تداعيات الصراع السياسي على الاستقرار بدولة جنوب السودان

أصبح استقرار جنوب السودان رهينة للرئيس، سلفا كير، ورياك مشار. وعليه، لم يكن بمستغرب أن يطالب الشعب من خلال القواعد أن يتنحى الاثنان من السياسة أو يلتزما بعدم الترشح في الانتخابات القادمة على الأقل لكي ينعم المواطن في جنوب السودان بالأمن والاستقرار.
أصبح استقرار جنوب السودان وأغلب خيوط اللعبة السياسية بيد الرئيس سلفا كير ونائبه رياك مشار (AP).

انفصل جنوب السودان عن دولة السودان، في 9 يوليو/تموز 2011، وأصبح دولة مستقلة منذ ذلك التاريخ تتمتع بالسيادة الوطنية على حدودها الدولية. حصل هذ الانفصال كنتيجة لاستفتاء حول تقرير المصير أُجري في جنوب السودان، في 9 يناير/كانون الثاني 2011(1). حظي قيام دولة جنوب السودان بتأييد منقطع النظير محليًّا وإقليميًّا وعالميًّا. بالنسبة للمواطن جنوب السوداني، كان يحدوه الأمل الكبير والتطلعات العراض في أن الدولة الوليدة ستقدم له ما لم يجده في السودان من قبل من تنمية وتقديم خدمات ومشاركة فعالة في إدارة الدولة. إلا أن هذه الأمنيات والتطلعات آلت إلى حلم حيث نشبت حرب أهلية قبل عيد الميلاد الثالث للدولة الوليدة؛ فماذا حدث؟

سجِل الحركة الشعبية لتحرير السودان في الحكم

في يناير/كانون الثاني 2005، تم توقيع اتفاقية السلام الشامل بين حكومة السودان والحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان. أنهت الاتفاقية حربًا طويلة مريرة وأدخلت البلاد في مرحلة السلام والتنمية والتحول الديمقراطي، أو هكذا اعتقد الكثيرون. نصَّت الاتفاقية على فترة انتقالية مدتها ست سنوات في نهايتها يقرر شعب جنوب السودان في استفتاء على تقرير المصير إما البقاء كجزء من السودان أو الانفصال ليكوِّنوا دولتهم المستقلة. في خلال الفترة الانتقالية تكون للجنوب حكومة ذاتية وجيش خاص به (الجيش الشعبي لتحرير السودان). تستلم حكومة جنوب السودان 50% من دخل النفط الذي يُستخرج من جنوب السودان بالإضافة إلى نصيب الجنوب من الميزانية القومية والهبات والمنح التي تُقدم من دول أخرى ومنظمات أجنبية.

قبلت الحركة الشعبية لتحرير السودان اتفاقية السلام لكي تخدم مصالحها؛ فقد ضمنت أن تكون الحاكم الوحيد لجنوب السودان وتُمثَّل بنسبة 28% في الحكومة القومية بما في ذلك المنصب القوي، وهو النائب الأول لرئيس الجمهورية. وخلافًا لحال نواب الرئيس على مستوى العالم فإن النائب الأول تحت اتفاقية السلام الشامل يتمتع بحق نقض قرارات رئيس الجمهورية في بعض المسائل ذات العلاقة بتنفيذ اتفاقية السلام الشامل(2).

كما أسلفنا، لقد تم تمثيل الحركة الشعبية لتحرير السودان في كل مستويات الحكم القومي وحكمت وحدها جنوب السودان دون منافس عن طريق حكومة جنوب السودان. نحاول فيما يلي تقييم أداء الحركة في الحكم كمدخل لفهم الصراعات التي نشبت داخلها وقادت إلى عدم الاستقرار في دولة جنوب السودان.

الأداء في الحكومة القومية

إن المهمة الأساسية للحكومة على المستوى القومي، عام 2005، والتي سميت "حكومة الوحدة الوطنية" هي تطبيق اتفاقية السلام الشامل. مُثِّلت الحركة الشعبية في مؤسسة الرئاسة بمنصب النائب الأول كما أن لديها عددًا مقدرًا من الوزراء ووزراء ولائيين. الهدف من وجود الحركة الشعبية في الحكومة هو أن تشارك في عملية اتخاذ القرار وأن تستطيع من خلال الوزارات أن تُحدث أثرًا واضحًا في تقديم الخدمات وتحقق إنجازات على المستوى القومي تُترجم إلى كسب سياسي للحركة بغضِّ النظر إن بقي القطر موحدًا أو انفصل جنوب السودان. بيد أن خلال ستِّ السنين، وهي مدة الفترة الانتقالية، لم تنجز الحركة ما يحقق هذه التوقعات. لقد انغمست في سياسة المواجهة مع حزب المؤتمر الوطني شريكها في تطبيق اتفاقية السلام الشامل. كان من المعتاد أن ينتقد بعض وزراء الحركة وقياداتها الحزبية سياسة الحكومة علنًا بدلًا عن المناقشات المباشرة بين الشريكين. بل نجح هؤلاء في إقناع النائب الأول لرئيس الجمهورية بالبقاء في جوبا لفترات طويلة وبذا أصبح هذا المنصب الرفيع خاليًا عمليًّا. لا شك أن وجوده في الخرطوم كان سيساعد في حل كثير من التحديات التي تطرأ في مناقشات مع الرئيس وجهًا لوجه. بالإضافة إلى ذلك فإن أغلب وزراء الحركة في حكومة الوحدة الوطنية لم ينجزوا في وزاراتهم. وحقيقة الأمر، كان بعض هؤلاء الوزراء وقيادات الحركة الآخرين ينتقدون علنًا أيًّا من وزرائهم في الحكومة الذين يطبقون بولاء سياسات حكومة الوحدة الوطنية تحت اتفاقية السلام الشامل. قيادات الحركة هؤلاء يحرضون أعضاء الحركة وخاصة وسط الشباب والطلاب على إدانة وشتم وزراء الحركة الذين لا يتفقون معهم علنًا وفي وسائط التواصل الاجتماعي. حتى رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان لم يسلم من حملة اغتيال الشخصيات الشرسة هذه.

بعض قيادات الحركة كانت تفضِّل وأكثر استعدادًا للتعاون مع أحزاب المعارضة بدلًا عن شريكهم في الاتفاقية. إن تحالف جوبا الذي قام بين الحركة الشعبية لتحرير السودان وقادة المعارضة -الصادق المهدي ود. حسن عبد الله الترابي ومحمد إبراهيم نقد- كان أبرز دليل على هذه الحقيقة. كان معلومًا أن سياسة المعارضة السودانية حينذاك هي عدم السماح بنجاح اتفاقية السلام الشامل.

وهكذا، خلال كل الفترة الانتقالية، لم يكن واضحًا للجنوبيين ما إذا كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان جزءًا من الحكومة أو في المعارضة ضدها. هذا السلوك أسهم في تأزيم العلاقات الصعبة بين الحركة والمؤتمر الوطني. انعكس هذا سلبًا في المفاوضات اللاحقة بينهما حول قضايا ما بعد اتفاقية السلام الشامل، بل أدى إلى مواجهة عسكرية بين البلدين ولمَّا يمض عام على انفصال جنوب السودان. الضحية من عدم التعاون بين الشريكين هي الثقة التي كانت ضرورية لتنفيذ اتفاقية السلام الشامل في جوٍّ ودي معافى.

الأداء في حكومة جنوب السودان

حكومة جنوب السودان كانت تديرها عمليًّا الحركة الشعبية لتحرير السودان. لذلك ليس للحركة أي عذر لعدم تطبيق رؤيتها في جنوب السودان إذ كانت لديها موارد مالية وموارد أخرى تحت تصرفها. على سبيل المثال، إن مجموع الدخل من عائدات النفط الذي استلمته حكومة جنوب السودان منذ إنشائها في عام 2005 إلى ديسمبر/كانون الأول 2007 كان 3842.66 (ثلاثة بلايين وثمانمئة واثنين وأربعين مليون وستة وستين ألف) دولار أميركي(3). هذا بمتوسط 1.5 بليون دولار في العام لحكومة جنوب السودان، ورغم ذلك لم تنجز شيئًا يستحق الذكر في مجال تقديم الخدمات ناهيك عن التنمية. لقد قضى الفساد المستشري على هذه الموارد. انتهت الأموال إلى الجيوب الخاصة وشراء الذمم، وفي نفس الوقت تفشل الحكومة في دفع أجور موظفي الخدمة المدنية وجنود الجيش الشعبي لتحرير السودان لعدة شهور.

لقد فشلت حكومة جنوب السودان في أهم مهمة لأية حكومة وهي توفير الأمن الشخصي والجماعي لمواطنيه. فقد كانت النزاعات بين القبائل وفي داخلها سمة الحياة في جنوب السودان مما أدى إلى فقد الكثير من الأرواح والممتلكات. على سبيل المثال، في ولاية جونقلي وحدها قُتل ألفا إنسان في شهرين فقط في نزاع قبلي بين اللو نوير والمورلي وبين الأخيرة ودينكا بور(4).

كما تسببت سياسات حكومة سلفا كيير الإثنية في تمرد بعض الشباب من قبيلة شولو (الشلك) لاسترجاع أراضيهم التي ضُمَّت لقبيلة الدينكا بالقوة(5). بذلك، ازداد عدد من يحملون السلاح ضد الحكومة وما صاحبه من عدم الاستقرار.

بالإضافة إلى العنف بين المجتمعات ظهرت حركات تمرد جديدة، عام 2010، كنتيجة مباشرة للصراع داخل الحركة. كانت هذه الحركات بقيادة كوادر الحركة الشعبية لتحرير السودان الذين أُبعدوا من الترشيح باسم الحركة في انتخابات 2010 المثيرة للجدل(6). لقد ترشحوا كمستقلين ولكن جرى تزوير الانتخابات ضدهم وضد كل من ترشح منافسًا للحركة الشعبية في تلك الانتخابات. لقد شهد المراقبون على عدم نزاهة الانتخابات ولكنها أوصت بالتركيز على الاستفتاء القادم(7).

لقد توقع الجنوبيون أن تستغل الحركة الشعبية لتحرير السودان وجودها في حكومة الوحدة الوطنية في الخرطوم وحكومة جنوب السودان في جوبا لكي تقدم الخدمات الأساسية للمواطن والشروع في تنمية اجتماعية-اقتصادية خدمة للمواطن. بدون تنمية ملموسة في جنوب السودان والمناطق الأخرى المتأثرة بالحرب يصبح السلام بلا معنى، فالسلام والتنمية وجهان لعملة واحدة لا وجود لأحدهما دون الآخر. ولكن هيهات، فإن سجل الحركة الشعبية لتحرير السودان، وخاصة في الجنوب، مخيب للآمال بأي مقياس بالرغم من أن حكومة جنوب السودان كانت تستلم ما لا يقل عن 1.5 بليون دولار سنويًّا.

ولم تسمح الحركة الشعبية لتحرير السودان للأحزاب السياسية الأخرى بحرية العمل في جنوب السودان إذ تعرض الكثير من قادتهم للاعتقال والإهانة لا لشيء إلا لأنها أعلنت بطريقة سلمية تكوين أحزاب سياسية مستقلة عن الحركة. إن قادة الحركة الشعبية الذين يملؤون الدنيا ضجيجًا عن الحريات السياسية والتحول الديمقراطي في شمال السودان لا يطيقون أن تمارس الأحزاب الأخرى هذه الحريات في جنوب السودان. وهذا يناقض نصوص اتفاقية السلام الشامل، ولكن تُرك الجنوبيون على شأنهم.

الأداء في حكومة دولة جنوب السودان

في 9 يناير/كانون الثاني 2011، صوَّت شعب جنوب السودان في استفتاء حق تقرير المصير بأغلبية ساحقة على الانفصال. حسب نص اتفاقية السلام الشامل، ينال جنوب السودان استقلاله يوم 9 يوليو/تموز 2011. في مناسبة بهيجة محضورة عُقد احتفال جماهيري في ذلك اليوم حيث جرى إنزال علم السودان ورفع علم دولة جنوب السودان الوليدة.

من ضروريات قيام الدولة الجديدة اعتماد دستور يحكمها. اتُّفِق على عملية وضع الدستور بين قادة جنوب السودان في مؤتمر كل أحزاب جنوب السودان الذي عُقد في أكتوبر/تشرين الأول 2010(8). لم تلتزم الحركة بالاتفاق وانفردت بالعملية ووضعت دستورًا يضع كل السلطات في يد رئيس الجمهورية بما في ذلك سلطة إعفاء حكام الولايات المنتخبين والمجالس التشريعية الولائية المنتخبة. يبدو أن الحركة الشعبية لتحرير السودان لم تتعلم من تاريخ وضع الدستور في السودان. ما كان إعلان استقلال السودان داخل البرلمان، في 19 ديسمبر/كانون الأول 1955، ممكنًا إلا عندما وُعِد نواب الجنوب بأن النظام الاتحادي (الفيدرالي) سيُنظر فيه من قبل الجمعية التأسيسية التي كان من المقرر انتخابها بعد الاستقلال. وعندما جرى تشكيل اللجنة الدستورية من قبل الجمعية المذكورة ورفضت النظام الاتحادي، انسحب الجنوبيون من عملية وضع الدستور، واستمروا في الانسحاب والمقاطعة منذ ذلك الحين بشأن مسألتي النظام الاتحادي والدستور الإسلامي. الدستور "الدائم" الوحيد للسودان، دستور نميري لعام 1973، لم يكن ممكنًا إلا بعد إبرام اتفاق أديس أبابا بين الجنوب والشمال قبل عام. حتى هذا الدستور لم يستطع أن يدوم لأن جميع الأحزاب السياسية النشطة في الشمال كانت مستبعدة من صياغته. وحتى يومنا هذا لا يوجد دستور دائم لا في السودان ولا في جنوب السودان لغياب التوافق السياسي حوله. ما نريد تأكيده هنا هو أن كتابة الدساتير يجب أن تتم من خلال توافق الآراء وأن دساتير الحزب الواحد لا تدوم أبدًا.

بمجرد أن انفردت الحركة الشعبية لتحرير السودان بالسلطة استمرت الحكومة تحت قيادتها في إدارة الدولة على نفس النهج الذي اتبعته في المرحلة الانتقالية. استمرت حالة اختلال الأمن ولكن هذه المرة مع استخدام إجراءات عنيفة ضد المتمردين تستهدف السكان المحليين في مناطق وجود التمرد. الفظائع التي ارتُكبت كانت في مستوى أفعال الجيش السوداني، عام 1965، إن لم تكن أسوأ منها(9).

الصراع السياسي داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان

ظل الصراع الداخلي داخل قيادة الحركة خفيًّا حتى برز إلى السطح بجوبا أثناء المؤتمر العام للحركة في مايو/أيار 2008. حينها كان الخلاف ظاهريًّا بسبب محاولة سلفا كير إبعاد رياك مشار وفاقان أموم من قيادة الحركة. رغم أن هذا الصراع بدا وكأنه وجد طريقه للحل وتفادت الحركة الانقسام بوساطة السياسيين الكبيرين، أبيل ألير وجوزيف لاقو، بالحفاظ على القيادة دون تغيير، إلا أن هذا الحل أثبت عدم ديمقراطية الحركة وغياب الحوار الداخلي لحل القضايا التنظيمية. انفجر الخلاف بقوة مرة أخرى عام 2013، بحلول موعد المؤتمر العام للحركة المزمع انعقاده في مايو/أيار 2015 وخاصة الصراع حول رئاسة الحركة. أبدى ثلاثة أعضاء في المكتب السياسي رغبتهم في الترشح لمنصب رئيس الحركة الذي يجري انتخابه في المؤتمر العام. هؤلاء هم: د. رياك مشار، النائب الأول لرئيس الحركة، وفاقان أموم، الأمين العام، وربيكا نياندينق قرنق، أرملة رئيس الحركة الراحل، د. جون قرنق. غضب كير من هذا التطور وازداد التوتر بينه وهؤلاء. في يوم 23 يوليو/تموز 2013، أصدر مرسومًا جمهوريًّا أعفى بموجبه كل أعضاء الحكومة بما في ذلك نائب الرئيس. وفى مرسوم منفصل، جمَّد نشاط الأمين العام وفرض عليه قيودًا بما في ذلك عدم التحدث إلى وسائل الإعلام(10). الذين شملهم هذه القرارات أصبحوا مجموعة تعارض الطريقة التي يدير بها الرئيس الحركة والحكومة. ونما التوتر بين المجموعتين إلى صراع سياسي.

هذا الصراع هو الذي تطور إلى مواجهة، في 15 ديسمبر/كانون الأول 2013، مشعلًا قتل إثنية النوير في جوبا مما أدى إلى قيام حرب أهلية مدمرة. وأصبح جنوب السودانيين في قبضة الكارثة مرة أخرى، هذه المرة ليس بسبب العرب في الخرطوم ولكن على أيدي قادتهم. لقد كانت الحركة الشعبية تقاتل نفسها بينما عانى المواطنون من القتل والنزوح والاغتصاب والجوع وتدمير الممتلكات. راح ضحية الحرب مئات الآلاف من المواطنين وتشرد ما يقارب نفس الرقم في معسكرات الأمم المتحدة في جوبا وملكال وواو، نازحين هائمين على وجوهم ما بين القرى بحثًا عن الأمن والاستقرار. أضف إلى ذلك من لجؤوا إلى دول الجوار هروبًا من مأساة الحرب والفظائع التي يرتكبها الطرفان. استمرت هذه الحرب إلى أن تم توقيع اتفاقية سلام بين الطرفين، في أغسطس/آب 2015، تم بموجبه تشكيل حكومة انتقالية لمدة 30 شهرًا برئاسة سلفا كير ورياك مشار نائبًا أول له. إلا أن هذه الحكومة لم تلبث طويلًا إذ اندلع العنف مرة أخرى في القصر الرئاسي، في يوليو/تموز 2016، تطورت إلى حرب أهلية أشرس وأكثر انتشارًا في الرقعة الجغرافية من سابقتها. لم تعد الحرب بين طرفين كما كانت في السابق بل برزت مجموعات مسلحة أخرى رفعت السلاح ضد الحكومة في جوبا، وخاصة من إقليم الاستوائية. من آثار هذه الحرب إزهاق المزيد من الأرواح ودمار الممتلكات ونزوح المدنيين داخليًّا وخارجيًّا إلى دول الجوار. الآن يُقدَّر عدد اللاجئين جنوب السودانيين في أوغندا وكينيا وإثيوبيا والسودان والكونغو الديمقراطية بحوالي 2.353.009 بنهاية مارس/آذار 2022(11). رغم توقيع اتفاقية سلام أخرى، في 12 سبتمبر/أيلول 2018، إلا أن تطبيق هذه الاتفاقية تعثر أمام غياب الإرادة السياسية من قبل رئيس الجمهورية، سلفا كير، ومحاولاته المستمرة لإضعاف خصمه، رياك مشار، سياسيًّا وعسكريًّا. أصبح واضحًا للجميع الآن أن الصراع السياسي بين الاثنين لن يقود إلى استقرار في جنوب السودان مما أدى بمؤتمر الحوار الوطني الذي نظَّمه سلفا كير نفسه بأن يوصي بإبعادهما من المسرح السياسي حتى ينعم المواطن في جنوب السودان بالأمن والاستقرار:

"إن مواطني جنوب السودان على مستوى القواعد يدركون تمامًا فشل القيادة والانسداد السياسي الذي عانت منه البلاد لمدة طويلة. لذلك يطالبون بأن لابد من الرئيس كير ود. رياك مشار أن يتركا العمل السياسي، إذا ما أُريد لجنوب السودان أن يتقدم للأمام"(12)

كما تقدم مجلس أعيان الدينكا الذي يدين بالولاء إلى الرئيس سلفا كير بنفس التوصية:

"إن الرئيس كير ود. رياك مشار يمثلان فشل القيادة والانسداد السياسي في آن واحد. معالجة هذه المشكلة الثنائية تتطلب أن يتنحيا لإعطاء البلد فرصة للبحث عن خيارات أخرى سياسيًّا حسب توصيات مؤتمر الحوار الوطني"(13).

عدم الاستقرار في جنوب السودان لم ينعكس في الجانب السياسي والعسكري فقط، بل شمل كل نواحي الحياة من بينها الانقسام الإثني، والفساد على مستوى القيادات، والفقر المدقع والتدهور الاقتصادي، وفقد حسن نيَّة المجتمع الدولي والفشل الدبلوماسي، وخرق حقوق الإنسان، وغياب المساءلة.

خلاصة

نال السودان استقلاله وفى يده مشكلة في جنوب السودان تمثَّلت في تمرد توريت وما تبعه من فقد للأرواح وسط الشماليين والجنوبيين معًا. تم احتواء التمرد عسكريًّا وما كان للحرب الأهلية الأولى أن تقوم في الستينات لولا السياسات التي اتبعتها الحكومات الوطنية في الخرطوم؛ فقد استخفت بمطالب الجنوبيين السياسية وخاصة المطالبة بتطبيق الحكم الفيدرالي في السودان، مرورًا بالسياسات الرعناء للحكم العسكري الأول التي أجبرت السياسيين الجنوبيين وخاصة البرلمانيين السابقين الذين كانوا ضد العمل العسكري أن ينضموا للتمرد، وانتهاء بموقف الأحزاب الشمالية الموحد في مؤتمر المائدة المستديرة الذي كان فرصة تاريخية لحل النزاع سياسيًّا. ضاعت هذه الفرصة واستمرت الحرب في جنوب السودان وغاب الاستقرار. كل ذلك كان نتيجة للصراع السياسي بين الأحزاب الشمالية والأحزاب الجنوبية والتنافس الحزبي بين الشماليين.

على الرغم من سيطرتها على أراض واسعة في جنوب السودان إلا أن الحركة الشعبية لتحرير السودان لم تتمكن من ترجمة انتصاراتها العسكرية إلى كسب سياسي وسط المواطنين. السبب الأساسي في ذلك هو غياب التنظيم السياسي في الحركة. ليس للحركة أجهزة سياسية تتولى العمل السياسي في أماكن سيطرتها وحتى الجسم القيادي الوحيد، القيادة السياسية العسكرية العليا، لا يجتمع وانفرد رئيس الحركة باتخاذ كل القرارات. في التفاوض الذي قاد إلى توقيع اتفاقية السلام الشامل، عام 2005، حسمت الحركة لنفسها احتكار السلطة في جنوب السودان وتمثيل الجنوب بنسبة 28% في الحكومة القومية وحكومات الولايات في شمال السودان. هكذا استطاعت الحركة أن تهيمن على السلطة بدون كسب تأييد شعبي. استمرت الحال هكذا إلى يومنا هذا لأن جنوب السودان لم يشهد انتخابات منذ أن كان جزءًا من السودان. حكمت الحركة جنوب السودان بعقلية السيطرة التامة وإبعاد كل من لا يتفق معها في الرأي، حتى الخدمة المدنية جرى تسييسها وتم تعيين وكلاء الوزارات سياسيًّا ممن لا خبرة لهم في المجال المعين؛ يكفي فقط أنه/أنها من مؤيدي الحركة الشعبية لتحرير السودان. سياسة التهميش هذه شملت حتى أعضاء الحركة الذين لا ترضى القيادة عنهم. ولذلك عندما جلست قيادة الحركة لاختيار مرشحيها في انتخابات عام 2010 لم يكن هناك معيار واضح للاختيار، بل طغى على العملية مواقف هؤلاء القادة تجاه من تقدموا لتمثيل الحركة في الانتخابات. وعليه، عندما جرى اعتماد مرشحي الحركة رفض عدد لا يستهان به من الذين تقدموا للترشيح القرار وترشحوا كمستقلين. زادت الطين بلَّة عندما تم تزوير الانتخابات ضدهم لصالح مرشحي الحركة الرسميين. رفع عدد منهم السلاح ضد الحكومة مثل الفريق جورج أطور دينق والعقيد جيمس قلواك قاي، وخاضوا حربًا شرسة ضد الحكومة في جوبا مما تسبب في عدم استقرار في مناطق كبيرة مثل ولايتي جونقلي والوحدة. إذن، على عكس ما توقع المراقبون جاءت المعارضة القوية ضد سياسات الحركة من بين أعضائها وليس من التنظيمات السياسية الأخرى التي عانت التهميش من قبل الحركة.

كان مؤتمر كل أحزاب جنوب السودان، في أكتوبر/تشرين الأول 2010، فرصة تاريخية لتوحيد الصف الجنوبي ووضع لبنة قوية لإدارة دولة جنوب السودان بتوافق تام بين مكوناتها. إلا أن عقلية الحركة في الهيمنة على الحكم أضاعت هذه الفرصة الثمينة ودفع جنوب السودان الثمن غاليًا نتيجة لسلوك الحركة وصراع قادتها حول السلطة. 

اتفاقيتا السلام اللتان جرى توقيعهما لإنهاء الحرب في 2015 و2018 لم تخاطبا جذور الأزمة السياسية في جنوب السودان بل ركزتا السلطة في يدي الرئيس سلفا كير ود. رياك مشار اللذين تسبَّبا في الحرب في المقام الأول واللذين أثبتت التجربة عدم إمكانية عملهما سويًّا بانسجام. ولذلك جاءت هاتان الاتفاقيتان تكرارًا وتكريسًا لتجربة فاشلة. رغم الادعاء بأن اتفاقية عام 2018 قد جلبت السلام إلا أن الحروب تدور الآن بين قوات سلفا كير وقوات رياك مشار وبين المجتمعات القبلية في إقليمي أعالي النيل وبحر الغزال بإيعاز وتأييد من قادة كبار في الجيش والقوات النظامية الأخرى. البلد يتآكل من أطرافه ومهدد بالانهيار.

حسب نصوص اتفاقية السلام المنشطة 2018، من المفترض أن تُجرى الانتخابات في 22 ديسمبر/كانون الأول 2022، لتتولى الحكومة المنتخبة مقاليد الحكم في 22 فبراير/شباط 2023(14). إلا أن متطلبات إجراء الانتخابات لم يتم تنفيذ أي منها حتى هذه اللحظة لغياب الإرادة السياسية لدى رئيس الجمهورية. هذه المتطلبات تشمل توحيد القوات، والتعداد السكاني، وإجازة الدستور الدائم، والإصلاح القضائي، وخلق الظروف المواتية لعودة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم. لا يدري أحد ماذا سيحدث ونهاية الفترة الانتقالية على الأبواب. الثابت فقط هو احتدام الصراع السياسي والعسكري بين سلفا كير ورياك مشار بينما تظل معاناة المواطن بلا حدود. الآن أصبح استقرار جنوب السودان رهينًا للرئيس سلفا كير ود. رياك مشار. وعليه، لم يكن بمستغرب أن يطالب الشعب من خلال القواعد أن يتنحى الاثنان من السياسة أو يلتزما بعدم الترشح في الانتخابات القادمة على الأقل لكي ينعم المواطن في جنوب السودان بالأمن والاستقرار.

ABOUT THE AUTHOR

References

(1) نصَّت اتفاقية السلام الشامل، التي أُبرمت بين حكومة السودان والحركة/الجيش الشعبي لتحرير السودان، في 9 يناير/كانون الثاني 2005، على منح جنوب السودان حق تقرير المصير عن طريق استفتاء شعبي يُجرى في جنوب السودان، في 9 يناير/كانون الثاني 2011.

(2) هذه المسائل منصوص عليها في المادة 2.3.6 من اتفاقية السلام الشامل.

(3) وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، إحصاءات عائدات النفط، الخرطوم، فبراير/شباط 2009.

(4) "مئات الموتى في هجوم على الماشية في جنوب السودان"، سودان تربيون، 23 أغسطس/آب 2011. انظر كذلك: "الآلاف يهربون من نزاع قبلي في جنوب السودان"، الجزيرة، 2 يناير/كانون الثاني 2012.

(5) أمنيستى إنترناشيونال، "جنوب السودان: "قتل صادم والإزاحة الجماعية لشعب الشلك من قوات الحكومة-دليل جديد"، بيان صحفي، 21 يونيو/حزيران 2017. انظر كذلك: مسح الأسلحة الصغيرة، "نزاع الجيش الشعبي لتحرير السودان والشلك في أعالي النيل"، مارس/آذار 2010. كذلك كوبنال، جيمس، "مدونة أعالي النيل: فظاعات والفيدرالية والشلك، أفريكان أرقيومنت، 6 أكتوبر/تشرين الأول 2014.

(6) من أبرزهم: الفريق جورج أطور دينق في ولاية جونقلى والعقيد جيمس قلواك قاي في ولاية الوحدة.

(7) على سبيل المثال، انظر: مركز كارتر، البيان التمهيدي لبعثة مراقبة الانتخابات، 17 أبريل/نيسان 2010، وكذلك: البيت الأبيض، بيان صحفي، 20 أبريل/نيسان 2010. وكذلك: وزارة الخارجية الأميركية، تقارير الدول لسنة 2013، تقرير دولة عن ممارسات حقوق الإنسان-جنوب السودان، 27 فبراير/شباط 2014، ص 27.

(8) مؤتمر كل أحزاب جنوب السودان، البيان الختامي، 17 أكتوبر/تشرين الأول 2010.

(9) مسح الأسلحة الصغيرة، "الحرب من أجل الغنائم: حركات التمرد المسلح في أعالي النيل الكبرى"، العدد رقم 22، جنيف، نوفمبر/تشرين الثاني 2011.

(10) حكومة جنوب السودان، المراسيم الجمهورية بالأرقام 49 و50 و51، يوليو/تموز 2013.

(11) مفوضية الأمم المتحدة السامية للاجئين، 31 مارس/آذار 2022.

(12) تقرير لجنة تسيير مؤتمر الحوار الوطني لجنوب السودان، ديسمبر/كانون الأول 2020، ص 32.

(13) مجلس أعيان الدينكا، "كسر الصمت-الطريق إلى الأمام"، 19 فبراير/شباط 2021، ص 4.

(14) اتفاقية حل النزاع في جمهورية جنوب السودان المنشطة، أديس أبابا، 12 سبتمبر/أيلول 2018، المواد 1.1.4 و1.1.5 و1.20.5.