شهد تطوران رئيسان في العلاقات التركية-المصرية، في الشهور القليلة الماضية، على درجة التوتر التي وصلتها هذه العلاقات: إعلان الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، عزمه إرسال قوات عسكرية مصرية إلى ليبيا، بعد الهزائم الكبرى التي أُوقِعت بالجنرال حفتر، حليف مصر الرئيس في الساحة الليبية؛ وتوقيع مصر واليونان على اتفاق لترسيم الحدود البحرية الاقتصادية في المتوسط؛ حيث وصل النزاع التركي-اليوناني حول حقوق كل من الدولتين البحرية مستوى لم يصله من قبل.
في مناسبة واحدة على الأقل، ولأن تركيا ومصر تدعمان جانبين ليبيين في حالة حرب مستعرة منذ سنوات، كانت ثمة توقعات بأن الدولتين في طريقهما للصدام العسكري. وبدا أن مصر السيسي، التي تواجه أزمة كبرى في المفاوضات حول سدِّ النهضة الإثيوبي تتعلق بانخفاض حصتها من مياه النيل خلال سنوات ملء السد، تحاول التغطية على عجزها عن تأمين حقوقها المائية الحيوية بافتعال أزمة أخرى مع تركيا.
خلال الأسابيع التالية لاندلاع ما يمكن تسميته بأزمة العلاقات التركية-المصرية في ليبيا، شنَّ الإعلام المصري الموالي للنظام حملة مستعرة ضد حكومة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وسياساته، شاركت فيها كافة أطياف النظام وأنصاره، إلى حدِّ أن أصدر مفتي مصر، المعمَّم الأزهري، بيانًا يشجب فيه قيام تركيا بإعادة آيا صوفيا مسجدًا. من جهة أخرى، ثمة مؤشرات على أن كلتا الدولتين تحاولان تفادي الصدام الفعلي، وأن الاتصالات بينهما، على مستوى مؤسسات الدولة، تعمل على نزع فتيل الأزمة وتخفيف حدة التوتر. فصدام مباشر بين تركيا ومصر سيكون له عواقب هائلة على مجمل العلاقات العربية-التركية، وعلى أمن شرق المتوسط بصفة خاصة.
فما طبيعة الخلافات التركية-المصرية؟ وأية ملفات تلك التي تهدد باشتعال الموقف بينهما؟ إلى أين تسير العلاقات التركية-المصرية؟ وهل يوجد ما يبرر توقع انتقالها من حالة التوتر المتفاقم إلى التوافق؟
خلافات ساخنة
تقرأ مجموعة السيسي الحاكمة في القاهرة الأمن القومي المصري من زاوية نظرتها لأمن النظام ذاته ومدى نجاح أو إخفاق خيارات النظام السياسية. لا يتمتع النظام بقاعدة سياسية ذات ثقل في البلاد، وحتى القوى والأحزاب المصرية التي أيدت انقلاب يوليو/تموز 2013 لم تلبث أن اختارت الابتعاد عن النظام، وأخذ عدد منها باتهامه بالعودة بالبلاد إلى عهد الديكتاتوريات المقنعة. قاعدة النظام الرئيسة هي القوات المسلحة المصرية، بصورة أولية، وإلى جانبها أجهزة الأمن والاستخبارات. ولذا، يصعب أحيانًا رؤية المنطق الأمني القومي خلف سياسات النظام وخياراته، سيما في الساحة الإقليمية؛ كما يبدو من الاستحالة سماح النظام بتعرض هذه السياسات والخيارات للمساءلة والامتحان من قوى معارضة أو مؤسسة برلمانية فعالة.
وربما كانت المسألة الليبية، التي أشَّرت إلى تصعيد ملموس في العلاقات التركية-المصرية، أبرز مثال على الإطار المرجعي الذي تنطلق منه مقاربات نظام السيسي لسياسات مصر العربية والإقليمية. قبل هجوم قوات حفتر على الغرب الليبي في ربيع 2019، في محاولة لحسم الصراع على ليبيا والسيطرة على العاصمة، طرابلس، حافظت القاهرة على صورة الوسيط والأخ الأكبر لكافة الليبيين. لكن، وبالرغم من أن الأجهزة المصرية شكَّكت في إمكانية نجاح هجوم حفتر على طرابلس، سرعان ما تغيرت السياسة المصرية في ليبيا إلى الانحياز الكامل لحفتر وقواته. وقد أشارت تقارير إلى أن الانقلاب في الموقف المصري وقع بسبب الضغوط الإماراتية على الرئيس السيسي.
وقَّعت حكومة الوفاق في طرابلس مع الجمهورية التركية اتفاقية التعاون العسكري والأمني، واتفاقية ترسيم الحدود الاقتصادية في شرق المتوسط، في نوفمبر/تشرين الثاني 2019؛ فقوبلت الاتفاقيتان بمعارضة مصرية صريحة. ولكن القاهرة، رغم خشيتها من التقارب المتسارع بين حكومة طرابلس وتركيا، لم تكن حينها تدرك بعد حجم عواقب التدخل التركي في الصراع الليبي، سيما أن وجود المرتزقة الروس في خطوط حفتر الأولى بعث على شيء من الاطمئنان لقدرة حفتر على المواجهة العسكرية. بيد أن حفتر كان في طريقه نحو خسارة عسكرية فادحة. فخلال الشهور الثلاثة الأولى من عام 2020، طُرد حفتر كلية من الغرب الليبي، من قاعدة الوطية العسكرية وكافة مدن الساحل الغربي والطريق إلى تونس، من محيط العاصمة الليبية ومطار طرابلس الدولي، ومن مقر عملياته الرئيس في ترهونة. ولولا الدعم الروسي الجوي السريع، لكانت قوات حكومة الوفاق قد سيطرت فعلًا على مدينة سرت وهددت قاعدة الجفرة في جنوب مدينة سرت.
انهيار قوات حفتر، وفعالية الدعم التركي لحكومة الوفاق، مثَّلت العامل الأول في ازدياد المخاوف المصرية من الدور التركي الإقليمي، واحتمال سيطرة تركية عسكرية كاملة على التراب الليبي. فقد تصورت القاهرة أن مثل هذا الاحتمال لا يقتصر على وجود تهديد أمني عسكري على الحدود الغربية لمصر، وحسب، بل وتقويض النفوذ المصري في ليبيا برمَّته، بكل ما يعنيه هذا النفوذ، سياسيًّا واقتصاديًّا. المشكلة في التصعيد المصري ضد الدور التركي في ليبيا، الذي انعكس في تصريح السيسي بأن "سرت-الجفرة خط أحمر"، وفي تصويت البرلمان المصري على السماح لـ“عناصر من القوات المسلحة بمهام قتالية خارج الحدود"، في 20 يوليو/تموز، أن القيادة المصرية لم تَرَ أن تحول سياستها الليبية من دور الوسيط إلى الانحياز الكامل لحفتر كان التقدير الأساس الذي أدى إلى التراجع الكبير في موقف مصر.
وتتعلق المسألة الثانية في ملف التوتر بين مصر وتركيا بتخطيط الحدود الاقتصادية في شرق المتوسط؛ وهو الأمر الذي عالجه الاتفاق الثاني بين أنقرة وطرابلس في نوفمبر/تشرين الثاني 2019. وهنا أيضًا برز افتراق واضح بين مصلحة مصر القومية والسياسات المعلنة لحكومة الرئيس السيسي.
أعلنت مصر موقفًا معارضًا لاتفاق ترسيم الحدود البحرية التركي-الليبي ووصفته بفقدان الشرعية. في الوقت نفسه، ذكر مسؤولون أتراك أن لديهم معلومات يقينية بأن الأجهزة السيادية للدولة المصرية، والمقصود بذلك المخابرات ووزارة الخارجية المصريتين، أخبرتا الرئيس السيسي بأن الاتفاق يصب لصالح مصر، سيما أنه يمنح مصر مساحة استغلال اقتصادي أكبر من تلك التي تعرضها اليونان عليها في المفاوضات الجارية بينهما منذ سنوات، بما يزيد عن عشرة آلاف كيلومتر مربع.
ولم يلبث الرد المصري على الاتفاق التركي-الليبي أن تجلَّى في اتفاق ترسيم حدود بحرية مصري-يوناني، وقَّعه وزيرا الخارجية اليوناني، نيكوس ديندياس، والمصري، سامح شكري، في 6 أغسطس/آب 2020. فوجئت تركيا بالاتفاق اليوناني-المصري، سيما أن مفاوضات تركية-يونانية حول المناطق البحرية المتنازع عليها بين البلدين، في البحر المتوسط وبحر إيجة، كانت على وشك أن تبدأ. ردَّت أنقرة باعتبار الاتفاق اليوناني-المصري كأن لم يكن، وأعلنت استئناف السفينة التركية (أوروتش رئيس) عمليات استكشاف مصادر الطاقة في شرق المتوسط، العمليات التي كانت أنقرة علَّقتها، منذ 22 يوليو/تموز، بوساطة من المستشارة الألمانية كبادرة حُسن نية تجاه أثينا.
سبع سنوات من القطيعة
الحقيقة، أن التوتر في العلاقات التركية-المصرية ليس جديدًا. وبالرغم من جدية، وحدَّة، الخلافات حول المسألة الليبية وترسيم الحدود الاقتصادية شرق المتوسط، لا يمثِّل هذان الملفان سوى حلقة إضافية في علاقات تحث الخطى نحو التدهور والمواجهة منذ انقلاب الجنرال السيسي على رئيسه المنتخب في 2013.
كانت العلاقات التركية-المصرية شهدت تقاربًا حثيثًا في سنوات حكم الرئيس مبارك الأخيرة، وصل إلى حدِّ توقيع اتفاقية تجارة حرة بين البلدين وتدفق الاستثمارات التركية على السوق المصرية؛ حيث توفرت العمالة الرخيصة التي شجعت الرأسمال التركي على تأسيس صناعات خُطِّط لتصديرها إلى السوقين الأوروبية والأميركية.
ولكن تركيا العدالة والتنمية، التي اعتُبرت ديمقراطيتها أحد العوامل التي دفعت نحو اندلاع حركة الثورات العربية في 2011، أيدت الثورة المصرية وعملية الانتقال نحو الديمقراطية بعد إطاحة مبارك. في 2012، رحَّبت أنقرة بانتخاب د. محمد مرسي رئيسًا، ولم تتردد في تقديم قرض مالي لدعم احتياطيات البنك المركزي المصري. عقد مرسي أكثر من لقاء مع رئيس الحكومة التركية آنذاك، رجب طيب أردوغان، واتخذ عددًا من الخطوات التي أوحت بتوجه نحو تحالف بين البلدين، بما في ذلك عقد مناورات مشتركة بين القوات البحرية، التركية والمصرية.
فوجئت أنقرة بانقلاب يوليو/تموز 2013، واعتبرته عملًا ذا طابع إقليمي ودولي موجهًا ضد تركيا ودورها الإقليمي، وليس عملًا ضد التحول الديمقراطي في مصر، وحسب. ولم تتردد أنقرة في الهجوم على النظام المصري، وإدانة سياساته الداخلية، واعتبار القيادات التي أفرزها الانقلاب غير شرعية. كما أصدر أردوغان أوامره بإيقاف اللقاءات الرسمية على المستوى الوزاري بين مسؤولي الدولتين. وخلال أسابيع قليلة من وقوع الانقلاب، كانت تركيا تستقبل أعدادًا متزايدة من المسؤولين المصريين السابقين، والنشطين السياسيين المستهدفين من حكومة الانقلاب وأجهزتها، لتتحول مدينة إسطنبول إلى مركز رئيس لنشاطات المعارضة المصرية ضد نظام ما بعد يوليو/تموز 2013.
التصعيد المتبادل في لغة الخطاب بين أنقرة والقاهرة، خشية نظام السيسي من نشاطات المعارضين المصريين في تركيا، وتقديره بأن حكومة أردوغان ليست في وارد القبول بالأمر الواقع الجديد في مصر في المدى المنظور، أوصلت الأمور إلى القطيعة الدبلوماسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، عندما قرر النظام المصري سحب السفير من أنقرة وطلب مغادرة السفير التركي من القاهرة. ولم تلبث مصر السيسي أن اتخذت عددًا من الخطوات التي أوحت باختيارها الوقوف في معسكر الكتلة المناهضة لتركيا ودورها في الإقليم.
عززت القاهرة من علاقاتها مع أبو ظبي والسعودية، وأعادت الدفء إلى علاقاتها مع قبرص اليونانية ومع اليونان، وبدأت اتصالات مع نظام الأسد، واستقبلت وفدًا من حزب العمال الكردستاني، الذي يخوض حربًا ضد الدولة التركية منذ الثمانينات، وفتحت أبوابها لنشاطات جماعة غولن بعد اتهام الجماعة بالمحاولة الانقلابية الفاشلة ضد حكومة أردوغان في 2016.
وقد شهد العام الماضي، ذروة التصعيد في علاقات البلدين؛ ففي يناير/كانون الثاني 2019، دعت مصر اليونان، وإسرائيل، وقبرص، وإيطاليا، لتأسيس منتدى شرق المتوسط للغاز (كما شارك في اللقاء بصفة مراقب كل من الأردن والسلطة الفلسطينية)، في استبعاد متعمَّد ومحمَّل بالدلالات لتركيا. كما التحقت مصر بالإمارات في تقديم الدعم العسكري والسياسي لمشروع حفتر في السيطرة على ليبيا وهجومه على العاصمة طرابلس. وربما كانت هذه الخطوات هي التي دفعت إدارة الرئيس أردوغان إلى التحرك المتسارع لدعم طرابلس، وبدء المباحثات مع حكومة الوفاق حول ترسيم الحدود الاقتصادية، من جهة، وتوفير شرعية قانونية للوجود العسكري التركي في ليبيا، من جهة أخرى.
مقاربات أكثر واقعية
بيد أن الصورة التي يطرحها التصعيد الأخير في العلاقات تُخفي مقاربات أكثر واقعية من حكومات الدولتين. فبالرغم من حجم الخلافات الذي يفصل بين رؤية كل من الدولتين لمصالحها ودورها، وبالرغم من أن حجم المخاوف المصرية، سواء من الحرية التي تتمتع بها المعارضة المصرية في تركيا أو من اتساع دور تركيا الإقليمي، يدرك الأتراك والمصريون أن الصدام المباشر ستكون له آثار مؤلمة على وضع الدولتين.
بدون التحرك لتخفيف حدة التوتر، ومنع المزيد من التصعيد، كلتا الدولتين ستخسران، اقتصاديًّا وسياسيًّا. فبقاء مصر إلى جانب اليونان وإسرائيل في النزاع على ثروات شرق المتوسط يعزز من موقف المعسكر المناهض لتركيا؛ والإخفاق في احتواء الخلافات حول ليبيا يمكن أن يفضي إلى صدام عسكري مباشر على الساحة الليبية، تخشى القيادات العسكرية المصرية عواقبه.
الحقيقة، أن اتصالات على مستوى جهازي استخبارات البلدين بدأت مباشرة بعد توقيع تركيا وحكومة الوفاق اتفاقيتي ترسيم الحدود البحرية والتعاون العسكري-الأمني في نوفمبر/تشرين الثاني 2019. ويبدو أن الجانب المصري، الذي بادر إلى تلك الاتصالات، أراد استكشاف أبعاد التحرك التركي في ليبيا وما يعنيه اتفاق ترسيم الحدود الاقتصادية في شرق المتوسط للمصالح المصرية.
والأرجح أن هذه الاتصالات استمرت بصورة متقطعة طوال الشهور التالية؛ وهو ما أكدته تصريحات وزير الخارجية التركي، في 11 يونيو/حزيران، التي تكررت في 13 يوليو/تموز، وتصريحات الرئيس أردوغان في 14 أغسطس/آب. فقد أنكر وزير الخارجية المصري، 14 يوليو/تموز، وجود اتصالات رسمية بين القاهرة وأنقرة، ولكن الأرجح أن إنكار سامح شكري قُصد به تطمين حلفاء مصر في الإمارات أكثر منه التعبير عن حقائق الأمور.
وقد لاحظت أنقرة أن الاتفاق المصري-اليوناني حول ترسيم الحدود الاقتصادية في المتوسط حمل عناصر دعم وجهة النظر التركية أكثر من الانحياز المصري لليونان؛ حيث أصرَّت مصر على أن يُبنى الاتفاق على أساس أن حدود اليونان الاقتصادية تبدأ من سواحل أرض اليونان الرئيسة وليس من سواحل الجزر اليونانية؛ كما أحجمت القاهرة عن ترسيم حدود المنطقتين المحيطتين بجزيرتي مايس (التي تبعد 2 كم عن الساحل التركي وما يزيد عن 580 كم عن الساحل اليوناني) ورودس اليونانيتين، وهي المناطق التي تعتبر ذات حساسية كبيرة لتركيا.
في المقابل، وإلى جانب حسابات العلاقات التركية-الروسية، أخذت أنقرة مخاوف مصر في ليبيا في الاعتبار، وعملت على تجميد الهجوم الذي كانت قوات الوفاق تخطط لشنِّه على قوات حفتر في مدينة سرت، داعية حلفاءها في الوفاق إلى محاولة حل مسألة سرت بالطرق السياسية. كما تكررت تصريحات المسؤولين الأتراك بدعوة مصر إلى حل المسائل العالقة بين البلدين بالتفاوض، وضرورة أن تتوقف مصر عن دعم قوات حفتر، التي لا تتمتع بأي مستوى من الشرعية. بيد أن هناك ما هو أكثر من ذلك. فقد أكدت مصادر ليبية وتركية، متطابقة، لمركز الجزيرة للدراسات، أن بياني رئيس المجلس الرئاسي للوفاق، فايز السراج، ورئيس البرلمان، عقيلة صالح، في 21 أغسطس/آب 2020، بخصوص الإعلان عن وقف تام لإطلاق النار في عموم الأرض الليبية، اللذين أوحيا باستبعاد أي دور سياسي لحفتر في مستقبل البلاد، وفتحا المجال لاستئناف المسار السياسي لحل أزمة الانقسام بين طرابلس والشرق الليبي، قد وُلِدا من مبادرة أميركية، قادها السفير الأميركي في ليبيا، ريتشارد نورلاند، ومن توافق تركي-مصري.
عمل نورلاند، الذي عبَّر عن دعم واضح لحكومة الوفاق منذ تعيينه سفيرًا في طرابلس، طوال أسابيع على المبادرة، التي يهدف الأميركيون من خلفها ليس لإقرار السلام وإعادة بناء دولة ليبية موحدة، وحسب، بل وإخراج روسيا كلية من ليبيا. ولكن مبادرة نورلاند ما كان يمكن أن تتقدم بدون موافقة المصريين على استبعاد حفتر، ومنح عقيلة صالح حقَّ تمثيل الشرق الليبي؛ وموافقة أنقرة على استبعاد الخيار العسكري فيما يتعلق بسرت-الجفرة وعلى الاقتراح الأميركي بإعلان المنطقة منزوعة السلاح.
كان وزيرا دفاع تركيا وقطر، اللذان قاما بزيارة مشتركة ولافتة لطرابلس قبل أيام فقط من إعلان بياني السراج وصالح، على عِلْم بالمبادرة الأميركية؛ وقد أرادا من زيارتهما والاتفاقات التي عقداها مع حكومة الوفاق، التوكيد على التزام أنقرة والدوحة المطلق وبعيد المدى بدعم الحكومة الشرعية في طرابلس، على أساس أن التزامًا قويًّا سيحفز الطرف الآخر على اتخاذ موقف أكثر عقلانية في المسار التفاوضي.
تفاهمات الاضطرار
استُقبل بيانا السراج وصالح بالترحيب فور صدورهما من المندوبة الأممية لليبيا، والاتحاد الأوروبي، وألمانيا (التي دعمت التحرك الأميركي من البداية)، وقطر، ومصر. الموقف التركي أعلنه د. إبراهيم قالن، الناطق باسم الرئاسة التركية. وقد لوحظ أن حديث كالن لم يقتصر على الترحيب بتوافق السراج وصالح، الأوَّلي، ولكنه حمل أيضًا إشارة لمصر، التي أعرب ناطق الرئاسة التركية عن أمله بأن تلعب دورًا إيجابيًّا في ليبيا.
فهل تشهد العلاقات التركية-المصرية تحولًا باتجاه الانفتاح والتوافق؟
الواضح، منذ يوليو/تموز 2013، أن الحكم المصري اختار توجهًا استراتيجيًّا على النقيض من توجهات تركيا الاستراتيجية، سواء فيما يتعلق بالمسألة الديمقراطية، أو التحالفات الإقليمية، بغضِّ النظر عمَّا إن كان هذا التوجه يخدم مصالح مصر القومية أو لا. تنظر مصر لنفسها باعتبارها أكبر الدول العربية، وأثقلها في ميزان القوى، وصاحبة الدور الرئيس في تقرير مصير المنظومة العربية. ولكن نظام السيسي مدين بوجوده واستمراره للدعم الإماراتي-السعودي، وللتأثير الإسرائيلي في واشنطن والعواصم الغربية الأخرى، ويصعب أن يقرر النظام المصري الفكاك من تحالفاته العربية والإقليمية الحالية.
إضافة إلى ذلك، ترى قاهرة السيسي، التي تحاول جاهدة شقَّ طريق لدور مصري إقليمي، أن تركيا المنافس الإقليمي الرئيس لها؛ وأن التحرك التركي في الإقليم يوقد أشواق الديمقراطية والتعددية السياسية وحق الشعوب في تقرير مصيرها. تركيا، بكلمة أخرى، مصدر قلق كبير لشرعية النظام المصري ورؤيته لعملية الحكم ودور مصر في الإقليم.
ولذا، وحتى إن رفع الرئيس التركي الحظر عن الاتصالات السياسية عالية المستوى بين البلدين، يصعب أن يأخذ نظام السيسي خطوات ملموسة باتجاه بناء توافق مصري-تركي. ما سيحدث، على الأرجح، بناء على تقدير أنقرة والقاهرة العقلاني-البراغماتي البحت لأن مستوى التصعيد في علاقات البلدين بات يُنذر بمخاطر باهظة التكاليف لكلتيهما، هو اقتناع قيادات البلدين بأن الأفضل والأكثر أمانًا احتواء التأزم المتفاقم والتفاهم، ما استطاعت التفاهم، على هذا الملف أو ذاك.
هذا هو المسار الذي تشير إليه وقائع الشهور القليلة الماضية. ولكن المؤكد أن ليس ثمة ما يضمن، على هذا المستوى من التفاهمات، منع اندلاع تصعيد جديد في العلاقات التركية-المصرية، إن انتهى أي من التفاهمات الحالية إلى ما لا يرضاه أحد الطرفين.