حدثان رئيسيان وقعا في جمهورية مالي بغرب أفريقيا، في نهاية مارس/ آذار وبداية أبريل/نيسان 2012 ، أدخلا البلاد ومنطقة الساحل الافريقي في أزمة كبيرة:
-
الانقلاب العسكري على حكومة الرئيس امادو توماني توري وتعليق المؤسسات الدستورية في البلاد، لكن لم تعترف به أية دولة في العالم.
-
سيطرة قوات حركة تحرير الأزواد مع ثلاث حركات جهادية أخرى (هي القاعدة ببلاد المغرب الاسلامي، وأنصار الدين، حركة الجهاد والتوحيد في غرب افريقيا) على شمال البلاد، وخصوصا المدن الثلاثة الرئيسية فيها، كيدال غاو وتمبوكتو، وبعد ذلك أعلنت حركة الأزواد عن وقف العمليات، ومن ثم إعلان استقلال تلك المنطقة لأنها منطقة شعب الأزواد كما تقول، وقد رفضت الاعتراف به القوى الدولية.
ويرتبط الحدث الأول بالثاني في الأسباب، والمسارات المحتملة لموازين القوى داخل البلاد، وفي الجوار الاقليمي. فالعسكريون انقلبوا احتجاجا، حسبهم، على خذلان القيادة السياسية والعسكرية لهم في قتالهم لقوات حركة تحرير الأزواد، أولا: بسبب أنها لم توفر لهم السلاح والدعم الكافيين، وثانيا: لفسادها وعجزها عن قيادات العمليات العسكرية.
إلا أن الانقلاب أحدث نتيجة عكسية للهدف الذي أعلنه منفذوه، حيث قضى على القيادة السياسية الشرعية، وأحدث شرخا في الجيش المالي بين مؤيد للانقلاب ومعارض له، ووجَّه مجهود الانقلابين إلى تأمين سلطتهم الجديدة مما اضعف القوات المالية المقاتلة في الشمال، فانتهزت حركة الأزواد الفرصة وسيطرت على كل شمال مالي في مدة 3 أيام، دون قتال تقريبا.
المخاطر المترتبة على الأزمة
نتج عن هذا الوضع المتأزم مخاطر جمة على جمهورية مالي وعلى دول الجوار الأفريقي، وعلى قوى دولية نافذة.
فبالنسبة لجمهورية مالي، فإن الخطر الرئيسي، هو انقسام البلاد الى دولتين، علاوة على إمكانية حدوث حرب أهلية إذا لم ينفذ الانقلابيون تنفيذا كاملا تعهدهم بتسليم السلطة، وإعادة عمل المؤسسات الدستورية.
أما بالنسبة لدول الجوار الأفريقي، فإن نشوء دولة للأزواد يمثل سابقة في غاية الخطورة، قد يتبعها الطوارق في البلاد المحاذية، كالجزائر والنيجر. علاوة على أن وجود حركات جهادية متعاونة مع حركة الأزواد، تتفق كلها على إقامة دول اسلامية (حركة الأنصار بمالي فقط، القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي، وحركة التوحيد والجهاد في منطقة غرب افريقيا)، قد يجعل تلك المنطقة مركزا لنشاط الجهاديين في منطقة الساحل وغرب افريقيا، تستهدف دول المنطقة، والمصالح الدولية، وتكون قاعدة لشن هجمات خارج المنطقة، بالتعاون مع الحركات الجهادية في افريقيا و باقي مناطق العالم.
المسار الراجح
يبدو أن كل المسارات المحتملة والراجح منها في الأزمة تتعلق بأمرين: إعادة الشرعية الدستورية بمالي، و توحيد البلاد مجددا بإنهاء استقلال المناطق التي سيطرت عليها حركة تحرير أزواد.
والأمران مرتبطان، لكن نوع الحل يتحدد بأولوية أي منهم، إعادة الشرعية الدستورية أو إنهاء سيطرة حركة الأزواد، والموازنة تتحدد بالرهانات المتعلقة بكل منهما، وقدرة الأطراف المعنية، والحل المنشود. فنوع الرد على المخاطر والحل الممكن التحقق يتعلق بقدرة الأطراف المعنية، وهي:
الانقلابيون لا يبدون قادرين على اعادة اخضاع الشمال ولذلك فهم يستنجدون بالقوى الدولية لضرب حركة تحرير الأزواد باتهامها أنها حركة ارهابية متحالفة مع القاعدة، فالسلطة الجديدة تعترف بعجزها عن ضمان وحدة البلاد.
الجماعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا، والمعروفة اختصارا بالاكواس ويقف وراءها الاتحاد الافريقي ومجلس الأمن وفرنسا وأمريكا، فهي تلّوح بالتحرك العسكري لوقف تقدم حركة الأزواد نحو العاصمة باماكو، وهو ما يعد موقفا دفاعيا فقط. ولا يبدو أن الاكواس في وضع يمكنها لوحدها من مهاجمة وضرب حركة تحرير ازواد، وإعادة توحيد مالي.
الدولة الأقوى في المحيط الإقليمي لمالي، وهي الجزائر، تتحرك تحت غطاء هيئة الأركان المشتركة لمحاربة الارهاب، ومن ضمنها مالي وموريتانيا والنيجر، لكن هذه الهيئة لم تعمل معا بشكل فعَّال منذ تأسيسها، وظلت الجزائر هي الطرف الرئيسي وتتصرف بمفردها، وهي ترفض التدخل الأجنبي في مالي، وتقصد خاصة فرنسا، وتمتنع هي بدورها من التدخل عسكريا، وقد كان هذا تاريخيا الاتجاه الرئيسي في تعاملها مع الوضع في شمال مالي خوفا من اتساع الحرب إلى داخلها، وظلت تفضل الوساطة بين الأزواد وحكومة مالي من أجل حل سياسي، يدمج الأزواد في الدولة المالية. أما عن الحركات الجهادية، فلم تكن استراتيجية الجزائر تاريخيا القضاء عليها وإنما الاحاطة بها حتى لا تتوسع نحو شمال البلاد.
إذن، كل الأطراف الرئيسية في الأزمة، لا تبدو أنها تعتزم الحل العسكري في الوقت الراهن لقضية الانفصال، فضلا عن أنها غير قادرة عليه، لأن القوى الكبرى مثل فرنسا وأمريكا ترفضه لأسباب سياسية داخلية بالدرجة الأولى، وتتعهد فقط بالدعم اللوجيستي للقوات الافريقية. أما القوات الافريقية التابعة للاكواس، فهي لا تستطيع لوحدها مواجهة قوات الأزواد، فكل ما تعهدت بحشده هو نحو 2000 عنصر، وتحتاج إلى القوات المالية لتحقيق النصر، ثم السيطرة على الوضع بعد ذلك. والقوات المالية تحتاج إلى الوقت من أجل إعادة التنظيم والتسليح ورفع المعنويات. علاوة على أن أولوية الذين تسلموا زمام الأمور بعد الانقلاب ليست مواجهة حركة الأزواد في الشمال وإنما محاولة السيطرة على الحكم في المرحلة الأولى، والتحكم في نقل السلطة للمدنيين في المرحلة الحالية.
إذن، فالخيار العسكري لإعادة اخضاع شمال مالي، يحتاج إلى القوات المالية، وحتى تتعاون مالي تحتاج إلى حل مشكلة الانقلاب. فالتركيز سيكون اذن على حل هذه المشكلة أولا، ليس فقط من أجل العمل العسكري وغطاءه السياسي الشرعي من حكومة معترف بها داخليا وخارجيا، بل كذلك من أجل الوصول إلى حل سياسي، تبرمه حكومة شرعية في مالي، بعد انهاء سيطرة حركة الأزواد على منطقة شمال البلاد.
والذي يقوي هذه الترتيب، أي حل مشكلة الانقلاب أولا قبل التوجه لانهاء سيطرة حركة الأزواد، أن هذه الحركة أعلنت وقف تقدمها نحو جنوب مالي والعاصمة بماكو، وتلّوح بابتعادها عن الحركة الجهادية، بل إن من السيناريوهات المحتملة أن تقايض الاعتراف بها بالتخلص منهم، فهي حركة علمانية وأهدافها سياسية تنحصر بالسلطة، وداخل حدود مالي. بخلاف الحركات الجهادية التي تريد تغيير المجتمع والأفراد إما بمالي أو خارجه. فالخلاف بين الطرفين واقع لا محالة.
والخلاصة: الأولوية ستكون للحل السياسي على الأرجح، كما ظهرت بوادره في موافقة الانقلابيين على تسليم السلطة لرئيس البرلمان، بحيث يعاد ترتيب النظام السياسي للحكم في مالي، حتى يتماسك مجددا ويتمكن من خوض المعركة. وفي نفس الوقت ستضغط الدول الكبرى، مثل أمريكا، عن طريق الجزائر ربما، على حركة تحرير الأزواد لكي تبتعد عن الحركات الجهادية، في مقابل مساعدتها في الحصول على نوع من الحكم الذاتي داخل مالي.
وهذا الترتيب يقتضي وقتا طويلا، يسمح بإعادة الشرعية للنظام السياسي المالي والضغط على حركة الأزواد كي تبتعد عن الحركات الجهادية.
فالراجح، أن تتفق مختلف القوى السياسية مع الانقلابيين على تشكيل حكومة توافقية كمرحلة أولى، بعد تعذر اجراء الانتخابات الرئاسية في وقتها لسببين:
-
وجود شمال مالي خارج السيطرة فيمتنع عن السكان هناك التصويت.
-
الاكتفاء بإجراء الانتخابات في الجنوب يكرِّس انقسام البلاد سياسيا، ويجعل الرئيس المنتخب رئيسا لقسم منه فقط.
وستتزامن مع هذه المرحلة، إعادة تنظيم الجيش بعد الهزائم في الشمال، والتصدع الناتج عن الانقلاب.
مع ذلك، لن تستطيع مالي مواجهة الانفصاليين لوحدها، وستحتاج إلى دعم إقليمي، عسكري وسياسي؛ فحركة تحرير الأزواد باتت أقوى من الجيش المالي، كما تبين من الحاقها الهزائم بالقوات المالية الرئيسية، لأنها تدعمت بآلاف المقاتلين مجهزين بأسلحة متطورة، عادوا من ليبيا بعد سقوط القذافي. ومن ناحية أخرى، فإن انفصال شمال مالي يمثل خطرا على وحدة دول مجاورة، ويعنيها بشكل مباشر ابقاءه موحدا. ولذلك، ستتفق مصالح دول الاقليم على التدخل في مالي لانهاء الانفصال، والتوصل إلى حل سياسي، لن يعيد الأوضاع إلى السابق بشكل كامل بل سيكون أشبه بالحكم الذاتي لأن موازين القوى تغيرت بعد أن تنامت قوة حركة الأزواد وباتت تسيطر على شمال البلاد.