(الجزيرة) |
ملخص وفي هذا السياق جاءت دعوة اللواء المتقاعد خليفة حفتر للإطاحة بالمؤتمر الوطني العام والحكومة، لكنها لم تلقَ استجابة شعبية، كما أن دائرة المناصرة في أوساط الضباط والمجموعات المسلحة لا تزال محدودة ومنحصرة في أعداد متواضعة في المنطقة الشرقية وبعض الأنصار في غرب البلاد. وحتى مع امتداد الشعور داخل أوساط متعددة من قطاعات المجتمع بالحاجة لشخصية عسكرية لضبط الانفلات الأمني، إلا أنه ليس من العسير تحسس تحفظ قطاع من الليبيين من نهج التغيير بالقوة. إن الأثر الأوضح لحراك خليفة حفتر يمكن أن يكون من خلال تعميق النزعة الجهوية، وتعقيد فرص احتواء آثار الطرح الفيدرالي. وقد يسهم حراكه في تكريس صراع الرموز والتنافس على النفوذ خارج دائرة المسار الديمقراطي وآلياته الانتخابية. |
مقدمة
يشكّل الوضع الأمني في ليبيا أبرز إخفاقات سلطة فبراير/شباط، ويتمثل أهم مظاهر تدهور الوضع الأمني في مفارقة تضخم الجهاز الأمني باطراد بدخول عناصر جديدة لكادر وزارة الداخلية في مقابل مزيد من التدهور الأمني بأشكاله المختلفة من تفجيرات واغتيالات وعمليات خطف وتهريب. هذا علاوة على الصدامات الأمنية الواسعة التي تقع بين القبائل أو المناطق خاصة في غرب البلاد وجنوبها.
فبحسب تقرير صادر عن لجنة الشؤون الأمنية التابعة للمؤتمر الوطني العام، فقد فتجاوز عدد الكادر الوظيفي للوزارة مئتي ألف، بينهم ما يزيد عن مئة وثلاثين ألفًا ما بين ضابط وضابط صف،(1) فيما لا تبدو للعيان معالم واضحة لحضور الأمن من خلال انتشار رجال الشرطة والمرور. وتعجز الداخلية بقوتها البشرية الضخمة عن فرض الأمن؛ حيث يتردد عناصر الشرطة في تنفيذ أوامر القبض، وتتكرر حوادث هروب السجناء الجنائيين، وحجة عناصر الشرطة في عدم قدرتهم على مواجهة المتجاوزين للقانون بسبب انتشار السلاح هي جرأة حامليه على استخدامه حتى ضد رجال الشرطة والجيش.
الوضع الأمني اليوم يعكس نفسه بقوة على المشهد العام، وهو يتغذى من الأزمة السياسية ويغذيها في نفس الوقت؛ فهناك قوى ترى أن قيام دولة ليبية خطر على مصالحها فتستعمل الفصائل المسلحة لإضعاف سلطة الدولة، وهناك قوى أخرى ترى أن قيام الدولة يخدم مصالحها لكنها تتأرجح بين بناء قوات مسلحة تابعة للدولة وبين الاستعانة بفصائل مسلحة لتطبيق قراراتها، ويساهم كل هذا في تأجيج الصراع الداخلي، كما أنه يساهم بدرجة كبيرة في فقدان الثقة في مؤسسات الدولة انطلاقًا من أن الحكومة لم تفلح في السيطرة على انفلات الوضع الأمني، الأمر الذي دفع بجموع المعتصمين في بنغازي عشية الأربعاء 26 فبراير/شباط 2014، بعد اغتيال عدد ممن ينتسبون إلى أجهزة أمنية وعسكرية، إلى المطالبة بتشكيل لجنة لحماية مدينة بنغازي، تُمنح لها الصلاحيات الأمنية والدعم المالي الكامل وتخضع لها قوات الشرطة والصاعقة.
هذا العجز الحكومي في ضمان الأمن، وانتشار جماعات مسلحة إكتسبت شرعية وجودها بمشاركتها في الثورة على القذافي، وافتقاد القيادات السياسية المنتخبة الشرعية الكافية لبسط سلطة الدولة على كامل الإقليم، وتنامي دعوات مرتبطة بشرعيات مناطقية موروثة من الماضي، كل ذلك جعل من الممكن إقدام بعض القوى على رفض الاعتراف بسلطة الدولة بل والدعوة إلى الخروج عليها ولو بالقوة. وقد كان أبرزها تحرك اللواء المتقاعد " خليفة حفتر" للإطاحة بالمؤتمر الوطني العام بعد انتهاء ولايته.
مزالق السلاح
علّق العديد من المهتمين بالشأن الليبي على حراك اللواء المتقاعد "خليفة حفتر" تعليقات متباينة التبست بالاستقطاب الحاد بين من يعتبر ما قام به حفتر مسعى انقلابيًا على الشرعية، فيما دافع عنه أنصاره بأنه قدّم مبادرة سياسية كغيرها من المبادرات التي تم طرحها للخروج من مأزق نهاية ولاية المؤتمر الوطني العام.
يلاحظ أن تحرك حفتر يتشابه مع الانقلابات العسكرية لأنه يعتمد على القوة العسكرية لإسقاط نظام شرعي منتخب وإقامة نظام جديد يرتكز على القوة المسلحة، لكن حفتر رفض توصيف تحركه بالانقلاب، بل أطلق عليه في مناسبات غير معلنة: "تصحيح المسار"، وعلى شاشات التلفزيون: "مبادرة" لمعالجة الوضع المتأزم، كأية مبادرة تم طرحها خلال الأشهر الست التي خَلَت، لكن ليس من المألوف أن يصف قادة التغيير العسكري عملهم بالانقلاب، فهم عادة يصفونه بتصحيح المسار والانحياز لإرادة ومطالب الشعب.
من جهة أخرى، فقد ظهر خروج حفتر على شاشة العربية صباح الجمعة الموافق 7 فبراير/شباط 2014 يلقي بيانًا ببزته العسكرية موحيًا بسيناريوهات التغيير بالقوة المتعارف عليها والتي كان آخرها ما قام به الفريق عبدالفتاح السيسي في مصر.
علاوة على ما سبق، فإن ما نقلته قناة العربية من معلومات صبيحة الجمعة يؤكد أن منطلق حفتر كان انقلابيًا؛ فالأخبار العاجلة التي كانت تظهر على شريط القناة تحدثت عن سيطرة قوات حفتر على مواقع حيوية في العاصمة طرابلس؛ وهو الأمر الذي لم يكذبه حفتر في أي من تصريحاته التي لحقت أخبار العربية.
ويتضح الاتجاه إلى التغيير بالقوة في البيان الذي قرأه حفتر والذي جاء في مضمونه متماهيًا مع خطوات الانقلابات العسكرية، وذلك من خلال التأكيد على انتهاء دور المؤتمر الوطني العام والحكومة وتجميد العمل بالإعلان الدستوري، فمن المتعارف عليه أن أولى قرارات الحركات الانقلابية إنهاء مظاهر السلطة الموجودة وإلغاء الأساس الدستوري الذي تستند عليه وتستمد شرعيتها منه.
على أن حفتر نفى في مقابلة على فضائية ليبيا الحرة أن يكون مخططه انقلابيًا نافيًا هذه الصفة عنه، لكن يمكن تفسير تراجعه بعدم نجاح المخطط، كما أنه عاد وأكد في المقابلة تواصله مع عسكريين وثوار ومكونات قبلية، وأكد جاهزيته وأنصاره لحماية الشعب في حال قرر إسقاط المؤتمر.
ويوحي تحرك حفتر بأنه شبيه بسيناريو الفريق السيسي في مصر، لأن اتصالاته التي شملت ضباطًا وعسكريين وثوارًا وزعماء قبائل في مناطق الشرق والغرب والجنوب، تشي بأنه راهن على حراك شعبي واسع يوم 7 فبراير/شباط المنصرم يكون حفتر وأنصاره هم أداته العسكرية، ويصبح المجموع الشعبي الواسع هو القوة الرادعة للكيانات المسلحة الداعمة للمؤتمر الوطني والرافضة لمظاهرات "لا للتمديد"، والتي تعهدت عبر بيانات وخطابات واضحة بحماية "الشرعية" والتصدي لأي عمل عسكري ضد المؤتمر الوطني العام؛ فالسيد حفتر ربط بين دوره وبين إرادة الشعب: "الكرة الآن في مرمى شعبنا، ونحن ننتظر رده علينا، ونحن جاهزون".(2)
وهناك بُعد مهم في توصيف ما وقع وهو الموقف الرسمي؛ فقد رفض بشدة رئيس المؤتمر الوطني العام ورئيس الحكومة ورئيس الأركان ما قام به ودعا إليه حفتر؛ وذلك بالرغم من التناقضات الجلية بين المؤتمر ورئاسة الأركان من جهة، ورئيس الحكومة من جهة أخرى، إلا أنهم اتفقوا على اعتبار ما قام به حفتر محاولة انقلابية، وصدرت التعليمات من رئيس الحكومة ورئيس الأركان بالقبض عليه.
الجسور والتصدعات
من الواضح أن دعوة حفتر للإطاحة بالمؤتمر الوطني العام والحكومة لم تلق استجابة شعبية، كما أن دائرة المناصرة في أوساط الضباط والمجموعات المسلحة لا تزال محدودة ومنحصرة في أعداد متواضعة في المنطقة الشرقية وبعض الأنصار في غرب البلاد. وحتى مع امتداد الشعور داخل أوساط متعددة من قطاعات المجتمع بالحاجة لشخصية قوية تضبط الانفلات الأمني، إلا أن احتفال الليبيين مؤخرًا بذكرى الثورة أظهر تمسكهم بوعودها الديمقراطية ورفضهم التغيير بالقوة المسلحة من قبل شخصية توجه لها انتقادات حادة حول دورها في حرب تشاد، وكونه أحد الضباط الذين دعموا القذافي في الوصول للسلطة. لكن استمرار حالة الارتباك على الصعيد السياسي وازدياد حدة الاستقطاب وحالة السخط من القوى السياسية وأدائها السياسي والتنفيذي يمكن أن يعطي لتحرك حفتر بعض الزخم خصوصًا مع موجة الرفض للمؤتمر الوطني العام التي ساهم فيها قطاع من النخبة وحتى الثوار. من ناحية ثانية، فإن النفس الجهوي الذي يتركز في المنطقة الشرقية يمكن أن يتغذى من حراك حفتر؛ ففي كلمة الأخير لمن تجمعوا أمام بيته يوم الجمعة الموافق 28 فبراير/شباط المنصرم 2014 ما يشير إلى إدراكه لهذا البعد وتعويله عليه بشكل واضح وذلك بتهديده باعتقال رئيس وأعضاء المؤتمر الوطني العام ورئيس الحكومة في حال وصولهم إلى أي من مطارات المنطقة الشرقية.(3)
أيضًا تجلى أثر حراك حفتر بوضوح في إطار التضاد بين معسكرين يمثلهما على الصعيد السياسي حزبا تحالف القوى الوطنية والعدالة والبناء؛ فقد وصف رئيس حزب العدالة والبناء، محمد صوان، بيان حفتر بـ"الانقلاب" باعتباره أعلن عن إلغاء المؤسسات الشرعية، فيما اعتبر رئيس اللجنة التسييرية لتحالف القوى الوطنية، عبدالمجيد مليقطة، أن ما طرحه حفتر هي رؤية من بين رؤى عدة طرحتها أطراف مختلفة.(4) ولا تخفى دلالة مواقف الحزبين، كما لا يخفى أثرها في زيادة حدة الاستقطاب من جهة، وإضعاف جهود احتواء حفتر ومخططه من جهة ثانية.
بالمقابل، هناك مؤشرات على إمكان أن يسهم حراك حفتر في تكريس صراع الرموز والتنافس على النفوذ خارج دائرة المسار الديمقراطي وآلياته الانتخابية، وهو عامل سيزيد من مشاكل المرحلة الانتقالية ويشارك في عرقلتها.
ليس من المتوقع أن تكون تداعيات تحرك حفتر، مستقبلا، تهديدا مباشرا وقويا للمؤتمر الوطني والحكومة ومن ثمَّ للعملية السياسية لكن قد تقع تحركات تماثلها في الخروج عن سلطة الدولة، مثل سعي بعض الفصائل المسلحة، مؤخرا، إلى تصدير النفط دون إذن من الدولة الليبية، وهي تحركات تندرج في سياق رهان بعض القوى على السلاح بدل القبول بالانتخاب في تحقيق مصالحهم، ؛ لكن الدولة الليبية تتحرك بإصرار لفرض سلطتها، فقد وصل رئيس الوزراء علي زيدان إلى بنغازي بعد يومين فقط من تهديد حفتر دون أن يتعرض لأذى، علاوة على النجاح في انتخاب الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور الليبي، وهي محطة رئيسية في خريطة الطريق، وهذا بلا شك نجاح في ترسيخ شرعية الانتخاب على شرعية الاحتكام للسلاح، ودليل على أن الدولة الليبية الوليدة تمكنت رغم ضعفها من التغلب على القوى التي تريد الإطاحة بها.
___________________________
المصادر
(1) تقييم أداء وزارة الداخلية: تقرير صادر عن لجنة الشؤون الأمنية يناير/كانون الثاني 2014.
(2) الشرق الأوسط، 23 فبراير/شباط 2014.
(3) الشرق الأوسط، 2 مارس/آذار 2014.
(4) موقع العربية، 15 فبراير/شباط 2014.