قراءة في نتائج الانتخابات التشريعية الجزائرية

تقدم هذه الورقة قراءة لنتائج الانتخابات الجزائرية التي جرت مؤخرا، وذلك في ضوء التدافع بين رؤيتين متضاربتين: رؤية ترى في المدخل الانتخابي آلية لتكريس نظام سلطوي وإعادة بناء المشهد السياسي السابق، ورؤية تفاؤلية ترى في الانتخابات التشريعية آلية عبور نحو إعادة بناء الجزائر
سياق الانتخابات الجزائرية مفتوح على جميع الاحتمالات بسبب المناكفات السياسية بين الاتجاهات المتضاربة (AP)

تحاول هذه الورقة تقديم قراءة هادئة لنتائج الانتخابات التشريعية الجزائرية التي جرت في 12 يونيو/حزيران 2021 وذلك في ضوء التدافع بين رؤيتين متضاربتين: رؤية ترى في المدخل الانتخابي آلية لتكريس نظام سلطوي وإعادة بناء المشهد السياسي السابق، ورؤية تفاؤلية ترى في الانتخابات التشريعية آلية تشكل محور عبور نحو إعادة بناء الجزائر الجديدة.

بين هذا وذاك تتشكل سلوكيات انتخابية تترسخ مع مرور الزمان، فحواها عدم جدوى العملية الانتخابية برمتها وأن ما يجري لا يشكل قيمة، لا من حيث مدخل الشرعية ولا من حيث رؤية المشروعية التي يفترض أن يعكسها الأداء الحكومي مستقبلا في ضوء برنامج الرئيس تبون ورؤيته المبنية على تشكيل ملامح جزائر جديدة.

لا يمكن بأي حال من الأحوال قراءة أرقام الانتخابات التشريعية قراءة سريعة فذلك سيضعنا في فخ الرؤية المجتزأة للأحداث، والوقوع في تبني استنتاجات سريعة لا تنسجم مع المعطيات المنهجية من جهة، ولا تنسجم مع حجم ما قد يحدث من اهتزازات لا ترتبط بالشأن الداخلي؛ إذ من المعلوم أن الحراك الذي عرفته الجزائر شكل صدمة قوية للمنظِّرين الأكاديميين ولممارسي السياسة في الجزائر، وكذا لصناعها والقائمين عليها وه،و ما جعلنا نقف على سلوكيات متناقضة وانتقال للأكاديميين من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال ومن الموالاة إلى المعارضة، وهذه الملامح كلها تجعلنا نقرأ الانتخابات بشكل هادئ لعل ذلك يمكننا من بناء السياسة وإعادة تأهيل السياسيين مستقبلا.

أولا: قراءة في النتائج النهائية المعلنة من طرف المجلس الدستوري

إن الانتخابات عملية متعددة الأطراف تقتضي التكامل والتوازن، وذلك بقيام كل طرف بما عليه ليضمن ماله، وأي انحراف في هذا التناغم سيخلّ بالسير الحسن لمجمل العملية الانتخابية، الشيء الذي ينعكس سلباً على الشرعية وقدرة المسؤول على التصدي للشأن العام بثقة واقتدار، وقد شكل الوضع الذي تميزت به الانتخابات التشريعية حالة غريبة مقارنة بمحطات انتخابية كثيرة ومتعددة، إذ إن هذه الانتخابات سجلت أدنى نسبة مشاركة منذ عهد التعددية الحزبية وقد شكل حزب "الصامتين المقاطعين" أعلى نسبة في الوقت الذي سجل فيه حزب الأوراق الملغاة التي تجاوزت مليون صوت ظاهرة جديرة بالبحث والدراسة.

لقد جاء السياق العام لهذه الانتخابات مفتوحا على جميع الاحتمالات بسبب المناكفات السياسية بين الاتجاهات المتضاربة بين الخيارين السياسي والدستوري، وقد صرح الرئيس بعد أدائه لواجبه الانتخابي أن نسبة المشاركة لا تعنيه على اعتبار أنها ظاهرة طبيعة في كل الديمقراطيات، وهو ما رآه خصومه رفضا صريحا لأحد عناصر مقومات الشرعية السياسية.

من الناحية اللوجستية شكلت الهيئة الناخبة ما يتجاوز 24 مليونا بلغ المصوتون منها نسبة 23% لا غير، في حين بلغ عدد الأوراق الملغاة مليونا و16 ألفا في عميلة أشرف عليها 113100 فردا بإدارة السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات.

وقد أشار رئيس السلطة إلى 156 تجاوزا خلال يوم الاقتراع، منها ما ارتبط بتكسير صناديق الاقتراع وتسريب القسيمات وقد تم إحالة العشرات على النيابة العامة.

وقد كثرت الطعون من طرف جهات من الحراك وبعض التشكيلات السياسية التي عُمِّرت طويلا تحت قبة زيغود يوسف (قبة البرلمان الجزائري) وخرجت خالية الوفاض في هذه الانتخابات، وقد بلغت الطعون التي وصلت المجلس الدستوري 348 طعنا في نتائج الانتخابات، قُبِل منها 48 اعتُبرت طعونا مؤسسة ذات سند قانوني، فيما رُفض 300 طعن.

وفي ضوء دراسة الطعون ألغيت النتائج المسجلة في بعض الدوائر الانتخابية وهو ما نتج عنه تعديل في توزيع المقاعد، وبالنظر إلى تطبيق القانون 01-20 المتعلق بنظام الانتخابات والقاضي بالإلغاء الضمني للحصة المخصصة للمرأة وتمكين الشباب ومحاربة المال الفاسد، فقد حصلت فئة الشباب على 136 مقعداً و35 مقعدا للمرأة و274 مقعدا لذوي المستويات الجامعية، وهو ما يعد بلغة الأرقام إضافة تحسب للمؤسسة التشريعية الحالية بغض النظر عن درجة فعالية أدائها مستقبلا.

ثانياً: قراءة تعقيبية على الأرقام

تشير نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية إلى كونها أخفض نسبة تعرفها عميلة المشاركة السياسية في الجزائر إذ شهدت نسبة المشاركة في تشريعيات 2012 ما نسبته 43.14% في حين انخفضت النسبة إلى 35.37% في 2017 لتبلغ القيمة الدنيا في 2021 لتصل 23%.

بقي عدد الأصوات الملغاة في حدود المليون صوت يزيد ولا يقل منذ تشريعات 2012 وهو ملمح مهم فحواه أن جزءا كبيرا من الهيئة الناخبة ترى في الورقة الملغاة أو المشطوبة أداة مهمة للتصويت العقابي والتعبير عن التذمّر من الحياة السياسية.

ويشكل التيار الإسلامي رافدا مهما في المؤسسة التشريعية رغم ما عاشه من انشقاقات، تعود في أغلبها إلى صراع القيادات أكثر من اختلاف الإيديولوجيات المتبناة في العمل السياسي، وقد استطاعت حركة مجتمع السلم أن تحافظ على نسبة حضورها في المشهد السياسي بـ65 مقعدا مشكلة قوة ثالثة، ورغم ذلك قدمت مقاربتها بعد تثبيت النتيجة واجتماع مجلس الشورى لتقرر عدم المشاركة في الحكومة على اعتبار أنها تريد المشاركة في الحكم وليس مجرد الاشتراك كرقم سياسي في الطاقم الحكومي.

تجدر الإشارة إلى أن الرئيس تبون لا يجد غضاضة في التعامل مع التشكيلات الحزبية ذات التوجهات الإسلامية إذ يعتبرها تختلف عن نظيراتها في دول المشرق ويعتبرها جزءًا من المشهد السياسي المقبول، وهو ما عبر عنه قبيل الانتخابات في حوار مطول مع جريدة لوبوان الفرنسية.

من ناحية أخرى شكل الأحرار صعودا في الغرفة السفلى بـ84 مقعدا لكنهم سرعان ما تداعوا لمؤازرة الرئيس في توجهاته السياسية الراهنة لإعادة تشكيل الجزائر الجديدة كما ورد مختلف البيانات المساندة الصادرة عنهم بمجرد إعلان فوزهم في الانتخابات.

ووفق هذه الرؤية وجد تبون نفسه في حِلّ من أي إكراهات حزبية تلزمه بتبني خيار الأغلبية البرلمانية التي لم تتشكل، فاعتمد على ما سماه الدستور المستفتى عليه "الأغلبية الرئاسية"، وعيّن الوزير السابق (أيمن عبد الرحمن) وزيرا أول، وذلك طبقا للمادة 19 (الفقرتان الخامسة والسابعة) من الدستور.

تعد المؤسسة التشريعية الجزائرية ذات مسار تاريخي حافل، فقد عاش البرلمان تسع عُهَد تشريعية بأحد عشر رئيسا، على مدى 59 عاما من العمل السياسي التشريعي ظلت المؤسسة التنفيذية فيه مهيمنة على مجمل قرارات المؤسسة التشعريعية، رغم سَنّ كثير من النصوص القانونية التي كان يفترض أن ترتقي بعمل المؤسسة التشريعية، على غرار قانون توسعة تمثيل حظوظ المرأة في المجالس المنتخبة، وقانون حالة التنافي في العهدة البرلمانية حتى يتمكن النائب من التفرغ لعهدته النيابية، ورغم ذلك، ولطبيعة النظام الرئاسي المتشدد، بقيت المؤسسة التشريعية شبه مشلولة لاعتبارات عديدة، لعل أولها سيطرة المال السياسي الفاسد، ناهيك عن دور مؤسسة الرئاسة التي استندت إلى مختلف الدساتير السابقة في تعديلها للتشريع بأوامر رئاسية.

وعند ملاحظة نسبة المشاركة سيتضح أن الحواضر الكبرى شهد عزوفاً حقيقياً عن الفعل الانتخابي، على غرار العاصمة وسطيف وقسنطينة وبومرداس، وقد امتد هذا السلوك إلى الحواضر المعروفة بحواضر "النعم" أو الحواضر التي يسميها البعض بمناطق الأصبع الأزرق، كناية عن المناطق التي تشارك بقوة في الانتخابات التي تتبني خيارات منسجمة مع توجهات السلطة، ناهيك عن المقاطعة الكبيرة لمنطقة القبائل خصوصا ولايات تيزي وزو وبجاية والبويرة التي سجلت أخفض نسبة (أقل من 1%) حسب الحصيلة المثبتة من طرف المجلس الدستوري، فقد بلغت في بجاية (0.42 %) وتيزي وزو (0.90 %) والبويرة (11.42 %).

كما شكلت النسب الصفرية التي حصلت عليها تشكيلات عُمِّرت طويلا في البرلمان علامة جديرة بالدراسة، سواء تعلق الأمر بالأحزاب ذات الاتجاه الجمهوري والوطني، على غرار حزب التحالف الوطني الجمهوري الذي شكل على الدوام ذراعا للتحالف الرئاسي السابق، والذي عرف رئيسه بلقاسم ساحلي بالدفاع المستميت عن حكم بوتفليقة، مرورا بالجبهة الوطنية الجزائرية التي يرأسها موسى توتي، وصولا إلى حزب "تاج" المنشق عن حمس والذي يقبع رئيسه السابق في السجن، وانتهاء ببعض التشكيلات التي حسبت على الاتجاه الإسلامي مثل حركة النهضة أو حركة الإصلاح الوطني، وهو ما أكد المقاربة السياسية التي ترى أن كثيراً من الأحزاب بمثابة "أحزاب الحقائب" لا تملك جمهورا ولا مقرات وإنما مجرد سجلات انتخابية تفتح في كل سوق انتخابي.

لقد تآكل الوعاء الانتخابي حقيقة بسبب جملة من السلوكيات السابقة للسلطة التي أحدثت إرباكا في الثقة بين السلطة والناخب، ناهيك عن تشظي مفهوم الأحزاب السياسية وتعدد الولاءات وانزياحاتها بشكل مستمر، واستشراء الفساد الانتخابي بشكل متراكم، فقد تزلزلت القناعات لدى كثير من أحزاب السلطة والمعارضة كما حدثت فجوة لا يمكن إنكارها بين قيادة كثير من قادة الأحزاب ومناضليها ناهيك عن الحشد الكبير للقوائم الحرة لغرض فرض تيار سياسي ضخم يشكل حمولة سياسية وانتخابية للرئيس تبون في إعادة هندسة الخارطة السياسية والانتخابية بأريحية كبيرة، وهو ما أكده الرئيس تبون مراراً في تجمعاته لاحتواء وإعادة صياغة المجتمع المدني الجزائري الذي التهمته المنظمات الجماهيرية السابقة، والتي شكلت رافداً كبيراً من روافد الفساد الانتخابي والتسويق له في مختلف المواعيد الانتخابية، لذلك لا يحتفظ الناخب الجزائري بمواقف راسخة في المؤسسة التشريعية لكثير من النواب عدا بعض التدخلات المدوّية التي كانت مجرد صرخة في واد. ولعل هذا هو الرهان المعول عليه في برلمان يعتقد كثيرون أنه سيمثل حالة من الهشاشة السياسية.

وهذا جدول النتائج النهائية لانتخاب أعضاء المجلس الشعبي الوطني:

النسبة

الناخبون

24.453.992

الناخبون المسجلون

5.622.401

الناخبون المصوتون

23%

نسبة المشاركة

4.610.652

الأصوات المعبر عنها

1.011.749

الأوراق الملغاة

 

في المجمل تبدو النتيجة منطقية بالنظر إلى أن الطبيعة تأبى الفراغ، كما أن نسبة المقاطعة المرتفعة تجعلك أمام صنفين من التوجهات؛ إما أفضل الخيارات أو أقل الخيارات سوءاً، لكن الاتجاه الرافض يرى أن الناخب كان أمام الخيار السيء والخيار الأسوأ، وفي جميع الأحوال فإن المكنة الدستورية هي التي فرضت منطقها وإيقاعها في التغيير الحالي، لكن الخيارات السياسية تبقى مهمة في المستقبل على اعتبار أن المشكلة التنموية في الجزائر مشكلة بنيوية ترتبط بعدة أبعاد.

ثالثاً: ما بعد إعلان النتائج

بعد إعلان النتائج واعتمادها من المجلس الدستوري في 23 يونيو/حزيران 2021، وبعد تكليف أيمن بن عبد الرحمن وزيرا أول، والبدء في المشاورات السياسية؛ فإن الحديث عن الحكومة لا يحمل قيمة جديدة أو مفاجأة ما دام تشكيلها مرتبطا بمبدأ الأغلبية الرئاسية، وعليه فإن تغيير الحكومات قد يكون سلوكا ومماسة عادية، نظرا للسلطات الممنوحة للرئيس بهذا الصدد، وستشكل الاحتقانات وحالة الرفض جزءا من الرياضة اليومية التي يمارسها الجزائري ضد بعض أعضاء الطاقم الحكومي. وقد وصل الجزائريون إلى مرحلة لا يعرفون معها أسماء كثير من الوزراء نظرا لحجم التعديلات الحكومية في السنوات الأخيرة وللسلوكيات الاستفزازية لدى بعض أعضاء الطاقم الحكومي السابق. وينتظر بهذا الصدد أن تعود للهيئة التنفيذية الحكومية قيمتها في الاعتماد على الخرجات الميدانية وتلتمس الانشغالات اليومية للمواطن، في ظل اقتصاد يتميز بالركود بسبب جائحة كورنا التي عطلت كثيرا من القطاعات ذات الصلة بالتصدير والاستيراد والتجارة الخارجية.

ومن الأهمية بمكان تهذيب السلوك السياسي وإعطاء صبغة أخلاقية للسياسة، وهذا يتطلب تفعيل اللجان البرلمانية وإسناد المناصب التنفيذية في المحافظات الـ58 على أساس الأهلية والمساواة، والقيام بتوزيع عادل للثروة، واعتماد مبدأ تمكين الشباب ومحاربة الفقر، خصوصا أن الرئيس ظل يركز في خطاباته على مناطق الظل وهي المناطق التي تعاني فقراً وتهميشاً كبيرين، وهي أكثر من 15 ألف منطقة يتجاوز عدد سكانها ثمانية ملايين نسمة، وتستحوذ ولاية الجزائر وحدها على ما يقارب 300 منطقة ظل، وتحوي عاصمة البترول ولاية ورقلة الجنوبية وحدها 134 منطقة ظل.

في الأدبيات السياسية الجزائرية يشير الجزائريون والساسة إلى الراحل المخضرم عبد الحميد مهري الذي يستحضرون في كل موعد انتخاب مقالته: لماذا لم أنتخب؟ التي حدد فيها عدة أسباب ساهمت في اتساع ظاهرة المقاطعة منها (1):

- غياب النقاش الجادّ حول التحديات الداخلية والخارجية الحقيقية التي تواجهها البلاد، والالتفات عليها بعموميات غامضة ومحاولة الفوز بالحديث عن المشاكل اليومية للمواطن.

- تقديم صورة عن الانتخابات التشريعية في جميع مراحل تحضيرها بأنها في الأساس عملية ترمي للإبقاء على نظام الحكم القائم وترميم السدود التي أقيمت للحيلولة دون تطويره أو تغييره.

- الاعتقاد السائد بأن المشاركة في الانتخابات واختيار نواب جدد مهما كانت كفاءتهم في ظل نظام الحكم القائم لا يقدم ولا يؤخر.

رابعا: في بناء السياسة وتشكيل المؤسسة التشريعية مستقبلا

تتطلب عملية بناء السياسة وتأهيل المؤسسة التشريعية حسب ما ورد من ملاحظات ما يلي:

  • على مدار عقود طويلة استفاد المرشحون من القيام بدور الوساطة الزبونية في ظروف مساعدة لإنجاح مشاريعهم في ظل ضعف الوعي السياسي وقوة الانتماءات الأولية والسعي للحصول على الحصانة، وهو ما حوّل المؤسسة التشريعية إلى أداة للبهرجة السياسية، إذ تمثل دور النائب سابقا في مناقشة النصوص واقتراح تعديلات طفيفة لملء فراغات تركتها السلطة عمدا، حتى ترتدي العملية ثوب التشريع البرلماني المتضمن نقاشات وتعديلات وتصويت، دون استبعاد أصوات معارِضة ظلت عاجزة عن تمرير أي تعديلات جوهرية. ومن الثابت أن وجود سلطة تشريعية حقيقية يعدّ من مقومات الشرعية الديمقراطية وشرط لا غنى عنه لنموها وازدهارها، فضلا عما تشكله من قيود على تركيز السلطة، ومنع إساءة استعمالها، ولا معنى للحديث عن الديمقراطية دون وجود ديمقراطيين (2).
  • للمؤسسة التشريعية في التعديل أدوار مهمة يجب تعزيزها، ولعل أهمها الرقابة البرلمانية على أعمال الحكومة خاصة رقابة البرلمان لبيان السياسة العامة إذ إن منح الثقة للحكومة من طرف البرلمان هو ترخيص للحكومة لتنفيذ هذا المخطط ناهيك عن الأسئلة البرلمانية كآلية تجسد حق النائب في الاستفسار عن أعمال الحكومة بالإضافة إلى استجوابات وآليات التحقيق البرلماني المحددة في المادة 159 في لجان التحقيق وإعداد التقارير (3).
  • من المعلوم أن المشروعية Légitimité صفة تطلق على كل سلطة تحوز ثقة أغلبية الجسم الانتخابي بحيث يعتقد الأفراد بأن تصرفاتها تتماشى مع ما يرغبونه مما يخولها إصدار الأوامر وفرض احترامها لاعتمادها على قواعد مبدئية يؤمن بها الشعب ويتمسك بها. والمشروعية وفق هذا تكتسب مع الوقت إذا نجح النظام في كسب الثقة. أما الشرعية Légalité فيقصد بها كل تصرف يتطابق وأحكام القانون المطبق في البلد، وهي ترتبط باحترام الدستور وتحقيق دولة الحق والقانون، وأمام النسبة المتدنية للمشاركة فإن على النظام السياسي أن يحقق مشروعية الإنجاز لتجاوز إشكالية الشرعية وتحقيق التمكين والتنمية بكافة أبعادها (4).
  • إن السلوك الانتخابي يتأثر بالعناصر الجغرافية والقبلية ويتحدّد بالمكونات الاقتصادية والاجتماعية، كما أنه يتأثر بعدد من السلوكيات وبعضها يرتبط بالعناصر الضيقة التي يسميها صالح المازقي الخلايا الانتثربولوجية النائمة (5) والتي من شأن العمل على إذكائها إثارة النعرات القبلية وتقويض أسس التماسك الوطني، وقد صاحب العميلة الانتخابية حدوث احتكاكات وتراشقات ارتبط بعضها بإثارة النعرات القبلية بسبب فوز هذا المرشح أو ذاك، وهنا يدخل دور السلطة كوسيط فاعل يذيب عناصر الفرقة ويذكي مقومات المواطنة والانتماء، وهو عنصر قوي في تشكيل السلوك الانتخابي على أسس سليمة في قادم الاستحقاقات.
  • من الناحية المنهجية والعلمية يتضح أن إشكالية العلاقة بين البرلمان ودولة الحق هي في واقع الأمر إشكالية مدى القبول بالرقابة على دستورية القوانين من عدمها، ذلك أن البرلمان لا يكون مقيدا من الناحية القانونية في مباشرته للوظيفة التشريعية وإصداره بالتالي للقوانين إلا لما يقتضيه الدستور، والدستور بالنسبة للنظام الديمقراطي يحيل بالضرورة إلى مفهوم دولة الحق والى مفهوم حقوق الإنسان، لكن هناك نظريات ورؤى تلتقى على الرغم من تباين منطلقاتها في اعتبار البرلمان سلطة تشريعية يجب أن تبقى محصنة من أية رقابة. وقد اتضح في بعض التجارب أن البرلمان قد يعتمد قوانين غير عادلة أو ظالمة، بل قد يعمد، على حد تعبير الفقيه جان ريفيرو، إلى اعتماد قوانين خالية من الحكمة تفضي إلى الوقوع في الهاوية. وقد اعتمدت المؤسسة التشريعية في الجزائر عددا من القوانين كانت قفزة في المجهول (6).
  • تقتضي الهندسة الانتخابية مستقبلا إعادة النظر في الدوائر الانتخابية وعدد المقاعد، بل إن نظام الانتخابات بحاجة إلى إعادة النظر في بعض مواده، وإذا كان نظام القائمة المفتوحة قد قلص من سطوة المال الفاسد في الجزائر فإنه أحدث صراعاً داخل القائمة الواحدة. ويذهب البعض إلى القول إن التشكيلة السياسية كانت تقبض مالا من متصدر القائمة، وبإمكانها الآن أن تقبض من الجميع، فهل يجب أن يعاد النظر في القائمة وما هي آليات تعزيز أخلاقيات السلوك الانتخابي السوي في الحياة السياسية وليس في المناسبات الانتخابية!
  • إن النتائج التي حصدتها الأحزاب السياسية الفائزة بالانتخابات التشريعية لم تتجاوز مليون صوت، فقد حصلت جبهة التحرير الوطني على (287828 صوتا)، وحركة مجتمع السلم (208471 صوتا)، والتجمع الوطني الديمقراطي (198758 صوتا)، وحركة البناء (106203 صوتا)، وجبهة المستقبل (153987 صوتا)، وهو ما مجموعه (955247 صوتا). وبمقارنة عددية بسيطة نلاحظ أن هذه التشكيلات السياسية حصدت بالمجموع أقل من عدد الأصوات الملغاة التي تجاوزت مليون صوت.
  • إن هذه الملاحظة العابرة تجعل الأحزاب السياسية أمام مسؤولية جسمية تجاه مناضليها وناخبيها بل تجاه الفاعلين السياسيين، وهذه الأرقام تشكل حالة الانفصام الكبير بين الأحزاب من جهة والحياة السياسية بكل مكوناتها من جهة ثانية.
  • يزايد كثير من الساسة في الجزائر بمفهوم المجتمع المدني ويحاولون تسويقه في مختلف المجالس والتجمعات، وقد ازداد الحديث عنه في ظل أزمة كورونا، حيث استغل كثير من الجمعيات الوباء، وظهرت بمظهر السياسي المخلص، لكن السياسة تتجاوز كل ذلك كما أن المجتمع يتجاوز الجمعيات الفلكلورية التي تقوم على الأضواء والدعاية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
  • تبدو المناداة ضرورية بإعادة النظر في قانون الجمعيات القائم على منطق "الأمننة" وتعقب كل شاردة وواردة لأداء الجمعيات، وتعويضه بقانون أكثر مرونة يستجيب لمنطق العولمة القانونية في ظل الحركة الحقوقية المستحدثة في العالم بشكل يمكّن من النظر في إعادة صياغة قانون الجمعيات بإعطاء جرعة ديناميكية حقيقية للجمعيات التي تجاوز عددها، حسب إحصائيات وزارة الداخلية، 1600 جمعية وطنية، ما بين الولايات و33 ألف جمعية ولائية، وعلى المستوى البلدي أكثر من 59 ألف جمعية، وهذا العدد بحاجة إلى غربلة حتى يؤدي دوره في العمل الخيري والاجتماعي والتطوعي مستقبلا وحتى لا يتحول إلى مجرد هيكل بلا روح.
  • إن المجتمع المدني يقوم فقط في فضاء العلاقة المتبادلة مع الدولة كما أن هناك ارتباطا لا تنفصم عراه بين تشكيل الأمة وتشكيل المجتمع المدني الذي يعني انتماء قائما على المواطنة وليس على العقيدة أو قرابة الدم وهو ما يجعل المعركة من أجل الديمقراطية معركة سياسية طويلة المدى (7).
  • إن الخوف الكبير أن يتحول الفساد بكافة تجلياته سابقا وينتقل من السلطة إلى الشعب بحيث تذوب مقومات المواطنة وتحل محلها علاقات القرابة وعندها سيتحول أي برلمان مستقبلي إلى حلقة نقاشية لا تبني السياسات العامة ويتحول العمل الاستراتيجي للبرلمان إلى رؤية تكتيكية مؤقتة.

بهذا الصدد يمكن طرح الأسئلة الملحة التالية:

لماذا لا يتحول البرلمان في الجزائر إلى فضاء للنقاش السياسي والتشريعي وإنتاج وتسويق النخبة بحيث تكون بديلا للنخب السياسة التي أهلكت الحرث والنسل، خصوصا أن البرلمانات ساهمت في التجارب المعاصرة بمهمة إنتاج نخب بديلة وساهمت بالتالي في نجاح عمليات الإصلاح التي أقدمت عليها هذه الأنظمة السياسية في أكثر من حالة وهو ما يحولها إلى خزّان للنخب تستفيد منه كل مؤسسات الدولة وعلى رأسها الأجهزة التنفيذية (8).

هذا هو الرهان الاستراتيجي المستقبلي الواجب الإعداد له بهدوء ورويّة.

  • من الأهمية الحديث عن نمط جديد من الفساد بدأت ملامحه تظهر وهي الانتقال من فساد الأحزاب وفساد السلطة إلى فساد الشعب، والمقصود هنا عندما يصبح تقبل عمليات التزوير من طرف القائمين على العملية الانتخابية من مختلف المراقبين المحسوبين على ممثلي التشكيلات السياسية أو من طرف فئات معروفة باسم الجهة أو القبيلة أو المنطقة، إذ إن شريحة واسعة أصبحت لا ترى مانعا في أن يفتك ابن المنطقة والقبيلة والعشيرة مقعده النيابي في ظل تواطؤ الجميع وغياب الإدارة المراقبة، إنها حالة مخيفة لو تعاظمت ستشكل مع مرور الوقت خلايا نائمة لأنثروبولوجيا مقيتة في المستقبل، في ظل عوالم جديدة تقوم على تعظيم القيم القبلية وتروج لمنظومة التفاهة (9) التي يتحدث عنها عالم السياسة الكندي ألان دونو، بحيث يتم إسباغ التفاهة على كل شيء، وهو أمر سهل التحقق إذا فشلت المؤسسة الرسمية في بسط منظومتها القانونية على عموم الدولة. وبهذا نسجل بعض المسلكيات المرفوضة ديمقراطيا مثل إلزام الأفراد بمقاطعة الانتخابات بشكل إكراهي وغير ديمقراطي كما حصل في بعض مناطق القبائل، وحشد الكتلة الناخبة للتصويت لصالح أفراد بعينهم خصوصا في المناطق الداخلية.
  • في هندسة العمل التشريعي من المفترض تغيير الصورة النمطية لبعض الصرخات الشعبوية التي كان يطلقها بعض النواب الذين حسبوا سابقا على فريق الموالاة والمبالغين في الابتذال في الحديث عن برنامج الرئيس ورؤية الرئيس مادام الرئيس تبون عبد المجيد قد رفع الحرج عن عموم الشعب بإلغاء لقب الفخامة واستبداله بكلمة السيد الرئيس، والحالة نفسها بالنسبة لكثير من الغوغائيين الذي كانوا يملؤون قبة البرلمان تهليلا وتكبيرا لصالح المؤسسة العسكرية التي فرضت قدرتها في السيطرة على بوصلة التغيير دون الحاجة إلى هذه الصرخات.
  • تعد المهمة التشريعية عملية ترتبط بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتنموي على العموم؛ فمن الناحية الاقتصادية معلوم أن التشريع هو الأداة التي تعبر بها الدولة عن سياستها الاقتصادية بصفة عامة، والاستثمارية بصفة خاصة، وتوجيه هذة الأداة من حيث التعديل أو الإلغاء، ومن ثم فإن البرلماني غالبا ما يكون على صلة بإيداع تشريعات وقوانين ذات بعد اقتصادي على غرار قوانين تأطير الاستثمار وإجراءات ضبط التجارة، ناهيك عن عرض حصائل الحكومة وقوانين المالية، وعليه فإن وظيفة البرلماني لا تقتصر على الإقرار والمصادقة بقدر ما تكون بالنقد والرفض بعد المناقشة والمداولة. بهذا الصدد تمت الملاحظة مثلا أن العقود الأربعة الماضية شهدت أربع قوانين استثمار كمظهر من مظاهر غياب الثبات التشريعي وهو ما يشكل لدى المستثمر بعض المخاوف والتردد من استثمار أمواله في دولة تمتاز سياستها بعدم الاستقرار التشريعي، وهو ما ينطبق مثلا على مجال تنظيم التجارة الخارجية حيث يشهد القطاع مراجعات كثيرة (10).

في الأخير لا يمكن أن تصان الأوطان داخليا وتغيب المعادلة الدولية، إذ تُعدّ الجزائر من الدول التي تحتاج إلى تفعيل الدبلوماسية البرلمانية بإعطاء دفعة للمؤسسة التشريعية لاحتضان هموم المهاجرين بالخارج الذين يتجاوز عددهم خمسة ملايين، في إحصائيات غير رسمية، في حين لم يتجاوز عدد المصوتين منهم 42 ألفا، وهذا الرقم في حد ذاته يعطي انطباعا بالقطيعة بين الجالية الجزائرية في الخارج وما يحدث في وطنها الأم من أحداث سياسية بشكل عام وانتخابية بشكل خاص.

إن الدور الاستراتيجي للمؤسسة التشريعية أكثر من مهم في العقدين المقبلين خصوصا في ما يتعلق بتوطيد العلاقات مع برلمانات الدول الشقيقة والصديقة، وتطوير العلاقات مع العمق الإفريقي الذي شكلت الجزائر على الدوام خاصرة صلبة فيه، فقد استطاعت الجزائر منذ الاستقلال المساهمة في تكوين نخبة عسكرية وتكنوقراطية مهمة في دول إفريقيا ومن الأجدر أن تتم عملية الإقلاع في مختلف الاتجاهات مع أهمية إدراك أن المؤسسة العسكرية سيتعاظم دورها خارجيا وفق مخرجات التعديل الدستوري الجديد وهو ما يجعل دبلوماسية الجزائر بحاجة إلى مرافقة مهمة من الدبلوماسية البرلمانية.

ABOUT THE AUTHOR

References

(1)- عبد الحميد مهري، لماذا لم أنتخب؟ يومية الخبر (النسخة الورقية)، 19 ماي 2007.

(2)- صالح بلحاج، السلطة التشريعية ومكانتها في النظام السياسي الجزائري، مخبر دراسات وتحليل السياسات العامة في الجزائر، جوان 2012.

(3)- شادية رحاب، تعزيز دور البرلمان في الرقابة على عمل الحكومة مجلة المجلس الدستوري، العدد 14 - 2020.

(4)- سعيد بوشعير، النظام السياسي الجزائري دراسة تحليلية لطبيعة نظام الحكم في ضوء دستور 1989، الجزء الثاني ديوان المطبوعات الجامعية ص 66- 67.

(5)- صالح المازقي، تأملات في السياسة والاطلاع، عامان على الثورة، دار المجال للنشر، تونس، ص : 86، 2013. (6)- توفيق بوعشبة، في البرلمان والديمقراطية ودولة الحق، مجلة قضايا استراتيجية الشركة التونسية للصحافة أفريل. ماي. جوان 2012 ص 40-41.

(7)- عزمي بشارة المجتمع المدني دراسة نقدية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يونيو 2013، ص32.

(8)- ناصر جابي، الجزائر سنوات بوتفليقة مقالات في السياسة والاجتماع، دار الأمة 2013، ص243.

(9)- د. آلان دونو نظام التفاهة ترجمة وتعليق مشاعل عبد العزيز الهاجري، دار سؤال، 2020.

(10)- حفيظ صواليلي، عدم استقرار التشريع يؤرق الفعل الاقتصادي في الصميم، يومية الخبر (النسخة الورقية) بتاريخ 13 جوان 2021، ص 2.