لبنان في عين العاصفة السورية

الحرب الساخنة التي يشنها النظام السوري على المطالبين بسقوطه تتحول إلى حرب باردة في لبنان بين تيارين رئيسيين، يراهن أحدهما على بقاء الأسد لترسيخ نفوذه الداخلي، والآخر على سقوطه لتعديل موازين القوى الداخلية لصالحه.
2012422103945996734_2.jpg
 

هل ينجذب لبنان، في نهاية المطاف، إلى الأزمة السورية، بحكم دورانه الجيو-ستراتيجي طيلة أكثر من 40 سنة في فلك هذه الجارة الكبيرة، أم سيكون قادرًا هذه المرة، وإن نسبيًا، على الإفلات من حتميات الجغرافية والتاريخ؟

ومن هذا السؤال ينبثق آخر قد لا يقل أهمية: هل قرار الارتباط أو الفكاك من الأزمة السورية، التي لاتزال تبدو حتى الآن طاحنة وفق كل المعايير، في يد الأطراف السياسية اللبنانية المتنازعة أم هو في يد النظام السوري الراهن؟

استراتيجية الانتظار

القوى السياسية اللبنانية التي تنقسم، كما هو معروف، إلى معسكرين كبيرين، هما تيار 8 مارس/آذار المدعوم سوريًا وإيرانيًا بقيادة حزب الله، وتيار 14 مارس/آذار المسانَد سعوديًا وأميركيًا بقيادة تيار المستقبل، تُمارس منذ سنة وحتى الآن استراتيجية انتظار إزاء الأزمة السورية في إطار "حرب باردة" حقيقية بينها.

هذه الاستراتيجية، التي أُطلِق عليها اسم مميّز هو "سياسة النأي بالنفس"، تستند عمليًا إلى التكتيك التالي: الجلوس بأقصى هدوء ممكن في غرفة الانتظار، إلى حين اتضاح مصير الأوضاع بسورية.

بيد أن تكتيك الانتظار السياسي هذا لا يندرج في استراتيجية وطنية متفق عليها؛ إذ إن كلاً من الطرفين ينطلق من قناعة لم تهتز منذ سنة وشهرين (هي عمر الأزمة السورية الراهنة)، بأن ثمرة النصر ستقع في النهاية في حضنه، إما عبر خروج النظام السوري حيًّا من الأزمة، كما يعتقد 8 مارس/آذار، أو بسقوطه الحتمي، كما يؤمن 14 مارس/آذار.

وانطلاقًا من هذا الإيمان وذاك الاعتقاد، يبني كل طرف حساباته إما لتكريس واقع موازين القوى الراهنة في لبنان التي تميل لصالح حزب الله وحلفائه (مسيحيي ميشال عون وسليمان فرنجية، ودروز طلال أرسلان ووئام وهاب، وبعض أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية سابقًا)، أو لتغيير هذه الموازين كما يأمل تيار المستقبل وحلفاؤه (مسيحيو سمير جعجع والكتائب، ودروز وليد جنبلاط، وبعض أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية السابقة).

هذا الاستقطاب الانتظاري يفسّر أسباب الجمود الكامل في مشاريع الحوار الوطني في لبنان التي كانت تجري طيلة سنوات عدة برعاية رئيس الجمهورية ميشال سليمان؛ فحزب الله رفض كليًا الوثيقة التي أصدرها تيار 14 مارس/آذار  مؤخرا، في ذكرى التظاهرات التي أعقبت اغتيال رفيق الحريري 2005، والداعية إلى "الحوار والانفتاح، وبناء السلام الداخلي، والدولة الجامعة". كذلك، حين دعا رئيس الحكومة السابق سعد الحريري الطائفة الشيعية إلى "أن نصنع مصيرنا معًا"، رد عليه زعيم حزب الله السيد حسن نصر الله بالقول: "لستم في موقع يسمح لكم بمنح الضمانات في لبنان والمنطقة، لأن اللعبة أكبر منكم".

وتيار 14 مارس/آذار، بدوره، رفض دعوات الرئيس سليمان المتكررة إلى استئناف ما انقطع من حوار وطني، طارحًا شرطًا لم يكُ يتمسك به سابقًا قبل الحوار، وهو إعلان حزب الله استعداده لتسليم سلاحه إلى الدولة، في إطار استراتيجية جديدة للدفاع الوطني.

الدافع في كلا الحالين لدى الطرفين معًا واحد: الرهان على التغيير أو اللاتغيير في سورية التي كانت لها اليد الطولى في رسم معالم موازين القوى الراهنة في لبنان، منذ أن استلم الرئيس حافظ الأسد زمام السلطة في دمشق عام 1970، ومنذ أن تبنّى استراتيجية تثبيت استقرار سورية عبر ممارسة نفوذ إقليمي كاسح خاصة في لبنان والقضية الفلسطينية (ولاحقًا "القضية الإيرانية").

"حرب باردة"

لعبة الانتظار تجري في إطار "حرب باردة" حيال الأزمة السورية بين الأطراف اللبنانية، عبر وسائل شتى، أبرزها الجهود العلنية و"السرّية" التي يبذلها كل طرف لدعم النظام أو المعارضة السوريين.

فإعلام تيار 8 مارس/آذار يؤكد رواية النظام السوري حول نفي وجود ثورة شعبية في البلاد، بل مجرد "عصابات إجرامية إرهابية تعيث فسادًا وتروّع المواطنين". هذا ما تقوله فضائيات المنار وإن. بي. إن وأو تي. في، وتكرره صحف مثل السفير والديار والأخبار.

وإعلام 14 مارس/آذار، في المقابل، يتبنى تمامًا رواية المعارضة السورية حول وجود "ثورة شعبية تاريخية"، ويشير إلى الجيش السوري على أنه "كتائب الأسد"، (تشبيها بتعبير "كتائب القذافي"). وهذا التوجّه يبدو واضحًا في فضائية المستقبل، وإلى حدٍّ أقل في فضائيتي إم. تي. في وإل. بي. سي، وفي صحف المستقبل والحياة واللواء والأنوار.

بيد أن الأمور لا تقتصر على الإعلام؛ إذ ثمة اتهامات سياسية شبه يومية بين التيارين الآذاريين حول التدخل المباشر في سورية.

لكن، وعلى رغم السخونة الواضحة في الاستقطاب اللبناني إزاء الأزمة السورية، إلا أن السمة الأبرز حتى الآن لهذا الاستقطاب هي "الحرب الباردة". وهذا له، إضافة إلى لعبة الانتظار، ثلاثة مبررات فرعية أخرى؛ الأول: عدم توافر مزاج شعبي لبناني لاستئناف حرب أهلية دامت أكثر من 15 عامًا دمّرت لبنان بالكامل، وقتلت وجرحت وشرّدت نحو نصف سكانه، ولا تزال ذكرياتها المرعبة حاضرة؛ فهذا المزاج حوّل بالدرجة الأولى قادة سابقين في الحرب الأهلية إلى دعاة للحفاظ على السلم الأهلي.

السبب الثاني: أن أجندة حزب الله، الحليف الرئيس والأقوى لسوريا في لبنان، هي بالضرورة إقليمية لأنها تتعلّق بالصراع مع إسرائيل؛ ولذا فإن الحزب يفضّل عدم إحراق أصابعه في لبنان عبر الأتون السوري في الشرق، فيما هو يستعد لحرب طاحنة يعتقد أنها حتمية مع إسرائيل في الجنوب.

السبب الثالث: هو أن النظام السوري نفسه يحبّذ (حتى الآن على الأقل) بقاء الوضع على حاله في لبنان؛ فحكومة ميقاتي شكّلها بالأساس حلفاؤه، وقد اتخذت سلسلة مواقف إقليمية (في الجامعة العربية) ودولية (في مجلس الأمن وباقي هيئات الأمم المتحدة) ترفض عزله أو إدانته، وإن تحت شعار "النأي بالنفس".

علاوة على ذلك، يحتاج النظام السوري لبنان بشكله الحالي لمساعدته على كسر بعض حلقات الحصار القاسي الاقتصادي والمالي والنفطي المفروض عليه. وهذا تحقق جزئيًا عبر رفض الحكومة اللبنانية الالتزام بالعقوبات العربية على سورية، في الوقت نفسه الذي تبذل فيه هذه الحكومة جهودًا حثيثة للمواءمة بين العقوبات الدولية (الأوروبية والأميركية) على سورية، وبين الضغوط السورية عليها كي "تنأى بنفسها".

بالطبع، هذا لا يعني أن النظام السوري راضٍ تمامًا عن أداء الحكومة اللبنانية الحالية؛ فمن مصلحته أن تكون أكثر انخراطًا في فك الحصار المضروب عليه, وأكثر نشاطًا في ملاحقة المعارضين السوريين الهاربين وتسليمهم إليه.

بيد أن كل ذلك لم يصل إلى درجة العمل على إسقاط الحكومة أو تغيير المعادلات السياسية القائمة حاليا؛ فالضرورات السورية في هذه الأيام تبيح محظورات عدم التبعية اللبنانية الكاملة لقراراتها وتوجهاتها كما كان يحدث قبل أربعة عقود. وهذه الضرورات تبدو مكتفية في الوقت الحاضر بالتعاون بين الحكومتين، وأيضًا بوضعية الانتظار الحذرة والدقيقة التي تمارسها الأطراف اللبنانية، بما في ذلك حلفاء سوريا في لبنان.

ولعل أوضح تجسيد لاستراتيجية الانتظار هذه هي السياسة المزدوجة التي يمارسها الزعيم الدرزي جنبلاط؛ فهو في الآونة الأخيرة عاد إلى مواقعه السابقة المنتقِدة بشدة للنظام السوري، ووصل به الأمر إلى درجة وضع علم الثورة السورية على ضريح والده كمال جنبلاط الذي يتهم جنبلاط الابن دمشق باغتياله في 16 مارس/آذار 1977. لكن وليد جنبلاط، مع ذلك، يستبقي وزراءه الثلاثة في حكومة يسيطر عليها حلفاء النظام السوري.

سيناريوهات قاتمة

موازين القوى بلبنان معلقة بالوضع في سوريا، وستتحرك حسب عدد من السيناريوهات:

السيناريو الأول
استمرار حالة الانتظار الراهنة، بالتزامن مع تحوّل الوضع السوري إلى أزمة مديدة وممتدة تقترب من الحرب الأهلية لكنها لا تقع تمامًا فيها. وفي هذه الحالة، ستتواصل وضعية "اللاحرب واللاسلم" بين الأطراف اللبنانية المتنازعة، مع ما يرافق ذلك من شلل شبه تام في عمل الحكومة وشلل تام في عملية بناء الدولة.

السيناريو الثاني
احتمال تغيُّر موقف النظام السوري من سياسة النأي عن النفس اللبنانية، وتحوّله من الضغط الناعم على لبنان إلى الضغط الخشن عليه، بهدف صرف أنظار الشعب السوري عن الأزمة الداخلية، وفي الوقت نفسه تحويل لبنان مجددًا (وكما اعتادت دمشق أن تفعل طيلة الحرب الأهلية فيه التي كانت هي أحد عواملها المحرِّكة الرئيسية) إلى ساحة صراع وإلى صندوق رسائل إلى القوى الإقليمية والدولية حول استمرار قدرة النظام على تفجير الأوضاع في المنطقة في حال استمرار الضغط عليه. وحينها، قد يعمد النظام إلى جرّ حزب الله المتمنِّع إلى معمعة داخلية لبنانية لا يريدها.

السيناريو الثالث
حدوث "انقلاب قصر" (علوي) في سورية، برعاية روسية-أميركية هذه المرة، يتضمن إطاحة الترويكا السورية الحاكمة حاليًا (الرئيس الأسد وشقيقه ماهر وصهره آصف شوكت)، وتدشين مرحلة انتقالية تعددية على النمط اليمني، أو إبرام اتفاق طائف سوري (تيمنًا باتفاق الطائف اللبناني) لتقاسم جديد للسلطة بين السنّة والعلويين. وفي هذه الحالة، قد تتفاقم الأزمة في لبنان، أو حتى تنفجر، لأن فريق 14 مارس/آذار سيفسّر هذا التطور على أنه سحب للبساط الإقليمي والدولي من تحت أقدام حزب الله، وسيحاول فرض تنازلات عليه تحت شعار "خضوع الجميع لسلطة الدولة".

السيناريو الرابع
يتضمن احتمال وصول الأطراف اللبنانية في لحظة ما إلى استنتاجات خاطئة إزاء مآل النظام السوري، إما بالاعتقاد باحتمال نجاحه الوشيك (8 مارس/آذار) أو سقوطه الوشيك (14 مارس/آذار)، فتقوم بعمليات تصعيد بدعم من قوى إقليمية ودولية، تسفر في خاتمة المطاف عن جرّ لبنان عمليًا إلى أتون الأزمة السورية.

كما هو واضح من هذه السيناريوهات، ليس فيها ثمة ما هو إيجابي بالنسبة إلى لبنان، على المدى القصير على الأقل. وهذا أمر غير مفاجئ في الواقع. فكما أسلفنا في البداية، منطلقات القوى السياسية اللبنانية لا تنبع من توافق وطني حول مصلحة لبنانية، بل من حسابات براغماتية باردة لموازين قوى في الداخل ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتحالفات عضوية مع القوى الإقليمية والدولية في الخارج.

حين يكون بطن الداخل اللبناني مفتوحًا على هذا النحو أمام مباضع الخارج؛ وحين يكون كل طرف لبناني في حال انتظار لقلب موازين القوى الراهنة حين يوفّر لها مآل الوضع السوري ظروف هذا الانقلاب، فإنه لا مناص من أن تشخص الأنظار إلى دمشق  وحلب وحمص وإدلب ودير الزور، في كل حين أراد المرء أن يعرف ما قد يحدث في بيروت وطرابلس والمختارة ومعراب والضاحية الجنوبية.