استبق قائد الثورة الإسلامية، آية الله علي خامنئي، نتائج الانتخابات الأميركية التي جاءت بجو بايدن رئيسًا، مؤكدًا أن سياسة إيران واضحة ومدروسة ولن تتغير بتغير رؤساء الولايات المتحدة. ولاحقًا، وصف الانتخابات بأنها مسرحية تعكس سقوطًا أخلاقيًّا وسياسيًّا للولايات المتحدة الأميركية، وهذا الوصف في جزء منه يمثل الموقف الفكري والعقائدي لخامنئي تجاه بلد صُبغت علاقته مع إيران بالعداء لما يقارب النصف قرن.
من طرفه، قال الرئيس الإيراني، حسن روحاني: إن نتيجة الانتخابات الأميركية لا تهم حكام بلاده لكنه دعا الرئيس الأميركي القادم إلى احترام القوانين والمعاهدات الدولية. وأكد وزير الخارجية، محمد جواد ظريف، أن بلاده لن تتفاوض مع الرئيس الأميركي القادم بشأن الاتفاق النووي؛ حيث سبق لإيران أن وقَّعت اتفاقًا بشأن برنامجها النووي في صيف 2015 مع (مجموعة 5+1)، وانسحبت منه الإدارة الأميركية بقرار من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في 2018، مُدخلًا الاتفاق وكذلك العلاقات الإيرانية-الأميركية في أزمة متصاعدة.
تعهد بايدن بإعادة مشاركة الولايات المتحدة في الاتفاق النووي مع إيران، لكن ملف العلاقات بين البلدين لا يقتصر على الاتفاق النووي؛ حيث تتعدد الملفات الشائكة في العلاقة بين واشنطن وطهران، بعضها قديم منذ انتصار الثورة وقيام الجمهورية الإسلامية كالعقوبات، وبعضها لاحق لذلك على غرار البرنامج الصاروخي والنفوذ الإقليمي، ومن أهمها أيضًا القضية الفلسطينية والموقف من إسرائيل. وعلى الرغم من أن بايدن قد يختلف مع نتنياهو فيما يتعلق بالسياسة تجاه إيران بالنظر إلى المصالح الأميركية، إلا أنه مؤيد لإسرائيل ويصف نفسه بأنه صهيوني وصديق لتسعة ممن تولوا منصب رئيس الوزراء في إسرائيل، ولن يسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي.
تتناول هذه الورقة كيف تقرأ إيران انتخاب جو بايدن رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية والإمكانيات التي يوفرها انتهاء عهد ترامب بالنسبة للجمهورية الإسلامية لتجاوز مأزق العقوبات. وترى أن التفاوض مجددًا هو أمر مستبعد في الفترة القليلة على حكومة روحاني قبل الانتخابات الرئاسية الإيرانية في يونيو/حزيران 2021 والتوقعات بمجيء رئيس أصولي التوجه.
رسائل روحاني
أرسل روحاني، الذي يحاول فيما تبقى له من شهور قليلة من فترته الرئاسية أن يخفف من ضغط العقوبات الأميركية التي هدفت إلى شَلِّ الاقتصاد الإيراني، رسائل واضحة في اجتماع لمجلس الوزراء: "بالنسبة لطهران، سياسات الإدارة الأميركية القادمة هي المهمة وليس من يفوز في الانتخابات الأميركية"، وهو بذلك يلقي الكرة في ملعب الرئيس الأميركي الجديد.
لا تبدو إيران متفائلة كثيرًا تجاه سياسة بايدن، لكنها بالتأكيد مرتاحة لذهاب ترامب؛ فنتيجة الانتخابات الأميركية طوت صفحة ترامب وفريقه، وهو الفريق الذي وصفه نائب الرئيس الإيراني، إسحاق جهانكيري، بأنه داع للحرب وناقض للمعاهدات، ووضع عقوبات لا إنسانية بحق الشعب الإيراني، ودافع عن الإرهاب والعنصرية. وفيما يأمل جهانكيري بتغيير في السياسة الأميركية مع بايدن وأن تعود واشنطن لتعهداتها الدولية، يذكِّر بأن إيران لن تنسى اغتيال سليماني والمعاناة التي سبَّبتها العقوبات للشعب الإيراني.
وقد تراوحت ردود الفعل الإيرانية بين متوجس من جو بايدن ومستبعد لتغيير في السياسة الأميركية وبين متفائل حذر بإمكانية انتهاء سياسة الضغط الأقصى التي انتهجها ترامب. وأعاد ساسة إيرانيون نشر صور قاسم سليماني وعبارته التي خاطب بها ترامب: "أيها المقامر"..
اغتيال سليماني: الملف المفتوح
وضع اغتيال قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، مطلع العام 2020، الفريق المنادي بالتفاوض مع واشنطن في الزاوية. وفي الولايات المتحدة الأميركية، هاجم بايدن عملية الاغتيال لأنه اعتبرها تهديدًا للمصالح الأميركية، وبالعودة إلى تعليق بايدن، فقد رأى أن سليماني "كان ينبغي أن يمثل أمام القضاء، ليحاسَب على جرائمه التي ارتكبها ضد القوات الأميركية.."، وهاجم ترامب، وقال في بيان نشره على حسابه في تويتر: إنه "رمى إصبع ديناميت في برميل بارود ويدين للشعب الأميركي بتوضيح استراتيجيته وخطته لإبقاء جنودنا وموظفي سفاراتنا ومصالحنا وحلفائنا بأمان".
ومن الواضح أن مجيء بايدن وذهاب ترامب لم يطوِ هذه الصفحة، وما زال ملف اغتيال سليماني -وفق ما يؤكده خامنئي والحرس الثوري بصورة متكررة- ملفًّا مفتوحًا ولم يؤخذ الثأر بعد.
ووسط موجة من الأصوات الرافضة للتفاوض مع واشنطن، خرج حسن روحاني ليقول بلهجة غاضبة: "أنا لا أعرف طريقة لحل مشكلات الاقتصاد الإيراني دون علاقات مع الخارج"، وفي ذلك اعتراض مبطَّن على مجمل خطة مرشد الثورة المدرجة تحت اسم "الاقتصاد المقاوم"، وأعاد الكرة إلى ملعب الشعب الإيران عندما قال: الناس صوَّتوا لي حتى أنزع فتيل التوتر مع العالم، في إشارة إلى فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2013 و2016 على منافسيه من التيار المعارض للتفاوض مع واشنطن. وبعد أشهر، عاد إلى التاريخ ليستنجد به مستحضرًا صلح الإمام الحسن مع معاوية، بصورة فُسِّرت بأنها دعوة للتفاوض والسلام مع الولايات المتحدة الأميركية. وفتحت هذه الدعوة المستترة بالتفاوض أبوابًا تأتي برياح يعجز روحاني عن مواجهتها؛ فقد طالب رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى، مجتبى ذو النور، بإعدام الرئيس "ألف مرة" بعد حديثه عن صلح الإمام الحسن.
وسبق لوزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، أن أثار موجة نقد حادة عندما قال في مقابلته مع "دير شبيغل" الألمانية: "إن احتمال المفاوضات مع أميركا بعد اغتيال سليماني ليس أمرًا مستحيلًا وأنا لا أنفيه أبدًا"، وربط ذلك بإزالة العقوبات، وهو شرط إيراني سابق على اغتيال سليماني. ویرد معارضو التفاوض بأن أي هدف للتفاوض مستقبلًا لن يتعدى "استهداف القدرة الصاروخية لإيران، ووقف الدعم لجبهة المقاومة". وردَّت الأصوات الرافضة، وهي الأقوى في الساحة الإيرانية، مستنكرة: "مفاوضات مع قاتل الحاج قاسم؟!".
تسود في غالبية أوساط صنَّاع القرار الإيراني حالة رفض قوية للتفاوض بصيغته المباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية. وفي المدى المنظور، لا يبدو أن روحاني وما تبقى له من أشهر قليلة في الرئاسة يملك القوة التي تمكِّنه من أن يخوض لعبة التفاوض الخطرة هذه مع واشنطن. ومع ذلك، فإن السؤال الملحَّ اليوم يتعلق بمدى استشعار الطبقة الحاكمة في إيران بوجود خطر يهدد بنية النظام، والجواب على ذلك يجعلنا نتحفظ على إسقاط الاحتمال التفاوضي بشكل كامل. وإذا كان ترامب سعى لإجبار إيران على التفاوض مجددًا وتوقيع اتفاق جديد فإن الرئيس المنتخب بايدن لن يكون بمقدوره تجاوز العقبات التي وضعتها إدارة ترامب بشأن محاصرة إيران من خلال هيكلية العقوبات المعقدة، وسيسعى أيضًا بشكل واضح إلى دفع إيران للتفاوض بشأن نفوذها الإقليمي وبرنامجها الصاروخي، ولكن مجيئه يعطي مرونة سياسية أكثر لصنَّاع القرار في إيران بشأن مبدأ التفاوض، خاصة أنه تحدث عن عودة الولايات المتحدة الأميركية إلى الاتفاق النووي.
إيران وانتخابات الرئاسة 2021
أعطت نتائج انتخابات مجلس الشورى الإسلامي، في فبراير/شباط 2020، وكذلك مجريات الحالة السياسية الداخلية، مؤشرات على توجهات الرئيس الإيراني القادم الذي سيخلف روحاني في 2021، وفيما يبدو التيار الإصلاحي أضعف من أي وقت مضى، فإن سياسة ترامب قد وجَّهت ضربة كبيرة لتيار الاعتدال بقيادة روحاني، ولذلك فإن المعطيات إلى هذه اللحظة تقول بعدم قدرة هذا التيار على تقديم مرشح من الممكن أن ينافس مرشحي التيار الأصولي.
ويبدو أن المنافسة ستكون في أوساط التيار الأصولي وذلك مرتبط بأن تأتي نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية على غرار الانتخابات البرلمانية التي سجلت أدنى نسبة مشاركة، وجاءت المشاركة في غالبيتها من الناخبين المؤيدين للتيار الأصولي وسط عزوف واضح من قبل مناصري التيار الإصلاحي.
ويمكن القول: إن فوز بايدن يقلِّل من فرص مرشح أصولي راديكالي فيما يعزز من فرص مرشح أصولي معتدل، ومع الإعلان عن عدم ترشح إبراهيم رئيسي فإن التوقعات تتجه لمنافسة بين أقطاب أصولية، من أبرزها: علي لاريجاني، رئيس مجلس الشورى السابق، ومحمد باقر قاليباف، رئيس المجلس الحالي، وسعيد جليلي، ممثل خامنئي في مجلس الأمن القومي، خاصة مع سجله الناجح فيما يتعلق بملف بلاده النووي، وبدأت أصوات أصولية بالترويج له مشبِّهة إياه برئيس الوزراء السابق، محمد علي رجائي، الذي اغتيل عام 1981، وكان يحظى بشعبية كبيرة.. فيما ينشط تيار أحمدي نجاد في محاولة لإعادته إلى دفة الرئاسة.
ولذلك، فإن الرئيس القادم سيكون من طيف فكري ينظر بشك وعداء تجاه الولايات المتحدة الأميركية، إلا إذا حدثت تغييرات في الساحة السياسية الإيرانية ومهدت لمشاركة واسعة في الانتخابات القادمة، وهيأت الأرضية لترشح شخصية مثل وزير الخارجية الحالي، محمد جواد ظريف، الذي تناقلت بعض المواقع الإيرانية مقابلة معه يتحدث فيها عن علاقة قديمة تربطه مع بايدن، عندما كان في الأمم المتحدة.
قد تجبر المشكلات المستعصية التيار الأصولي على العودة إلى سياسة "المرونة الشجاعة" في الدبلوماسية، وهو الوصف الذي أطلقه خامنئي على سياسة روحاني في 2013، لكن هذه المشكلات أيضًا قد تقود إلى سياسة تصعيدية مع تعزيز أدوات الردع إقليميًّا، وهو ما يعني تسخين ملفات عدة إقليميًّا، وهذا مرتبط بصورة أساسية باستراتيجية إيران في الإقليم في مرحلة ما بعد سليماني. وحتى مع ترجيح سيناريو "المرونة الشجاعة"، فإن ذلك لن يأتي إلا بعد تعزيز نقاط القوة والموقف التفاوضي، وهو ما يعني أن التصعيد قد يكون أمرًا لا مفرَّ منه.
خاتمة وخلاصات
- من المستبعد أن تجري مفاوضات بين إيران وأميركا في عهد روحاني، لأن شرط آية الله خامنئي للعودة إلى المفاوضات هو أن تعود الولايات المتحدة الأميركية إلى الاتفاق النووي وأن ترفع العقوبات، وهذا غير قابل للتحقق في فترة زمنية تقل عن العام، وهي الفترة الباقية لحكومة روحاني قبل الانتخابات الرئاسية القادمة التي تجري في يونيو/حزيران من العام 2021.
- في الحكومة القادمة، حيث من المتوقع أن يصل الأصوليون إلى الرئاسة، ومع الشروط المذكورة، فمن المحتمل أن يتم بناء إطار للتفاوض، ومن المحتمل ألا يتم ذلك بصورة مفاوضات ثنائية بل مفاوضات متعددة الأطراف، خاصة أن إيران أن تعتقد بأن عدم الاستقرار في المنطقة هو حاجة أميركية لتتمكن من إدامة بيع الأسلحة وما تريده من التفاوض هو تعظيم الفجوة بين إيران وجوارها وتقوية المعادلة لصالح إسرائيل.
- فيما يتعلق بالبرنامج الصاروخي الإيراني، فلن تدخل إيران أية مفاوضات بشأنه ما دام خامنئي يمسك بزمام الأمر، خاصة أنه وضع خطًّا أحمر وحظر التفاوض بشأن القدرات الصاروخية الإيرانية، كما أن إيران تعتقد بأن الضغط من أجل التفاوض على هذا الملف هو مصلحة إسرائيلية.
- إحجام إيران عن التفاوض بشأن برنامجها الصاروخي لا يقتصر في أسبابه على موقف آية الله خامنئي وإنْ كان هو السبب الأهم، لكن مردَّه أيضًا التجربة التي خاضتها إيران مع ترامب؛ فمن غير الممكن أن تدخل إيران في مفاوضات بشأن برنامجها الصاروخي سواء مع أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية وقد أثبتت سياسة ترامب أن ما حفظ إيران هو قدراتها الصاروخية والعسكرية وطائراتها المسيَّرة ونظامها الراداري، وأن ما ذهب أدراج الريح هو الاتفاق والتعهدات الدولية.
- مفهوم التفاوض: من الواضح أن إيران لديها تعريف للمفاوضات يختلف عن التعريف الذي يقدمه الغرب وبعض الدول في الإقليم مثل السعودية، ووفق التعريف الذي تقدمه من الممكن: أن تدخل مفاوضات إقليمية، أساسها التوقف عن الدعوة لإقصاء إيران من المنطقة وأن يكون التفاوض بشأن عودة الأمن والسلام إلى سوريا والعراق واليمن عملًا جماعيًّا ضمن آليات جديدة يكون لإيران دور أساسي فيها. وهناك مؤشرات بأن إيران لديها استعداد للتفاوض في إطار المحور الجديد في المنطقة (إيران، وتركيا، وقطر)، أو (إيران، وتركيا، والعراق، وقطر). ومن الممكن لإيران أن تفاوض فيما يتعلق بحصتها من النفوذ في المنطقة ومستقبل ذلك بالتعاون مع الأطراف المذكورة.
- يمكن لإيران أن تتفاوض لكن بعد تعريف واضح لمعنى التفاوض وحدوده وترى أن الحاجة إلى مفاوضات إقليمية تتقدم على المفاوضات الدولية.