بعد شدٍّ وجذب دام لعدة أيام بين مراكز السلطة الثلاث، باردو والقصبة وقرطاج، كلَّف رئيس الجمهورية، قيس سعيد، السبت 25 يوليو/تموز 2020، هشام المشيشي، وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال، ومستشاره القانوني السابق، بتشكيل حكومة جديدة. جاء ذلك في خضمِّ أزمة سياسية حادة دفعت رئيس الحكومة السابق، إلياس الفخفاخ، لتقديم استقالته على خلفية اتهامات له بتضارب المصالح، وتحت ضغط لائحة برلمانية لسحب الثقة منه تقدمت بها مجموعة من الكتل النيابية.
مثَّلت استقالة الفخفاخ مفصلًا مهمًّا في أزمة ظهرت بوادرها منذ تشكيله الحكومة في أواخر فبراير/شباط الماضي (2020)، وظلت تتفاعل تصاعديًّا إلى أن وصلت حدَّ انهيار الائتلاف الحكومي برمته. وقد ألقت هذه الأزمة بظلالها على العمل الحكومي، فبدا متنافرًا في بعض الأحيان وغاب التضامن بين وزراء الفخفاخ أحيانًا أخرى. كما ألقت بظلالها على العلاقات بين الرئاسات الثلاثة، فتراوحت بين البرود والتوتر بين رئاسة الدولة ورئاسة البرلمان من جهة، وبين رئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة من جهة أخرى. ولم يكن التسابق المحموم بين تقديم الاستقالة وتقديم لائحة سحب الثقة والجدل القانوني والدستوري الذي رافقهما إلا وجهًا من وجوه هذا التوتر.
الآن، وقد بلغت الأزمة السياسية هذا المستوى من التعقيد، وانتهت في فصلها الراهن بانهيار الائتلاف الحاكم وتعيين المشيشي بديلًا عن الفخفاخ، ما أسباب هذه الأزمة؟ وكيف سيتحرك المشهد السياسي التونسي ليصل إلى توازن جديد تتشكل على قاعدته الحكومة القادمة؟ وما رهانات الأطراف المعنية في الداخل والخارج؟ وهل ستتمكن الحكومة الجديدة من مواجهة استحقاقات المرحلة القادمة أم أن الوضع سيتجه نحو انتخابات سابقة لأوانها قد تفرز معادلة حكم أكثر استقرارًا؟
انتخابات 2019: الطريق المعبَّد إلى الأزمة
لم يكن مستبعدًا منذ صدور نتائج انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2019 أن ينتهي الأمر إلى ما انتهى إليه بعد أشهر قليلة؛ فالانتخابات الرئاسية جاءت برئيس من خارج المنتظم السياسي التقليدي، ولا يعرف التونسيون عنه الكثير غير مجموعة من الشعارات وخطاب مكرر عن الثورة والتمثيل المباشر وتراجع دور الأحزاب والحكم المركزي ومعارضته لشكل النظام السياسي الحالي. ورغم النسبة العالية من الأصوات الشعبية التي أوصلته إلى سدَّة الحكم، إلا أن الغموض يغلب على سلوكه السياسي وعلى أسلوب اتخاذه للقرار الذي تؤثر فيه دائرة ضيقة من المستشارين المعلنين وغير المعلنين من ثقاته ومقرَّبيه. ولا شك في أن هذا الأسلوب قد خلق بعض التوتر في تعامل مؤسسة الرئاسة مع المنظومة الحزبية ومع مؤسسة البرلمان بشكل خاص.
أما نتائج الانتخابات التشريعية فقد أسفرت عن مشهد سياسي يصعب أن يتأسس عليه عمل حكومي مستقر أو مستمر؛ فقد كان برلمانًا متشظيًا أكبر أحزابه الفائزة (حركة النهضة) حصل على أقل من ربع مقاعد المجلس. في المقابل، اتسعت دائرة الأحزاب الفائزة بعدد محدود من المقاعد ما مكَّنها من توسيع هامش مناورتها وجعل الائتلاف بينها صعبًا والتفاوض معها لتشكيل حكومة بقيادة الحزب الفائز بأكثرية المقاعد أمرًا مُكلفًا، لاسيما في ظل انقسامات سياسية واستقطابات أيديولوجية حادة. في ضوء هذه المعادلة، فشلت حكومة الخيار الأول، التي شكَّلها مرشح الحزب الأكبر، في نيل ثقة البرلمان، واستُبدل بها ما سُمي بحكومة الرئيس، وهي الخيار الثاني دستوريًّا. فصلاحية تكليف رئيس حكومة بديل تؤول إلى رئيس الجمهورية في حال عجز الحزب أو الائتلاف الفائز عن تشكيل الحكومة أو رفض البرلمان منحها الثقة.
من بين الأسماء التي رشحتها الأحزاب السياسية خلَفًا للجملي، اختار الرئيس سعيد إلياس الفخفاخ لتشكيل الحكومة. ولم يكن الفخفاخ خيار أغلبية الأحزاب بما فيها الحزب الأول، بل كان خيار تحيا تونس، حزب رئيس الحكومة السابق، يوسف الشاهد، مع تزكية من التيار الديمقراطي. وقد أضاف هذا الاختيار عنصر توتر جديدًا أضفى على المشهد السياسي مزيدًا من التعقيد، ورأى فيه البعض قلبًا للموازين على رأسها، من خلال تكليف من لم ينتخبه الشعب بقيادة القوى المنتخبة. فقد سبق للفخفاخ أن ترشح للانتخابات الرئاسية ولم يحصل على أكثر من 0.34% من أصوات الناخبين، كما ترشح حزبه (التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات) للانتخابات التشريعية ولم ينل مقعدًا واحدًا. ونظرًا لدقة المرحلة، وخشية من إعادة الانتخابات في حال سقطت حكومة الفخفاخ، توافقت الأحزاب السياسية على تشكيل ائتلاف حكومي أمَّن لها ثقة البرلمان، وضم كُلًّا من حركة النهضة (توجه إسلامي) والتيار الديمقراطي (توجه ديمقراطي اجتماعي) وحركة الشعب (توجه قومي) وتحيا تونس (توجه ليبرالي) إضافة إلى كتلة الإصلاح الوطني المتكونة من نواب مستقلين. واستُثني من الائتلاف الحاكم كلٌّ من حزب قلب تونس، ثاني أكبر حزب ممثَّل في البرلمان، وائتلاف الكرامة، ذو التوجه الإسلامي، والحزب الدستوري الحر بقيادة عبير موسي التي تعادي الثورة وتعتبرها انقلابًا على نظام ابن علي.
لم يصمد الائتلاف الحاكم طويلًا، فسرعان ما ظهرت علامات التنافر بين مكوناته، ولولا جائحة كورونا التي غطَّت على تناقضاته لانفجر منذ الأيام الأولى لتنصيب الحكومة، بل إن مؤشرات سلبية كانت قد سبقت تشكيل الحكومة أفادت بصعوبة الانسجام بين أطراف هذا الائتلاف. ظهر ذلك جليًّا لحظة انتصاب البرلمان الجديد حيث لجأت حركة النهضة إلى التحالف مع قلب تونس (خارج الائتلاف) لإيصال مرشحها، راشد الغنوشي، إلى رئاسة المجلس بعد فشلها في تحقيق ذلك عبر الاتفاق مع كتلتي التيار والشعب. تغذِّي تلك المؤشرات خلافات أيديولوجية حادة وطغيان الأجندات الحزبية المتعارضة لأحزاب الائتلاف على حساب الأجندة الوطنية الجامعة. فقد أسهمت تطورات الوضع الإقليمي، لاسيما الأحداث الجارية في الساحة الليبية، في تعميق الأزمة وتفجير التناقضات، ودفعت بالتعارض بين أجندات الفرقاء إلى تجاوز خط الرجعة. ذلك ما حدث بالفعل بعد مكالمة أجراها رئيس البرلمان، الغنوشي، مع رئيس حكومة الوفاق الليبية بعد سيطرتها على قاعدة الوطية في الثامن عشر من شهر مايو/أيار الماضي، فقد اعتبرت مجموعة من الكتل النيابية من بينها حركة الشعب والتيار الديمقراطي والدستوري الحر المكالمة موقفًا سياسيًّا مصطفًّا مع طرف ليبي ضد طرف آخر، في مخالفة لموقف الدولة المحايد في الملف الليبي، كما اعتبرته تعديًا على صلاحيات رئيس الدولة باعتباره المسؤول عن الدبلوماسية التونسية وعن توجهات السياسة الخارجية للدولة. ولكن هذا الخلاف في الموقف تطور إلى مطالبة الكتل المذكورة بمساءلة رئيس البرلمان في جلسة عامة تقدمت فيها كتلة الدستوري الحر بلائحة حول التدخل الخارجي في ليبيا اعتُبرت منحازة إلى المحور الإماراتي/المصري الداعم لحفتر. ورغم أن اللائحة فشلت في الحصول على الأغلبية المطلوبة إلا أنها أضافت إلى الائتلاف الحاكم شرخًا جديدًا حيث صوَّت لفائدتها أحد مكوناته (حركة الشعب).
من اختلاف المواقف إلى انعدام الثقة الشامل
مثَّل تصويت حركة الشعب على لائحة الدستوري الحر خطوة متقدمة في أزمة الائتلاف الحاكم واعتبرته حركة النهضة اصطفافًا ضدها ودعت الفخفاخ إلى توسيع الحزام السياسي للحكومة لأن "الوضع أصبح غير قابل للاستمرار"، حسب تصريح الغنوشي. ورغم أن مطلب توسيع الحزام السياسي للحكومة ليس مطلبًا جديدًا للنهضة، إلا أن التأكيد عليه في سياق الأزمة الحكومية المتفاقمة فُهم منه رغبة الحزب الأول في استبدال قلب تونس بحركة الشعب بعد انعدام الثقة بين الطرفين. ولم تكد تفاعلات هذا التصويت تتوارى حتى طفت على السطح أنباء تورط رئيس الحكومة في شبهات تضارب مصالح استخدم فيها موقعه في الدولة لعقد صفقات عمومية لفائدة مجموعة من الشركات التي يملكها أو يملك فيها أسهمًا؛ فاتسع نطاق الأزمة ليشمل رئيس الحكومة الذي توالت الدعوات لاستقالته. وأمام إصراره على التمسك بمنصبه أعلنت حركة النهضة، على إثر اجتماع مجلس شوراها، بتاريخ 12 يوليو/تموز الجاري (2020)، أنها ستشرع في مشاورات لتشكيل ما أسمته بـ"مشهد سياسي بديل".
لم تجد هذه الخطوة استجابة من رئيس الدولة الذي أعلن في اليوم التالي رفضه القاطع التشاور مع أية جهة لتغيير الحكومة وأن الفخفاخ "لا يزال يتمتع بصلاحيات كاملة". من جهته، رفض الفخفاخ هذا الموقف وأعلن نيته إجراء تحوير وزاري خلال أيام فُهم منه التخطيط للتخلص من وزراء النهضة. في سياق هذا التوتر ثلاثي الأبعاد الذي انخرطت فيه رئاسة الجمهورية إضافة إلى رئاسة الحكومة وأكبر أحزاب الائتلاف الحاكم، خرجت الأزمة عن نطاق التسويات الممكنة وتقدمت أربع كتل برلمانية، هي: النهضة وقلب تونس والكرامة والمستقبل، بلائحة لسحب الثقة من الحكومة في 15 يوليو/تموز. في المقابل، تقدمت في اليوم التالي، كتل أخرى أغلبها من حلفاء النهضة في الائتلاف الحكومي بلائحة لسحب الثقة من رئيس البرلمان، في خطوة أكدت أن انعدام الثقة يعمل في كل الاتجاهات وأنه أصبح العامل المشترك بين مختلف الفاعلين. في اليوم ذاته، يعلن رئيس الجمهورية أن رئيس الحكومة تقدم باستقالته وأنه قَبِلَها. سحب هذا الإعلان الرئاسي الأزمة إلى مربع آخر من الجدل السياسي والدستوري كاد يحوِّلها إلى أزمة دستورية منفصلة محورها أولوية سحب الثقة أم الاستقالة، فلكل مبادرة انعكاساتها الدستورية. فأولوية إحداهما هي ما يحدد الجهة التي تملك صلاحية تكليف رئيس الحكومة الجديد. ففي حال اعتماد لائحة سحب الثقة كأساس، تعود صلاحية التكليف إلى القوة البرلمانية الأولى بما يعنيه ذلك من استعادة المبادرة في هندسة شكل المرحلة القادمة. أما في حال اعتُمدت الاستقالة أولًا، فإن صلاحية التكليف تعود إلى رئيس الدولة. ورغم ما تردد في البداية من إصرار رباعي مبادرة اللائحة على المضي في سحب الثقة من رئيس الحكومة إلا أن الأمور اتجهت في الأخير إلى التسليم لرئيس الدولة بتسمية من سيقود الحكومة القادمة، فهو صاحب الكلمة العليا في تأويل الدستور، بحكم الواقع، وفي غياب المحكمة الدستورية التي لم تنتصب بعد ولا يزال الجدل بشأن اختيار أعضائها قائمًا.
الحكومة المرتقبة ورهانات مختلف القوى
لم يعد المشهد كما كان عليه مباشرة بعد انتخابات 2019، فالأزمة التي عصفت به ودفعته إلى الانهيار غيَّرت أدوار القوى السياسية التونسية وأوزانها وعلاقاتها المتبادلة. صحيح أن نتائج الانتخابات أفرزت برلمانًا متشظيًا بكتل نيابية كثيرة العدد ضعيفة التمثيل، ورئيسًا من خارج المنظومة السياسية التقليدية دون سند سياسي أو حزبي معلوم، ولكن رسائل تلك الانتخابات كانت قوية وواضحة، وفي ضوئها حصل ما يشبه التفويض للنخبة التي ستقود المرحلة الجديدة بالتزام روح الثورة في مواجهة استراتيجيات الثورة المضادة، والعمل معًا لمحاربة الفساد وتفكيك شبكاته، ومواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي لم تعد تحتمل التأجيل. غيَّرت الأزمة الأخيرة هذه الوجهة ووضعت تونس على مسار مختلف وحولت الرهان الجامع إلى رهانات جزئية متنافسة يمكن تفصيلها فيما يلي:
هيَّأت هذه الأزمة الطريق لتفكك ما كان يوصف بالخط الثوري الذي شكَّل عمود الائتلاف الحكومي المنهار، ودخلت بين صفوفه رئيسة الحزب الدستوري الحر، عبير موسي، ممثلة المنظومة السابقة بأجندة علنية مناهضة للثورة ودستورها ومؤسساتها وكل منجزاتها السياسية. وفي حين كان الجميع ينأى بنفسه عن التعامل مع حزبها قبل الأزمة، أصبحت الآن فاعلًا سياسيًّا يُحسب له الحساب، وقوة تراهن عليها بعض مكونات "الصف الثوري". وقد أكد الفصل الأخير من الأزمة الراهنة هذا التوجه حين التقت، موسي، في دعوتها لسحب الثقة من رئيس البرلمان مع حزبي، التيار الديمقراطي وحركة الشعب. وما بدا التقاء موضوعيًّا آنيًّا للتخلص من الغنوشي في رئاسة البرلمان، قد يتحول في المستقبل إلى تحالف يمكِّن هذه الأطراف من تشكيل حكومة لا تكون النهضة أحد مكوناتها. أو على الأقل، يعزز قدرتها على لعب دور مؤثر وربما محدد في التعامل مع الحكومة القادمة سواء في تشكيلها أم أثناء عرضها على البرلمان.
في المقابل، فسحت هذه الأزمة المجال أمام حركة النهضة لكسر عزلتها داخل ما كانت تعتبره ائتلاف الضرورة، لتراهن مجددًا على قلب تونس شريكًا بديلًا عن أحزاب التيار والشعب وتحيا تونس. فالشراكة مع قلب تونس، إضافة إلى كونها ستضمن لها استمرار الغنوشي في رئاسة مجلس الشعب، ستمكِّن الطرفين من تحديد شكل الحكومة القادمة والتحكم في مصيرها أمام البرلمان، وستعيد ترابط المسارين، الحكومي والبرلماني، حيث يعمل الحزبان في الوقت الراهن جنبًا إلى جنب في رئاسة البرلمان ونيابته الأولى وعدد من لجانه المختصة. لا يُستبعد أن يكون هذا الخيار رهانًا لقلب تونس أيضًا بعدما أُقصي من حكومة الفخفاخ على خلفية اتهامات لرئيسه، نبيل القروي، بالتهرب الضريبي. نفس الأمر يقال عن ائتلاف الكرامة القريب من النهضة والذي وقَّع معها ومع قلب تونس لائحة سحب الثقة من رئيس الحكومة. فشراكة الائتلاف مع هذين الحزبين ستضمن له دخول الحكومة وتُمكِّنه من لعب دور سياسي وبرلماني أكثر فاعلية.
أما رئيس الدولة والذي يبدو أكثر المستفيدين من الأزمة، فقد وجد في تشويه صورة الأحزاب والعمل البرلماني مبررًا إضافيًّا لحشد الرأي العام ضد النظام السياسي القائم والدفع نحو رؤيته الخاصة لشكل النظام المجالسي ولقانون الانتخاب الذي يدعو إليه. فأي عمل يؤدي إلى تعطيل البرلمان ومنعه من أداء وظيفته، أو إضعاف الأحزاب وفقدان الثقة في المنظومة الحزبية يصب في مصلحة الرئيس ويعزز من موقفه وسلطته وشرعيته. لذلك، رأى البعض في مراقبته للأزمة وهي تستفحل دون التدخل في أية مرحلة من مراحلها لتطويقها ومنع تدحرجها، وفي عدم تحركه لوقف اعتصام كتلة الدستوري الحر داخل البرلمان لتعطيل أشغال المجلس لعدة أسابيع بما في ذلك منع انعقاد جلسة انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية بتاريخ 16 يوليو/تموز، موافقة ولو ضمنية على ما يجري.
فوق هذه الرهانات الجزئية التي تبدو متعارضة، يوجد رهان أكبر وأهم يتعلق بمصير التجربة الديمقراطية ذاتها بما تمثله من صداع مستمر لقوى داخلية وإقليمية. فإذا كان التونسيون في عمومهم ملتفين حول نموذجهم الديمقراطي الذي استطاع الصمود لما يقرب من عشر سنوات في محيط عربي مضطرب، فإن ما يُعرف ببلدان الثورة المضادة لم تدخر جهدًا لإرباكه وتأزيمه وحرفه عن مساره. وإذا كان التونسيون قد تمكَّنوا إلى حدِّ الآن من إدارة صراعاتهم السياسية بأسلوب مدني وإبقائها تحت سقف الدستور، فإن تلك القوى ما زالت تراهن على إسقاط هذه التجربة وإلحاقها ببقية تجارب الربيع العربي التي تحولت إلى بؤر للحروب الأهلية والصراعات المسلحة والتدخلات الأجنبية. ولا يمكن فهم الأزمة الأخيرة وتفاعلاتها بمعزل تام عن تقاطعات لم تعد خافية بين الأجندات الداخلية والخارجية. ولا شك أن الصراع المحتدم في ليبيا وحول ليبيا، ستكون له تأثيرات مهمة على الساحة التونسية وعلى مآلات الأزمة الراهنة نظرًا لترابط الساحتين من حيث مكوناتهما الداخلية ولوقوعهما في مجال نفوذ ذات القوى المتصارعة.
أمام هذه الرهانات وحسابات الفاعلين في الداخل والخارج، كيف سيتشكل المشهد السياسي الجديد بعد اختيار الرئيس، سعيد، هشام المشيشي، لخلافة الفخفاخ؟ وما الأوراق المتاحة لكل طرف لتعزيز موقعه سواء في السلطة أم في المعارضة؟ وما حظوظ الحكومة الجديدة في تجاوز الأزمة الراهنة؟
المشيشي واحتمالات فصل جديد من الأزمة
كان أمام الرئيس سعيد، الذي آلت إليه مجددًا سلطة تكليف رئيس الحكومة، ثلاثة خيارات، لكل خيار تداعياته، ليس فقط على المشهد السياسي بتوازناته الحزبية وما يتعلق بها من تموقعات ورهانات، وإنما كذلك على مستقبل المسار الديمقراطي في جملته وفي رهاناته الداخلية والخارجية: أن يختار أحد مرشحي حزبيْ، النهضة وقلب تونس، اللذين يتجهان للتحالف بعد التقائهما على سحب الثقة من رئيس الحكومة السابق، أو أن يختار أحد مرشحي التيار الديمقراطي وحلفائه ممن تقدموا بلائحة لسحب الثقة من رئيس البرلمان، أو أن يعيِّن شخصًا من خارج ترشيحات الأحزاب، فالسلطة التقديرية بشأن "الشخصية الأقدر" على تشكيل الحكومة تعود إليه دون غيره بمقتضى الدستور. ولكن خيارات الرئيس الثلاث لم تكن مفتوحة بل كانت كلها محدودة بجملة من التحديات، أبرزها:
- فشل سابق: تكليف الرئيس سعيد للمشيشي في ظرف أشهر قليلة على تكليف سلفه، الفخفاخ، يشكِّك في قدرته على اختيار "الشخصية الأقدر". فالرئيس هو نفسه من اختار الفخفاخ الذي سقط سريعًا بشبهة تضارب في المصالح قد تنتهي به أمام القضاء، وكان ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار إخفاق الرئيس سعيد في التكليف الجديد.
- خيار الأغلبية: جاء تكليف المشيشي ضد خيار الأغلبية، وبعد اقتراحات قدمتها الأحزاب السياسية تبين من خلالها التقاء أغلبية واسعة على اقتراح السيد محمد الفاضل عبد الكافي. فقد رَشَّح السيد عبد الكافي، رجل الاقتصاد والوزير السابق، أحزابُ النهضة وقلب تونس وتحيا تونس والكتلة الوطنية، إضافة إلى النواب المستقلين من حركة تحيا تونس وحركة تونس إلى الأمام غير الممثَّلة في البرلمان، ما يعني أن اختياره كان سيضمن له حزامًا سياسيًّا واسعًا وأغلبية برلمانية مريحة؛ فمعارضة خيار الأغلبية تحد لم يأخذه الرئيس بعين الاعتبار.
- أزمة مستفحلة: جاء اختيار خليفة الفخفاخ في خضم أزمة مستفحلة وانقسام سياسي حاد عصف بسلفه وأفقد الجميع الثقة في الجميع، ولم يأت على إثر انتخابات أو في ظروف طبيعية. الخروج من الأزمة الراهنة بأخف الأضرار ومواجهة آثارها والقدرة على استعادة الثقة بين مكونات المشهد السياسي يدفع إلى اختيار شخصية جامعة ذات قدرة تفاوضية عالية وتحظى بتوافق واسع من الفرقاء، لكن هذا العامل لم يؤثِّر في حسابات الرئيس سعيد.
- ما بعد الأزمة: صحيح أن الأزمة السياسية هي التي أوصلت البلاد إلى هذا المأزق، ولكنها بالتأكيد ليست هي الأخطر؛ فالأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة والتي عمَّقتها جائحة كورونا هي أخطر ما ستواجهه تونس في المرحلة القادمة؛ ذلك يعني أن الشخصية المكلفة كان ينبغي أن تكون ذات قدرة على إدارة الملفات الإقتصادية حتى تستطيع مواجهة هذه الأخطار والتخفيف من تداعياتها الاجتماعية التي بدأت أعراضها تبرز في شكل توترات موضعية محدودة.
يتضح من تكليف المشيشي أن الرئيس لم يأخذ التحديات سالفة الذكر بعين الاعتبار، وخاصة مقترحات الأحزاب. فكيف ستكون حظوظه في تشكيل الحكومة الجديدة وتجاوز الأزمة الراهنة؟ وكيف ستتعامل الأطراف السياسية مع هذا الاختيار؟
أمام المشيشي شهر من المفاوضات الصعبة قبل أن يعرض فريقه على البرلمان لنيل الثقة. وليس واضحًا بعدُ إن كانت نيته تتجه لتشكيل حكومة من الأحزاب أم من الشخصيات المستقلة أم ستكون مزيجًا بين الاثنين. وأيًّا كان خياره، فإنه يملك، رغم صعوبة الظرف، هامشًا للنجاح إذا اعتمد على تشكيل توافقات سياسية واسعة واستغل في ذلك استقلاله عن الأحزاب وحافظ على مسافة واحدة من جميع الأطراف المتنازعة. فالأزمة التي أتت به إلى الحكم أنهكت الجميع ولا أحد حقَّق منها مكسبًا، والكل يخشى الانتخابات المبكرة في حال فشلت الحكومة في نيل ثقة البرلمان.
ولكن الأرجح أن علاقة المشيشي بالمنتظم الحزبي عمومًا لن تكون سهلة، لاسيما مع الكتل التي تقدمت بعريضة لسحب الثقة من الفخفاخ والتي تضم أساسًا الحزبين، الأول والثاني، ويتجاوز عدد نوابها المئة. وإذا استمر التنسيق بين مكوناتها أو تحولت إلى تحالف برلماني، فإن بإمكانها منع الثقة عن حكومة المشيشي أو سحبها في وقت لاحق. وحتى إذا تمكنت من نيل الثقة بعد تفاهمات ظرفية، وهذا مرجَّح، فلن تحصل على أغلبية برلمانية مريحة ولن تتمتع بحزام سياسي واسع ومستقر. أما بقية الكتل، والتي اجتمعت في إطار عريضة سحب الثقة من البرلمان وفي مقدمتها حزبا، التيار الديمقراطي وحركة الشعب، فيُتوقع أن تقدم له السند البرلماني. إلا أن هذا السند سيكون محدودًا ومتحركًا ومشروطًا بالانسجام الدائم بين مكوناته وهو ما لا يمكن ضمانه على المدى الطويل. في ظل هذا الوضع، لا يُستبعد أن تدخل الحكومة القادمة في فصل جديد من الأزمة، ربما يكون أعقد من سابقه لأن الأزمة السياسية ستتداخل في الأشهر القادمة مع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تنتظرها والتي زادتها جائحة كورونا استفحالًا.
الأثر الأهم في هذا التكليف، انعكاساته السلبية المحتملة على المسار الديمقراطي، وعلى موقع الأحزاب السياسية ودورها في منظومة الحكم. فالرئيس سعيد، باختياره رئيسًا للحكومة من خارج الأحزاب ومن خارج ترشيحاتها يكون قد هيَّأ الأرضية التي تسمح له بالتدخل أكثر في الإدارة التنفيذية لشؤون الحكم وفرض رؤيته لنظام سياسي مهيكل بطريقة مختلفة. وإذا اختار المشيشي فريقه الحكومي أيضًا من خارج الأحزاب، فإن هذا التوجه سيتأكد أكثر، وسيتصاعد التوتر بين السلطتين، التشريعية والتنفيذية، في غياب المحكمة الدستورية. حينها ستحتاج القوى البرلمانية الرئيسة إلى التعجيل في إرساء المحكمة الدستورية وتعديل القانون الانتخابي لاستعادة المبادرة من الرئاسة في انتظار انتخابات تشريعية سابقة لأونها قد تعيد للمشهد السياسي بعض توازنه وتعطي العملية الديمقراطية نَفَسًا جديدًا.