المصالحة الفلسطينية: ترتيبات السلطة وسقف منظمة التحرير

الاتجاهات التي تحكم المشهد الفلسطيني حاليًا، هي سعي كل من فتح وحماس إلى توافق داخلي، فرضته التغيرات الإقليمية بعد الثورات العربية، ليرتبط هذا التوافق بموازين القوى في العالم العربي وهي حاليًا تميل إلى دعم خيار التفاوض مع إسرائيل، وهذا سيضع سقفا للتوافق السياسي للقوى الفلسطينية يقلل فرص خيار المقاومة
201222613281859734_2.jpg
الرئيس الفلسطيني محمود عباس (يسار) ورئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل

لا تزال فرص إنجاز مراحل المصالحة الفلسطينية الواردة في إعلان الدوحة، الذي توصلت إليه حركتا فتح وحماس برعاية قطرية، غير مؤكدة، بسبب الطابع الفضفاض للتوافقات التي تضمنها هذا الإعلان بشأن القضايا الخلافية الرئيسة، علاوة على أزمة الثقة المتبادلة بين الجانبين، وتأثير الضغوط الخارجية التي مورست لإحباطه، فضلاً عن اعتراض قطاعات واسعة داخل التنظيمين عليه. ومن المحتمل أن يعاني إعلان الدوحة، مما عانت منه توافقات سابقة توصلت إليها حركتا فتح وحماس، لم تتجاوز اختبار التنفيذ، لاسيما اتفاق مكة في فبراير/شباط 2007، واتفاق القاهرة في مارس/آذار 2011.

معضلة منظمة التحرير

تطرق البند الأول في إعلان الدوحة لمستقبل منظمة التحرير؛ حيث اتسم هذا البند بالطابع الفضفاض، مما منح كلاً من الطرفين الفرصة لتأويله بالشكل الذي يخدم مصالحه وأهدافه؛ فقد نص الإعلان على: "تفعيل وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية، من خلال إعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني، بشكل متزامن مع الانتخابات الرئاسية والتشريعية". فمن الواضح أن هذا النص يُعد تراجعًا عن البنود المتعلقة بمنظمة التحرير في اتفاق القاهرة مارس/آذار 2011؛ حيث تم الحديث هناك بشكل واضح عن إجراء انتخابات لاختيار أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني؛ ففي الوقت الذي ترى فيه حركة حماس أنه يتوجب اختيار أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني عبر تنظيم انتخابات تُجرى في أماكن تواجد الشتات الفلسطيني، فإن حركة "فتح" تقول: إن الحديث عن إجراء مثل هذه الانتخابات أمر غير واقعي، على اعتبار أن الدول التي تستضيف الفلسطينيين لن تسمح بإجراء مثل هذه الانتخابات. لكن من الواضح أن السبب الرئيس الذي يحول دون التوافق على آلية محددة لتشكيل المجلس الوطني الجديد، الذي يُفترض أن يحدد السياسات العامة التي تلتزم بها المنظمة هو الخوف من تغيير موازين القوى داخل المجلس بشكل جذري. فحركة فتح لا تُبدي حماسًا لإجراء انتخابات المجلس الوطني لأن قيادتها تخشى أنه في حال أجريت فإن نتائجها لن تكون في صالحها، قياسًا على الانتخابات السابقة. ويمكن أن تكون حركة فتح تراهن على أن حكومات الدول التي يتواجد فيها معظم اللاجئين الفلسطينيين ستعمل على منع إظهار الحركة كالطرف الذي يرفض إجراء الانتخابات لتشكيل المجلس الوطني، عبر إعلان هذه الحكومات رفضها إجراء مثل هذه الانتخابات على أراضيها، كما أعلنت ذلك صراحة الحكومة الأردنية.

ومن الواضح أن استثناء الانتخابات كآلية لاختيار أعضاء المجلس الوطني الجديد يعني تهيئة الظروف لعدم التعرض للبرنامج السياسي الذي استندت إليه منظمة التحرير منذ التوقيع على اتفاقية أوسلو عام 1993، والذي حصر الخيارات الفلسطينية في المفاوضات ونزَع الشرعية عن الخيارات الأخرى، لاسيما المقاومة المسلحة ضد الاحتلال؛ فالرئيس عباس يبدو مفضِّلاً للصيغة التي تضمنها اتفاق القاهرة وأكد عليها إعلان الدوحة والمتمثلة في تشكيل إطار قيادي مؤقت لمنظمة التحرير يضم الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية بالإضافة لشخصيات فلسطينية مستقلة، إلى جانب أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، حيث يحظى عباس بدعم معظم أعضاء هذا الإطار، لأن تشكيلة هذا الإطار وطبيعة التمثيل داخله لا تعكس موازين القوى في الساحة الفلسطينية على الإطلاق. وعلى الرغم من أن اتفاق القاهرة وإعلان الدوحة قد نصّا على أن هذا الإطار سيكون مؤقتًا إلى حين تشكيل مجلس وطني جديد، فإنه في ظل صيغة التوافق الحالي فإن مثل هذا المجلس لن يرى النور قريبا، وسيبقى الإطار الحالي هو الإطار الوحيد الذي يضمن مشاركة رمزية فقط للفصائل الفلسطينية في تحديد السياسات الفلسطينية؛ حيث إن هذا الإطار يُعقَد بشكل غير دوري وبناءً على رغبة عباس فقط، وتأخذ المداولات فيه طابع المشاورات غير الملزمة.

حكومة في انتظار التوافق

نصَّ البند الرئيس الثاني في إعلان الدوحة على تشكيل حكومة "توافق وطني" برئاسة عباس، مع العلم بأن كل المؤشرات تدلل على أن مثل هذا التوافق غير متاح. وقد تفجرت الخلافات بين الحركتين حول الإطار الذي يتم ضمنه تشكيل هذه الحكومة؛ حيث إن حركة حماس طالبت بأن يتم تشكيل الحكومة في إطار صفقة رزمة شاملة، تتضمن: إغلاق ملف الاعتقال السياسي، وتوقُّف حكومة رام الله عن سياسة منع مواطنين في قطاع غزة من الحصول على جوازات سفر بحجة علاقتهم بحركة حماس، علاوة على وقف التعاون الأمني بين السلطة وإسرائيل. في نفس الوقت، فإن إعلان الدوحة أدى إلى خروج خلافات حماس الداخلية للعلن؛ حيث وجهت بعض قيادات الحركة انتقادات علنية لمشعل واتهمته بالتسرع في التوصل للإعلان، لاسيما موافقته على أن يجمع عباس بين رئاسة السلطة ورئاسة الحكومة.

لم يقتصر الخلاف بين الحركتين بشأن الحكومة على هذه النقاط، بل تعداه إلى ظروف تشكيلها؛ حيث طالبت حماس بأن تُعرَض الحكومة الجديدة على المجلس التشريعي لنيل الثقة، وهو ما ترفضه حركة فتح بشدة، لأنها تخشى أن تسهم هذه الخطوة في إضفاء شرعية على استعادة المجلس النيابي لدوره التشريعي والرقابي، بحيث يتمكن من إعادة طرح كافة المراسيم التي أصدرها عباس بعد تفجر الانقسام، ولم تعرض على المجلس، للتصويت مجددًا.

المصالحة: المحفزات والمعوقات

لقد بدا واضحًا أنه حتى بعد أكثر من أربع سنوات على تفجر الانقسام الداخلي الفلسطيني، فإن معوقات المصالحة الفلسطينية لا زالت تتغلب على محفزاتها، رغم التطورات الداخلية والتحولات الإقليمية التي شهدتها المنطقة، والتي أسهمت في تقليص هامش المناورة أمام الجانبين، وأحرجتهما على الصعيد الداخلي. ويمكن تلخيص معوقات المصالحة الرئيسة في التالي:

الفيتو الإسرائيلي
لقد كرر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو موقفه التقليدي من المصالحة في أعقاب إعلان الدوحة؛ حيث خيّر عباس بين المفاوضات مع إسرائيل والصلح مع حركة حماس، على اعتبار أنه –حسب المنطق الإسرائيلي– لا يمكن لمن يتصالح مع حماس أن يكون شريكًا لتل أبيب في المفاوضات. فإسرائيل معنية تمامًا باستمرار حالة الانقسام الفلسطيني الداخلي لأنها تسمح لها بهامش مناورة هائل في مواجهة الشعب الفلسطيني؛ ففي مواجهة حركة حماس، التي تصنفها إسرائيل حركة "إرهابية"، ترى تل أبيب أن من حقها ممارسة خيار القوة العسكرية، حتى بشكل غير متوازن. وفي مواجهة عباس، الذي يعلن تشبثه بخيار المفاوضات، فإن إسرائيل تدعي أنه لا يمكنها إبرام اتفاقات جادة معه لأنه يمثل نصف الفلسطينيين في أحسن الأحوال. وقد تمكنت إسرائيل والولايات المتحدة من إقناع عدد من دول العالم، خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخرًا، بتبني هذا الموقف من عباس.

إسرائيل لا تكتفي فقط بإبداء المواقف السياسية، فلديها العديد من الوسائل التي تبين حتى الآن، أنها قادرة على ردع قيادة السلطة عن المضي في خيار المصالحة الداخلية حتى النهاية؛ حيث تمزج إسرائيل بين العقوبات الاقتصادية، مثل التوقف عن تحويل عوائد الضرائب التي تجبيها لصالح السلطة لخزانة حكومة رام الله، والعقوبات الشخصية التي تتضمن فرض قيود على حرية الحركة لكبار قادة السلطة، وضمنهم عباس. وفي ظل الرفض الإسرائيلي، لا يمكن تطبيق أي اتفاق مصالحة في الضفة الغربية؛ فعلى سبيل المثال، لا يمكن تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية في الضفة الغربية بدون موافقة إسرائيل التي يجتاح جيشها يوميًا مدن وقرى وبلدات الضفة الغربية.

قيود الرباعية
لقد رحبت اللجنة الرباعية، التي تضم إلى جانب الولايات المتحدة، كلاً من الاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة، بإعلان الدوحة بتحفظ، وذكَّرت بشروطها التي يتوجب على أية حكومة فلسطينية الوفاء بها، وتتضمن: الاعتراف بإسرائيل والالتزام بالاتفاقات الموقعة معها، علاوة على نبذ "الإرهاب"، في إشارة للمقاومة الفلسطينية المسلحة ضد الاحتلال. ومن الواضح، أن كلاً من اتفاق القاهرة وإعلان الدوحة قد استندا إلى ورقة المصالحة المصرية، التي لم تتطرق لشروط اللجنة الرباعية. لكن هذا لن يمنع اللجنة الرباعية من اتخاذ إجراءات عقابية ضد أية حكومة لا تستجيب لهذه الشروط، وضمن ذلك إعادة تقييم تقديم الدعم المالي لمؤسسات السلطة. وقد أدى موقف الرباعية بالفعل إلى بروز خلاف واضح بين حركتي فتح وحماس؛ ففي حين أكدت "فتح" أن حكومة التوافق الوطني ستكون ملتزمة بشروط الرباعية، أكدت حماس أن هذه الحكومة ستكون ملتزمة فقط بما جاء في الورقة المصرية.

الحسابات الداخلية
لقد لعبت الحسابات الداخلية، لدى كل من حركتي فتح وحماس، دورًا مهمًا في تقليص فرص تحقيق توافق يُفضي إلى إنهاء حالة الانقسام القائم بين الجانبين بشكل جذري.

أولاً: حركة فتح: لقد شهد العامان الأخيران تحولات كان يُفترض أن تقنع قيادة الحركة باتخاذ قرار إستراتيجي نحو تحقيق المصالحة الوطنية؛ فقد مثّل صعود اليمين الإسرائيلي للحكم تحديًا كبيرًا لعباس وبرنامجه السياسي؛ حيث كان من الواضح أن حكومة نتنياهو تُولي اهتمامًا كبيرًا للمشروع الاستيطاني في الضفة الغربية وتهويد القدس، في الوقت الذي باتت تطرح شروطًا تعجيزية على السلطة، على رأسها: الاعتراف بيهودية إسرائيل، الذي يعني التنازل الطوعي عن حق العودة للاجئين. وتزامن هذا التطور مع غياب نظام الرئيس مبارك، الذي كان يُعد أهم حلفاء عباس وألد خصوم حركة حماس في الساحة الإقليمية. لكن هذه التحولات لم تقنع عباس  بالتخلي عن خيار المفاوضات مع إسرائيل والرهان على العلاقة مع الولايات المتحدة؛ فقد ظلت قيادة السلطة غير متحمسة لانتهاز فرصة تغيير قواعد اللعبة مع إسرائيل، والتي على رأسها إعادة النظر في بقاء السلطة الفلسطينية نفسها. في الوقت نفسه، كان هناك كثير من الأطراف داخل السلطة التي ارتبطت مصالحها بتواصل الانقسام، والعلاقة مع إسرائيل، وتصر على التزام السلطة بالحفاظ على وتيرة التعاون الأمني مع إسرائيل، حتى في ذروة الاعتداءات التي تشنها إسرائيل والمستوطنون على المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية.

ثانيًا: حركة حماس: على الرغم من أن حركة حماس، ارتأت أن ثورات التحول الديمقراطي تخدم الحركة على المدى البعيد، إلا أن قيادة الحركة في الخارج، على وجه الخصوص، أدركت أن هذه الثورات شكَّلت في المدى المنظور تحديًا لها، وقلصت من قدرتها على المناورة في الساحة الإقليمية؛ فقد كان من المطلوب من قيادة الحركة التي تتخذ من دمشق مقرًا لها، أن تتخذ موقفًا واضحًا من الثورة السورية، مع العلم أن قواعد حماس الجماهيرية تؤيد بلا تحفظ هذه الثورة. وعلى الرغم من أن قيادة الحركة حرصت على موقف وسط بين النظام السوري والثوار، إلا أن هذا الموقف قد لا ينال قبول الحليف الإيراني، مع العلم إن إيران تُعتبر أكبر ممول لحكومة غزة. وقد أدركت قيادة الخارج أن هذا الواقع يفرض أكثر من أي وقت مضى ضرورة العمل على إنهاء حالة الانقسام الداخلي حتى تتخلص من قيود الدعم الإيراني. من هنا وافق رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل على المصالحة، وعبَّر عنها بموافقته على تولي عباس رئاسة الحكومة، وهذا لم يلق قبولاً لدى أوساط قيادية كبيرة في الحركة، لاسيما في قطاع غزة.

التوافق والبرنامج

الاتجاهات التي تحكم المشهد الفلسطيني حاليًا، هي سعي كل من فتح وحماس إلى توافق داخلي، فرضته التغيرات الإقليمية بعد الثورات العربية، لكن هذا التوافق يرتبط بموازين القوى في العالم العربي وهي حاليًا تميل إلى دعم خيار التفاوض مع إسرائيل، وهذا سيضع سقفا للتوافق السياسي للقوى الفلسطينية يقلل فرص خيار المقاومة المسلحة. وبالتالي، فإن التفاهم على تقاسم السلطة يظل دون التوافق الضروري على إستراتيجية موحدة تتبناها منظمة التحرير الفلسطينية.