تواجه ليبيا تهديدات وتحديات حقيقية في مجالات: الأمن، والمصالحة، وتحقيق التنمية الاقتصادية؛ فالوضع الأمني يتصف بحالة من عدم الاستقرار الواضح حيث تتكرر الحوادث العنيفة بشكل متواصل، كما يبدو عجز السلطات الانتقالية واضحًا حيث تنازعها السلطة كيانات مسلحة غير رسمية لا تخضع للسلطة الشرعية بل هاجمتها في مناسبات متكررة، ولا يمكن أن ييسر هذا الوضع التنمية الاقتصادية الضرورية لتلبية حاجات السكان. كل هذه المخاطر والتحديات ستتفاقم إذا لم يتوصل الليبيون إلى توافق حول دستور يعطي نظام الحكم شرعية فرض القانون على الأطراف المتنازعة، لكن خريطة الانتقال الديمقراطي كما حددها الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس الوطني الانتقالي في 3 أغسطس/آب 2011، تعاني من التناقض في مضامينها والتنازع بين مختلف القوى على الاعتراف بها.
لقد بينت الأحداث خلال الأسابيع القليلة الماضية هشاشة ظاهرة في المرحلة الانتقالية وغياب التوافق على مقتضيات وشروط الانتقال ومحدداته، فتعرضت المؤسسات الانتقالية، بما فيها المؤتمر الوطني (البرلمان المؤقت)، إلى هجوم متكرر من قبل المسلحين أو محاولة سلب إرادة أعضائه وإجبارهم على التصويت لإقرار قانون للعزل السياسي يستبعد فئات كثيرة وواسعة من الليبيين من العمل لأغراض سياسية أو حزبية بحُجة عملهم مع النظام السابق، وهو ما رفضته قطاعات واسعة وانتقدته المنظمات الحقوقية الوطنية والعالمية. ولذلك، فإن البلاد تواجه تحدي تحقيق الشرعية من خلال نجاح المؤتمر كهيئة ذات سيادة في إقرار دستور دائم للبلاد. إن كثيرًا مما يجري يمكن تفسيره بالعودة إلى الإعلان الدستوري المؤقت وخاصة المادة 30 التي تحدد شكل وطبيعة النظام السياسي الانتقالي ومراحله.
الدستور المؤقت: لغز المادة 30
تعد المادة 30 أهم نصوص الإعلان الدستوري على الإطلاق، فهي تحدد تمامًا خارطة الطريق لعملية الانتقال إلى الدولة الدستورية وشكل وطبيعة النظام السياسي الانتقالي، وتنص على أن يقوم المؤتمر الوطني العام في مدّة لا تتجاوز ثلاثين يومًا من أول اجتماع له بجملة من الخطوات، وصولاً إلى اختيار "الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور"، على أن تنتهي من تقديم مشروع الدستور للمؤتمر في مدّة لا تتجاوز ستين يومًا من انعقاد اجتماعها الأوّل. كما نصت المادة 30 على أن "يُعتمد مشروع الدستور من قبل المؤتمر الوطني العام، ويُطرح للاستفتاء عليه بـ(نعم) أو (لا)، خلال ثلاثين يومًا من تاريخ اعتماده من قبل المؤتمر، فإذا وافق الشعب الليبي على الدستور بأغلبية ثلثي المقترعين، تصادق الهيئة التأسيسية على اعتباره دستور البلاد، ويعتمده المؤتمر الوطني العام. وإذا لم يوافق الشعب الليبي على الدستور، تُكلف الهيئة التأسيسية بإعادة صياغته وطرحه مرة أخرى للاستفتاء خلال مدّة لا تتجاوز ثلاثين يومًا". ووفقًا لذلك لابد أن "يُصدر المؤتمر الوطني العام قانون الانتخابات العامة وفقًا للدستور خلال ثلاثين يومًا"، و" تُجرى الانتخابات العامة، خلال مئة وثمانين يومًا من تاريخ صدور القوانين المنظّمة لذلك". وأن "يُصادق المؤتمر الوطني العام على النتائج ويعلنها، وتُدعى السلطة التشريعية إلى الانعقاد في مدّة لا تزيد على ثلاثين يومًا. وفي أول جلسة لها يتم حلّ المؤتمر الوطني العام وتقوم السلطة التشريعية بأداء مهامها".
إلا أن المجلس الوطني الانتقالي قام في 16 مارس/آذار 2012 بإقرار تعديل دستوري قرر بموجبه إنشاء لجنة مكونة من ستين عضوا بدلاً من الهيئة التأسيسية. هذا التعديل سلب من المؤتمر الوطني العام صلاحيته الدستورية، فبدلاً من أن يكون هو الجمعية التأسيسية أصبح برلمانًا مؤقتًا بينما تنشأ جمعية لصياغة الدستور هي جمعية الستين على غرار لجنة الستين التي تشكلت في مرحلة استقلال ليبيا سنة 1951. هذا التعديل لم يُرضِ أطرافًا كثيرة فقام المجلس الوطني الانتقالي في (6 يوليو/تموز 2012) وقبيل إجراء انتخابات المؤتمر الوطني العام في 7 يوليو/تموز 2012، ورضوخًا لضغوط جهوية وخاصة من المهددين بانفصال إقليم برقة أو ما يُعرفون بالفيدراليين بإجراء تعديل آخر على المادة 30 فيما يتعلق بتشكيل لجنة الدستور. جاء هذا التعديل بعد أن خرجت المظاهرات في شرق ليبيا مطالبة بتساوي المقاعد بين الأقاليم الثلاث (برقة، فزان، طرابلس)، وأن تكون اللجنة منتخبة من الشعب وليست معينة من قبل البرلمان. ومع أن المجلس الانتقالي حاول في البداية تجاهل المطالب الفيدرالية التي تعرضت أحيانًا للتشويه والتخوين والتهديد، فإنه اضطر للرضوخ بعد أن اتجه المحتجون إلى تنفيذ اعتصامات اقتصادية ذات رمزية واضحة في منطقة الوادي الأحمر التي تمثل الفاصل بين طرابلس وبرقة والتهديد بقفل المواقع النفطية، بل وصلت حالة الغليان والاحتقان إلى التهديد بإيقاف الانتخابات أو عرقلتها بأية طريقة وهو ما حدث في بعض مدن الشرق. وفقًا للتعديل يتم انتخاب أعضاء لجنة الدستور الستين مباشرة وبالتساوي بين المناطق الثلاثة. هذا التعديل ربما كان ناجحًا وقتها في تجنيب البلاد الفوضى والعنف، أو ربما التحارب بين الأقاليم بالدخول في مواجهة عسكرية مع مجلس برقة وذراعه العسكري، إلا أنه قوّى عوامل التنافس بين القوى على عوامل التوافق حول الصيغة النهائية لدستور البلاد.
ومع أن كل الاستحقاقات التي حددتها المادة 30 لم يتم تنفيذها في مواعيدها المقررة، فإن المؤتمر الوطني سعى أولاً إلى إعادة النظر في التعديل الذي أُجري على المادة المذكورة وذلك بأن كلَّف لجنة خاصة بالحوار المجتمعي لمناقشة تشكيل الهيئة التأسيسية، وهي خطوة كان ينبغي أن تقود إلى توسيع دائرة الحوار الوطني وإشراك المجتمع المدني بما يسهم في توفير التوافق حول مسألة بهذه الأهمية، إلا أن الحوار الذي بدأ تم إيقافه في 6 فبراير/شباط 2013 عندما قرر المؤتمر الوطني العام تأكيد اختيار لجنة إعداد الدستور عبر آلية الانتخاب. ومع أن القرار صودق عليه بسبعة وثمانين صوتًا من أصل سبعة وتسعين عضوًا من أعضاء المؤتمر الذين حضروا الجلسة من أصل مائتي عضو، إلا أن ذلك يشير إلى نقصان التوافق الضروري على قضية حيوية تحدد النظام السياسي للبلاد. علاوة على أن القرار أسبغ شرعية على قرار المجلس الانتقالي في التعديل الذي اتُّخذ وقتها في ظرف خاص، وبذلك منح المؤتمر حق أو سلطة إقرار أو رفض مسودة الدستور الذي تضعه لجنة الستين مع امتلاك حق عرضه على الاستفتاء الشعبي. هذا يُحدث عمليًا تضاربًا وتناقضًا بين الطرفين الذين يمكن لكل منهما التمسك بشرعيته المحددة بالدستور المؤقت وبشرعيته الديمقراطية كونه منتخبًا شعبيًا. هنا يكون التساؤل حول مدى قبول أو مناسبة قيام هيئة منتخبة شعبيًا بشكل مباشر بأخذ موافقة هيئة أخرى على عملها. لابد أن تناقضًا بين المشروعيات وارد الحدوث، وهو أمر يزيد من حدته وآثاره خطورة أن المؤتمر الوطني لديه سلطة تعديل الإعلان الدستوري المؤقت أيضًا.
حكم المحكمة العليا: إبطال التعديل
التعديل الذي جرى على المادة 30 يحمل في طياته بذورًا للاختلاف والصراع على أكثر من مستوى، وهو ما يجعله بيئة حاضنة للعديد من التناقضات أو القنابل الموقوتة، إلا أن الحدث الأبرز يرتبط بآخر التطورات الحاصلة بشأن لجنة الستين ذاتها. لقد فاجأت المحكمة العليا المؤتمر والرأي العام بقرارها الذي يقضي بقبول الطعن الدستوري الذي قدمه عدد من المحامين والحقوقيين، ومن ثمَّ الحكم بعدم دستورية التعديل رقم (3) بحجة عدم توافر النصاب القانوني اللازم لاتخاذه. إن اللافت للنظر هو أن المؤتمر الوطني لم يبادر حتى الآن إلى اتخاذ أية خطوة لمواجهة هذا التحدي. إن ما صدر عن المحكمة العليا يؤدى حكمًا إلى زوال النص الذي قُضِيَّ بعدم دستوريته، ومن ثم صار نص التعديل رقم 3 وكأنه ليس موجودًا وباطلاً، وكُل ما بُني عليه يُعد باطلاً أيضًا، بما في ذلك قرار المؤتمر الوطني القاضي بإمضاء تكوين لجنة الستين بالانتخاب المباشر.
هذه إذن عودة للمربع الأول وهو ما ينذر ببروز التنافس والصراع والتناقضات التي سبقت وصاحبت التعديل ذاته. لم يبادر المؤتمر إلى مواجهة التحدي الذي يحتم -وفقًا للمختصين بالقانون الدستوري- عقد جلسة عاجلة للنظر فيما يجب اتخاذه بصدد قضية الحكم بعدم دستورية النص الذي يتعلق بأهم الخطوات الدستورية التي حددتها خارطة الطريق للانتقال الديمقراطي، وهو ما ينذر بتأخير عملية صياغة الدستور في وقت تشهد فيه البلاد عدم استقرار أمني وتنامي الشعور بالإحباط بين الليبيين. إن هذا الحكم يضع المؤتمر الوطني أمام خيارين: إما إجراء تعديل دستوري جديد أو العمل بما جاء في نص المادة 30 قبل التعديل واختيار أعضاء اللجنة بالتعيين وفق التصويت بأغلبية 120 صوتًا، وهو ما يعترض عليه كثيرون، في مقدمتهم أنصار الفيدرالية بالإضافة إلى قادة الجنوب الليبي.
إن التجربة التي مرت بها البلاد خلال عمر المؤتمر الوطني حتى الآن تُبين أن الاعتماد على المؤتمر الوطني لاختيار لجنة بهذه الأهمية قد يجر إلى مخاطر الاحتراب السياسي الحزبي والجهوي والأقاليمي. لقد رأينا مثلاً كيف كان تعامل المؤتمر مع حكومة مصطفى بوشاقور المؤقتة، أعطاها ثقته ثم سحبها بسبب النزاع بين قواه. إن هذا ينذر بأن هذه التكتلات الحزبية والجهوية، التي تنازعت اختيار رئيس الوزراء ثم اختيار من يكلفون بما سُمي بالوظائف السيادية، سوف تشهد تطاحنًا أكثر بشأن اختيار60 عضوًا لهذه اللجنة وسط تدخل أطراف مختلفة كانت اقتحمت مقر المؤتمر وهددت أعضاءه وسعت لفرض الآراء بالقوة. غير أن التحدي الأكبر يتصل بمدى قبول أنصار الفيدرالية وساسة الجنوب والأقليات والمرأة أيضًا بالعودة إلى المربع الأول، حيث عبّروا سابقًا عن أن قيام المؤتمر بالاختيار يعني احتمالاً أكبر بعدم حصول برقة وفزان على نصيب مناسب في عضوية اللجنة، ومن ثم تكريس التهميش وهيمنة طرابلس. ولعل التخوف من هذه الاعتراضات، جعل المؤتمر الوطني يتراجع عن إشراك الليبيين في المناقشة بإلغاء لجنة الحوار المجتمعي لمناقشة تشكيل الهيئة التأسيسية. لقد عبّر الفيدراليون عن مواقفهم، حسبما صدر عن رئيس حزب الاتحاد الوطني في ليبيا، بالدعوة إلى ضرورة اعتماد التوافق بين مكونات ليبيا وأقاليمها في تشكيل الهيئة التأسيسية لصياغة دستور ليبيا المقبل. ويعلق الفيدراليون أهمية كبيرة على اللجنة التي وصفها رئيس حزبهم بأنها أهمَّ قضايا الساعة في الحياة السياسية في ليبيا، كما أكد على ضرورة مراعاة الأقاليم في تكوين المفوضية التي سوف تُشرف على العملية الانتخابية، بحيث تستجيب للطبيعة الجغرافية للبلاد والتي ينبغي اختيار لجنة الستين وفقًا لها بتمثيل متساو لكل من برقة، طرابلس، فزان.
البحث عن إجماع مفقود
تفتقد ليبيا في هذه اللحظة الحرجة الاجماع الضروري على صيغة دستورية هي في أمس الحاجة اليها، والنموذجان البارزان على هذا الاختلاف، أحدهما سياسي يمثل القوى الفائزة بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والآخر يمثل قوى مسلحة، فالطرف الأول عبر عنه رئيس تحالف القوى الوطنية، محمود جبريل، بالقول أن التحالف يتجه مع بعض الأحزاب إلى اعتماد دستور عام 1951 الخاص بالمملكة الليبية بتعديلات عام 1963، بحيث يكون هناك إطار قانوني يتحرك الجميع من خلاله، وتغيير لجنة صياغة الدستور إلى لجنة لتعديل وتطوير الدستور، مع تعليق العمل بالمواد الخاصة بشكل الحكم في الدستور القديم.
كل هذا الطرح يتجنب أكثر المسائل خلافية وهي التي تتعلق بمنظومة الحكم؛ حيث إن العودة إلى دستور 1951 يعني اعتماد النظام الفيدرالي بينما يقرر التعديل الذي جرى على هذا الدستور في 1963 النظام الوحدوي وهو ما يعتبر مثار اختلاف ومصدر تناقض. هل يمكن فعلاً تجاهل التعديل وهو ما يعني فرض الفيدرالية دون الرجوع للناخبين، أو إقراره وسيكون لذلك تداعيات طويلة الأمد على الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي والانسجام الاجتماعي.
أما الطرف الثاني فعبر عنه ما صدر عن هيئات مسلحة، كالمجلس الأعلى للثوار، من تهديدات باسم شرعية الثورة تعطيهم حق التدخل في مجريات العملية السياسية.
كل ذلك من شأنه أن يلقي ظلالاً من الشك في قدرة لجنة الستين على اكتساب الشرعية وحشد الإجماع ليس فقط في هذا المجال بل أيضًا فيما يتعلق بقانون الانتخابات، وقانون المفوضية العليا للانتخابات وطريقة تشكيلها والطريقة أو المعايير التي يتم وفقًا لها تقسيم البلاد أو الأقاليم إلى دوائر انتخابية. إن هذا يتم بناء على فرضية بأن الأقاليم الثلاثة فعلاً هي كيانات قائمة ذات حكم ذاتي (كما كانت في 1949-1951)، وهو ما يخالف الواقع، لأن هذه الأقاليم تُعد منذ 1963 مجرد وحدات إدارية متداخلة أحيانًا. لكن تكريس هذا التقسيم الإداري دستوريًا قد يخلق قوى سياسية أقاليمية وجماعات مصالح لم يكن لها وجود من قبل.
وبالنظر إلى أولويات الانتقال السياسي في ليبيا، فإن القوى الليبية تحتاج إلى اتّخاذ إجراءات للحوار والتوصّل إلى إجماع حول آلية اختيار اللجنة التأسيسية التي سوف يكون لديها مهلة ثلاثين يومًا فقط لإعداد مسوّدة الدستور ورفعها إلى المؤتمر الوطني العام الذي يتعيّن عليه تنظيم استفتاء في غضون ستين يومًا، وهي ليست بالمدّة الكافية لمعالجة الأولويات المتعلّقة بمستقبل ليبيا والاتّفاق على منظومة حكم ترضي كل الأطراف. إن نظام الحكم بدون شك مادة للاختلاف والتناقض بين أطراف مختلفة تشمل الإسلاميين، ودعاة الفيدرالية، والأقليات، والقوى القبلية والمحلية وخاصة في المدن القوية كمصراته والزنتان، علاوة على الثوار وكتائبهم المسلحة وتشكيلاتهم ذات الطابع السياسي المتمسكة بشرعية ثورية وإدامة مرحلة الثورة، إضافة إلى الميليشيات المسلحة المختلفة الطبيعة والأهداف. ومن الواضح وسط كل هذا أن عمر المؤتمر الوطني سيمتد إلى ما بعد السقف الزمني المحدد في خارطة الطريق، وبالتالي تطويل المرحلة الانتقالية بما يتجاهل الدستور المؤقت، مما يوقع البلاد في فراغ قد يحفز بعض القوى على الاستيلاء على السلطة والتحكم في العملية برمتها. وما لم يبادر المؤتمر الوطني لمواجهة هذه التحديات فإنه يعرض البلاد أكثر لخطر التدهور الأمني بإضافة ديناميات تهديد جديدة في غياب أية آلية لحل التناقضات وصياغة التوافقات.