ليبيا في سياسة تركيا الخارجية حقائق جديدة في معادلات البر والبحر

تتناول الورقة الحالية خلفية تطورات العلاقات التركية-الليبية وصولًا إلى توقيع الرئيس التركي ورئيس حكومة الوفاق، في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، اتفاقين أحدهما أمني والآخر في المجال البحري، وأهمية هذه الاتفاقيات لتركيا وآثارها على مستقبل ليبيا والصراع شرق المتوسط حول مصادر الطاقة المكتشفة.
1bfbb6dedcf24e46918ae2548c7ad238_18.jpg
سفينة تنقيب تركية في شرق البحر المتوسط (الأناضول)

تعتبر العلاقات التركية-الليبية علاقات عميقة تاريخيًّا حيث تعود إلى سنة 1552، بمعنى أن العلاقات تخطت 500 عام عندما كانت ليبيا جزءًا من الدولة العثمانية حتى 1911 وجزءًا مهمًّا من استراتيجية الدولة العثمانية في فرض السيادة في سواحل المتوسط وإفريقيا في ظل تنافسها مع عدد من القوى الأوروبية وخاصة فرنسا(1).

وخلال فترة حكم معمر القذافي، من عام 1969 حتى 2011، كانت العلاقات جيدة نسبيًّا وتعتبر أهم محطاتها دعم القذافي للتدخل التركي في قبرص، عام 1974. وفي فترة التسعينات، كانت العلاقات تسير بمسار تطوري وقد كان العامل الأهم في ذلك هو العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وهو الأمر الذي واصله حزب العدالة والتنمية بمزيد من الانفتاح حيث وصل التبادل التجاري إلى قرابة 10 مليارات دولار قبل 2010، وبعد ثورة 17 فبراير/شباط 2011، وقفت تركيا مع خيار الشعب الليبي الذي طالب برحيل القذافي ولكن بعد فترة قصيرة من التردد ورفض تنفيذ الحظر الجوي على ليبيا خشية من الانعكاسات السلبية للفوضى التي تعقب ذلك وخشية ضياع مجموعة من المكاسب التي توصلت لها في حال تحول التدخل لاحتلال مباشر أو غير مباشر.

"وقد كانت قيمة اتفاقية المشروعات التي رست مناقصتها على شركات تركية قبل الثورة في ليبيا والتي ظلت ناقصة لم تكتمل ولاسيما في مجال التعمير والبناء تُقدر بحوالي 18.5 مليار دولار. وبينما تقدر الأعمال التي وصلت مرحلة التسليم قبل الحرب الأهلية بـ3-4 مليارات دولار تقريبًا"(2).

ثم لم تلبث تركيا مع تقدم الثورة في ليبيا وبلدان أخرى أن تخلت عن أي حل يتضمن وجود القذافي في مستقبل ليبيا واعترفت بالمجلس الانتقالي الليبي ممثِّلًا لليبيا في يوليو/تموز 2011. وفي 16 سبتمبر/أيلول 2011، زار رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، ليبيا وقدمت تركيا كافة أنواع الدعم للمجلس الانتقالي كما دعمت المؤتمر الوطني المنتخب في 2012. ومع بدء العنف في ليبيا، في مايو/أيار 2014، بعد قيام الجنرال خليفة حفتر بعملية الكرامة العسكرية والتي واجهتها عملية أخرى من كتائب الثوار أُطلق عليها فجر ليبيا، حاولت تركيا تجنب التدخل المباشر ودعت إلى تفعيل العملية السياسية والحوار بين كافة الأطراف، كما تقيدت حركة تركيا في ليبيا مع وجود حكومتين تتنافسان على الشرعية، وكذلك وجود تشكيلات أمنية خارج التشكيلات الحكومية في طرابلس.

وبعد ذلك اختارت أنقرة دعم حكومة الوفاق المدعومة من الأمم المتحدة على الجانب الآخر الذي مثَّله حفتر الذي دعمته دول أخرى تتعارض مصالحها مع تركيا مثل الإمارات ومصر وفرنسا، وقد قدمت هذه الدول دعمًا عسكريًّا لحفتر على الرغم من الحظر المفروض مما دعا تركيا لتقديم الدعم لقوات حكومة الوفاق. وبالرغم من رعاية الأمم المتحدة لعملية حوار ليبي، أقدم حفتر على شن حملة عسكرية، في أبريل/نيسان 2019، للسيطرة على طرابلس ومنذ ذلك الحين لم يستطع أن يحقق أهدافه وخاصة بعد الدعم الكبير الذي قدمته تركيا لحكومة الوفاق والذي شمل مدرعات وصواريخ مضادة للدروع وطائرات بدون طيار؛ وذلك وفق اتفاقية دفاع مشترك أعلن عنها أردوغان، في يوليو/تموز 2019، من خلال تصريحه: "لقد أبرمنا اتفاق تعاون عسكري مع ليبيا، وسنزودهم بالأسلحة في حال طلبوا ذلك ودفعوا ثمنها، فقد واجهوا مشكلة فيما يتعلق بتلبية احتياجاتهم الدفاعية"(3). وكانت تركيا هددت بعمل عسكري ضد حفتر بعد احتجاز الأخير لستة بحارة أتراك أفرج عنهم لاحقًا، في يوليو/تموز 2019.

تتناول هذه الورقة خلفية تطورات العلاقات التركية-الليبية وصولًا إلى توقيع الرئيس التركي ورئيس حكومة الوفاق، في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، اتفاقين أحدهما أمني والآخر في المجال البحري، وأهمية هذه الاتفاقيات لتركيا وآثارها على مستقبل ليبيا وعلى الصراع شرق المتوسط حول مصادر الطاقة الهائلة المكتشفة خلال العقد الأخير. وترى الورقة أن الاتفاقيات الأخيرة تتعدى المكاسب الاقتصادية وتؤثِّر بشكل مباشر في تغيير قواعد اللعب شرق المتوسط حيث تثبت تركيا أنه لا يمكن استبعادها وأن بإمكانها إفساد جميع المخططات التي تستثنيها من الاستفادة من موارد الطاقة ومن عملية ربط حقول الغاز بالأسواق الأوروبية، وتُظهر حكومة الوفاق التي تحمي نفسها بدعم دولة مثل تركيا كشريك مهم لخطط تركيا في المنطقة عمومًا، وبالتالي ستواصل تركيا دعمها مستفيدة من الغطاء الذي تقدمه لها ومن الاستياء الأميركي من سماح حفتر بوجود تدخل روسي شرق ليبيا ومن بعض الخلافات الأوروبية. وفي نفس الوقت لا توجد ضمانات بألا تفتح هذه الخطوات التركية عليها جبهة جديدة أكثر خطورة وأكثر أعداء، ومع ذلك لا تُظهر تركيا أي نوايا للتراجع.

المصالح التركية في ليبيا

تَعتبر تركيا، ليبيا دولة مهمة في أجندة المصالح التركية، وتُعتبر من الدول القليلة التي حدَّد الرئيس أردوغان لها مبعوثًا خاصًّا لمتابعة العلاقات معها، وهو أمر الله إيشلر، والذي تم تعيينه في أكتوبر/تشرين الأول 2014، حيث تجتمع في ليبيا لتركيا عدة مصالح اقتصادية وسياسية وأمنية كما أن ليبيا مفيدة لتركيا على عدة محاور فهي جزء من البلدان العربية (الربيع العربي) ودول البحر المتوسط وأحد بوابات تركيا لإفريقيا ولها أهمية أيضًا في علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي.

ومع أن تركيا لديها مصالح اقتصادية مع ليبيا التي تعتبر صاحبة أكبر احتياطي نفط في إفريقيا بحوالي 40 مليار برميل (الخامسة عربيًّا، 3.76% من الاحتياطي العالمي) بالإضافة إلى احتياطيات غاز تُقدَّر بحوالي 54.6 تريليون قدم مكعب، ما يضعها في المرتبة الـ21 عالميًّا في احتياطيات الغاز(4). ووجود مشروعات معلقة لتركيا بقيمة 19 مليار دولار وأكثر وطموح بتنفيذ مشاريع كبرى لاحقًا في عملية إعادة إعمار ليبيا، بالإضافة لعملية تشجيع المستثمرين الليبيين للاستثمار في تركيا إلا أن المصالح التركية في ليبيا تتجاوز المصالح الاقتصادية الثنائية المجردة لتكون جزءًا من استراتيجية رفع مكانة ونفوذ تركيا في ظل التنافس التركي مع عدة أطراف دولية وإقليمية وجزءًا من التوجه المتزايد في السياسة الخارجية التركية في الاعتماد على القوة الخشنة والذي يتمثل في مظاهر مثل اتفاقيات الدفاع وصفقات السلاح والعمليات والقواعد العسكرية بعد تركيز تركيا في الأعوام قبل 2011 على التنمية والبعد الاقتصادي.

وفي هذا السياق، فإن دعم تركيا لحكومة الوفاق يدعم من جهة موقفها المساند للقوى التي ظهرت بعد الربيع العربي في المواجهة مع الدول المدافعة عن الوضع الراهن والتي تدعم جبهة حفتر بقوة حيث تَعتبر تركيا ليبيا أحد آخر المعاقل بعد فشل الثورة في مصر وسوريا واليمن وعدم الاستقرار في السودان، كما يضيف لتركيا شريكًا في منطقة شرق المتوسط بدلًا من المواجهة المنفردة لكتلة من الدول تجمع مصر وإسرائيل وقبرص واليونان التي تعمل على عزل واستبعاد تركيا في ظل التنافس على كميات هائلة من موارد الطاقة المكتَشَفة شرق المتوسط (حوالي 3.5 تريليونات متر مكعب من الغاز الطبيعي و1.7 مليار برميل من النفط الخام) والتي تحتاج لها تركيا بقوة لتمارس قدرًا أعلى من الاستقلال في سياستها الخارجية من جهة أخرى. فضلًا عن أن وجود علاقات قوية لتركيا مع ليبيا يقوي موقف تركيا البحري في التنافس التاريخي والنزاع على السيادة على بعض جزر المتوسط مع اليونان وحتى في أي مباحثات أخرى مع دول الاتحاد الأوروبي نظرًا للاهتمام الأوروبي الكبير بمستقبل ليبيا(5).

وعلى الجانب الآخر، فإن احتياج حكومة الوفاق للدعم العسكري في ظل وجود عدة داعمين لحفتر يقدم فرصة لتركيا لعقد صفقات السلاح والمعدات العسكرية وهو القطاع الذي تسعى تركيا لتطويره بقوة في السنوات الأخيرة وخاصة المدرعات وطائرات بدون طيار وأنظمة الصواريخ. وقد نشرت مواقع متخصصة بالأسلحة معلومات عن تزويد تركيا لحكومة الوفاق بأسلحة متقدمة(6).

الاتفاق الأمني والبحري

من الجيِّد أن نشير إلى أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا التي تم توقيعها بين أردوغان والسراج، في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، التي اكتسبت أهمية كبيرة حتى على الاتفاق الأمني الموقَّع معها -مع أن الاتفاقين متزامنان ويكمل كل منهما الآخر- هي فكرة قديمة ولكنها تحمل بُعدًا جديدًا، وقد أصبحت الفكرة عملية بعد أن أعلنت ليبيا المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بها في 2009 مما جعلها منفتحة على الاتفاقيات الدولية، والجديد فيها يأتي من أن المتداول هو رسم المناطق البحرية من خلال خطوط رأسية ويتفق مع هذا ترسيم الحدود المحتمل مع قبرص ومصر، ولكن الأدميرال البحري السابق والخبير في القانون البحري، جهاد يايجي، قد استحضر فكرة رسم الخطوط القُطرية لتحديد المناطق البحرية لتركيا منذ سنوات عديدة حيث بنى فكرته على: "أن موقع تركيا المائل جغرافيًّا ينص على حقها في رسم خطوط قُطرية لتحديد مناطقها البحرية وتوقيع اتفاقيات ترسيم الحدود مع ليبيا وإسرائيل ولبنان"(7). وأضاف يايجي أن اعتبار ساحل درنة وطبرق وبوردية في ليبيا وفتحية ومرمريس وكاش في تركيا بمنزلة سواحل متقابلة متصلة يتماشى مع القانون الدولي والمصالح المطلقة للبلدية(8).

وقد ذكرت بعض المصادر أن تركيا حاولت التوصل لاتفاق مع ليبيا قبل عام 2011 وأن أردوغان حمل الخرائط بنفسه في زيارة لليبيا، في نوفمبر/تشرين الثاني 2010، لكن وقوع الثورة حال دون التوصل للاتفاق(9). وبعد الثورة، حاولت تركيا مجددًا، كما ذكرت مصادر تركية أن وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، قام خلال زيارة له لليبيا، في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، من أجل تفاهمات أمنية، بإعادة فتح ملف المباحثات حول اتفاقية السيادة البحرية مما أكسب المباحثات سرعة أكبر. وتربط هذه المصادر هذا التطور بما حدث بعد ذلك من قيام الجنرال حفتر، في مطلع أبريل/نيسان 2019، بشن حملة عسكرية على طرابلس(10).

وقد حدثت عدة تطورات دفعت تركيا للسعي بقوة للتوصل للاتفاق مرة أخرى، وهي:

1- التوترات المتزايدة المتعلقة باكتشافات الطاقة الكبيرة شرق المتوسط وتفاهمات خط شرق المتوسط للغاز بين إسرائيل وقبرص واليونان.

2- إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط، والذي استُبعدت تركيا منه على الرغم من أنها جزء مهم من إقليم شرق المتوسط.

3- الحملة العسكرية، المدعومة من أطراف إقليمية، بقيادة الجنرال حفتر، ضد حكومة الوفاق، على طرابلس.

4- الموقف الأميركي المستاء من الدعم الروسي لحفتر.

5- وجود تحركات لحفتر للترتيب مع اليونان لخطة إعادة إعمار بنغازي.

ومن المهم الإشارة إلى أن الاتفاقية الأمنية والبحرية بين ليبيا وتركيا التي استغرق التوصل لها أشهرًا من المباحثات الفنية، تعتبر الخطوة الثالثة التي أقدمت عليها تركيا بعد إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط؛ حيث كانت الخطوة الأولى نشر قوات بحرية عبر استعراض للقوة في المتوسط، ثم البدء بأنشطة الحفر قبالة سواحل قبرص.

خارطة توضح المناطق البحرية التي تم الاتفاق عليها بين تركيا وليبيا بالإضافة للمناطق الاقتصادية الخاصة بالدول الأخرى

مصدر الخارطة: صحيفة ديلي صباح، 1 ديسمبر/كانون الأول 2019(11)

"يعتبر هذا الاتفاق مع ليبيا اتفاقًا تاريخيًّا لأنه يمثل أول صفقة في المنطقة الاقتصادية الخالصة لتركيا مع دولة ساحلية باستثناء قبرص التركية. ويعتقد أنه سيزيد الجرف القاري لتركيا في المنطقة المذكورة بحوالي 30 بالمئة"، والأهم أنه يوفر لتركيا مجموعة من المزايا التي قد تغيِّر قواعد اللعبة شرق المتوسط. ووفقًا لتقييم أنقرة، فإن الاتفاقية البحرية تقدم عددًا من المزايا لتركيا:

1- توفير أساس سياسي وقانوني لمحاولات تركيا المستقبلية في شرق المتوسط ويعطيها الحق في حماية حقوقها جرَّاء الاتفاقية وخاصة أعمال سفنها التي تقوم بالحفر والتنقيب.

2- منع اليونان من ترسيم الحدود البحرية مع مصر قبرص اليونانية عبر جزر كريت وميس. وكانت اليونان قد نشرت خرائط تقصر المنطقة التركية على خليج أنطاليا فحسب والذي يغطي مساحة 41 ألف كيلومتر مربع. ومن المستغرب أن تعارض حكومة السيسي هذه الاتفاقية رغم أنها تنسجم مع المصالح المصرية، وستكون طرفًا مستفيدًا من اتفاقية ترسيم الحدود البحرية. 

3- إحباط خطط عزل تركيا والقبارصة الأتراك وزيادة تأثير تركيا على الجغرافيا السياسية لشرق المتوسط.

4- تعتبر الاتفاقية بطاقة قوة بيد تركيا في أي حوار قادم يتعلق بحقوقها وبمستقبل ليبيا أيضًا.

5- إعادة تذكير الدول المكتشِفة لموارد الطاقة والدول المستقبِلة بأن المرور عبر تركيا هو الخيار الأكثر منطقية اقتصاديًّا وأمنيًّا في ظل محاولة حرمانها من ربط حقول غاز شرق البحر المتوسط بالأسواق الأوروبية(12).

التعاون في مجال الغاز شرق المتوسط

وفيما صادق البرلمان التركي على مذكرة التفاهم مع الجانب الليبي الذي اعتبر الاتفاق منسجمًا مع القانون الدولي فإن برلمان طبرق الذي يعارض الاتفاق اعتبر الاتفاق غير مشروع واتخذ خطوات لنزع الشرعية عن الحكومة وهو أمر تحتج به الدول المعارضة للتشكيك بقانونية الاتفاق -وهو الأمر الذي يعد نقطة ضعف للاتفاق- ومن جانبها أعلنت تركيا أنها ستُخطر الأمم المتحدة بالاتفاقية وإحداثيات المناطق الاقتصادية الخالصة لتركيا (EEZ) التي تم التأكيد عليها بموجب الاتفاقية مع حكومة ليبيا المعترف بها من الأمم المتحدة.

أما فيما يتعلق بالاتفاق الأمني، والذي لم يتضح بعد كامل تفاصيله، فهو امتداد لاتفاقيات سابقة ولكن تشير بعض الجهات الليبية إلى أنه يشمل السماح لتركيا باستخدام الأجواء الليبية وإقامة قواعد عسكرية والدخول للمياه الإقليمية الليبية فإن تركيا معنية بإعادة التوازن بين قوات حكومة الوفاق وقوات حفتر التي تتلقى الدعم من عدة جهات إقليمية، ومعنية بالحفاظ على بقاء الحكومة بالدرجة الأولى والتي ترتبط مصالح تركيا مع ليبيا ببقائها(13). كما أن رغبة تركيا تتعدى حفاظ حكومة الوفاق على طرابلس إلى بسط قوتها على مناطق أخرى، ويضيف الاتفاق لتركيا شرعية في تزويد حكومة الوفاق بالأسلحة في ظل تلقي حفتر لدعم عسكري كبير من مجموعة من الدول.

تثبيت الحقائق قبل مؤتمر برلين حول ليبيا

بعد أكثر من محاولة فاشلة لمباحثات الحوار الوطني الليبي مثل مبادرة الحوار الليبي في باريس، في مايو/أيار 2018، وباليرمو، في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، طرحت ألمانيا، في سبتمبر/أيلول 2019، استضافة الحوار الليبي بالرغم من عدم وجود مؤشرات على النجاح وفي ظل توصيات بضرورة التوصل لتفاهم مع الدول المنخرطة في ليبيا من أجل نجاح المؤتمر المقرر عقد اجتماع تحضيري له في 10 ديسمبر/كانون الأول 2019.

وفي حين كان يدور حديث عن عدم الرغبة في حضور دول مهمة مثل تركيا والجزائر لمؤتمر برلين، جاء توقيع الاتفاقيتين بين تركيا وليبيا قبل أسبوعين من عقد الاجتماع التحضيري في برلين داعمًا لموقف حكومة السراج ومُربكًا للدول التي تدعم حفتر والتي كانت على تماسٍّ مستمر معه، وعلى سبيل المثال كان حفتر موجودًا في الأردن في زيارة لم يتم الإعلان عن أجندتها أثناء وجود السراج في تركيا، كما توجه وفد برئاسة علي الهبري، رئيس البنك المركزي في الشرق غير المعترف به دوليًّا، إلى اليونان، بهدف الإعداد لخطة إعادة إعمار بنغازي(14).

وقد عبَّرت كل من مصر واليونان وقبرص وإسرائيل وبرلمان طبرق عن رفضها للاتفاقيات بين تركيا وحكومة السراج وقامت اليونان بطرد السفير الليبي وزار وزير خارجيتها القاهرة لإجراء محادثات مع نظيره المصري لتسريع المناقشات بين اليونان ومصر حول تعيين حدود المناطق الاقتصادية الخالصة بين البلدين كما قدمت إسرائيل دعمها لليونان. وكان "مركز أبحاث الأمن القومي" الإسرائيلي قد دعا، في أغسطس/آب 2019، لمراقبة الدور التركي في ليبيا، على اعتبار أن أنقرة ترى في تكريس نفوذها هناك وسيلة لمواجهة التعاون الإسرائيلي-المصري-اليوناني-القبرصي في مجال استخراج الغاز واقتصاديات الطاقة، وأن التحولات التي قد تشهدها ليبيا يمكن أن تؤثِّر سلبًا على مصالح تل أبيب الاستراتيجية(15).

أما عن تأثير الاتفاقية على مؤتمر برلين القادم، فقد كان المبعوث الأممي إلى ليبيا، غسان سلامة، أول من عبَّر عن خشيته من تشكيل ردود الفعل حول الاتفاق الذي وقَّعه السراج مع تركيا، خطرًا يمكن أن يعقِّد الوضع خلال الاجتماع التحضيري لمؤتمر برلين، في 10 من ديسمبر/كانون الأول(16). وعلى كل الأحوال، كانت الآمال بحدوث اختراقات ضعيفة جدًّا وربما تصبح أكثر صعوبة الآن.

ولا يقتصر الأمر على الأطراف الإقليمية فهناك تدخل روسي وفرنسي وإيطالي في الساحة الليبية كما أن هناك خلافات في وجهات النظر الفرنسية والإيطالية، وفيما هناك انسداد ميداني بعد محاولة حفتر الفاشلة تحاول الدول الأوروبية الحفاظ على مصالحها من خلال إدارتها للحوار السياسي بين الأطراف المتصارعة كما تحاول كل الدول المعنية أن ترسم حقائق على الأرض للاستفادة منها عند المفاوضات. وفي هذا السياق، فقد فتح التحول في الموقف الأميركي بابًا مهمًّا لتركيا حيث كان يُعتقد أن ترامب مؤيد تمامًا لموقف حفتر ثم لم يخف استياءه من إعطاء حفتر الفرصة لروسيا للتدخل واستغلال هشاشة الوضع لمصالحها وبالتالي طالبت واشنطن حفتر بوقف عملياته ضد طرابلس(17)، وعلى الأغلب استفادت تركيا من هذا الاستياء الأميركي في لعب الدور الموازِن للقوى الأخرى الداعمة لحفتر. ومن الجدير بالذكر أن الاتفاقية التركية-الليبية جاءت أيضًا قبل قمة الناتو في لندن وفي ظل توتر فرنسي-تركي حول عدة ملفات. ومع كل هذا السياق يبدو أن تركيا مصممة على العمل استنادًا على الاتفاقيات التي وقَّعتها مع حكومة الوفاق وعلى المرونة الأميركية الحالية.

خاتمة 

من الواضح أن العلاقات التركية-الليبية دخلت مرحلة جديدة مع توقيع الاتفاقين الأخيرين وأن تركيا مصممة على تكريس دعمها لحكومة الوفاق استنادًا على الأساس القانوني للاتفاقيات وعدم الاكتفاء بمنع حفتر من السيطرة على طرابلس بل وبسط نفوذها على مزيد من المناطق خاصة أن المناطق التي تشملها الاتفاقية البحرية مع تركيا لا تقع تحت سيطرة حكومة الوفاق. وتدور حاليًّا معارك على الأرض وفي الجو تتعرض فيها قوات حفتر لعدد كبير من الخسائر.

كما أن تركيا التي لا تشاركها حكومات المنطقة باستثناء قطر -التي وقَّعت معها سبع اتفاقيات في نفس الشهر- رؤيتها لمستقبل الشرق الأوسط تجد في حكومة الوفاق شريكًا آخر في ظل حالة العزلة أمام عدة فاعلين شرق المتوسط. وفي حال نجاح تركيا مع ليبيا فإنها قد تفتح خطوطًا للتنسيق مع سوريا ولبنان، وهما البلدان الآخران اللذان ليسا أعضاء في منتدى غاز شرق المتوسط. ومن المتوقع أيضًا في ظل استراتيجية تركيا تجاه المنطقة بشكل عام أن تزيد تركيا من توثيق علاقاتها الأمنية والعسكرية مع طرابلس خاصة مع سماح الاتفاقيات بوجود تركي مكثف في الموانئ الليبية وتتقدم للدفاع عنها دبلوماسيًّا في المحافل الدولية. وفي هذا السياق، أعلن برلمان شرق ليبيا بيانًا قال فيه: إن الصفقة ترقى إلى "اتفاقية دفاع"، بزعم أنها ستمنح أنقرة حق استخدام المجال الجوي الليبي والمياه الإقليمية، مما يسمح لتركيا ببناء القواعد العسكرية على الأراضي الليبية.

بالرغم من أن الاتفاقيات التركية-الليبية الأخيرة تبدو في مصلحة الطرفين إلا أنه بالنظر للأطراف الدولية والإقليمية المعارضة فإنها تخلق تحديًا ومخاطرة كبيرة لتركيا خاصة مع احتمالات الدخول في صراع مباشر في ظل الإعلان عن خطوة بدء السفن التركية التنقيب عن الطاقة على السواحل الليبية. ومن المتوقع أن تحدث ردَّات فعل من قبل الدول المتنافسة مع تركيا ليس أقلها تقديم مزيد من الدعم لحفتر وخاصة من مصر والإمارات.

كما أن تركيا من الممكن أن تكون عرضة لعقوبات من الاتحاد الأوروبي بسبب الدفع بهذا الاتجاه من قبرص واليونان والدول الأوروبية التي تمتلك شركات الطاقة مثل فرنسا وإيطاليا. ولكن التعقيد الأكبر في وجه تركيا هو حدوث تحول سلبي جديد في موقف الإدارة الأميركية.

أخيرًا، يمكن القول: إن احتياطيات الطاقة المكتشفة شرق المتوسط ودعم جهات معارضة لتركيا لحفتر في ليبيا ضاعفت من أهمية ليبيا في استراتيجية تركيا لتحقيق المكانة والنفوذ كقوة إقليمية طامحة وخاصة في المجال البحري في البحر المتوسط وقد قامت تركيا من خلال الاتفاقيات الأخيرة بتثبيت حقائق جديدة تتناسب مع سعيها لمزيد من التأثير والمكاسب والحقوق السيادية واستطاعت على قاعدة الربح للجميع تثبيت واقع بحري جديد في شرق المتوسط مقابل تأمين الجانب الدفاعي والأمني لحكومة الوفاق. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*محمود سمير الرنتيسي، باحث متخصص في الشأن التركي.

ABOUT THE AUTHOR

References

1- إمراه كيكللي، العلاقات التركية الليبية: مجالات الأزمة وإمكانات التعاون، مجلة رؤية تركية، السنة 6، العدد 3، 2017.

2- المرجع السابق.

3- Bulent Aras, The reasons behind Turkey's ongoing military support of Libya, Middle East Eye, “accessed December 7, 2019", 30 July 2019https://www.middleeasteye.net/opinion/why-turkey-providing-military-aid-libya

4-  ليبيا الخامسة عربيًّا في احتياطي النفط الخام والثامنة في الغاز الطبيعي، الوسط، 9 سبتمبر/أيلول 2018، (تاريخ الدخول: 7 ديسمبر/كانون الأول 2019): http://alwasat.ly/news/libya/218940

5-  Caroline Rose, Turkey Tests the Waters in the Eastern Mediterranean, Geopolitical Future, December 6, 2019, “accessed December 7, 2019"https://geopoliticalfutures.com/turkey-tests-the-waters-in-the-eastern-mediterranean/

6-  Turkey uses laser weapon technology to shoot down Chinese UAV Wing Loong II in Libya, Army Recognition, “accessed December 7, 2019", https://www.armyrecognition.com/weapons_defence_industry_military_technology_uk/turkey_uses_laser_weapon_technology_to_shoot_down_chinese_uav_wing_loong_ii_in_libya.html

7-  جهاد يايجي، دور وأثر ليبيا في تحديد مناطق الاختصاص البحرية شرق المتوسط، مجلة استراتيجيات الأمن، السنة 7، العدد 14 (اللغة التركية)، لمزيد من الاطلاع: https://dergipark.org.tr/tr/download/article-file/84509

8-  المرجع السابق، ص39.

9-  تركيا تغير التوازنات شرق المتوسط، صحيفة صباح، 6 كانون أول/ديسمبر 2019، (تاريخ الدخول: 7 ديسمبر/كانون الأول 2019)،   https://www.sabah.com.tr/duny/2019/12/06/iste-dunyanin-konustugu-harita-turkiye-akdenizde-dengeleri-degistirdi

10- المرجع السابق.

11-  ?eyma Gurbuz, Experts: Eastern Mediterranean deal with Libya signals Turkey's future deeds in region, 01.12.2019,“accessed December 7, 2019" https://www.dailysabah.com/politics/2019/12/01/experts-eastern-mediterranean-deal-with-libya-signals-turkeys-future-deeds-in-region

12-  SERKAN DEM?RTA?, Turkey-Libya deal seen as a game-changer in east Med, http://www.hurriyetdailynews.com/opinion/serkan-demirtas/turkey-libya-deal-seen-as-a-game-changer-in-east-med-149285

13-  اتفاق تركيا وليبيا: هل يشكل الاتفاق العسكري الأمني بشأن الحدود البحرية "تهديدا" لمصر؟، بي بي سي، 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 ،(تاريخ الدخول: 7 ديسمبر/كانون الأول 2019): https://www.bbc.com/arabic/inthepress-50602288

14-  دبلوماسية الـ«تفاهم» بين «الوفاق» وتركيا تفجر جدلًا محليًّا وإقليميًّا، الوسط، 30 نوفمبر 2019، (تاريخ الدخول: 7 ديسمبر/كانون الأول 2019): http://alwasat.ly/news/libya/265652?author=1

15-  "إسرائيل" وحفتر.. علاقات سرية تقترب من التطبيع العلني، الخليج أونلاين، 7 ديسمبر/كانون الأول 2019، (تاريخ الدخول: 7 ديسمبر/كانون الأول 2019): http://khaleej.online/a7NZr3

16-  سلامة يحذر من تأثير تبعات اتفاق السراج وتركيا على مؤتمر برلين، قناة ليبيا، 3 ديسمبر/كانون الأول 2019، (تاريخ الدخول: 7 ديسمبر/كانون الأول 2019): https://cutt.us/jjJfu

17-  الولايات المتحدة تطالب حفتر بوقف الهجمات على طرابلس، بي بي سي،15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، (تاريخ الدخول: 7 ديسمبر/كانون الأول 2019): https://www.bbc.com/arabic/middleeast-50442167