(الجزيرة) |
ملخص وتبدو إحتمالات نجاح الوساطة الدولية والإقليمية كبيرة لأن النزاع بين الطرفين ليس عميقًا، فهما يتقاربان في الهوية القبلية، وتتعلق الخصومة بتقاسم السلطة والثروة، ثم إن كلاً منهما عاجز عن إقصاء خصمه، فقبيلتا سلفاكير ومشار متقاربتان في موازين القوة، ولا يمكن لأي منهما أن يحكم البلاد رغمًا عن الآخر، ثم إن أضرار الخصومة أكبر لكليهما من مكاسب التوافق، حيث إن من مصلحتهما التوافق على تصدير النفط. |
مقدمة
اندلعت مواجهات في جوبا عاصمة السودان الجنوبي، ليلة الأحد 15 ديسمبر/كانون الأول 2013، بين قوات موالية للرئيس سلفاكير وقوات موالية لنائبه المقال رياك مشار، فوقع آلاف الضحايا بين قتيل وجريح، وتدفق آلاف من النازحين (122000 منذ اندلاع المواجهات)، وخرج سلفاكير بزيه العسكري في صباح اليوم التالي ليعلن في مؤتمر صحفي أن قوات الحكومة أحبطت محاولة انقلابية يقف على رأسها رياك مشار الذي أقاله من منصبه في يوليو/تموز الماضي مع مجموعة كبيرة من قيادات الصف الأول بالحركة الشعبية، لكن مشار نفى ذلك واتهم خصمه بالسعي إلى اقصاء خصومه السياسيين، وتلت ذلك حركة اعتقالات واسعة شملت العشرات من قادة الحركة ووزراء في الحكومة. تزامن ذلك مع انعقاد مجلس التحرير (الهيئة الأعلى عسكريًا وسياسيًا في الحركة الشعبية)؛ فهاجم سلفاكير في هذا الاجتماع هجومًا عنيفًا مشار ومجموعته التي خرجت من الاجتماع غاضبة، وانتشرت بعده إشاعات باعتقال مشار فاندفعت مجموعة من أنصاره في الحرس الوطني إلى إطلاق النار احتجاجًا، فاندلعت مواجهات ضارية.
وسرعان ما تدحرجت كرة النار إلى أنحاء أخرى من البلاد؛ فتوالت الأخبار عن استيلاء قوات موالية لمشار على مدينة بور عاصمة ولاية جونقلي، وبانتيو عاصمة ولاية الوحدة وملكال عاصمة ولاية أعالى النيل، وهي مدن استراتيجية لأنها تقع في مناطق بترولية، لكن القوات الموالية لسلفاكير تمكنت بعد ذلك من استعادة بور وملكال.
تصدعات الحركة الشعبية
للحركة الشعبية تاريخ طويل من الصراعات التي تنتهي بتصفية بعض أطرافها وتعزيز قبضة المنتصر، فقد أعدم جون قرنق زعيم الحركة الشعبية الراحل كل زملائه من المؤسسين للحركة والتمرد الذي انطلق العام 1983، ولم يبق منهم إلا الرئيس سلفاكير الذي سبق أن دخل معه في اشتباك سياسي كاد يقضي عليه قبيل توقيع اتفاقية نيفاشا في يناير/كانون الثاني 2005، وكان رياك مشار الذي تمرد عليه اليوم الوسيط في التسوية التي أبقت سلفاكير نائبًا لجون قرنق، فحصل في المقابل على منصب رئيس جنوب السودان بعد مقتل قرنق في حادثة ارتطام طائرته بسفح جبال الأماتونج يوليو/تموز 2005؛ وهو الحدث الذي ظل ملفوفًا بالغموض حتى اللحظة.
وقاد مشار نفسه الانشقاق الكبير الذي شطر الحركة في العام 1991 بين مجموعة الناصر التي ترأّسها بنفسه برفقة لام أكول ومجموعة توريت التي ترأّسها جون قرنق، فوقعت معارك ضارية ذهب ضحيتها الآلاف من الطرفين، لكن الحركة التأمت مرة أخرى بعد فشل اتفاقية الخرطوم للسلام التي أبرمها مشار مع الحكومة السودانية العام 1997.
كل هذه الوقائع أبرزت من حين إلى آخر عوامل التصدع في بناء الحركة الشعبية لكن عوامل التماسك ظلت قوية خلال فترة المواجهة مع الشمال، فلمّا وقع الانفصال، زال العامل الرئيسي في التضامن وبرزت عوامل التنافس بين القيادات الجنوبية، فتكاتفت عوامل الخلاف القديمة وعوامل الخلاف الجديدة على تفجير الصراع على رأس السلطة الجنوبية:
-
افتقاد الجنوب إلى الهوية المشتركة؛ حيث إنه رغم رفع القيادات الجنوبية الشعارات السياسية عنوانًا للصراعات بينهم إلا أنهم لا يزالون قيادات قبلية اتفقت إبان التمرد ضد عدو مشترك هو الشمال وسرعان ما اهتز ترابطهم بعد انفصال الجنوب فبرزت مجددا الاصطفافات القبلية داخل قوات الجيش الشعبي، فهناك عشرات الفصائل المسلحة تمثل الدينكا والنوير والشلك والقبائل الاستوائية مثل المنداريا والباريا والأشولي، وغيرها.
هذا الضعف في بناء الهوية الوطنية تفاقم بعد أن فشلت القيادات الجنوبية في التحول من الثورة إلى الدولة؛ حيث أخفقوا في التوافق على دستور مقبول شعبيًا يضمن تداولاً سلميًا للسلطة بين المكونات المدنية، بحيث يتراجع دور الجيش الشعبي من الواجهة السياسية مفسحًا الساحة للسياسيين، فيتحول قادة التمرد السابق إلى سياسيين مدنيين، وهذه إمكانية يفتقدها معظمهم، لقصور في قدراتهم التعليمية؛ إذ إن نسبة كبيرة منهم أميون وشبه أميين، وليس لهم من سند للحفاظ على السلطة إلا قدراتهم العسكرية.
-
الاختلاف على العلاقة مع الشمال؛ فبينما ترى مجموعة سلفاكير أن استقرار الجنوب مشروط باستقرار علاقته مع الشمال وبالتالي ضرورة تسوية الخلافات مع الشمال، واشتراع علاقة مستقرة تؤمّن تدفق النفط عبر أنابيب وموانئ الشمال وتدفق السلع والخدمات بين البلدين تجنبًا لحالة الانهيار الاقتصادي التي تواجهها الدولة، يرى الفريق الآخر مواصلة النضال بدعم التحالف مع الحركة الشعبية-قطاع الشمال.
إضافة إلى ذلك، هناك الاختلاف حول أبيي حيث أجرى أبناء المنطقة في الحركة الشعبية والمصطفون الآن مع رياك مشار، استفتاء من طرف واحد لقبيلة دينكا نقوك قررت بموجبه ضم المنطقة إلى الجنوب، لكن سلفاكير رفض الاعتراف بنتيجة الاستفتاء باعتبارها غير قانونية وخارج برتوكول أبيي المتفق عليه بين حكومتي الشمال والجنوب، علاوة على أنها تؤجج التوتر بين البلدين في وقت يحاول فيه تنفيذ اتفاقية التعاون التي يراهن عليها في إنقاذ اقتصاد بلاده من الانهيار.
-
اختلاف الطبائع الشخصية والمقدرات القيادية بين الرئيس ونائبه؛ حيث يستند سلفاكير على تاريخه النضالي كمقاتل من الدرجة الأولى ورجل استخبار حذر، يحتفظ بذخيرة من المعلومات المهمة، دون أن تسند ذلك معرفة بإدارة دولة ما بعد الاستقلال التي تواجه تحدي القيادة السياسية، وتتطلع إلى تحقيق وعود التنمية. بينما يعتبر مشار نفسه، بالإضافة إلى رصيد الخبرة العسكرية والنضالية الطويلة، مثقفًا وأستاذًا جامعيًا على دراية معرفية عميقة بمتطلبات الدولة في هذا الظرف التاريخي، فهو بالتالي أحق بقيادة البلاد.
برز التصادم في طموح الرجلين من خلال التنافس مبكرًا على الاستحقاق الانتخابي الذي من المقرر أن يجرى في العام 2015؛ فقد أعلن رياك مشار عزمه المبكر خوض الانتخابات على مقعد رئاسة الجمهورية فاعتبره سلفاكير تحديًا لسلطته، واستهدافًا لموقعه في رئاسة البلاد .كما أن معركة الانتخابات المبكرة تعني ضرورة خوضها على مستوى السلطة التنفيذية والسلطة السياسية العسكرية التي هي مجلس التحرير من أجل توظيف إمكانيات هذه الأجهزة المالية والإدارية في المعركة الانتخابية.
وقد كان التراشق بتهم الفساد وسيلة لإخراج المنافسين السياسيين من حلبة السباق؛ فقد وجّه سلفاكير تهمًا بالفساد لعدد من قيادات الحركة قبل الإطاحة بهم، وتم التحقيق مع بعضهم مثل فاقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية الذي جرده سلفاكير من مهامه التنفيذية والسياسية، ودينج ألور المتهم باختلاسات كبيرة، كما وُجهت خطابات من رئاسة الجمهورية تطالب خمسة وسبعين منهم برد مليارات من الدولارات اتهمتهم باختلاسها.
التداعيات على شمال السودان
لا يزال السودانان: الشمالي والجنوبي يرتبطان ببعضهما ارتباطًا حيويًا، وسيؤثر الصراع على السلطة في جوبا على استقرار الخرطوم؛ فقد كان من المفترض أن تبدأ إجراءات تنفيذ اتفاقية التعاون بين الدولتين التي أُبرمت في أديس أبابا في سبتمبر/أيلول 2012 بهدف إنهاء المواجهات الأمنية والسياسية التي نتجت عن تعليق كثير من القضايا دون حسمها قبل الانفصال، وأهم بندين في الاتفاق كان ينتظرهما البلدان بفارغ الصبر لدعم خزينتيهما الفارغتين، هما: تصدير النفط الجنوبي عبر خطوط الأنابيب والموانئ الشمالية، وفتح المعابر ونقاط الجمارك لتبادل السلع والخدمات. غير أن التطورات التي تجري في الجنوب الآن انعكست سلبًا على جدول تطبيع العلاقات بين البلدين عبر الآتي:
-
الحدود الواسعة غير المرسمة التي تمتد لحوالى ألفي كيلومتر والتي كان يُخطط أن تُفتتح بها عشر نقاط للتواصل والجمارك أصبحت تشكّل مجالاً أمنيًا مضطربًا، ربما تفتح على السودان مهددات أمنية لا يستطيع تجنبها، كما أن السلطات الحاكمة في جوبا قد اختلت أولوياتها وانصرف اهتمامها تمامًا من العمل على ترتيب فتح الحدود والنقاط الجمركية إلى مواجهة الحالة الأمنية التي تهدد وجودها ذاته.
-
تهدد مجموعة رياك مشار منابع النفط في ولايتي الوحدة وأعالي النيل، وأخلَتْ الشركات الصينية والهندية وغيرها موظفيها العاملين في تلك الحقول؛ وبالرغم من عدم معرفة حجم الضرر الذي نتج عن هذه التطورات إلا أن النفط دخل ضمن أوراق المعركة حيث طلب مشار إيكال الإشراف على إنتاج وتسويق وحفظ ريع النفط الجنوبي إلى جهات دولية، وألا تمُكَّن حكومة الجنوب التي يرأسها سلفاكير من الاستفادة منه، وهكذا أصبح النفط أهم الأسلحة في المعركة؛ وتلك ضربة موجعة لدولتي السودان، حيث تعتمد دولة الجنوب في أكثر من 98% من مواردها على النفط بينما قامت الميزانية السودانية للعام 2014 على إيرادات تبلغ 4 مليار دولار من عائدات إيجار خطوط الأنابيب والموانئ لتصدير نفط الجنوب.
-
استمرار الحرب يضطر عددًا كبيرًا من الجنوبيين إلى اللجوء للسودان الشمالي بحثًا عن ملاذات آمنة، فيتحمل السودان أعباء جديدة في ظروف اقتصادية وأمنية قاهرة؛ حيث يواجه الاقتصاد السوداني حالة من الإنهاك لا تمكّنه من استيعاب ضغوط ومتطلبات اقتصادية جديدة.
-
مجموعة رياك مشار معروفة بعدم تعاطفها مع التوجهات السياسية للرئيس سلفاكير الرامية إلى التصالح مع حكومة الشمال، ومد جسور المنافع بين الدولتين، كما أن مجموعة مشار أكثر تعاطفًا مع الجبهة الثورية التي تقاتل الحكومة السودانية في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق؛ ما يرجّح احتمال التعاون بين المجموعتين واستغلال الجبهة الثورية حالة السيولة السياسية والأمنية التي توفرها حركة الكر والفر بين المتقاتلين في الجنوب، وحركة اللجوء الواسعة، لتنفيذ ضربات عسكرية تضيف أعباء أمنية على الخرطوم.
-
الفشل في احتواء الانفجار الأمني في الجنوب يمكن أن يهدد المنطقة كلها خاصة وأن توترات الإقليم تتصاعد عبر قوس طويل للأزمات، من الصومال شرقًا وحتى مالي غربًا، مرورًا بجنوب السودان، والسودان، وإفريقيا الوسطى، وهو مجال تتحرك فيه قوى عديدة كالجمعات الجهادية أو جيش الرب أو قوى خارجية مثل أميركا وإسرائيل والصين.
الشراكة والصوملة
لا شك أن الأوضاع في جنوب السودان تعقدت لدرجة يصعب معها التنبؤ باحتمالات تطورها، ولكن معطيات التفاعل الآن والحرب التي تدور رحاها يمكن أن تتيح رسم بعض المسارات، وهي:
-
احتمال أن تنجح الوساطة المركبة التي تقودها دول الإيقاد بدعم من الاتحاد الإفريقي والمدعومة بالمبعوث الأميركي ومبعوث الأمم المتحدة لدولتي السودان والتي وافق عليها سلفاكير بلا شروط بينما اشترط رياك مشار إطلاق سراح زملائه المعتقلين لدى جوبا وتمكينهم من السفر لأديس أبابا لقيادة المفاوضات بتفويض كامل منه، لكن نجاح الوساطة يتعلق بقدرتها على إجلاس الطرفين على طاولة التفاوض والوصول إلى اتفاق يوقف إطلاق النار والتداعي الأمني الراهن، ثم التوافق على الأسس الدستورية للدولة والحزب وإجراءات تداول السلطة، وتوزيعها بتوازن بين الفاعليات ذات التكوين السياسي والقبلي، لأن القبيلة هي الرافعة الاجتماعية، والوقود العسكري للصراع السياسي، ويعتمد كذلك نجاح الوساطة على التوظيف الأنجع لعامل الزمن فكلما طالت مدة المواجهة المسلحة تعززت إمكانية التقاتل على أسس قبلية، وتكثفت تأثيرات القتل على الهوية، مما يزيد الأوضاع تعقيدًا. وهناك من يقترح الاتفاق على حكومة انتقالية يشارك فيها الجميع، تتولى وضع أسس التوافقات الدستورية والقانونية وتدير عملية انتخابية نزيهة لتكوين جمعية تأسيسية تجيز الدستور وتضع قواعد التداول السلمي للسلطة وتوزيع الثروة والنفوذ بين المكونات السياسية.
ويرجح هذا الاحتمال أن النزاع بين الطرفين ليس نزاعًا عميقًا، فهما يتقاربان في الهوية القبلية، وتتعلق الخصومة بتقاسم السلطة والثروة، ثم إن كلاً منهما عاجز عن إقصاء خصمه، فقبيلتا سلفاكير ومشار متقاربتان في موازين القوة، ولا يمكن لأي منهما أن يحكم البلاد رغمًا عن الآخر، ثم إن أضرار الخصومة أكبر لكليهما من مكاسب التوافق، حيث إن من مصلحتهما التوافق على تصدير النفط.
علاوة على هذه الحسابات بين المتخاصمين هناك مصالح دولية وإقليمية تدفع إلى التوفيق بين المتخاصمين ومنع الصراع من الانتشار والاستمرار.
-
إذا فشلت الوساطة في التقريب بين المتخاصمين فإن هناك احتمال إعلان الوصاية الدولية على دولة الجنوب وانتداب المجتمع الدولي من يدير الشأن الجنوبي، ويحفظ الأمن بين المتقاتلين، ويوفر الملاذات الآمنة لضحايا الحروب إلى أن يحين أوان التوافق السياسي بين الفرقاء الجنوبيين، وهذا الاحتمال تفرضه المصالح المتفاعلة الآن في الجنوب إقليميًا ودوليًا؛ إذ سبقت أوغندا الجميع بالتدخل العسكري في إسناد مباشر لقوات سلفاكير في مواجهة خصومه، كما تدخلت أميركا بقوات من مشاة المارينز بذريعة حماية مصالحها وإجلاء رعاياها، واتخذ مجلس الأمن الدولي قرارًا تحت البند السابع بمضاعفة قوات الأمم المتحدة المتواجدة في الجنوب لتبلغ حوالى (13) ألفًا، وتعزيز قدراتها اللوجستية، وهناك تدخلات كينية، وظل السودان يراقب الموقف بين رؤيتين إحداهما تدعوه للتدخل حماية لمصالحه وأمنه القومي باعتبار الجنوب المجال الحيوي الأكثر تأثيرًا على أمنه القومي، ورؤية أخرى تحذر من الوقوع في مأزق الجنوب إذ إن تدخله ربما يعيد إنتاج أزمته التاريخية مع الجنوب وبالتالي تضيع فكرة الاستقرار المبتغى بين الدولتين.
لا تتحرك القوى المتدخلة من أجل المصالح المباشرة فقط بل أيضًا لأن ذلك ممزوج بشعور بالمسؤولية الأخلاقية عن فشل دولة الجنوب؛ إذ إن أميركا وأوغندا راهنتا على الانفصال، وكانتا القابلتين الإقليمية والدولية اللتين في أحضانهما وُلدت الدولة الجديدة، وبجهودهما تعزز خيار الانفصال وانتصر، بل هما شريكا النضال الطويل عسكريًا وسياسيًا مع حركة التمرد الجنوبية بقيادة جون قرنق، فبينما ظلت أميركا السند الأهم للتمرد في وسائل الإعلام ودوائر الدبلوماسية والقرار الدولي، فهذه ليست المرة الأولى التي تتدخل فيها أوغندا عسكريًا في الجنوب إذ إنها كانت رأس الرمح في عمليات الأمطار الغزيرة في مواجهة الجيش السوداني في العام 1997، علاوة على أن أوغندا تمتلك مصالح استراتيجية في الجنوب؛ حيث إن مساحتها ثلث مساحة الجنوب وسكانها ثلاثة أضعاف سكانه، فهو السوق الذي تروج فيه السلع الأوغندية والمتنفس الذي يمكن أن يكون رصيدًا جغرافيًا لها، فضلاً عن تخوفها من أن تؤدي الفوضى التي تطلقها الحرب في الجنوب إلى إعادة إنعاش جيش الرب الذي يقاتلها متخذًا من الجنوب منطلقًا لعملياته. وبالطبع فإن أصابع إسرائيل حاضرة بالمشهد الجنوبي عبر حقب طويلة ولكن بأسلوبها المباشر أو عبر اختراقاتها الاستخبارية للفاعلين الأفارقة في كينيا وأوغندا وإثيوبيا أو غيرها، وليس من مصلحتها فشل جنوب السودان لأنها تحتاجه ليظل شوكة في جنب السودان الشمالي.
-
في حالة فشل جهود الوساطة وعجز القوى الدولية والإقليمية، فإن من المحتمل أن تنزلق البلاد إلى حرب أهلية على أسس إثنية قوامها قبيلتا الدينكا في مواجهة النوير وتحالفات قبلية تقف في صف هذه القبيلة أو تلك وفق التطورات والمصالح القبلية، وسيوظف كل طرف أوراقه لإخضاع خصمه، فقبيلة الدينكا تسيطر بشكل شبه مطلق على مقاليد الأمور سياسيًا بحكم الأكثرية التي تتمتع بها في التكوين السوداني الجنوبي؛ إذ تمثل 40% من السكان، كما أن قبيلة النوير تتمتع بمزايا جيدة استراتيجيًا حيث هي في الدرجة الثانية من حيث عدد السكان (10%) من سكان الجنوب وفي الدرجة الأولى من حيث نسب التعليم والاستحواذ على الثروة وفرادة موقعها الاستراتيجي في الخارطة الجنوبية؛ فهي تستوطن ولايتي الوحدة وأعالي النيل المتاخمتين للشمال بالإضافة إلى وجودها الكبير في ولاية جونقلي؛ وتحتكر ولايتا الوحدة وأعالي النيل منابع النفط الذي يعتمد عليه الجنوب في 98% من دخله القومي كما أنهما المدخل إلى حوالى 200 سلعة ذات أهمية عالية للجنوب مصدرها الشمال، بالإضافة إلى ما يتمتع به النوير من من قدرات قتالية مشهودة، وكذلك قدرتهم على حشد المؤازرين من القبائل الأخرى بحكم الشعور القديم في النفسية الاجتماعية القبلية في الجنوب بالظلم التاريخي الذي يُرجعونه لسيطرة الدينكا.
هذا الاقتتال يقضي على تشكيل دولة مركزية قادرة على تحقيق الحد الأدنى من بسط القانون، فيصير السوداني الجنوبي مثل الصومال، حيث تصير الفصائل المقاتلة ميليشيات تابعة لأمراء حرب يتقاتلون على موارد البلاد.