الصراع على البترول بين دولتي السودان (الجزيرة) |
أثار توقيع الرئيسين السوداني عمر البشير والسودان الجنوبي سلفا كير على اتفاقية تعاون بين البلدين في السابع والعشرين من سبتمبر/أيلول المنصرم (2012) ردود فعل واسعة محلية وإقليمية ودولية اتسمت بالترحيب الحار, بيد أنها لم تخلُ من انتقادات لعدم شموليتها للقضايا الخلافية كافة, فضلاً عن مخاوف بشأن عثرات قد تواجه الالتزام بتعهداتها وتنفيذ بنودها كاملة, والتوجس من عدم صمودها على خلفية تاريخ طويل من تجارب الاتفاقيات المجهضة بين الطرفين.
فما أهمية هذه الاتفاقية, ولماذا حظيت بهذا الاهتمام الواسع, وما هي أبرز التحديات التي تجابه تطبيقها, وما هي فرص نجاحها, وإلى أي مدى ستؤثر على مستقبل العلاقة بين البلدين؟
مطرقة الداخل وسندان الخارج
جاء توقيع الرئيسين البشير وكير على اتفاقية التعاون بعد مخاض طويل من جولات تفاوض ماراثونية، استمرت لنحو سنتين، بوساطة إفريقية مدعومة دوليًا بفريق رفيع المستوى، يقوده الرئيس جنوب الإفريقي السابق ثابو مبيكي, وساعده الرئيس النيجيري الأسبق عبد السلام أبو بكر والرئيس البوروندي الأسبق بيير بيويا.
بدا التوصل إلى هذه الاتفاقية مفاجئًا إلى حد ما, حيث استمرت الخلافات بين الطرفين حول بعض القضايا إلى اللحظة الأخيرة قبل التوقيع عليها، مما يشير إلى حجم المناورات التي كانت تسيطر على العملية التفاوضية بغية محاولة كل طرف الحصول على أفضل مكاسب ممكنة قبل التوقيع الذي بدا الخيار الوحيد أمام الطرفين أمام ضغوط داخلية وخارجية كثيفة، لم يكن واردًا الاستمرار في تجاهلها دون أن تتسبب في خسائر جسيمة نتيجة عدم وضعها في الاعتبار في حسابات كلا الطرفين.
فلقد كان واضحًا أن الرئيسين البشير وكير جاءا إلى أديس أبابا ونصب أعينهما تبعات قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2046 الصادر في الثاني من مايو/أيار الماضي (2012) الذي منح الطرفين مهلة للتوصل إلى تسوية سلمية لخلافاتهما العالقة في غضون ثلاثة أشهر تحت طائلة البند السابع، أي فرض عقوبات دولية على الطرف, أو الطرفين, المتسبب في عرقلة التسوية المطلوبة في الأجل المحدد. وجرى تمديد تلك المهلة إلى الثاني والعشرين من سبتمبر/أيلول 2012 بتوصية من الوسطاء الأفارقة نظرًا للتقدم المحدود, ولكن أيضًا المهم, في نهاية المهلة الأولى، حيث تم التفاهم على صفقة لاستئناف إنتاج النفط وضخه بعد أن كان متوقفًا منذ مطلع العام الجاري (2012) بقرار أحادي من حكومة جنوب السودان, وهو قرار وجد معارضة دولية قوية وتسبب في أضرار اقتصادية بالغة لدولتي السودان, ولشركاء صناعة النفط السودانية لاسيما الصين. ومما ساعد على قبول تمديد المهلة أن المجتمع الدولي أعطى أولوية قصوى للتوصل إلى صفقة نفطية بين البلدين ولذلك اعتبر التفاهم حولها أمرًا مشجعًا.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن ضغوط مجلس الأمن الدولي التي فرضها القرار 2046, الصادر بالإجماع, لم تأتِ بقرار فوقي, بل جاءت إثر تبني المجلس بالكامل لخريطة الطريق التي أصدرها مجلس السلم والأمن الإفريقي لإنهاء النزاعات بين البلدين في الرابع والعشرين من إبريل/نيسان الماضي (2012) غداة الحرب شبه الشاملة التي اندلعت بين دولتي السودان، عقب استيلاء قوات جنوب السودان على منطقة هجليج الغنية بالنفط في العاشر من ذلك الشهر ثم استعادتها من قبل القوات السودانية لاحقًا. وعكست خريطة الطريق الإفريقية التي اتسمت بصرامة غير معهودة في تناول جذور الأزمة وأهمية حسمها، سأمًا واضحًا من القادة الأفارقة حيال تطاول الأزمة السودانية, وجاء تبني مجلس الأمن لها ليعزز من قوة الضغط على الطرفين.
لم يكن أيٌّ من الطرفين مستعدًا للمغامرة بخسارة الدعم الإفريقي والدولي لو رفض التعاون مع خريطة الطريق, حيث قابلت جوبا الخريطة بالترحيب من البداية فرأت فيها مخرجًا من مأزق تعليقها إنتاج النفط الذي تسبب في أزمة عميقة مع حلفائها في الساحة الدولية خاصة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة اللتين عارضتا هذا القرار بقوة, وطالبتا جوبا بالتراجع عنه, ومارستا ضغوطًا كبيرة عليها وصلت حد عدم مساعدتها في سد الفجوة المالية الناجمة عن فقدانها العائدات النفطية. كما تلقت حكومة السودان الجنوبي إدانات دولية غير مسبوقة لإقدامها على احتلال منطقة هجليج النفطية.
أما الحكومة السودانية فانتقدت بادئ الأمر خطة خريطة الطريق بدعوى أنها مفروضة دوليًا على الوسطاء, وأن واشنطن هي من أوحت بها ومررتها عبر مجلس السلم والأمن الإفريقي قبل أن يتبناها مجلس الأمن بحسبانها قرارًا إفريقيًا محضًا, لكنها تراجعت عن ذلك لاسيما أنها متوجسة من استهدافها بالقرار, ولذلك جنحت للتعاون مع الخطة الإفريقية مضطرة، بعد أن أضحت الخطة قرارًا دوليًا لا مناص من تنفيذه تحت طائلة مهلة محددة الأجل ووعيد بعقوبات موجعة, خاصة وأن جسد الحكومة السودانية المثخن بسيل من العقوبات الدولية على مدار العقدين الماضيين, علاوة على العقوبات الأحادية من طرف الولايات المتحدة, لا يحتمل الدخول في مواجهات جديدة مع المجتمع الدولي. ويزيد من تعقيد الحسابات السودانية ملف المحكمة الجنائية الدولية المفتوح في مواجهة الرئيس البشير ووزير دفاعه عبد الرحيم حسين, وقد يؤدي أي تصعيد في هذا الخصوص إلى ردود فعل دولية غير محسوبة العواقب على النظام الحاكم في الخرطوم.
إضافة إلى شدة وطأة الضغوط الإفريقية والدولية على الخرطوم وجوبا, والتي لعبت بلا شك دورًا حاسمًا في حثهما على إبرام اتفاقية أديس أبابا الثانية, إلا أن الضغوط المحلية التي واجهها الحزبان الحاكمان في دولتي السودان على خلفية تداعيات صراعهما غير المحسوم لا تقل أهمية, إن لم تكن أكثر تأثيرًا في اتخاذ القرار في العاصمتين باتجاه تسوية خلافاتهما, فقد أثبتت التجربة العملية خلال الأشهر الخمسة عشر الماضية منذ تقسيم الدولة السودانية أن كلفة استمرار الصراع الذي تحقق فيه السيناريو الأسوأ بعودة الحرب غير المباشرة في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق, والحرب المباشرة في هجليج, وسيناريو الإنهاك المتبادل عبر الإجراءات القاسية المتبادلة لتحقيق أكبر قدر ممكن من الإيذاء للطرف المقابل, ومحاولة تحويل الانفصال إلى قطيعة شاملة بين الدولتين اللتين ترتبطان بسلسلة مصالح حيوية متشابكة لا فكاك منها, أدت كلها مجتمعة إلى أزمة اقتصادية خانقة للطرفين على نحو غير مسبوق, حيث أدى الاستخدام المتبادل للنفط كسلاح إلى تعطيل إنتاجه فأصيب اقتصاد البلدين في مقتل، لأن موازنة حكومة الجنوب تعتمد في 98% من إيراداتها على العائدات النفطية, فيما تشكل نحو نصف إيرادات الحكومة السودانية, علاوة على أن أجواء الحرب فاقمت من التهام الموارد المالية الشحيحة، ليشهد البلدان تراجعًا مريعًا في مؤشرات الأداء الاقتصادي, أحال حياة المواطنين جحيمًا لا يطاق خاصة في الشمال حيث انطلقت مظاهرات احتجاجية على إجراءات تقشفية صارمة في يونيو/حزيران الماضي (2012)، شكّلت تحديًا جديًا لسلطة الحكومة.
أما حكومة جنوب السودان وإن لم تواجه احتجاجات شعبية على غرار ما جرى بالشمال, بسبب أن حياة أغلبية المواطنين تدار خارج نطاق الاقتصاد الرسمي, إلا أنها واجهت ضغوطًا من نوع آخر تؤذن بفشل الدولة الوليدة تحت قيادة الحركة الشعبية الحاكمة التي أخطأت في حساباتها حيث فوجئت بامتناع حلفائها الغربيين عن تقديم أية مساعدات مالية لها لمواجهة فجوة فقدان إيرادات النفط, مع تحذير صندوق النقد الدولي من انهيار اقتصادي وشيك في الجنوب.
وهكذا، شكّلت هذه الضغوط المتزايدة في دولتي السودان عاملاً رئيسيًا في اقتناع رئيسي البلدين بضرورة سرعة طي صفحات سيناريو الإنهاك المتبادل لمواجهة خلافاتهما المصيرية, ومن ثم الانتقال إلى مربع جديد للتعاون في قطاع حيوي يمثل شريان حياة للنظامين الحاكمين في الخرطوم وجوبا, والتخلي عن استراتيجيات استنزاف متبادل تجعلهما ضعيفين في مواجهة الضغوط الداخلية ربما بأكثر من اعتبارات الضغوط الخارجية مع أهميتها.
اتفاقات في مهب الخلافات
جرى التوقيع في أديس أبابا على تسع اتفاقيات, أهمها اتفاقية التعاون بين دولتي السودان، وهي وثيقة إطارية تعهد فيها الطرفان بتأسيس علاقة سلمية تحقق الأمن والاستقرار بين البلدين ونبذ الحرب بهدف إقامة دولتين قادرتين على العيش بسلام مع بعضهما ومع جيرانهما, وتعزيز التعاون المشترك في المجالات كافة بما يحقق المصالح المشتركة, والملاحظ أن المضمون الأساسي لاتفاقية التعاون بين البلدين يتبني ما ورد في استراتيجية الرئيس الأميركي باراك أوباما بشأن السودان التي أصدرها في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2010, بضرورة ضمان ميلاد دولتين في حالة الانفصال قابلتين للحياة بسلام.
وتتعلق الاتفاقيات الثمانية الفرعية الأخرى بالترتيبات الأمنية, والنفط والشؤون الاقتصادية المتعلقة به, والتجارة والشؤون المتعلقة بها, واتفاق إطاري للتعاون بين البنكين المركزيين, واتفاق حول قضايا اقتصادية معينة تتعلق باقتسام الأصول والديون الخارجية والتحرك المشترك نحو المجتمع الدولي لإعفاء الدولتين منها, واتفاق إطاري لدفع مستحقات المتقاعدين, واتفاق حول حالة المواطنة في البلدين بما في ذلك ضمان الحريات الأربع, واتفاق حول قضايا الحدود والترسيم.
وينص اتفاق التعاون الإطاري على التنفيذ الفوري للاتفاقيات الموقعة بمجرد موافقة برلماني البلدين عليها في غضون أربعين يومًا, كما ينص على أن يؤسس الطرفان آليات فعالة لضمان مراقبة تنفيذ هذه الاتفاقيات. وتضمن الاتفاق الإطاري تعهد الطرفين بمواصلة التفاوض لإكمال حل القضايا العالقة المتعلقة بالنقاط الحدودية المختلف عليها والمدّعاة من الطرفين, بينما تعهد الوسطاء الأفارقة بمواصلة السعي بشأن الوضع النهائي لمنطقة أبيي بالتشاور مع مجلس السلم والأمن الإفريقي ومع الطرفين.
ويلاحظ أن الاتفاقيات التي تم التوصل إليها عالجت الأزمة بين البلدين في ثلاثة مسارات:
-
المسار الأول: تناول القضايا المتبقية من اتفاقية السلام الشامل، بما فيها القضايا العالقة ما بعد الانفصال، وتتعلق بتصفية تركة السودان الموحد وتقسيمه إرثه على الدولتين اللتين حلّتا محله، وهي في مجملها شؤون ذات بعد اقتصادي، كمسألة الديون السودانية التي تقارب الخمسة وأربعين مليار دولار، والترتيبات المالية الانتقالية مثل تعويض السودان عن فقده الموارد النفطية، وقد أسهمت فيه حكومة الجنوب بثلاثة مليارات دولار ضمن الصفقة النفطية.
-
المسار الثاني: عمد إلى تبني منهج سلمي لمعالجة الخلافات الحالية أو المستقبلية بين البلدين والعمل على تسويتها عبر التفاوض ونبذ اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية, وركَّز هذا المسار على معالجة الآثار الناجمة عن الحروب المباشرة وغير المباشرة التي انخرط فيها البلدان عبر ترتيبات أمنية بإقامة منطقة عازلة مراقبة دوليًا, والتعهد بتوقف كل منهما عن دعم المعارضة المسلحة ضد الطرف الآخر, وفك الارتباط العسكري بين الجيش الشعبي التابع لحكومة جنوب السودان ومقاتلي الحركة الشعبية قطاع الشمال الذين يخوضون تمردًا ضد الخرطوم في كل من ولايتي جنوب كردفان, والنيل الأزرق.
-
المسار الثالث: وضع أسس علاقات تعاون استراتيجي مستقبلية بين البلدين، تركِّز على تشجيع تبادل المصالح الاقتصادية والتجارية المشتركة, وضمان تدفق النفط ووقف استخدامه كسلاح في أي خلافات بينهما, وتعزيز التواصل الاجتماعي والاقتصادي على جانبي الحدود من خلال تبني صيغة حدود مرنة تسهِّل الانتقال للبشر والبضائع والماشية. علاوة على توفير أطر تعاون اقتصادي مؤسسي عبر تنسيق السياسات المالية والنقدية. وكذلك إقرار اتفاق الحريات الأربع للإقامة, والانتقال, والتملك, والعمل لمواطني البلدين.
قنابل موقوتة: الحدود وأبيي
على الرغم من الاختراق الكبير الذي تحقق بتوقيع اتفاقية أديس أبابا الذي ضمن تسوية العديد من الملفات الخلافية, وتأسيسه لعلاقة تعاون مستقبلية, إلا أنه مع ذلك لا يقدم حلاًّ شاملاً؛ حيث بقي ملف النقاط الحدودية المتنازع عليها أو المدعاة من قبل الطرفين مفتوحًا, وعلى الرغم من أن معظم الحدود البالغ طولها أكثر من ألفي كيلومتر متفق عليها, إلا أن التعقيدات المحيطة بالمناطق الحدودية الخمس تجعلها أشبه بقنابل موقوتة لا أحد يعرف على وجه التحديد متى تنفجر أو مدى الأضرار التي يمكن أن تلحقها بجهود تطبيع العلاقات بين البلدين وضمان سلميتها.
أما الملف الأخر الأكثر تعقيدًا, وهو الوضع النهائي لمنطقة أبيي المتنازع عليها الذي بقي أيضًا خارج اتفاقات أديس أبابا، مع تعهد غامض من الوسطاء الأفارقة بمواصلة بحث مصيره النهائي, فهو أشبه بكعب أخيل, ويكفي للدلالة على مدى صعوبة إيجاد حل له أن ستة سيناريوهات طرحها الوسطاء من بينها تقسيمه بين الطرفين باءت بالفشل, فبينما وافقت جوبا على آخر محاولة تسوية عرضها الوسطاء فإن الخرطوم لم تقبل بها لإدراكها أن تسوية ملف المنطقة يخص سكانها من قبائل المسيرية الرحل المتمسكين بعدم التفريط فيها بأي ثمن, وأي حل لا يوافقون عليه لا تستطيع الحكومة السودانية إلزامهم به, وفي منطقة قبلية متشربة بتقاليد الحرب فإن من شأن ذلك أن يقود إلى اقتتال قد يجر إلى حرب مفروضة على الدولتين بعد أن تطلق شرارتها الأطراف المحلية.
الفرص والتحديات
سؤال واحد فرض نفسه على الجميع عقب توقيع اتفاق أديس أبابا, وهو: هل يجد طريقه للتنفيذ؟ هل يصمد أم أن مصيره لن يكون أفضل من عشرات الاتفاقات الموقعة بين شمال السودان وجنوبه على مدى الستين عامًا الماضية ولكنها أشاعت ثقافة التلاعب بالعهود والمواثيق. فما هي عوامل نجاحه, أو فشله؟
فرص النجاح: يسود اعتقاد واسع أن أمام اتفاقية أديس أبابا فرصا كبيرة للنجاح, من ذلك أن التوصل إليها تم بعد مخاض صعب, وتجربة مريرة في معايشة تبعات العلاقات المتردية, ولذلك فإن التوقيع عليها يعكس إلى درجة كبيرة تحولاً عند الطرفين بأن الاتفاق هو السبيل الوحيد لمواجهة التحديات الداخلية الخطيرة التي يواجهها كلا الحزبين الحاكمين, ولذلك فإن أي تلاعب يؤذي صاحبه في المقام الأول.
وما يشير إلى توفر الإرادة السياسية في المضي قدمًا في تنفيذ الاتفاق عدة دلائل، من بينها التحول الملحوظ في الخطاب السياسي عند قيادة البلدين، حيث أظهرا التزامًا غير معهود حتى الآن بروح ومضمون الاتفاق والحرص عليه والدفاع عنه, ثم محاولة كل طرف التأكيد على المصالح المتحققة له من الاتفاق, ثم المسارعة إلى إجراءات تبنيه رسميًا، فأجازه مجلسا الوزراء في البلدين توطئة لعرضه على مجلسي البرلمان لاعتماده في خطوة تعكس تحركًا جديًا باتجاه التنفيذ.
وما يعزز فرص الاتفاق، تأجيل مسألتي الحدود وأبيي, مما أتاح الفرصة لمجالات التوافق والتعاون المتعددة, وربما يفضي النجاح في تنفيذ الاتفاق إلى خلق حالة ثقة وروح إيجابية قد تقلل من الاحتقان بشأن القضايا العالقة، وقد تسهم في طرح حلول بديلة أقل تشددًا وأكثر قبولاً من المجتمعات المحلية متى ما تحققت لها فوائد عملية من التعاون.
تحديات الاتفاق: يظل الهاجس الأكبر متعلقًا بمدى الالتزام بتطبيق الاتفاقية في ظل قوى فاعلة ذات تأثير في دوائر القرار في جوبا والخرطوم، أبدت تحفظات علنية على جوانب من الاتفاقية وإن لم ترفضها جملة, ومن الملاحظ أن دائرة التحفظات في جوبا أوسع منها في الخرطوم, لاسيما من بين أبناء منطقة أبيي الذين يتمتعون بنفوذ كبير في الحركة الشعبية الحاكمة في الجنوب, وكذلك من أبناء منطقة شمال بحر الغزال الذين عارضوا حاكمها علانية عشية توقيع الاتفاقية التي تلزمهم بالانسحاب من منطقة الميل 14.
أما في الخرطوم، فقد انحصرت معارضة الاتفاق، خاصة في مسألة إتاحة الحريات الأربع، على قوى محدودة تتمثل في جماعة "منبر السلام العادل" التي يتزعمها الطيب مصطفى المقرب من الرئيس البشير, وهي جماعة لعبت دورًا كبيرًا في الترويج لفصل الجنوب, وتبنت بعد ذلك خط القطيعة الكاملة معه. وبالنظر إلى النفوذ الذي تتمتع به والتأييد الذي تجده من دوائر مهمة في حزب المؤتمر الوطني الحاكم, فثمة احتمال كبير أن تلعب دورًا في إعاقة تنفيذ الاتفاق، مستخدمة صراعات الأجنحة داخل الحزب الحاكم, على الرغم من فقدانها لورقة الرئيس البشير الذي شارك لأول مرة في التفاوض بصورة مباشرة, ووقّع للمرة الأولى شخصيًا على اتفاق في شأن العلاقة مع الجنوب.
ولعل أكبر ضمانة لصالح جدية الاتفاق هذه المرة أنه أصبح رهانًا شخصيًا للرئيس البشير, كما حظي بغطاء المؤسسة العسكرية حيث كان وزير الدفاع، عبد الرحيم محمد حسين، المفاوض الرئيس في اللجنة السياسية والأمنية, وكان الفيتو الذي يمثله العسكريون يُعتبر على نطاق واسع أحد أهم أسباب إجهاض الاتفاقيات السابقة التي يوقعها المفاوضون السياسيون.
علاوة على ما سبق، هناك تحدي المعارضة والجبهة الثورية، حيث سارعت معظم فصائلها, بما فيها المعارضة المسلحة الممثلة في الجبهة الثورية التي تضم تحالفًا من الحركة الشعبية قطاع الشمال وحركات دارفور, إلى ترحيب مشروط باتفاقية أديس أبابا، احتفظ فيه كل طرف بخط رجعة ما.
بيد أن الموقف المهم يتعلق بالجبهة الثورية، حيث تعد حسب بعض التقديرات الخاسر الأكبر من الاتفاقية التي تبنت سلسلة ترتيبات أمنية قصدت بصفة خاصة إلى تجفيف منابع الدعم العسكري الذي تجده الجبهة من حكومة الجنوب والجيش الشعبي بعد تعهد جوبا بقطع أي صلة بها.
وفي أول رد لتأكيد عدم تأثرها بهذه التطورات بادرت الجبهة الثورية إلى إصدار بيان رحبت فيه بالاتفاقية ولكنها تمسكت باستراتيجيتها في إسقاط النظام. وفي اجتماع لاحق، أصدرت قيادة الجبهة الثورية السودانية "وثيقة إعادة هيكلة الدولة السودانية" لتأكيد هدفها وهو تغيير النظام الحاكم في الخرطوم بـ"النضال الجماهيري وبالقوة المسلحة". وهو ما يشير إلى أن الترتيبات الأمنية الواردة في اتفاقية أديس أبابا قد لا تحقق المرجو منها سودانيًا في إخضاع المعارضة المسلحة. ومما يقوي هذا الاحتمال أن النموذج الآخر المتمثل في تطبيع العلاقات السودانية-التشادية، وكانت تراهن عليه الخرطوم لمحاصرة التمرد في دارفور، لم يؤدِّ إلى إنهاء العنف في الإقليم حتى بعد توقيع اتفاقية الدوحة للسلام.
السيناريوهات المحتملة
-
أولاً: أن يصمد الاتفاق في مواجهة التحديات التي تواجهه ويتم تنفيذ بنوده لاسيما الجوانب الاقتصادية؛ مما يخفف من الضغوط الاقتصادية والدولية على الطرفين, ولكن مع بقاء التوترات الأمنية بسبب استمرار نشاط المعارضة المسلحة.
-
ثانيًا: أن يتم تعزيز فرص الاتفاق، بعدم الركون إلى الترتيبات الأمنية وحدها، والانخراط في تفاوض مع المعارضة المسلحة لإيجاد تسوية سلمية لأزمة مناطق التمرد في ولايات جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور، حسب قرار مجلس الأمن.
-
ثالثًا: أن يؤدي عدم التوصل إلى تسوية سلمية تعالج جذور الأزمة الوطنية السودانية إلى ازدياد وتيرة نشاط المعارضة المسلحة، إلى درجة تؤدي إلى عرقلة تنفيذ الاتفاقيات المبرمة، مما قد يسهم في عودة أجواء التوتر بين دولتي السودان, وإلى عودة الحرب عبر الوكلاء, أو حتى الحرب المباشرة بتداعيات غير محسوبة.
-
رابعًا: ستبقى مسألة معالجة القضايا المتبقية في الحدود وأبيي تحديًا مهمًا في تحديد مستقبل الاتفاقية, فالتوصل إلى تفاهمات بشأنها مقبولة من الطرفين ستقوي من فرص العلاقات الاستراتيجية المستقبلية بين البلدين, كما أن تعثر إيجاد حل لها قد يقود إلى إعادة الأمور إلى المربع الأول.