إجمالًا، ستظل العلاقة بين البلدين عرضة للاهتزازات لأنها انعكاس لعملية المواءمة الجارية بين نزوع تركيا إلى دور إقليمي أكثر استقلالية وتعزيز موقعها داخل الحلف الأطلسي.
شهدت بروكسل، على هامش قمة حلف الناتو، 14 يونيو/حزيران 2021، لقاءً ثنائيًّا بالغ الأهمية بين الرئيسين، التركي المخضرم، رجب طيب أردوغان، والأميركي الجديد، جوزيف بايدن، إلى جانب لقاءات ثنائية متعددة مع عدد آخر من قادة دول الناتو. ولا شك أن لقاء أردوغان-بايدن كان محل ترقب كثيرين، سواء في دوائر الحكم والسياسة التركية، أو بين حلفاء تركيا وخصومها في الإقليم وأوروبا، أولًا: لحجم الملفات العالقة والمتراكمة في علاقات الدولتين التركية والأميركية، وثانيًا: لانعكاس هذه العلاقات على دور تركيا وموقعها الإقليمي.
انتظر الأتراك طويلًا الاتصال الأول بين الرئيسين، الذي تأخر لشهور ثلاث بعد تولي بايدن مقاليد البيت الأبيض، في يناير/كانون الثاني 2021. وعندما وقع الاتصال، في 23 أبريل/نيسان، أبلغ بايدن نظيره التركي بأن إدارته ستعلن في اليوم التالي اعترافها بما بات يوصف بالمذبحة الأرمنية في 1915؛ الأمر الذي أحجمت الإدارات الأميركية السابقة في نصف القرن الماضي عن القيام به. ولكن الرئيسين اتفقا أيضًا، في سياق اتصال أبريل/نيسان على عقد لقاء ثنائي على هامش قمة الناتو، التي يشارك فيها بايدن ضمن جولته الخارجية الأولى متعددة المحطات. وليس ثمة شك في أن تأخر بايدن في الاتصال بأردوغان كان مخططًا، وقُصد به ممارسة الضغط على تركيا.
تعامل أردوغان منذ تولى حزبه قيادة تركيا، في نهاية 2002، مع عدد من الإدارات الأميركية، الجمهورية والديمقراطية على السواء. وبالرغم من أن العلاقات التركية-الأميركية لم تكن سلسة مطلقًا، منذ التحقت تركيا بالتحالف الغربي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلا أن أنقرة وواشنطن وجدتا دائمًا وسيلة ما لاحتواء الخلافات والحفاظ على التحالف. والمؤكد أن أنقرة لم تشعر بأي قدر من الارتياح للطريقة التي عبَّر بها بايدن عن موقفه من القيادة التركية خلال شهور الانتخابات الرئاسية الأميركية، أو التي تناول بها مسؤولو إدارته علاقات البلدين بعد توليه الرئاسة.
اللافت، أنه وبخلاف علاقة أردوغان بالرؤساء الأميركيين الآخرين منذ بوش الابن، ثمة معرفة سابقة ووثيقة بين الرجلين، تعود إلى الدور الذي لعبه بايدن في العلاقات التركية-الأميركية عندما كان نائبًا للرئيس أوباما طوال ثماني سنوات. ولكن، يبدو أن هذه المعرفة بين الرئيسين المخضرمين لم تساعد كثيرًا في معالجة مسائل الخلاف، أو الشعور التركي المتفاقم بفقدان الثقة في الحليف الأميركي. بيد أن لقاء أردوغان وبايدن جاء أيضًا بعد شهور من الانعطافات الملموسة في سياسة تركيا الإقليمية، التي لابد أن فوز بايدن في الانتخابات الأميركية كان أحد دوافعها. فهل عملت هذه الانعطافات فعلًا على حل أو احتواء الخلافات التركية-الأميركية؟ وإلى أي حدٍّ يمكن القول: إن لقاء الرئيسين أدى إلى إطلاق بداية جديدة لعلاقات البلدين، كما كان يأمل الجانب التركي؟
ملفات خلاف متراكمة
ما شاع في الدوائر التركية والأميركية ذات الصلة خلال الشهور القليلة الماضية أن تولي إدارة بايدن الحكم وضع نهاية لفصل من التفاهم والاستقرار، امتازت به علاقات أنقرة وواشنطن طوال إدارة دونالد ترامب. ولكن الحقيقة أن ثمة مبالغة فائقة في هذا التصور لفترة رئاسة ترامب، ليس فقط لأن واشنطن في عهد ترامب لم تعمل بأية درجة من الجدية على حل مسائل الخلاف بين الدولتين، ولكن أيضًا لأن تعامل ترامب مع تركيا لم يكتسب طابعًا استراتيجيًّا ولا انطلق من إطار مرجعي مستقر، وقفز بين مرحلة وأخرى من التفاهمات المؤقتة إلى فرض العقوبات والتهديد بالخراب.
إقليميًّا، انحازت إدارة ترامب إلى الجانب اليوناني في ملف شرق المتوسط، وأقامت قواعد عسكرية جديدة في كريت وقرب الحدود التركية-اليونانية، استبطنت التقليل من أهمية قاعدة إنجرليك التركية للاستراتيجية الأميركية. كما حافظت إدارة ترامب على التزامها بمقاربة أوباما للأزمة السورية وتجاه الأكراد. والأهم، أن إدارة ترامب هي التي فرضت العقوبات على الصناعة الدفاعية التركية، وهي التي اتخذت قرار إخراج تركيا من برنامج طائرات إف-35، بعد أن بدأت تركيا في تسلم بطاريات نظام إس-400 الروسي المضاد للطائرات. بمعنى، أن قائمة الخلافات التركية-الأميركية، التي أصبح على أردوغان وبايدن معالجتها، لم تولد في الشهور القليلة التي تلت تولي بايدن الرئاسة، بل تعود إلى سنوات طويلة سابقة، وإلى فترة رئاسة أوباما الثانية، على الأقل.
من وجهة نظر أنقرة، تركت الولايات المتحدة تركيا منفردة في الساحة السورية، حتى بعد التدخل الروسي المباشر لصالح نظام الأسد في خريف 2015. ووفرت واشنطن مظلة حماية وقنوات دعم غير مسبوقة للميليشيات الكردية السورية وثيقة الصلة بحزب العمال الكردستاني، الذي يخوض حربًا ضد الدولة التركية منذ ثمانينات القرن الماضي. ويعتقد مسؤولون أتراك أن الولايات المتحدة كانت تعرف مسبقًا بمخطط الانقلاب الفاشل، الذي حاولت تنفيذه جماعة غولن، في يوليو/تموز 2016. وبالرغم من أن تركيا قدمت أدلة كافية على مسؤولية جماعة غولن عن الانقلاب، رفضت الإدارات الأميركية المتتالية تسليم غولن للسلطات القضائية التركية.
إضافة إلى ذلك، أظهرت الولايات المتحدة انحيازًا لوجهة نظر اليونان في الخلاف حول مناطق السيادة البحرية في شرق المتوسط. وذهبت أبعد من ذلك عندما شرعت في تعزيز علاقاتها العسكرية مع اليونان، بما في ذلك تأسيس قواعد عسكرية أميركية جديدة في اليونان. وحتى في ليبيا؛ حيث وقف الأتراك وحدهم في مواجهة النفوذ الروسي المتسع إلى جانب اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، لم توفر الولايات المتحدة دعمًا كافيًا لتركيا، بل بدأت في الشهور الأخيرة في إطلاق تصريحات غامضة حول ضرورة انسحاب كافة القوى العسكرية الأجنبية من ليبيا.
ولا تقل الخلافات ثقلًا من وجهة نظر واشنطن. فأميركيًّا، تبرز مسألة نظام الصواريخ إس-400 الروسي المضاد للطائرات في مقدمة ملفات الخلاف. ويبدو موقف إدارة بايدن في هذه المسألة أكثر تشددًا من موقف إدارة ترامب، إلى الحد الذي دفع أنتوني بلينكن، وزير خارجية بايدن، للتصريح في جلسة لمجلس الشيوخ بأن "تركيا لم تعد تتصرف كحليف". والمشكلة في ملف إس-400، الذي تقول أنقرة إنها اضطرت لشرائه نظرًا لرفض إدارة أوباما بيعها نظام الصواريخ الأميركي، باتريوت، أن واشنطن باتت تنظر إليه من زاوية جيوستراتيجية، بينما تحاول أنقرة حصره في الحقل التقني. وهذا ما يجعل محاولات إيجاد حل لهذا الملف، مسألة بالغة التعقيد.
وترى واشنطن، كما حليفاتها الأوروبيات، أن تركيا تبنَّت سياسة خارجية هجومية في العامين الماضيين، دون أن تكترث بمصالح القوى الغربية، كما حدث في شرق المتوسط وفي ليبيا وسوريا وأذربيجان. كما ترى أن علاقات التقارب التركية مع روسيا والصين، سياسيًّا واقتصاديًّا، تعكس سعيًا تركيا للاستقلال عن حلفائها في الناتو. إضافة إلى ذلك، ولأن إدارة بايدن تبدو وكأنها تُعلي من قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في جدول اهتماماتها الخارجية، تتهم واشنطن حكومة العدالة والتنمية بانتهاج سياسات في السنوات القليلة الماضية أفضت إلى تراجع ملموس في الديمقراطية التركية، ليس آخرها إطلاق مسار قضائي لحل وإقصاء حزب الشعوب الديمقراطية، ذي الخلفية القومية الكردية.
وكانت دوائر تركية، يبدو أنها كانت أمْيَل إلى تأييد ترامب، قد نشرت خلال الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية، شريطًا مسجلًا لمقابلة أجرتها نيويورك تايمز مع المرشح الرئاسي، جوزيف بايدن، قال فيها إنه يعتبر أردوغان ديكتاتورًا، وأنه سيعمل، إن فاز بالرئاسة، على دعم المعارضة التركية لإسقاطه في الانتخابات. تجاهل أردوغان الشريط حينها، ولكن من المؤكد أن تصريحات بايدن تلك لم يُنظر إليها بأي مستوى من الارتياح في أوساط الرئاسة التركية. وقد جاء تباطؤ بايدن في الاتصال بأردوغان، واعتراف إدارته بالمذبحة الأرمنية، لإضافة المزيد من عدم الارتياح في أنقرة.
انعطافات السياسة الخارجية التركية
بدأت أنقرة منذ صيف العام الماضي سلسلة من المبادرات على صعيد السياسة الخارجية، حاولت من خلالها تحصين الدور الإقليمي للبلاد، وحماية الاقتصاد من عواقب ضغوط وباء كوفيد-19، والحفاظ على المكتسبات التي تحققت خلال 2019–2020. وليس ثمة شك في أن التدهور المتسارع في علاقات تركيا الغربية، والعلاقات مع الولايات المتحدة، بصورة خاصة، شكَّل الخلفية الدافعة لهذه المبادرات، سيما بعد أن فرضت واشنطن عددًا من العقوبات على الصناعات الدفاعية التركية. كما هدَّد الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات أوسع بفعل الخلافات التركية-اليونانية في شرق المتوسط. ولا يقل أثرًا شعور تركيا، حتى بعد توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، أنها باتت معزولة في شرق المتوسط، وفي مواجهة تحالف مصري-يوناني-إسرائيلي، تسانده كل من الإمارات والسعودية.
كان المؤشر الأول للمقاربة التركية الجديدة استجابة أنقرة للاتصالات المصرية، التي استهدفت تجنب وقوع مواجهة عسكرية بين الدولتين في الشرق الليبي. وسرعان ما تطورت الاتصالات بين الدولتين من المستوى الأمني إلى السياسي، وجرى الاتفاق على إطلاق مسار تفاوضي يعمل على معالجة الخلافات المستحكمة بينهما، ومن ثم إعادة العلاقات إلى مستواها الطبيعي. ونظرًا للتقدم في المفاوضات، ثمة اعتقاد بأن العلاقات الدبلوماسية بين أنقرة والقاهرة ستعود بصورة كاملة قبل نهاية العام 2021، وأن الدولتين قد تطلقان مسارًا موازيًا لترسيم الحدود البحرية. هذا، إلى جانب تهدئة الخلافات المصرية-التركية في ليبيا، وعمل الدولتين على دعم الحكومة الليبية المؤقتة.
في الوقت نفسه، استقبلت أنقرة الوساطة الألمانية في شرق المتوسط بقدر ملموس من الإيجابية ووافقت على بدء مباحثات تركية-يونانية، تعمل على نزع فتيل التوتر ومنع التصعيد، وتمهِّد الطريق لمفاوضات أكثر شمولًا حول مسألة الحدود البحرية الاقتصادية في شرق المتوسط وبحر إيجة. ولابد أن نجاح تركيا في اكتشاف حقل للغاز، باحتياطيات كبيرة، في قطاعها السيادي بالبحر الأسود، ساعد على اتخاذ موقف أقل حدة في شرق المتوسط. وبالرغم من أن المفاوضات التركية-اليونانية تسير بصورة بطيئة، إلا أن وزيري خارجية البلدين تبادلا الزيارات مؤخرًا، كما بدأت اليونان في اتخاذ مواقف أكثر إيجابية تجاه تركيا في الاتحاد الأوروبي. إضافة إلى التهدئة مع مصر واليونان، قام وزير الخارجية التركية بزيارة لافتة للسعودية، التي كادت علاقاتها مع تركيا تنهار كلية منذ انفجار قضية اغتيال الصحفي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده بإسطنبول. ولكن، وبالرغم من أن كلًّا من تركيا والسعودية، ولأسباب مختلفة، تواجهان تأزمًا في العلاقة مع إدارة بايدن، ليس ثمة ما يشير بعد إلى استجابة سعودية ملموسة لمحاولات تطبيع العلاقات مع تركيا، التطبيع الذي يعتقد سعوديون كثر بأنه أصبح ضروريًّا لمواجهة الفشل السعودي في اليمن وتصاعد المواجهة مع إيران.
خلال الشهور القليلة السابقة على لقاء أردوغان وبايدن، اتخذت تركيا سلسلة من الخطوات، التي أكدت على ثقلها في حلف الناتو، وعلى التزامها بالتحالف الغربي ومصالحه. فمنذ أبريل/نيسان، استقبلت تركيا قادة جورجيا وبولندا وأوكرانيا، وهي الدول التي تربطها علاقات بالغة التوتر مع روسيا. ولم تشهد زيارات القادة الثلاث على تعزيز التضامن التركي مع هذه الدول، وحسب، ولكنها أسفرت أيضًا عن اتفاقيات لتزويدها بالسلاح التركي. يضاف ذلك إلى مؤشرات على أن ليتوانيا ستقوم هي الأخرى بشراء طائرات مسيَّرة تركية. كما شاركت تركيا في منتصف مايو/أيار بدور ملموس في المناورات التي أجراها الناتو في رومانيا.
وقبل أيام فقط من لقاء أردوغان وبايدن، استقبلت تركيا الرئيس القرغيزي، سادير جباروف، في خطوة تقارب لافتة بين الدولتين. فقرغيزيا، بالطبع، دولة صغيرة، لا تتمتع بثروات ذات قيمة، ولكنها تحتل موقعًا استراتيجيًّا في جوار الصين. كما أرسلت تركيا وفدًا عالي المستوى، ضم وزراء الخارجية والداخلية والدفاع ورئيس الأركان ومدير الاستخبارات، إلى العاصمة الليبية، طرابلس. وبالرغم من أن ما رشح من لقاء المسؤولين الأتراك بكبار المسؤولين الليبيين في الحكومة المؤقتة كان قليلًا، فالمؤكد أن هدف الزيارة كان تعزيز الشراكة التركية-الليبية، وتقديم النفوذ التركي في ليبيا باعتباره نفوذًا للناتو، وأنه يسهم في مواجهة التوسع الروسي في حوض المتوسط. ولا يقل أهمية أن تركيا عرضت بالفعل على الولايات المتحدة وشركائها الآخرين في الناتو أن تقوم القوات التركية بالإشراف على مطار كابول وحراسته، بعد أن يكتمل انسحاب الأميركيين وقوات دول الناتو الأخرى من أفغانستان، في سبتمبر/أيلول المقبل.
في كل هذه الخطوات، يبدو واضحًا أن تركيا تعيد توكيد دورها في حلف الناتو، وتعمل على أن يصبح هذا الدور مدخلًا وإطارًا لعلاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا الأطلسية. بذلك، ترى القيادة التركية أنها تذهب إلى قمة الحلف، وإلى لقاء رئيسها أردوغان ببايدن، ولقاءاته مع قادة دول الحلف الآخرين، وهي أكثر استعدادًا، سواء لاستعادة تأثيرها في كتلة التحالف الغربي، أو في التأسيس لبداية جديدة في العلاقات الأميركية-التركية.
أفق التوافق وحدوده
لم يكن خافيًا في المؤتمرين الصحفيين اللذين عقدهما كل من أردوغان وبايدن، كل على حدة، أنهما خرجا من اللقاء بانطباع إيجابي عن سير المباحثات واتجاهها. فقد صرَّح أردوغان بأن ليس هناك مشكلة في علاقات البلدين لا يمكن حلها، بينما وصف بايدن المباحثات بالجيدة والبنَّاءة، وأكد على أن حوار مسؤولي الدولتين سيستمر للتعامل مع كافة المسائل العالقة.
ولأن جلستي المباحثات، الثنائية منها أو تلك التي التحق بها وفدا الدولتين، كانت مغلقة، فمن الصعب تحديد الملفات التي جرى بالفعل الاتفاق عليها، وتلك التي ترُكت لمزيد من التفاوض. ولكن تصريحات أردوغان في مؤتمره الصحفي، التي جاءت أكثر تفصيلًا، توحي بأن ملفي نظام صواريخ إس-400 والقرار الأميركي بإخراج تركيا من برنامج الطائرة إف-35، والدعم الأميركي للميليشيات الكردية السورية، كانت بين المسائل التي تتطلب مزيدًا من التفاوض، بينما يبدو أن تقاربًا في وجهات النظر تحقق فيما يتعلق بأفغانستان وليبيا. ولأن الهدف الأميركي الرئيس من قمة دول الناتو كان حشد الحلفاء في المواجهة مع روسيا والصين، وأن قمة أميركية-روسية ستُعقد في 16 يونيو/حزيران، فلابد أن الجانب الأميركي خرج من اللقاء أكثر اطمئنانًا لموقف تركيا من التعامل مع روسيا والصين.
عمومًا، يمكن القول، وبقدر كبير من التحفظ والحذر: إن لقاء أردوغان وبايدن كسر حاجز الجليد في علاقات الرئيسين، ومثَّل خطوة أولى نحو احتواء المخاوف وفقدان الثقة المتبادل بين الدولتين. ولكن، وبالنظر إلى أن الولايات المتحدة تنظر منذ 2012، على الأقل، بقدر من القلق إلى الصعود التركي الإقليمي، فمن الصعب التنبؤ بمصير ملفات الخلاف المستعصية الأخرى. وطالما ظلت أنقرة تتحرك في إطار من طموحات القوة الإقليمية، أو ظل هذا على الأقل هو التصور السائد غربيًّا للسياسة الخارجية التركية، فإن التفاهمات التركية مع الولايات المتحدة ستظل دائمًا ضمن سقف محدد. وما ينطبق على العلاقات التركية-الأميركية، ينطبق أيضًا على علاقات تركيا بالعواصم الأوروبية الغربية الرئيسة.
ففي بروكسل، لم تقتصر مباحثات أردوغان الثنائية على اللقاء مع بايدن، بل عقد الرئيس التركي لقاءات أخرى مع رئيس الحكومة البريطانية والمستشارة الألمانية والرئيس الفرنسي ورئيس الحكومة اليوناني. كل هذه اللقاءات، طبقًا لأطرافها المتعددة، انتهت إلى نتائج إيجابية، سيما تلك التي جمعت الجانب التركي بنظيريه، الفرنسي واليوناني، اللذين اتسمت علاقات أنقرة بهما في العام الماضي بقدر مرتفع من التوتر. وقد أكد الرئيس الفرنسي في ختام لقائه بأردوغان على بداية جديدة من الحوار مع تركيا، كما اتفق الرئيس التركي ورئيس الحكومة اليوناني على عدم العودة إلى مناخ الصدام والالتزام بالتفاوض لحل خلافات البلدين في شرق المتوسط وقبرص. ولكن من الصعب تصور توصل تركيا وفرنسا إلى تفاهمات شاملة ومستديمة بالنظر إلى تعدد ساحات التنافس الاستراتيجي، كما أن الخلافات التركية-اليونانية في شرق المتوسط وقبرص من الاتساع بحيث لا يمكن تجاوزها دون تنازلات هائلة من كلتيهما.
ما هو واضح، على أية حال، أن أنقرة ترى أن مصلحة البلاد تستدعي في هذه المرحلة تبني سياسة التهدئة إقليميًّا وعلى صعيد العلاقة مع الكتلة الغربية، ليس فقط لأسباب اقتصادية أو بهدف الحفاظ على مكتسبات العامين الماضيين الاستراتيجية، ولكن أيضًا لتعزيز وضع الرئيس أردوغان الانتخابي. ولكن الأرجح أن هذه التهدئة لن تستقر طويلًا، وأنها سرعان ما ستواجه امتحان المصالح والتنافس الاستراتيجي ما إن تأخذ تركيا خطوتها الإقليمية التالية.