة فيها كذلك، وذلك في ظل الإعلان المبكر عن المواقف الرافضة والمتحفظة التي أبدتها الكثير من الشخصيات والقوى الحزبية(13). وسوف تنجلي هذه الانتخابات عن رئيس جمهورية من دون شرعية كبيرة لا في الداخل ولا حتى في الخارج، وسيكون رئيسًا لنظام سياسي كوَّنت فيه السياسة الخارجية عامل تجنيد شعبي مهم للرئيس كشخص وللنظام السياسي ككل، وذلك بعد فترة طويلة نسبيًّا من غياب دولي للجزائر على المستويين الإقليمي والقاري خاصة(14). إن هذه الشرعية المنقوصة لن تمكِّن الرئيس الجديد من رفع التحديات التي تنتظره، ليس على المستوى السياسي فقط، بل على الجبهات الاقتصادية والاجتماعية، وستكون الجزائر أمام تحديات كبيرة جرَّاء الوضع الاقتصادي والمالي للبلاد، وهو وضع مرشح لصعوبات أكبر على المديين القصير والمتوسط. كما أن الرئيس الجديد سيواجه مواطنين زادت مطالبهم وتغيرت نظرتهم إلى المؤسسات والنخب التي تحكمهم بفعل القطيعة التي كونها الحراك الشعبي على مستوى الذهنيات والسلوك.

ومن المتوقع كذلك من جهة أخرى على المستوى المؤسساتي أن الرئيس الجديد المنتخب بهذه الشروط التي تقترحها انتخابات 12 ديسمبر/كانون الأول 2012، لن يكون في موقع قوة يسمح له بإحداث التغييرات التي يتطلبها الوضع في الجزائر، كما عبَّر عن ذلك الرأي العام الوطني من خلال الحراك الشعبي الذي يطالب بالفصل بين السلطات، والحد من تغول السلطة التنفيذية على السلطات الأخرى بما فيها القضاء والبرلمان، ومنح حريات إعلامية وسياسية أوسع للجزائريين، عكس ما عبرت عنه بشكل فج تجربة تسيير الرئيس بوتفليقة في العشرين سنة الأخيرة التي تغوَّل فيها شخص الرئيس مما لم يسمح لهذه المؤسسات المعطلة عمليًّا بالقيام بالإصلاحات التي كانت مطلوبة في وقتها مثلما كانت الحال مع البرلمان أو السلطة القضائية. مع أنه كان من الممكن أن تسهم مؤسسة الرئاسة في تحسين أداء النظام السياسي بالتدريج، قبل دخولها النفق المظلم الذي وصلته في آخر أيام حكم الرئيس المتنحي، بوتفليقة (15).

على أن هذه الصورة ستكون صالحة على الأقل في العهدة الأولى للرئيس التي يمكن أن تتغير بعد هذه المرحلة، فالتجربة علمتنا أن رئيس الجمهورية في النظام السياسي الجزائري، حتى ولو كان ضعيفًا كشخصية سياسية ومنتخبًا بشكل سيء، كما حصل في أكثر من مرة، من الممكن أن يكتسب صلاحيات واسعة مع الوقت، في الممارسة اليومية وليس على مستوى النص الدستوري فقط الذي يحدد صلاحياته كرأس للسلطة التنفيذية بشكل واضح(16). ذلك أنه يمكن أن يغير الرئيس النظام بالشكل الذي يخدم مصالحه، كما كانت الحال مع الرئيس بوتفليقة عندما تمكن من الترشح لعهدة ثالثة لم يكن دستور 1996 يسمح بها.

كما أن هناك اعتبارات كثيرة يمكن أن تدخل بطبيعة الحال في تحديد معالم هذا السيناريو، من بينها سن الرئيس وقدرته على المطالبة بأكثر من عهدة رئاسية، بما تطرحه من مسألة تتعلق بالأجيال ويعاني من آثارها النظام السياسي الجزائري منذ سنوات نتيجة كبر سن النخبة السياسية الحاكمة التي لم تتجدد بالقدر الكافي لانغلاق النظام السياسي على نفسه. علمًا بأن المرشحين الأكثر حظًّا للفوز في هذه الانتخابات، وهم الذين تسميهم الساحة السياسة بأبناء النظام، تجاوزوا السبعين سنة من العمر منذ عدة سنوات، مثل: علي بن فليس أو عبد المجيد تبون(17).

وهنا لا مفر من طرح مسألة علاقة الرئيس المنتخب في هذه الشروط بالمؤسسة العسكرية كإحدى أهم المعضلات التي ما فتئ النظام السياسي الجزائري يعيشها، في وقت تعالت فيه أصوات داخل الحراك وخارجه تطالب بتطبيق روح ونصوص القانون، وتصر هذه الأصوات على ضرورة تحديد أدوار المؤسسة العسكرية وقيادتها خارج مجال اللعبة السياسية، وتبقى في ميداني الدفاع عن الحدود والأمن تحديدا، عكس ما كان يقول الواقع السياسي منذ استقلال الجزائر. ومعلوم أنه على الدوام كان للمؤسسة العسكرية الدور الحاسم في إبعاد كل رؤساء الجزائر بعد الإتيان بهم في وقت سابق(18)، وقد عادت المؤسسة العسكرية بقوة إلى لعب أدوار سياسية من الدرجة الأولى، بعد استقالة بوتفليقة في ظرف تعيش فيه مؤسسة الرئاسة حالة هوان واضح، وقد زادها من ضعفها الحالة الصحية للرئيس المؤقت الذي لم يتعود طول مساره السياسي والمهني إلا على الأدوار الثانوية التي لا تؤهله للقيادة والمبادرة باتخاذ القرار خاصة في هذا الظرف السياسي الحساس؛ مما زاد في إضعاف دور مؤسسة الرئاسة التي اختفت تمامًا عن المشهد السياسي. وقد أصبحت مؤسسة الرئاسة تابعة لإملاءات المؤسسة العسكرية وفي شخص قائد الأركان تحديدًا الذي كان المبادر بالدعوة لهذه الانتخابات الرئاسية، وهو الذي حدد خطوات مسار الحوار عن طريق خطب سياسية أسبوعية كونت المعالم الرئيسية للحياة السياسية والإعلامية في جزائر ما بعد بوتفليقة.

وفي وقت عاد فيه الحراك الشعبي، وكان قد مَرَّ بمراحل قلَّ فيها هديره نسبيًّا في فترة العطلة الصيفية وقبلها بمناسبة شهر رمضان، إلى مستوى التجنيد الذي كان عليه في شهر مارس/آذار 2019، بداية من الحشد الاجتماعي، كما عبرت عن ذلك بقوة مسيرات 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2019. وقد ظل التعويل رسميًّا قائمًا على إرهاق الحراك منذ انطلاقه في 22 فبراير/شباط 2019 وذلك باللعب على نقاط ضعفه الموضوعية، كعدم بروز قيادة معترف بها، وغياب برنامج سياسي واضح في بدايته على الأقل، واختراقه لاحقًا عن طريق خلق نقاط استقطاب ثقافوية، كمسألة الراية الأمازيغية أو منع الدخول إلى العاصمة وغيرها من نقاط الاستقطاب، وكما حصل مع الاعتقالات التي مست وجوهًا معروفة داخل الحراك الشعبي الذي حافظ على سلميته رغم كل الاستفزازات.

إن الحراك عبَّر بصدق، لأكثر من ثمانية أشهر عن سوسيولوجية وديموغرافية المجتمع الجزائري، ويتعلق الأمر بمسيرات يوم الجمعة الشعبية التي جرت في عشرات المدن الكبيرة والمتوسطة أو مسيرات الثلاثاء الطلابية أو مسيرات الأحد بدول المهجر، من قبل أبناء الجاليات الجزائرية. ناهيك عما عبرت عنه مسيرات واحتجاجات النقابات وبعض القوى الاجتماعية المهنية، وكان على رأسهم القضاة والمحامون الذين انحازوا بأشكال متفاوتة لمطالب الشعب حتى وهم يطرحون بعضًا من مطالبهم الاجتماعية الفئوية، كما كانت الحال مع القضاة.

إن حراكًا شعبيًّا بهذا الزخم تعرفه الجزائر لأول مرة في تاريخها، لم يتم الاعتماد عليه في إجراء هذه الانتخابات للقطيعة مع النظام السياسي السابق، كما كان يمكن أن يحصل لو تم الاستماع لمطالب الجزائريين. والمفارقة أن أصحاب القرار بنوا استراتيجيتهم على محاولة القفز على هذا الحراك الشعبي والالتفاف عليه بشتى الاستراتيجيات التي بقيت سلمية حتى الآن، رغم بعض الاحتكاكات المعزولة، مقارنة خاصة بما جنده الحراك من زخم شعبي، ويقع هذا التجاوز للشارع الجزائري الثائر في الوقت الذي يعرف العالم العربي بعض التجارب المشابهة على غرار الحالة العراقية والحالة اللبنانية، والجميع ينظر ما ستؤول إليه.

يتأكد هذا أكثر إذا عرفنا أن المأمول من هذه الانتخابات المزمع تنظيمها كأول انتخابات لما بعد الحراك، واعتمادًا على قراءة موضوعية لموازين القوى على الأرض بين الحراك والسلطة الفعلية القائمة، ليس شخص الرئيس المنتخب ومواصفاته ومساره السياسي والمهني، بقدر ما هو طريقة انتخابه التي كان يطالب الحراك بقوة بأن تكون شفافة وقادرة على أن تكون محطة نوعية فارقة بين ما قبل وما بعد الحراك، على مستوى تجنيد ومشاركة المواطنين لتكريس دورهم في الاهتمام بالشأن العام الذي عبروا عنه بخروجهم في هذه المسيرات الشعبية منذ ما يقارب تسعة أشهر بغية إنتاج نخب ومؤسسات سياسية شرعية. وفي المحصلة، ستنطلق الجزائر من أول عملية انتخابية تجري بعد حراك 22 فبراير/شباط 2019، ولن تكون النتيجة ذات بال في هذه المحطة الانتخابية التي ستهدر فيها الجزائر فرصة تاريخية ثمينة، في طريق إصلاح نظامها السياسي، بل ستتحول النتيجة إلى خطر فعلي على الدولة الوطنية والمجتمع، عن طريق انتخابات، ستكون مثل الانتخابات التي سبقتها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*د.ناصر جابي، أكاديمي جزائري وباحث في علم الاجتماع السياسي.

ABOUT THE AUTHOR

References

(1)  هم: علي بن فليس رئيس حزب طلائع الحريات وعبد المجيد تبون كمرشح حر، والاثنان قد شغلا وظيفة رئاسة الحكومة مع الرئيس بوتفليقة، يضاف إليهما: عز الدين ميهوبي، الأمين العام بالنيابة للتجمع الوطني الديمقراطي ووزير الثقافة الأسبق، وعبد القادر بن قرينة، وزير السياحة الأسبق ورئيس حركة البناء، وأخيرًا، عبد العزيز بلعيد، رئيس حزب المستقبل النائب السابق في البرلمان عن حزب جبهة التحرير قبل انشقاقه عنه.

(2)  تم توزيع عشرة ملايين استمارة على المرشحين الـ143 ولم يسترجع منها سوى مليون واحد فقط في حين اختفت 9 ملايين استمارة. انظر: 9 ملايين استمارة ذهبت "هباء منثورًا" إضرارًا بالخزينة العمومية، موقع بوابة الشروق، 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، (تم التصفح في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2019):https://bit.ly/2pGOTmw

(3)  انظر: الجريدة الرسمية الجزائرية، العدد 55 السنة السادسة والخمسون، بتاريخ 15 سبتمبر/أيلول 2019، (تم التصفح في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2019):https://www.joradp.dz/FTP/JO-ARABE/2019/A2019055.pdf

(4)  آخر إجراء كان في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2019، ونص على إقالة مديرة الإذاعة الوطنية ومدير القناة الثالثة باللغة الفرنسية اللذين قاما بعملهما بشكل حِرفي في تغطية الحراك الشعبي عكس المؤسسات السمعية البصرية العمومية الأخرى. انظر: إقالة المدير العام للإذاعة الجزائرية، موقع شهاب برس، 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، (تم التصفح في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2019):https://bit.ly/33jVwd1

(5)  رفض المشاركة في هذه الانتخابات أحزابٌ مثل حركة مجتمع السلم والحرية والعدالة من الإسلاميين، والجيل الجديد من الوسط، وكل أحزاب البديل الديمقراطي وعلى رأسهم جبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، زيادة على عديد الشخصيات السياسية الوطنية ممن كان يعول عليهم في الترشح لهذه الانتخابات وكذلك وجوه سياسية تحظى بقول شعبي من أمثال: عبد العزيز رحابي وأحمد بن بيتور ومولود حمروش ومصطفى بوشاشي.

(6)  الكثافة الديمغرافية والموقع الجغرافي لهما علاقة بالاستفادة المبكرة من التعليم وبالتالي إنتاج نخب سياسية وفكرية ظلت أكثر حضورًا في الشمال عكس الجنوب والهضاب العليا الذي تميز بسيطرة للإدارة على تسييره السياسي بما فيها الانتخابات.

(7)  د. ناصر جابي، الانتخابات، الدولة والمجتمع، دار القصبة للنشر الجزائر 1999.

(8)  اتجاهات الهجرة الجديدة لبعض الدول ككندا من قبل فئات متعلمة عادة ما تكون في سن كبيرة من أبناء هذه الفئات الوسطى.

(9)  د. ناصر جابي، الجزائر: الدولة والنخب، دار الشهاب للنشر الجزائر 2008.

(10)  أمينان عامَّان لحزب جبهة التحرير موجودان في الحبس زيادة على الأمين العام السابق للتجمع الوطني الديمقراطي ورئيس حزب أمل الجزائر، عمار غول، إضافة إلى عمارة بن يونس رئيس حزب الجبهة الشعبية وهو أهم الأحزاب التي كانت تؤلِّف لغاية الإطاحة ببوتفليقة ما سُمِّي بالتحالف الرئاسي الذي كان وراء ترشيحه للعهدة الخامسة.

(11)  انتخابات مبرمجة في فصل الشتاء عكس ما جرت عليه تقاليد تنظيم الانتخابات في فصل الربيع، مما قد يكون عاملًا إضافيًّا لعزوف المواطنين عن الخروج للانتخابات في حالة موانع طبيعية مرتبطة بالطقس كالأمطار التي تنضم في يوم واحد في بلد قارة مثل الجزائر كعادة قديمة عندما كانت الانتخابات من دون رهانات سياسية فعلية.

(12)  كان هذا شأن التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية وجبهة القوى الديمقراطية وبعض الأحزاب السياسية الصغيرة الأخرى المحسوبة على التيار الديمقراطي والتي تنشط أساسًا بين أبناء المنطقة، وقد عبرت عن نفسها ضمن البديل الديمقراطي.

(13)  أوضح تعبير في هذا الصدد ما جاء على لسان السيد مولود حمروش أمام باب منزله مخاطبًا بعض مؤيديه وقد طلبوا منه الترشح لهذه الانتخابات، فكانت إجابته لهم أنه حتى ولو فاز في مثل الانتخابات فلن يستطيع فعل أي شيء لهم. انظر: موقع يوتيوب، بتاريخ 5 أكتوبر/تشرين الأول 2019، تم الاستماع في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2019:https://www.youtube.com/watch?v=JRHZJB6mEAw

(14)  غياب الجزائر الدولي انطلق عمليًّا منذ الإعلان عن مرض بوتفليقة في ربيع سنة 2012، فلم يخرج فيها للخارج في أية زيارة رسمية باستثناء تلك الاستقبالات الرسمية التي لجأ إليها كتعويض زاد في حقيقة الأمر في تراجع صورة الجزائر دوليًّا؛ وذلك نتيجة الصورة التي ظهر بها الرئيس السابق أمام الوفود الأجنبية التي استقبلها.

(15)  لمدة عشرين سنة من الحكم لم يمنح الرئيس بوتفليقة مقابلة واحدة لأية وسيلة إعلامية وطنية، ولم يدخل قبة البرلمان بغرفتيه إلا مرة واحدة.

(16)  تمكن الرئيس الأسبق، الشاذلي بن جديد، بعد عهدته الأولى، على ضعف شخصيته، من التحول إلى رئيس قوي بصلاحيات فعلية كبيرة. ونفس الشيء حصل لبوتفليقة الذي انتُخب لعهدته الأولى بشكل سيء سنة 1999 بعد انسحاب كل المرشحين المنافسين له، لكنه تمكن مع الوقت من السيطرة وتحول إلى رئيس قوي وبصلاحيات فرعونية.

(17)  علي بن فليس 75 سنة، وعبد المجيد تبون 74سنة.

(18)  الرئيس بومدين: عقيد حيش التحرير وقائد الأركان ووزير الدفاع، وقد كان الرئيس الوحيد الذي اعتمد في وصوله للرئاسة على قوة دفع ذاتي اعتمدت على عصبة سياسية قوية سمحت له بفرض نفسه على كل المؤسسات بما فيها المؤسسة العسكرية التي عرف كيف يروضها.