ما بعد استفتاء 25 يوليو: دسترة حكم فردي يضاعف مخاوف التونسيين إزاء مستقبلهم

تحاول ورقة تقدير موقف أن ترصد السياقات التي جرى في ظلها الاستفتاء على "الدستور الجديد" بعد عام على خروج تونس من مسار انتقالي ديمقراطي متعثر ودخولها تحت حكم إجراءات استثنائية أقدم عليها الرئيس قيس سعيد، في 25 يوليو/تموز 2021، وانقسام التونسيين إزاء تلك الإجراءات، وتتساءل الورقة: كيف ستواجه الأطراف المختلفة تحديات المرحلة القادمة، لاسيما في ظل مقاطعة واسعة وعزوف أكثر من ثلثي الناخبين عن التصويت للدستور؟
بعد استفتاء 25 يوليو قيس سعيد يمضي في تركيز نظامه السياسي بدستور قاطعه أكثر من ثلثي الناخبين (الأناضول)

بعد عام على خروجها من مسار انتقال ديمقراطي متعثر ودخولها تحت حكم إجراءات استثنائية أقدم الرئيس، قيس سعيّد، على اتخاذها في الخامس والعشرين من يوليو/تموز 2021، كانت تونس على موعد مع استفتاء على دستور جديد. عام تمكَّن فيه الرئيس سعيّد من إلغاء أغلب المؤسسات الدستورية التي نشأت على مدى عشر سنوات من البناء الديمقراطي، بدءًا بغلق البرلمان وإعفاء الحكومة وتعطيل الدستور، مرورًا بإلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وانتهاء بحل وإعادة تشكيل المجلس الأعلى للقضاء والهيئة العليا للانتخابات.

انقسم التونسيون إزاء تلك الإجراءات بين مؤيدين رأوا فيها تصحيحًا لمسار الثورة ومعارضين اعتبروها انقلابًا على الديمقراطية وحكم الدستور. وجاء استفتاء الخامس والعشرين من يوليو/تموز 2022 ليعمِّق هذا الانقسام ويرفع من درجة عدم اليقين بشأن مستقبل البلاد والمسارات التي يمكن أن تسلكها.

وبين تاريخ إعلان الإجراءات الاستثنائية وتاريخ إجراء الاستفتاء، جرت مياه كثيرة في المشهد السياسي التونسي. ففي مقابل الخطوات التي اتخذها الرئيس خلال اثني عشر شهرًا الماضية، والتي يمكن وضعها جميعًا تحت عنوان مركزة السلطة ومحاولة إخراج المعارضة من دائرة الفعل والتأثير، نشطت المعارضة واتسعت حركتها وتعددت جبهاتها وتقاربت أهدافها دون أن تتمكن من إفشال ما تعتبره انقلابًا، أو تثني الرئيس عن المضي في تنفيذ مشروعه، أو حتى تدفعه إلى حوار وطني شامل حول مستقبل تونس وما يواجهه من تحديات على أكثر من صعيد. فما السياقات التي جرى في ظلها الاستفتاء؟ وكيف ستواجه الأطراف المختلفة تحديات المرحلة القادمة؟

شعبية الرئيس تتآكل ومعارضته تتسع

بقطع النظر عن تفاصيل الأحداث الكثيرة التي جرت في الفترة الفاصلة بين إعلانات 25 يوليو/تموز 2021 واستفتاء 25 يوليو/تموز 2022، ثمة اتجاه ثابت يمكن رصده بوضوح على صعيدي الحكم والمعارضة. فالزخم الشعبي الذي أُعلنت في ظله التدابير الاستثنائية، لم يلبث أن تراجع بشكل ملحوظ ومتسارع بعد فترة قصيرة طغت عليها الشعارات وغابت عنها السياسات التي من شأنها أن تغيِّر واقع الناس. والفئات التي التفَّت حول قرارات الرئيس في البداية ورأت فيها تصحيحًا لمسار الثورة، خاب أمل الكثير منها بعد أن فَقَد ثقته في قدرة الرئاسة على تحقيق مطالبه وانتظاراته.

فالذين توقعوا تحسُّن الظروف المعيشية، أو استرجاع الأموال المنهوبة في الداخل والخارج، أو تبني خيارات اقتصادية بديلة مستقلة عن إملاءات المؤسسات المالية الدولية، أو محاربة الفساد وتطبيق القانون على الفاسدين، أو الإجهاز على منظومة الحكم السابقة وعلى رأسها حركة النهضة، كل أولئك غادروا المركب تباعًا. آخر المنفضِّين من حول الرئيس، انتظروا حتى المحطة الأخيرة ثم غادروا قبيل الاستفتاء بعد خلافهم معه على مشروع الدستور الجديد، الذي كان بعضهم قد أشرف على صياغته.

انعكست هذه الديناميكية السالبة في تراجع حاد في شعبية الرئيس، خلاف ما كانت عليه حين انتُخب في العام 2019 بنسبة تجاوزت 72% من أصوات الناخبين، أو حين أقدم على اتخاذ إجراءاته الاستثنائية وسط إحباط واسع وتذمر شعبي من أداء منظومة الحكم السابقة. وفي غياب أرقام موثوقة عن مدى تراجع شعبية الرئيس، يمكن الاستعانة في التدليل على ذلك بمؤشرات ثلاثة، مؤشر ميداني ومؤشرين إحصائيين. ميدانيًّا، لم تشهد الساحة التونسية خلال اثني عشر شهرًا الماضية أية تحركات ميدانية واسعة مناصرة للرئيس رغم الدعوات المتكررة، بما في ذلك الصادرة عن سعيّد نفسه. هذا الغياب الميداني رأى فيه البعض فشلًا في التحشيد بسبب تآكل شعبية الرئيس وتقلص دائرة أنصاره. إحصائيًّا، كان فشل الاستشارة الإلكترونية التي أُعلِنت نتائجها في نهاية مارس/آذار الماضي، مؤشرًا أول على هذا التراجع؛ حيث شارك فيها نحو 6% فقط من المواطنين رغم ما وفرته الحكومة من موارد لإنجاحها وما أتاحته من تسهيلات وصلت حدَّ تخفيض سن المشاركة إلى 16 عامًا. المؤشر الإحصائي الثاني هو الاستفتاء على الدستور وما كشف عنه من عزوف واسع ومقاطعة نشطة جعلت نسبة المشاركة متدنية لم تتجاوز كثيرًا ربع الجسم الانتخابي حسب أرقام الهيئة المنظمة والمشرفة على الانتخابات.

في المقابل، ظلت رقعة المعارضة تتسع باستمرار لتشمل جل المكونات السياسية. فإلى جانب الأحزاب التي أعلنت معارضتها لإجراءات سعيّد منذ البداية واصفة ما حصل بالانقلاب، التحقت أحزاب أخرى كانت قد أيدت تلك الإجراءات تأييدًا مشروطًا وراهنت عليها لتحقيق بعض أهدافها. أدت هذه الديناميكية المتصاعدة إلى تشكُّل ثلاث جبهات أو كتل سياسية معارضة. تمثلت أولى المعارضات المنظمة في حراك "مواطنون ضد الانقلاب" الذي تشكَّل في وقت مبكر وخاض سلسلة من التحركات الاحتجاجية الميدانية، ثم أعلن، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2021، عن "مبادرة ديمقراطية" تضمنت خارطة طريق لحل سياسي، قبل أن ينخرط لاحقًا في "جبهة الخلاص الوطني". يتزعم جبهة الخلاص الوطني، السياسي المخضرم، أحمد نجيب الشابي، وتضم إلى جانب "مواطنون ضد الانقلاب"، عددًا من الأحزاب السياسية، أبرزها: حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة وحراك تونس الإرادة. إضافة إلى جبهة الخلاص، تشكَّلت، في شهر سبتمبر/أيلول 2021، كتلة سياسية أخرى تحت عنوان "تنسيقية القوى الديمقراطية" التي تضم كلًّا من التيار الديمقراطي والحزب الجمهوري وحزب التكتل قبل أن يلتحق بها في قت لاحق حزبا العمال والقطب في إطار ما سُمي بـ"الحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء". الكتلة السياسية الثالثة التي تعارض الاستفتاء والدستور الجديد يمثلها الحزب الدستوري الحر الذي تتزعمه النائبة في البرلمان، عبير موسي، والذي يعتبر أبرز الأطر السياسية التي ورثت التجمع الدستوري المنحل، حزب الرئيس المخلوع الراحل، زين العابدين بن علي.

هذه الديناميكية التي تشهدها المعارضة السياسية بمختلف أطيافها وتوجهاتها يمينًا ويسارًا ووسطًا، توازيها ديناميكية في نفس الاتجاه، نجدها على سبيل المثال في مجال القضاء، الذي خاض، في شهر يونيو/حزيران 2022، إضرابًا عامًّا احتجاجيًّا لمدة ثلاثة أسابيع، شاركت فيه فروعه الثلاثة: العدلي والإداري والمالي. في قطاع المحاماة، تشكَّلت، في شهر أغسطس/آب 2021، هيئة "محامون لحماية الحقوق والحريات" لرصد الانتهاكات في مجال حقوق الإنسان والدفاع عن الضحايا الذين زاد عددهم بشكل لافت منذ إجراءات 25 يوليو/تموز الاستثنائية. وقد تجلَّت تلك الانتهاكات خاصة في المنع من السفر، الذي طال سياسيين وبرلمانيين ورجال أعمال، والتضييق على الناشطين والمدونين والصحفيين، ومحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. وفي الوسط الأكاديمي، رفض مجلس عمداء كليات الحقوق والعلوم السياسية المشاركة في اللجنة الاستشارية التي شكَّلها الرئيس سعيّد لصياغة الدستور الجديد. كما دعا "ائتلاف صمود"، الذي كان داعمًا لإجراءات الرئيس، والذي يضم في صفوفه العديد من الوجوه الأكاديمية، أبرزها الصادق بلعيد، رئيس اللجنة الاستشارية لصياغة الدستور، إلى التصويت بـ"لا" في الاستفتاء، معتبرًا هذا الدستور مشروعًا خطيرًا على مستقبل الحريات والديمقراطية في تونس.

أما اتحاد الشغل، ولأسباب تتعلق أساسًا بتوازنات داخلية، فقد ظل موقفه متأرجحًا بين مساندة مبدئية لإجراءات 25 يوليو/تموز ومعارضة فعلية لما بُني عليها من قرارات وتوجهات سياسية. وقد تجلت تلك المعارضة في رفض الاتحاد المشاركة في الحوار الذي دعا إليه الرئيس، وفي شنِّ إضراب عام في منتصف يونيو/حزيران 2022. من جهته، عقد البرلمان، الذي ظل متمسكًا بشرعيته، جلستين افتراضيتين صادق في أخراهما، التي انعقدت في نهاية شهر مارس/آذار 2022، على قانون يلغي الإجراءات الاستثنائية، وهو ما دفع الرئيس إلى إعلان حله في اليوم ذاته، معتبرًا اجتماع النواب وما صدر عنهم تآمرًا على أمن الدولة.

على الصعيد الخارجي، ظل الموقف الأوروبي والأميركي في عمومه رافضًا لإجراءات سعيّد الاستثنائية وما نجم عنها من قرارات لاحقة اعتُبرت في مجملها تكريسًا لسلطة الفرد وحيادًا عن الديمقراطية وحكم الدستور، ولكن ذلك الموقف لم يخرج عن دائرة الاحتجاج الإعلامي ليتحول إلى ضغط سياسي فاعل ومؤثر. نفس المواقف التي استُقبلت بها إجراءات 25 يوليو/تموز تقريبًا استُقبل بها الاستفتاء الأخير؛ حيث صدرت عن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة بيانات وتصريحات انتقدت الظروف التي جرى فيها وحثت الرئيس على العودة إلى الديمقراطية وتوسيع دائرة الحوار والشراكة السياسية. في مقابل هذه المواقف، تلتقي على دعم سعيّد ومشروعه دول عربية عُرفت بمناهضتها لمسار الانتقال الديمقراطي، أبرزها: مصر والإمارات، مع الجزائر رغم ما بينها وبينهما من خلافات جيوسياسية.

ما بعد الاستفتاء: تحديات أمام الجميع

لا يبدو أن الرئيس سعيّد يكترث لمدى تراجع شعبيته التي أوصلته إلى الحكم في العام 2019 واتخذ على أساسها إجراءاته الاستثنائية في يوليو/تموز 2021. بل يبدو أنه يعيش حالة إنكار لهذه الحقيقة بإصراره على نجاح الاستفتاء وإنفاذ دستور عزف عن التصويت له وقاطعه أكثر من ثلثي الناخبين. ما يدفعه للمضي في ذلك إدراكه أن الشعبية في وضع غير ديمقراطي لا تكون محدِّدة لاسيما إذا كانت باقي عناصر المعادلة مختلة لصالحه: (1) فالمعارضة السياسية، رغم اتساع رقعتها، تظل هشَّة بحكم تفرُّقها وعجزها عن تحريك الشارع بشكل واسع يمكن أن يشكِّل ضغطًا حقيقيًّا على صانع القرار، وخاصة على مؤسسات الدولة الحامية للنظام والضامنة للاستقرار.

(2) واتحاد الشغل، الذي لعب دورًا أساسيًّا في توجيه سياسات عشرية الانتقال الديمقراطي، تراجع دوره في مرحلة ما بعد 25 يوليو/تموز وارتبكت مواقفه بين التأييد والمعارضة. ورغم الانتقادات الموجَّهة لبعض قرارات الرئيس ورفض المشاركة فيما سُمِّي بالحوار الوطني، يبدو موقف المركزية النقابية في عمومه أقرب إلى تزكية سياسات المرحلة القادمة في ظل الدستور الجديد منه إلى الانخراط في المعارضة. (3) أمام تراجع شعبيته، يمضي سعيّد في تركيز أسس نظامه السياسي مسنودًا أساسًا بمؤسستي القوة الصلبة، الجيش والأمن. فالاحترافية التي عُرفت بها القوات المسلحة تعني، من ضمن ما تعنيه، الانضباط لتراتبية القرار الذي يأتي على قمة هرمه رئيس الدولة، بصرف النظر عن الجدل بشأن شرعيته أو خياراته السياسية. أما جهاز الأمن، فقد أُدخلت على قياداته في الأشهر الماضية تغييرات واسعة، ويعتبر وزير الداخلية أحد رجال الرئيس المقربين.

(4) في نفس السياق، لا يزال الموقف الخارجي في عمومه يميل لصالح استمرار الأمر الواقع. فالمواقف الأوروبية والأميركية يمكن تصنيفها في خانة المساندة النقدية، وقد اكتفت في كل مرة يتخذ فيها سعيّد قرارًا جديدًا يقرِّبه أكثر من تركيز مشروعه، بالتنديد وتذكيره بأهمية العودة إلى النظام الديمقراطي. يفهم سعيّد جيدًا السقف الذي يمكن أن تصل إليه الضغوط الغربية، وهو سقف، بقدر ما يزعجه إعلاميًّا، فإنه يستفيد منه سياسيًّا لحشد أنصاره وتكريس صورة الزعيم الشعبويّ الذي يتحدى الخارج ولا يعبأ بضغوطه. ما لا يمكن أن يستغني عنه سعيّد في هذه المرحلة تحديدا هو دعم الجار الجزائري، حتى وإن أدى ذلك الدعم إلى إحداث تغييرات في سياسة تونس الخارجية وفي علاقاتها الدولية.

في ظل هذه المعادلة الداعمة في عمومها، والتي تغيب عنها عناصر مقاومة حقيقية يمكن أن تجبر سعيّد على أخذها بعين الاعتبار، سيمضي الرئيس في مشروعه دون توقف. فالدستور الجديد سيدخل حيز النفاذ عبر سَنِّ قانون انتخابي تجري على أساسه انتخابات تشريعية قبل نهاية العام تعيد هندسة الحياة السياسية برمتها. التحدي الرئيس أمام هذا المشروع يتمثل في قدرته على مجابهة الصعوبات الاقتصادية المتزايدة، والتي يمكن أن تُترجم إلى توترات اجتماعية ينفجر معها الشارع بشكل غير مسبوق.

فالرئيس لم يقدِّم منذ جمع كل السلطات بين يديه شيئًا لمعالجة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة؛ فلم يتخذ إجراءات على الصعيد الاقتصادي كتلك التي اتخذها على المستوى السياسي خلال اثني عشر شهرًا الماضية، ولم يعرض أفكارًا اقتصادية تطمئن عموم الشعب أو حتى الفئات الاجتماعية التي تناصره. بل إن الدستور الجديد لم يرسم أي صورة للخيارات الاقتصادية بما يوازي أو يقترب من الصورة التي رسمها للنظام السياسي الذي يسعى إلى إقامته. كل ما سعت إليه حكومته منذ تعيينها هو محاولة التفاوض مع المانحين، وعلى رأسهم صندوق النقد الدولي، على قروض ومساعدات مقابل "إصلاحات" هيكلية تطول أساسًا مؤسسات القطاع العام وكتلة الأجور والوظيفة العمومية والدعم الذي تحظى به المواد الأساسية. وهذه الإجراءات، إن اتُّخذت في السياق الراهن، لن تكون علاجًا بل سترتِّب أعباء إضافية على المقدرة الشرائية للمواطن، وسترفع بالتالي من درجة الاحتقان الاجتماعي، خاصة مع حالة الانقسام السياسي الواسع التي خلَّفها الاستفتاء على الدستور.

ما بعد الاستفتاء لن يكون بالنسبة إلى المعارضة بوجهيها، السياسي والاجتماعي، كما كانت الحال قبله. التحدي الأول أمامها يكمن في القبول بالقانون الانتخابي الجديد من عدمه بعد أن رفضت الأساس الدستوري الذي يقوم عليه وشكَّكت في شرعيته. أيًّا كان الموقف من هذا القانون فإن الواقع الذي سيخلقه لاحقًا سيكون على الأغلب مختلفًا جذريًّا عن المشهد السياسي السابق. فالأحزاب التي بشَّر سعيّد باندثارها في نظامه القاعدي، لن تجد الفرصة لتتنافس فيما بينها وفق قواعد لعبة حزبية عادلة؛ فالقانون المنظم للانتخابات والقائم على الأفراد، يستهدف الأحزاب رأسًا ليقلِّص من قدرتها على الوصول إلى البرلمان بكتل وازنة تمكنها من لعب دور فاعل في العملية التشريعية. الأحزاب القوية والمهيكلة وذات الانتشار الواسع وحدها يمكن أن تنافس نسبيًّا في ظل نظام انتخابي يميل إلى تصعيد الشخصيات ذات التأثير السياسي أو الاجتماعي أو المالي أو القبلي أو العروشي. لذلك، يُتوقع أن تشهد المرحلة القادمة استهدافًا مركَّزًا للأحزاب الكبيرة، إعلاميًّا وسياسيًّا وحتى في ساحات القضاء.

أما الأحزاب الصغيرة والهشَّة، فهي معرَّضة إما إلى الاندثار التلقائي أو إلى مزيد الانحسار بسبب انعدام التأثير وغياب الجاذبية الجماهيرية التي يخلقها النشاط السياسي في مناخ تنافسي سليم.ولا يُتوقع أن يكون وضع اتحاد الشغل أفضل، فتزكيته المبدئية لإجراءات سعيّد الاستثنائية المقوِّضة للديمقراطية، وتردُّده في الانخراط في معارضة قراراته اللاحقة بما في ذلك المشاركة في الاستفتاء على الدستور، وارتهانه لحسابات بعض قياداته وانحيازاتهم السياسية والأيديولوجية، كل ذلك أضعف موقف المنظمة الاجتماعية الكبرى، وضيَّق خياراتها، وضاعف من التحديات التي ستواجهها في المستقبل. فمشروع البناء القاعدي لسعيّد يستهدفها كما يستهدف الأحزاب السياسية، لأن السلطة المطلقة تضيق بالأجسام الوسيطة بشكل عام، والاحتجاج السياسي أو الاجتماعي لديها سيَّان.

لقد ضاق هامش المناورة أمام الاتحاد، وسيُفرض عليه القبول بسياسات الحكومة القادمة وأولوياتها الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بتنفيذ إملاءات صندوق النقد الدولي دفعة واحدة، وفي أحسن الأحوال القبول بالتفاوض على وتيرة تطبيق تلك الإجراءات من موقف الضعيف.

في الأخير، سيستمر سعيّد في بناء مشروعه السياسي في ظل معادلة داخلية وخارجية تلتقي موضوعيًّا لتسهيل مهمته، على الأقل في المدى القريب. فإذا أُجريت الانتخابات التشريعية في ديسمبر/كانون الأول القادم وفق نظام الاقتراع على الأفراد، وسواء أشاركت الأحزاب السياسية في تلك العملية أم قاطعتها، فإن مشروع البناء القاعدي سيكون قد بدأ يأخذ شكله المؤسسي بعد أن أقيم أساسه الدستوري عبر الاستفتاء.عندها سنكون إزاء صورة للمشهد السياسي ولأدوار المنظومتين، الحزبية والنقابية، في تونس مختلفة كليًّا عما عهدناه في عشرية الانتقال الديمقراطي، وحتى خلال المرحلة التي سبقتها.

ما يمكن أن يعوق سير الأحداث في هذا الاتجاه تطورات محتملة في المجالين السياسي والاجتماعي. فالمعارضة السياسية، وإن بدت في الوقت الراهن هشة ومتفرقة على أكثر من جبهة، إلا أن تقاربها واشتراكها في الأهداف والشعارات واضح، ولقاؤها في جبهة واحدة غير مستبعد. ويمكن أن تبني على ما حققته من نجاح ملحوظ حين دعت إلى مقاطعة الاستفتاء. غير أن إحداث نقلة نوعية في أداء المعارضة مرهون بتوافر ثلاثة شروط؛ أولها: توحيد صفوفها أمام خطر يستهدفها كافة بحل أحزابها أو إخراجها من دائرة الفعل والتأثير. ثانيها: تقليص منسوب النخبوية وانخراطها أكثر في هموم الناس واعتبار الشارع ساحة الفعل الحقيقية في المرحلة القادمة. وثالثها: تغيير موقف اتحاد الشغل وموقعه من العملية السياسية في مواجهة مشروع سلطوي يتهدد العمل السياسي والنقابي معًا.

وإذا كان توافر هذه الشروط مجتمعة مستبعدًا في الوقت الراهن، فإن التحدي الاقتصادي والاجتماعي الذي يواجهه مشروع سعيّد، هو الذي يُتوقع أن يلعب الدور الأساسي في توجيه كفة الأحداث مستقبلًا.ولذلك، فالطريقة التي سيتعامل بها كل طرف مع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، التي باتت شأنًا عالميًّا أكثر تعقيدًا، خاصة في سياق الحرب الروسية على أوكرانيا، هي التي ستحدد طبيعة الأدوار وحجم التأثير لمختلف الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي خلال مرحلة ما بعد الاستفتاء. أما الحوارات الوطنية والتوافقات السياسية والاجتماعية التي ميَّزت إدارة الأزمات خلال العشرية الماضية، والتي تبدو تونس في حاجة ماسَّة إليها بعد الاستفتاء خاصة، فلا تملك حظوظًا كبيرة للنجاح في ظل رفض سعيّد المتكرر لمثل هذه الآلية أسلوبًا لإدارة الشأن العام.