حدود ملتهبة: السودان وإثيوبيا على مسار تصادمي

يتغذى التصعيد الحدودي بين السودان وإثيوبيا على نزاعات راهنة تمتد جذورها إلى خلافات تاريخية، وقد يتطور النزاع إلى أزمة إقليمية تتسع لتشمل مصر التي تعتبر سد النهضة الإثيوبي تهديدًا لأمنها القومي.
البرهان وآبي يواجهان ضغوطات داخلية شديدة. (رويترز)

من يستحضر التصفيق الحار، الذي حظي به رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، في مراسم التوقيع على الاتفاق النهائي في الخرطوم بين المجلس العسكري والمعارضة السودانية، في أغسطس/آب 2019، عرفانًا بدور إثيوبيا في دعم الانتقال السلمي في السودان، قد يفاجأ اليوم بمستوى التصعيد بين أديس أبابا والخرطوم، والذي بات قاب قوسين أو أدنى من حرب على خلاف حدودي مزمن.

إيذانًا ببدء مرحلة جديدة ومعقدة من العلاقات بين الطرفين، أعلن الجيش السوداني، في منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي (2020)، تعرضه لكمين من قبل ميليشيات إثيوبية، في الفشقة، عند جبل أبو طيور، بولاية القضارف، على الحدود مع إثيوبيا، مؤكدًا وقوع خسائر في الأرواح والمعدات، في صفوف القوة العسكرية التي كانت عائدة من مهمة تمشيط داخل أراضي السودان، حسب بيان للجيش السوداني. وبعدها، توالى تقدم الجيش السوداني حتى استعاد ما تسميه الخرطوم " الأراضي المغتصبة".

إثيوبيا من جانبها اتهمت الخرطوم، على لسان وزير الخارجية، ديمقا موكونين، بأن الجيش السوداني بدأ هجماته في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أي بعد بدء الجيش الإثيوبي عملياته العسكرية في إقليم تيغراي بخمسة أيام فقط من الشروع فيها لإزاحة جبهة تحرير تيغراي عن السلطة، في 4 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

اعتبرت إثيوبيا تحرك السودان مخالفًا لما اتفق عليه البلدان، ووقع استغلالًا لانشغال اثيوبيا بترتيب وضعها الداخلي. وذهبت بعض الأطراف الإثيوبية إلى اتهام الخرطوم بدعم جبهة تحرير تيغراي التي انطلقت عمليات الجيش الإثيوبي لإزاحتها عن السلطة، في 4 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. كما اتهمت أديس أبابا "أطرافًا لها دوافع خفية لإثارة العداء والشك بين الشعبين".

ما عوامل التلاقي والتدافع والتوتر بين البلدين؟ وهل فعلًا يقفان على أعتاب الحرب أم أن ما بين الخرطوم وأديس أبابا، من الروابط المشتركة، كما يسميها البعض، ما يضمن عدم انزلاق البلدين لمواجهة عسكرية مفتوحة وشاملة؟

بين الحق التاريخي والميراث الاستعماري

الدولة الحديثة في إفريقيا، وبغضِّ النظر عن عوامل أخرى، هي في الأساس نتاج الاستعمار الأوروبي؛ حيث تقاسم الرجل الأبيض في مؤتمر برلين (1884-1885) إفريقيا أرضًا وشعبًا. ومن المفارقات، وبغضِّ النظر أيضًا عن عوامل أخرى، أن الذين رسموا خرائط المستعمرات الإفريقية في المؤتمر اعترفوا بـ"إثيوبيا" التاريخية، إمبراطورية مستقلة، ومنحوها حق ضم الأقاليم والسلطنات المجاورة، عملًا بقاعدة "الحيازة الفعلية على الأرض"، التي اعتمدها المؤتمر لإثبات الملكية والسيادة في إفريقيا، والتي ما زالت تمثل إحدى قواعد القانون الدولي للتحكيم في الخلافات الحدودية بين دول القارة السمراء.

ومن هنا، تبدأ نظرة إثيوبيا للحدود بينها وبين السودان. فبالنسبة لإثيوبيا، فقد قاومت وفاوضت القوى الاستعمارية آنذاك وعارضت رؤية المستمعر للحدود التي رسمها حسب مصالحه. فأديس أبابا ترى أنها احتفظت بحقها في الاعتراض وإن لم تتمكن من تحقيق مطالبها لظرف أو لآخر.

أما على الجانب السوداني، فإن الحدود هي تلك التي رسمها البريطانيون في 1902، وكان هدفها الأساس هو تأمين مصالحها في النيل وتحويله إلى نهر إنجليزي، بإغلاق مجراه أمام مشاريع الفرنسيين الذين يرغبون الوصول إليه من الشرق، وصد السياسات التوسعية لإمبراطور الحبشة، منيليك الثاني، وتحجيم مناطق نفوذه، بتكبيله باتفاقيات دولية. لذا، فأحقية السودان في المناطق المتنازع عليها في الفشقة تأتي من منظور ميراث مرحلة السيطرة البريطانية على تلك المناطق. وبين هذا وذاك تبقى مسألة الحدود بين السودان وإثيوبيا مؤجلة حينًا، وملحَّة حينًا آخر، متأثرة بجوارهما الممتد على طول 725 كلم.

التوظيف السياسي

على أهمية مسألة الحدود بين الأمم والدول فإنه لم تظهر اعتراضات واضحة وحادة لكل من إثيوبيا والسودان على تفاصيل الحدود التي رسمها الماسح البريطاني بداية القرن العشرين. ويعيد بعض المحللين ذلك إلى خلو المنطقة حينها من مجموعات سكانية كبيرة تتنافس على الموارد؛ مما حدا بالأطراف للتركيز على الاعتبارات الاستراتيجية في ترسيم الحدود. وربما ما يفسر هذا إلى حدٍّ كبير اكتفاء الإمبراطور منيليك الثاني بمنطقة بني شنقول الغنية بالثروات المعدنية، والاستراتيجية في تأمين مجرى النيل، والتنازل عن مطالبه بحدود إمبراطوريته حتى الخرطوم، باعتبار أن بلاد النوبة كانت جزءًا من الحبشة، في التاريخ القديم، حسب الرواية الإثيوبية على الأقل.  

وبالنظر إلى تاريخ النزاع الحدودي بين إثيوبيا والسودان، يمكن استنتاج أن هذا النزاع في مجمله تعبير عن خلافات سياسية بين البلدين، في مرحلة ما، كما هي الحال في فترة النميري،1969  1985-، وعن التقاء المصلحة السياسية بينهما في مرحلة ثانية، مثل الوضع خلال حكم الإنقاذ وعمر البشير، أو كان جزءًا من استجابة الطرفين لتطورات ضرورات الجيوبوليتيك والاستقطاب الإقليمي والدولي في مرحلة أخرى، كما كان إبَّان الحرب الباردة.

تصاعدت الخلافات بين البلدين خلال فترة النميري. سياسيًّا، يعود ذلك إلى إعلان السودان تطبيق الشريعة؛ ما أدخل إثيوبيا ذات الميراث الإمبراطوري المسيحي في شكوك ومخاوف كبيرة. تحققت تلك المخاوف عند قيام السودان بدور مركزي في تعريب الثورة الإريترية وحشد الدعم العربي لحركات الاستقلال الإريترية، وجبهات التمرد الإثيوبية.  

من جانبها، لجأت إثيوبيا إلى دعم تمرد جنوب السودان، ودخل البلدان في اتهامات متبادلة وحرب وكالات استمرت حتى وصلت جبهة الإنقاذ للسلطة في السودان وسيطر تحالف الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا بقيادة جبهة تحرير تيغراي على أديس أبابا، في 1991.

ورغم حدة الخلافات السياسية توصل البلدان إلى اتفاقية 1972 التي تقضي، ببقاء كل طرف في موقعه، والسماح للمجموعات السكانية على الأطراف بحرية التحرك والعمل، وتأجيل ترسيم الحدود السيادية حتى التوصل إلى اتفاق نهائي.

السودان والتيغراي

استثمار السودان في دعم حركات الاستقلال الإريترية وجبهات التمرد الإثيوبية آتى أُكُله في 1991، عندما تمكن تحالف الجبهات الثورية بقيادة جبهة تحرير تيغراي من إسقاط نظام "الدرغ" الشيوعي والسيطرة على أديس أبابا، وسيطرة الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا على أسمرا.

ورغم الاختلاف الحاد في الرؤى الأيديولوجية بين جبهة الإنقاذ في السودان والحكام الجدد في إثيوبيا، إلا أن الاحتياج المشترك مثَّل أرضية صلبة وقف عليها الطرفان لتفادي خلافاتهما والتركيز على ما يحميهما.    

فالتيغراي الذين عادوا لحكم الحبشة بعد قرن تقريبًا، وبدعم من السودان على مدى عقدين تقريبًا، يدركون تمامًا تكلفة استعداء الخرطوم، سيما أنها (جبهة تيغراي) تمثِّل في إثيوبيا حكم أقلية وسط قوميات كبيرة.

كما أن أديس أبابا مثَّلت، خلال أكثر من عقدين، نافذة جبهة الإنقاذ وعمر البشير نحو إفريقيا والعالم، في ظل وطأة العقوبات الأميركية، وانشغال الخرطوم بملف جنوب السودان وحرب دارفور، ومطاردات المحكمة الدولية للبشير وعدد من القيادات العليا.

لذا، اقتضت المصلحة السياسية للطرفين إبقاء الخلاف الحدودي بين البلدين في إطار التفاهمات السياسية. وعززت تفاهمات الطرفين من إبقاء اتفاق 1972 الذي يقضي ببقاء الوضع على حاله حتى ترسيم الحدود، وإخلاء المنطقة الحدودية وخاصة الفشقة من القطع العسكرية، وتولي التشكيلات الأمنية المحلية ضبط الأمن.

وبينما ظل الجيش السوداني بعيدًا عن المنطقة، بسبب حرب الجنوب وحرب دارفور لربع قرن تقريبًا، تعزز دور التشكيلات الأمنية الإثيوبية. كما سمحت البنية الهيكلية للدولة في إثيوبيا، بعد تبني الفيدرالية الإثنية، للأقاليم ببناء قوات أمنية خاصة، وشرطة محلية، مما عزز دور ميليشيات الأمهرا في الفشقة للحفاظ على مصالح المزارعين الإثيوبيين في المناطق الحدودية المتنازع عليها.

بلغت التفاهمات بين الإنقاذ في السودان وتحالف الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا بقيادة التيغراي في إثيوبيا ذروتها في 2008؛ حيث توصل الطرفان إلى حل وسط يقضي باعتراف إثيوبيا بالحدود القانونية، مقابل سماح السودان للإثيوبيين بالاستمرار في العيش هناك دون عائق. ولكن بدخول البلدين مرحلة التغيير ابتداء من 2018 بدأت بوادر انهيار تلك التفاهمات.

الجزيرة
(الجزيرة)

اضطراب سياسي داخلي

سكان المناطق الحدودية يمثلون رأس الحربة في الصراع الحدودي بين البلدين، ويقفون في كثير من الأحيان أمام أية تسوية لا تلبي مصالحهم، وخاصة في إثيوبيا.

عبر التاريخ، ظلت المجموعات السكانية على جانبي الحدود تطالب حكوماتها بحمايتها. لكن ما يميز الإثيوبيين الأمهرا في منطقة الفشقة، مطالبة الحكومات المتعاقبة بإطلاق يدهم في الحفاظ على ما تراه المجموعات السكانية "ريست"، أي ميراث أسلافهم. وخاصة قبائل القيمانت والأرماشو الأمهريتين.

ففي الخمسينات، قام الإمبراطور هيلاسيلاسي بتشكيل ما يسمى بـ"نيش لباش" أي أصحاب الملابس البيضاء، المعنيين بحراسة التخوم، وتم تعزيزها بقوات عسكرية في بعض المواجهات مع القوات السودانية. 

وفي 2008، ظهرت أصوات من الأمهرا تعارض الاتفاق الذي رعاه وأشرف عليه من الجانب الإثيوبي أباي تسهاي، مستشار الأمن القومي لرئيس الوزراء الأسبق، مليس زيناوي، وأحد أبرز قيادات جبهة تيغراي. لكن بعد الإطاحة بجبهة تحرير شعب تيغراي، ووصول آبي أحمد للسلطة في 2018، أدانت قيادت الأمهرا الاتفاق علنًا واعتبرته "صفقة سرية"، لأنه لم تتم استشارتهم. تماشيًا مع تلك الاعتراضات على الاتفاق، أعلن رئيس الوزراء، آبي أحمد، في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2018، أي بعد تولي السلطة بأربعة أشهر فقط، أن إثيوبيا والسودان لم يوقِّعا أية اتفاقية بعد عام 1972 حول الحدود. بل وأكد آبي أحمد، أن أية اتفاقية تم توقيعها حول الحدود بين البلدين بعد 1972 تعتبر لاغية.

كما أن سودان ما بعد البشير ليس كما كان، فطموحات أطراف السلطة الجديدة متعددة ومختلفة ما بين عسكريين ومدنيين وقوات خاصة وفصائل مسلحة عادت من المنفى، تبحث عن سبل التموضع في المشهد المتطور على مدار الساعة.

ففي 10 إبريل/نيسان 2020، بدأ الجيش السوداني إعادة الانتشار في الفشقة، إثر توترات بين قوات أمن سودانية وميليشيات إثيوبية. وتأكيدًا على الموقف الجديد للسودان، قام رئيس مجلس السيادة الانتقالي، عبد الفتاح البرهان، بتفقد المنطقة وأكد من هناك أن بلاده لن تسمح بالتعدي على أراضيها. قد تكون تقديرات قيادة الجيش السوداني أن التصعيد مع إثيوبيا قد يدفع غالبية السودانيين للالتفاف حولهم وتأجيل عملية التحول الديمقراطي التي تقضي بإخضاع العسكريين للمدنيين.

كما أن رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، قد يوظف أيضًا التصعيد مع السودان لتسويغ تأجيل تنظيم الانتخابات المقررة سابقًا، ودفع الإثيوبيين إلى الالتفاف حوله وتأجيل خلافاتهم الداخلية، وتصوير العمليات العسكرية التي يشنها على فصائل تيغراي المسلحة بأنها جزء من حرب إقليمية تهدد وحدة إثيوبيا وأمنها.

دوامة سد النهضة

مع بدء الجيش السوداني عمليات استعادة الفشقة، وقبل صدور أي تعليق من إثيوبيا على الأمر، بادرت مصر بإعلان دعمها للسودان، وهو ما فسرته إثيوبيا على أنه سعي من القاهرة لتأجيج الصراع بين أديس أبابا والخرطوم.

وللمرة الأولى في تاريخهما، أجرى الجيشان، السوداني والمصري، مناورات جوية مشتركة لمدة أسبوعين في قاعدة مروي الجوية الواقعة شمال السودان تحت عنوان "نسور النيل". وأثارت المناورات شكوك إثيوبيا؛ حيث جاءت في خضم عمليات الجيش الإثيوبي ضد جبهة تيغراي شمال البلاد.

ومع بلوغ عمليات الجيش السوداني مداها، اتخذت إثيوبيا موقفًا أكثر وضوحًا، واتهمت أطرافًا إقليمية، لم تسمِّها رسميًّا، بدفع البلدين للصراع.

ويأتي عدم تسمية إثيوبيا لمصر رسميًّا حفاظًا على خط الرجعة مع القاهرة، لكن الانطباع السائد في إثيوبيا، يشير إلى أن اليد المصرية تحرك أجندة النزاع الحدودي مع السودان عبر أطراف سودانية عسكرية ومدنية.

كما أن اتجاه القيادات السودانية نحو مصر ودول الخليج لشرح مواقف الخرطوم تعزز اتهاماتها لمصر بتحشيد العالم العربي ضدها. وتأتي التحركات المصرية في إطار الضغط على إثيوبيا خاصة قبل حلول موعد المرحلة الثانية من التعبئة الأولية المقرر في الصيف القادم.

هناك تقديرات في إثيوبيا بأن من مصلحة مصر دخول إثيوبيا في حالة عدم الاستقرار كتلك التي عانت منها في ثمانينات القرن الماضي، قبل وصول التيغراي للسلطة في 1991، لأن دخول البلد في مرحلة استقرار نسبي وتطور اقتصادي سريع مكَّنها من إطلاق مشاريع عملاقة كسد النهضة، قد تضر بما تعتبره مصر مصالحها الحيوية.

على أن التطور اللافت هو موقف السودان الذي تحول إلى النقيض بخصوص سد النهضة. فخلال تسع سنوات مضت من عمر المفاوضات ظل السودان قريبًا من موقف إثيوبيا، وأكدت الخرطوم مرارًا على الاستفادة من سد النهضة للتحكم في الفيضانات وزيادة مياه الري وتوفير كهرباء بسعر أرخص.

تفسير تقبل السودان لموقف إثيوبيا خلال السنين الماضية بالتفاهم السياسي بين قيادتي البلدين ليس كافيًا، لأن موقف السودان بعد الثورة ظل قريبًا من الموقف الإثيوبي. ففي يونيو/حزيران 2020، وقبل إعلان إثيوبيا بدء التعبئة الأولى للسد بشهر تقريبًا، أكد وزير الري والموارد المائية السوداني، ياسر عباس، على الفضائية السودانية أن السودان طلب إدخال بعض التعديلات على تصميم "سد النهضة" لزيادة معدل الأمان، وقد نفذتها إثيوبيا، مما يجعل درجة أمان سد النهضة أفضل من السدود السودانية ومن السد العالي، حسب تصريحات الوزير السوداني، مضيفًا أن سدَّ النهضة قد يكون بادرة للتعاون بين دول حوض النيل، ومؤكدًا في نفس الوقت استفادة كل من مصر والسودان من السد الإثيوبي.

قد يكون تحول موقف السودان من أزمة سد النهضة يرمي إلى تحقيق عدة أهداف: كسب مصر لـتأمين حدوده الشمالية من أجل التفرغ للصراع في حدوده الجنوبية مع إثيوبيا، والحصول على الدعم المصري في هذا الصراع، والضغط على إثيوبيا كي تقبل بتسوية الخلافات الحدودية. 

تصعيد مضبوط

تواجه إثيوبيا تحديين داخليين كبيرين، هما: الانتهاء من ملء سد النهضة والسيطرة على إقليم تيغراي، لذلك قد تحرص على خفض التوتر بمحيطها الخارجي، فأولويات أديس أبابا تتعلق بالتعامل مع الآثار الانسانية والسياسية للعمليات العسكرية في إقليم تيغراي، وتداعيات ذلك الإقليمية والدولية، وتشكيل حكومة تتمتع بشرعية انتخابية، ولو في حدودها الدنيا، حيث من المقرر إجراء انتخابات عامة في الصيف، وتنفيذ المرحلة الثانية من التعبئة الأولية لسد النهضة.

وتأكيدًا على ذلك، أجرى وزير المياه والري والطاقة الإثيوبي لقاء ميدانيًّا في سد النهضة مع المتعاقدين، وأكد على سير الأعمال حسب المخطط؛ مما يعني بدء الإنتاج التجريبي للطاقة من السد نهاية أبريل/نيسان. وبعدها الانتقال إلى المرحلة الثانية من التعبئة المقررة في يوليو/تموز المقبل.

سودانيًّا، ربما تكون بعض الأطراف متحمسة أكثر للدفع نحو المواجهة مع إثيوبيا لمكاسب سياسية على المستوى الداخلي وتحقيق مكاسب حدودية، واستجابة للتموضع الإقليمي مع مصر.

من جانبها، تسابق القاهرة الزمن، فتنفيذ إثيوبيا للمرحلة الثانية من تعبئة السد يعني عمليًّا إضعاف احتمالات الخيار العسكري، ومعه تراجع رهان الصقور في القيادة المصرية، لكن عامل ضيق الوقت نفسه قد يجعل القيادة المصرية تعمل على تسريع تغذية الصراعات داخل إثيوبيا وفي محيطها حتى تتسع الشروخ داخل القيادة الإثيوبية، وتواجه عزلة دولية متزايدة، وقد تتآكل قاعدة آبي أحمد الشعبية، وقد يفقد السلطة.

يبدو أن عوامل التأزيم تغلب عوامل التوافق: تخلي آبي عن الاتفاق السابق بين البلدين لتسوية الخلافات الحدودية، والحملة العسكرية التي يخوضها على القيادة في إقليم تيغراي التي تعد تاريخيًّا حليفَ السودان، ويتداخل مع هاتين الأزمتين أزمة سد النهضة التي تعتبرها مصر من صميم الأمن القومي. لكن هناك قيودًا على مستوى التأزيم: يخوض الجيش الإثيوبي عمليات عسكرية داخلية وليس بمقدوره توسيع عملياته إلى خارج الحدود في مواجهة الجيش السوداني. وليس في قدرة الجيش السوداني خوض حرب كبيرة خارجيًّا مع الجيش الإثيوبي؛ لأنه منشغل بمواجهة الجماعات المسلحة داخل البلد، وتأمين وضعه في بنية السلطة السياسية. كذلك لا يستطيع الجيش المصري توسيع عملياته إلى الحدود مع إثيوبيا؛ لأنه يحشد قواته على الحدود الليبية ويواجه حرب عصابات مزمنة في سيناء مع تنظيم الدولة.

ومن التوفيق بين عوامل استمرار الأزمة والقيود المفروضة على أطرافها، يبدو أن السيناريو الراجح هو أن يكون الصراع منخفض الحدة أو متوسط الحدة، على شكل مواجهات محدودة بين القوات النظامية أو بين فصائل مسلحة غير رسمية، أو بين قوات نظامية وفصائل مسلحة غير رسمية، وقد يفاقم استمرار الصراع اضطراب الأوضاع داخل إثيوبيا والسودان لأنه سيفاقم الخلافات السياسية بالبلدين والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة.

يمكن تصور سيناريو خفض التصعيد بناء على تقدير القيادة السودانية والإثيوبية للآثار السلبية للصراع بينهما على أوضاعهما الداخلية، فيميلان إلى تهدئته للتفرغ للمشاكل الداخلية، لكن ما يعيق هذا السيناريو هو افتقاد القيادتين للانسجام والتماسك، فرئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، يواجه معارضة داخلية على تأجيله للانتخابات، والقيادة السودانية لا تزال انتقالية ومنقسمة بين شق مدني وعسكري لا يثقان في بعضهما، وقد يميل كلاهما إلى التصعيد لتعزيز وضعه الداخلي. لذلك، يبدو أن سيناريو التخفيض ضئيل الحدوث.