ليبيا: أسباب و مآلات النزاع الحكومي الراهن

قد يكون إنشاء حكومة ليبية جديدة لا تخضع لأي من طرفي النزاع أمرًا ملحًّا في حال ظل الجفاء بين الطرفين سائدًا، وقد تدفع تطورات ما بعد فشل العملية العسكرية الدبيبةَ لتغيير موقفه، وسيواجه حينها ضغطًا من الداخل والخارج قد لا يستطيع تفاديه.
ترجع المواجهات المسلحة التي وقعت مؤخرا بطرابلس، إلى النزاع بين حكومة عبد الحميد الدبيبة، وحكومة فتحي باشاغا. (رويترز)

ترجع المواجهات المسلحة التي وقعت السبت 27 أغسطس/آب المنصرم بالعاصمة، طرابلس، إلى النزاع بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والحكومة الليبية المكلفة من مجلس النواب، برئاسة فتحي باشاغا. فتحي باشاغا الذي يرى نفسه وحكومته ممثليْن للشرعية باعتبار أن تكليفهما صادر عن أعلى سلطة منتخبة في الدولة، فيما يعتبر الدبيبة أن حجب الثقة عن حكومته باطل، ولم يتم بشكل قانوني، وأن التفويض لحكومته مستمر إلى حين إجراء الانتخابات كما يقضي اتفاق تونس-جنيف.

يدعم كل طرف حكومي مكونات سياسية وعسكرية، فالأول حظي بتأييد القوى الرافضة لاستمرار خليفة حفتر في المشهد، خاصة بعد هجومه على العاصمة، في أبريل/نيسان العام 2019، فيما يناصر الثاني جبهة طبرق-الرجمة ممثلة في مجلس النواب والقيادة العامة التابعة له والتي يترأسها خليفة حفتر، بالإضافة إلى مكونات سياسية واجتماعية وعسكرية في الغرب الليبي.

سياقات عزل الدبيبة وتكليف باشاغا

اتفاق تونس-جنيف، الذي أُقرَّ في يناير/كانون الثاني 2021، والذي أوجد السلطة التنفيذية الجديدة المكونة من مجلس رئاسي ثلاثي الأعضاء وحكومة مستقلة عنه، جاء بعد فشل السيطرة على العاصمة بقوة السلاح من قبل جبهة طبرق-الرجمة، والمدعومة من بعض الأطراف الإقليمية والدولية. فقد قاد دخول تركيا على خط الصراع، في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، إلى هزيمة المهاجمين وإرجاعهم نحو 450 كم شرقًا(1)، وهو ما هيَّأ الظروف للحوار السياسي ونجاح مبادرة المكلفة برئاسة البعثة الأممية آنذاك، ستيفاني ويليامز.

من أبرز التطورات التي شهدتها فترة التنافس على شغل المناصب الأربعة في السلطة التنفيذية كما تقضي خارطة الطريق التي اقترحتها ستيفاني ويليامز، رئيس البعثة الأممية إلى ليبيا بالإنابة، هو تشكُّل قائمة رباعية جمعت عقيلة صالح وفتحي باشاغا، الأول رئيسًا للمجلس الرئاسي، والثاني رئيسًا للحكومة، وقد كانا قبل أسابيع قليلة من إطلاق حوار تونس-جنيف يقفان متضادين ضمن معسكرين تدور بينهما حرب طاحنة.

التدافع السياسي والتحالفات المضادة قادا إلى فوز قائمة محمد المنفي وعبد الحميد الدبيبة برئاسة المجلس الرئاسي والحكومة، وسقط، مؤقتًا، حلف عقيلة/باشاغا، إلا أن هذا الحلف عاد للواجهة بعد سبعة أشهر فقط من منح الثقة لحكومة الدبيبة من مجلس النواب، فقد قرر الفاعلون في المجلس حجب الثقة عن حكومة الوحدة الوطنية وإقالة الدبيبة واختيار باشاغا بديلًا عنه(2).

رأت القوى المعارضة لقرار مجلس النواب أن ما وقع التفاف على مخرجات تونس-جنيف ومعاودة حلف عقيلة باشاغا الكرَّة للاستيلاء على السلطة من خلال مسار مختلف وباستخدام حجة واهية، حسب قولهم، وهي الفساد الذي تقع فيه حكومة الدبيبة، والتي، كما سبقت الإشارة، لم يتجاوز عمرها سبعة أشهر منذ منحها الثقة.

ولقد كانت قاصمة الظهر بالنسبة للجبهة الرافضة لقرار مجلس النواب هو اقتراب باشاغا من خليفة حفتر واعتراف الأخير، يوم منح الثقة لحكومة باشاغا، بهذه الحكومة، فحفتر هو الخطر الأكبر في نظر هؤلاء، وما وقع منه صبيحة 4 أبريل/نيسان 2019، ثم الجرائم التي لحقت لا تُغتفر، وأن باشاغا، الذي كان في مقدمة الصفوف في صدِّ هجوم حفتر، والذي صرَّح مرات بأن حفتر لا يمكن أن يكون شريكًا سياسيًّا، وأن استقرار ليبيا وبقاء حفتر في المشهد لا يجتمعان، صار حليفه ومنحه أهم الوزارات السيادية في حكومته من خلال تكليف موالين لخليفة حفتر.

جهود تولي السلطة والضغوط الداخلية والخارجية

لم يألُ باشاغا جهدًا في الدخول للعاصمة منذ الأيام الأولى التي تلت منح حكومته الثقة، ولقد سبقت عمليته العسكرية الأخيرة محاولتان إلا أنهما باءتا بالفشل، ولقد كان في كل مرة يخرج على الرأي العام ليحمِّل حكومة الدبيبة تبعات ما وقع وليؤكد على أنه حريص على أرواح ودماء الليبيين وأنه لن يدخل العاصمة إلا سلميًّا. وقد أعقب فشل المحاولة الثانية قراره بتسيير الحكومة من مدينة سرت، وسط البلاد؛ الأمر الذي اعطى انطباعًا بأن الصدام المسلح مستبعد، وأن السيناريو الأقرب هو عودة الانقسام الحكومي بوجود حكومتين، إحداهما في الغرب والثانية في وسط البلاد.

ويبدو أن القوى السياسية والعسكرية التي أيدت باشاغا لم تقبل بالحل السلمي والابتعاد عن العاصمة وإدارة الحكومة من سرت، ففي العاصمة النفوذ السياسي وسلطة المال، وهو ما يفتقر إليهما باشاغا؛ مما يجعل حكومته على الهامش وخارج ساحة التأثير.

جبهة طبرق-الرجمة التي وقفت خلف باشاغا من الممكن أن تتخلى عنه إذا صار أمر الحكومة إلى مزيد من الضعف، فالمجتمع الدولي لم يعترف بباشاغا رئيسًا للحكومة، وظل يتعامل مع حكومة الدبيبة سُلطةَ أمر واقع، وبالتالي سيؤول أمر باشاغا إلى ما آل إليه عبد الله الثني والحكومة المؤقتة التي كلفها مجلس النواب إبان الانقسام السياسي عام 2014، ولقد كان التقارب الذي وقع بين حفتر والدبيبة، عبر ما عُرِف بـ"صفقة المؤسسة الوطنية للنفط" مؤشرًا قويًّا على احتمال تجاوز باشاغا وحكومته والبحث عن بديل(3).

وهناك الشخصيات العسكرية التي دعمت باشاغا واتجهت لتعبئة أنصارها من حملة السلاح لتمكينه من دخول العاصمة، فهي الأخرى مارست ضغطًا على باشاغا، وكانت من بين أسباب قرار مهاجمة العاصمة صبيحة 27 أغسطس/آب الماضي.

التحق بباشاغا كتائب عدة من مدينة مصراتة، الأقوى عسكريًّا، في مقدمتها الكتيبة 217 بإمرة العقيد سالم جحا، وانقسمت مدينة الزاوية المعروفة بثقلها العسكري ما بين مؤيد لباشاغا ومعارض له، ووقف اللواء أسامة جويلي، وهو من أبرز القادة العسكريين في الغرب الليبي، في صفه ونجح في تعبئة مقاتلين من مدينته الزنتان، كما انضم للحلف معمر الضاوي، أحد المتنفذين في منطقة ورشفانة وآمر الكتيبة 55 مشاة، والتحق بهم أيضًا بعض بقايا اللواء التاسع الذي كان له حضوره القوي في الهجوم على طرابلس العام 2019، يضاف إليهم مقاتلون من بعض المناطق المحسوبة على النظام السابق ولاحقًا عملية الكرامة. وذلك في مقابل حلف عسكري داعم لدبيبة ضمَّ أيضًا كتائب من مصراتة ومن الزاوية ومن غريان ومن طرابلس ومدن أخرى، وقد كان لها التفوق العددي وفي العتاد.

أسباب إخفاق المحاولة الثالثة لدخول العاصمة

سياق الأحداث التي جرت يوم السبت 27 أغسطس/آب الماضي يشير إلى أن العملية العسكرية لدخول العاصمة وتمكين باشاغا من السلطة قامت على تحرك الموالين له من داخل المدينة لإرباك القوات المدافعة عنها ليلحق ذلك هجوم من محاور عدة من خارجها.

وبالفعل، انطلقت شرارة المواجهات بتحرك عناصر تابعة للكتيبة 777 بإمرة هيثم التاجوري، أحد أبرز العناصر المسلحة النافذة في طرابلس، وسانده في ذلك أحد جناحي كتيبة النواصي، إلا أن تحركهما قوبل برد فعل عنيف من جهاز دعم الاستقرار الذي يترأسه عبد الغني الككلي، وهو أيضًا من النافذين في العاصمة، بمساندة قوة تتبع عماد الطرابلسي، أحد القادة العسكريين من مدنة الزنتان، والذي كان يشغل منصب نائب رئيس جهاز المخابرات.

خلال أربع وعشرين ساعة كانت القوات الداعمة لحكومة الدبيبة تسيطر على الوضع في الأحياء التي وقعت فيها المواجهات، وانتهت العملية بإخراج هيثم التاجوري والمقاتلين التابعين له من مقراتهم العسكرية في طرابلس وليصبح ملاحَقًا ولا ملجأ له فيها، وكان دخول قوة الردع الخاصة على خط المواجهات حاسمًا في تحييد كتيبة النواصي، وقاد ذلك إلى منع دائرة الاشتباكات من التوسع في طرابلس وبالتالي تفجر الوضع وخروجه عن السيطرة.

لاحقًا، وربما متأخرًا، تحركت أرتال عسكرية من مدينة مصراتة شرق طرابلس، ومن الزاوية غربها، ومن العزيزية جنوب غربها، إلا أنها لم تغير من معادلة التوازن والصراع شيئًا؛ إذ لم تستطع دخول العاصمة وجرى إيقاف تقدمها بعد ساعات قليلة من تحركها، والأسباب تعود إلى جاهزية القوات المدافعة عن العاصمة وتفوقها من خلال موقعها الدفاعي وقوتها عددًا وعدَّة وسدها لكل المنافذ المؤدية للعاصمة والتي كان من المتوقع أن يدخل منها المهاجمون.

العامل الأكثر حسمًا هو سلاح الطيران المسيَّر، والذي تم استخدامه بشكل محدود للتلويح بالجاهزية لسحق المهاجمين، ولقد كان حاضرًا بقوة في أذهان القوات المهاجمة الأثر الذي خلَّفه الطيران المسير في فترة الهجوم على طرابلس من قبل قوات حفتر العام 2019، فلقد تصدى المسير لقوات الفاغنر الأكثر خبرة وكفاءة وتدريب والمجهزة بمنصات الدفاع الجوي الروسية المتحركة والمتطورة، ودفعها للتقهقر مئات الكيلومترات إلى سرت.

اتجاه النزاع الحكومي بعد فشل الدخول للعاصمة

من الواضح أن العملية التي خطط لها باشاغا وحلفاؤه العسكريون لم تكن مدروسة بشكل كاف، وقد سبقت الإشارة إلى الضغوط الداخلية والخارجية وأثرها في التعجيل بالتحرك العسكري غير الموفق، وربما أدرك باشاغا وحلفاؤه أن الدخول للعاصمة والسيطرة عليها ليس أمرًا يسيرًا، ولا يستبعد أن يكون باشاغا مدركًا لذلك مسبقًا، وكان هدفه من العملية تفجير الوضع لدفع قوى الداخل والخارج لاحتواء الوضع عبر إطلاق مسار سياسي يقدم النزاع الحكومي في الحوار بعد أن تم تأخيره لصالح التوافق على الأساس الدستوري والقانوني للانتخابات.

فشل ما خطط له باشاغا وحلفاؤه يمكن أن يكون أثره سلبيًّا جدًّا عليه، فهو من جهة سيخسر بعض حلفائه ضمن جبهة طبرق-الرجمة، ويمكن قراءة تصريح الناطق باسم القيادة العامة للجيش التابع لمجلس النواب والذي يترأسه خليفة حفتر، من أن قيادة الجيش لم تشارك في العملية العسكرية ولم تكن طرفًا فيها، في سياق الأثر السلبي للعملية على باشاغا وحكومته. ولقد كان موقف عدد من أعضاء مجلس النواب صريحًا في القطع بأن باشاغا، كرئيس حكومة، قد فشل وانتهى دوره، كما ورد على لسان النائب، علي التكبالي، وأن المجلس قد يعيد النظر فيه وفي الحكومة كما صرَّح بذلك النائب عبد المنعم العرفي(4).

تنفس الدبيبة الصعداء بعد انتصاره في الجولة الرابعة وهذا سيكسبه مزيدًا من القوة داخل المنتظم السياسي والاجتماعي والمجتمعي والعسكري في المنطقة الغربية، كما سيعزز موقفه أمام الأطراف الاقليمية والدولية المتدخلة في الشأن الليبي، خصوصًا أنه على استعداد للتعاون مع الجميع ولا موقف سياسيًّا أو أيديولوجيًّا له حيال علاقات ليبيا مع الخارج، والتحدي أمامه هو بسط نفوذه على كامل التراب الليبي شرطًا للإشراف على الانتخابات، وهو ما لا يمكن الجزم به، لكن يظل سيناريو محتملًا في حال تغير موقف الرجمة منه.

التقارب الذي عبَّر عن نفسه من خلال صفقة المؤسسة الوطنية للنفط والتي أدت إلى تعيين فرحات بن قدارة، المقرب من حفتر، رئيسًا للمؤسسة الوطنية للنفط، في مقابل فتح الحقول والموانئ النفطية وذلك خلال شهر يوليو/تموز 2022، يمكن أن يتعزز بعد إخفاق باشاغا في محاولته الرابعة للدخول للعاصمة، وفي حال تعزز التقارب بين الدبيبة وحفتر فإن الفاعلين في مجلس النواب، خاصة الموالين منهم لحفتر، يمكن أن يدفعوا باتجاه مقاربة جديدة تسهم في تفتيت النزاع على الحكومة لصالح الدبيبة وليس باشاغا(5).

العملية السياسية بعد فشل محاولة الدخول للعاصمة

من المعلوم أن الخلاف حول الحكومة بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وهما السلطتان الرسميتان اللتان تمثلان المجاميع المتنازعة في الغرب والشرق الليبي، كان من بين أسباب فشل المسار السياسي والحوار الذي أشرفت على إطلاقه مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفاني ويليامز، في القاهرة، في شهر يونيو/حزيران 2022. ونقلت مصادر مطلعة ومقربة من رئاسة المجلس الأعلى للدولة عن عقيلة صالح طلبه من رئيس الأعلى للدولة، خالد المشري، تمرير حكومة باشاغا في مقابل تقديم تنازل من قبل وفد مجلس النواب بخصوص الأساس الدستوري والقانوني للانتخابات، والذي هو محور الحوار والتفاوض بين المجلسين، وقد قوبل طلب عقيلة بالرفض من قبل المشري وطلب الأخير تأجيل البت في النزاع الحكومي إلى ما بعد التوافق على ملف الانتخابات.

عبد السلام الحويلي، عضو وفد المجلس الأعلى للدولة في حوار القاهرة، أكد أنه وجَّه بطلب من الوفد، أو بعض أعضائه، بدعم الأعلى للدولة لحكومة باشاغا في مقابل النظر في مطالب الأعلى بخصوص التسوية السياسية برمتها.

مع التنبيه إلى أن رئيس الأعلى للدولة ومعظم أعضاء المجلس ليسوا رافضين لتعيين باشاغا رئيسًا للحكومة، وقد عبَّر المشري عن ذلك صراحة في مناسبات عدة، ويبدو أنهم يتخوفون من أن يجتمع لدى جبهة طبرق-الرجمة سلطة البرلمان والحكومة والجيش فيستقلوا أكثر بقرارتهم ويكون ذلك على حساب التوافق والمضي إلى الانتخابات. ولقد ظلت رئاسة البرلمان وقيادة الجيش في الرجمة ملتزمة الصمت حيال الاستعدادت العسكرية والتعبئة التي أشرف عليها رئيس الغرفة المشتركة للمنطقة الغربية، اللواء أسامة الجويلي، الموالي لباشاغا، ويفهم من صمتهم انتظارهم نتائج مرضية والتبرؤ مما وقع في حال فشل العملية، وهذا ما حدث، على الأقل من جانب حفتر.

ولأن العملية العسكرية انتهت إلى إخفاق، ولأن العادة أن تتحرك العملية السياسية وتنشط بعد أن يتلاشى غبار المعارك ويتوقف دوي الرصاص، فإنه من المتوقع أن تطلق مبادرات من الداخل ترعاها أطراف خارجية لنشهد جولة جديدة من الحوار ربما يكون أحد محاورها النزاع الحكومي مع التركيز على تحرك عجلة التسوية المتعلقة بالانتخابات.

أثر العملية العسكرية على الوضع الأمني في طرابلس ومحيطها

تفرق النفوذ الأمني والعسكري في العاصمة طرابلس منذ الأعوام الأولى لثورة فبراير/شباط بين مجموعة من الكتائب المسلحة والتي لوَّنت الطيف الأمني والعسكري للجبهة التي قاومت قوات القذافي وانتصرت في حربها ضده، فكان لمدن مثل مصراتة والزنتان حضورها في العاصمة عبر كتائب وازنة، كما كان لكتائب العاصمة وزنها وثقلها والذي أخذ في الحضور بشكل لافت بعد اتفاق الصخيرات وخروج الكتائب المحسوبة على المدن شرق العاصمة وغربها.

العملية التي أطلقتها البعثة الأممية بدعم من الأطراف الدولية وعُيِّن للإشراف على تصميمها وتنفيذها الجنرال الإيطالي "باولو سيرا" وذلك بعد اتفاق الصخيرات، عام 2016، آلت إلى تقليص النفوذ الأمني في العاصمة إلى عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة؛ حيث أصبحت قوة الردع وقوة الدعم والإسناد التي تحولت لاحقا إلى جهاز دعم الاستقرار وكتيبة ثوار طرابلس وكتيب النواصي هي الأقوى والأبرز وتتقاسم النفوذ في طرابلس ولكل منها منطقتها الجغرافية التي تتحكم فيها وعديد المقرات التي تتبعها وعناصر وعتاد كبير.

حرب طرابلس، عام 2019، أدت إلى انقسام كتيبة ثوار طرابلس وانشقاق هيثم التاجوري عنها وتشكيله كتيبة 777. وفي ضربة استباقية، أقدمت قوة الردع الخاصة على تجريد كتيبة ثوار طرابلس من نفوذها ووجودها في قلب طرابلس، وانتهت أحداث الأسبوع الماضي إلى تفكيك كتيبة 777 وإخراج هيثم التاجوري من العاصمة، وكذلك كان مصير كتيبة النواصي.

عليه، فقد انحصر النفوذ الأمني في طرابلس في قوة الردع وجهاز دعم الاستقرار، وذلك بالإضافة إلى الكتائب والألوية العسكرية، مثل لواء 444، والتي تتبع رئاسة الأركان.

وبالنظر إلى مجرى الأحداث يظهر أن الكتائب الأكثر انضباطًا هي التي ترجح كفتها على حساب الأخرى الأقل انضباطًا والتي اقترنت سيرتها باستغلال نفوذها وقوتها لتحصيل مكاسب ومصالح خاصة. ويرى مراقبون أن أنقرة ليست بعيدة عن إدارة الملف الأمني في طرابلس، فالكتائب التي تُصنَّف بأنها أكثر انضباطًا تتلقى تدريبًا تركيًّا وهي التي تشرف على الطيران المسير.

فيما يتعلق بالنفوذ الأمني والعسكري في محيط العاصمة، فالمعلومات تفيد بأن الكتائب التي دعمت الدبيبة وحالت دون دخول باشاغا للعاصمة تنوي تفتيت أو تفكيك قوتين تحالفتا مع باشاغا، وهي الكتيبة 55 بإمرة معمر الضاوي في العزيزية، 30 كم جنوب غرب طرابلس، والقوة التي يترأسها على بوزريبة، وزير الداخلية في حكومة باشاغا، من مدينة الزاوية نحو 40 غرب طرابلس، ولن ينجح ذلك إلا من خلال عمل عسكري، وهو محتمل، ويبدو أن القرار قد اتخذ بالفعل.

الموقف الدولي من النزاع الحكومي وتداعياته

يمكن القول: إن قطبي النزاع الحكومي في ليبيا على المستوى الإقليمي كانتا القاهرة وأنقرة، فالأولى داعمة لحكومة باشاغا، بل يعتقد مراقبون للشأن الليبي أن فكرة التغيير الحكومي من الأساس مصرية وأن دورًا متقدمًا للمخابرات المصرية كان ضمن الاتجاه الجديد لمجلس النواب والقيادة العامة والذي انتهى إلى تكليف حكومة باشاغا وتأييدها من قبل حفتر.

أنقرة، من جهة ثانية، التي تسعى إلى التقارب مع جبهة طبرق-الرجمة لأسباب تتعلق بمصالحها الاقتصادية خاصة منطقة النفوذ الاقتصادي البحري، يبدو أنها رأت أن نهج المغالبة المصري لا يزال قائمًا؛ فالقاهرة كانت خلف حفتر بقوة في هجومه على العاصمة منذ ثلاثة أعوام، ولا تزال تتعامل مع الملف الليبي بهذا المنطق. وبحسب مصادر موثوقة، فقد نقلت أنقرة إلى الحليف في الغرب الليبي قلقها من التشكيل الحكومي برئاسة باشاغا الذي حازت جبهة طبرق-الرجمة، المدعومة مصريًّا، على أهم حقائبه الوزارية.

ما تسرَّب عن اجتماع ضم نائب رئيس جهاز المخابرات التركية مع أطراف ليبية من المنطقة الغربية من الرافضين لحكومة باشاغا، وذلك قبل الهجوم الأخير على طرابلس، وقوله: إن العاصمة خط أحمر، يؤكد على أن أنقرة تتحفظ على سيطرة باشاغا وحلفائه العسكريين في الغرب وداعميه في الشرق وفي مقدمتهم حفتر، على العاصمة، وأنها جاهزة لوقف أي تحرك بهذا الاتجاه، وتفعيل الطيران المسير، الذي كان من أبرز أسباب حسم المواجهات، وكشف بوضوح عن الموقف التركي(6).

ماذا بعد إخفاق العملية العسكرية الأخيرة

يأتي الاجتماع الحكومي الذي ينوي فتحي باشاغا عقده في مدينة بنغازي في سياق امتصاص الارتدادات السلبية لفشل العملية العسكرية، لكن باشاغا يحتاج إلى أكثر من اجتماع حكومي للتخفيف من الآثار السلبية لإخفاقه في فرض أمر واقع في البلاد. وبالنظر إلى جرأته التي تقترب من التهور، يمكن القول: إنه سيعيد الكرَّة إذا توافرت له الفرصة، إلا أن الفرصة قد تتأخر بل ربما لن تأتي، بمعنى أن الردع الذي واجهته القوات الحليفة لباشاغا سيجعل احتمال اللجوء إلى القوة مرة أخرى مستبعدًا، والمعارضة ستكون من حلفائه العسكريين في المنطقة الغربية، وهم الأهم في أي عمل عسكري لإخضاع العاصمة، ولو أقدم باشاغا على ذلك فلا يوجد ما يضمن له تحقيق نتائج مختلفة عما وقع في المواجهة الأخيرة. عليه، من المرجح أن يتجه رهانه إلى العمل السياسي.

الحجة والدافع الذي انطلق منه أنصار باشاغا في دعمه هو أن حكومته قادرة على التحرك شرقًا وغربًا وجنوبًا، وبالتالي هي مؤهلة للإشراف على الانتخابات خلافًا لحكومة الدبيبة المحصورة في المنطقة الغربية، إلا أن ما وقع الأيام القليلة الماضية جعل باشاغا غير قادر على التحرك في العاصمة؛ حيث يقطن نحو ثلث السكان، فقد صار مطلوبًا من النائب العام العسكري وأجهزتها الأمنية.

الضغوط التي شرع الدبيبة بممارستها والتي منها توجيه النائب العام والأجهزة الأمنية للقبض على من كانوا وراء العملية العسكرية من سياسيين ومدنيين، وصدور قائمة أسماء بذلك، ربما تشير إلى اتجاه صارم في التعامل مع أية محاولة لتقويض سلطته، لكنه بالمقابل قد لا يكون إجراء للتنفيذ، وربما سيتحول إلى ورقة مساومة، ومن المتوقع أن يتراجع الدبيبة عنه مع تعاظم جهود الوساطة من الداخل والخارج، في مقابل أن يتوقف باشاغا عن تهديد حكومته، وبذلك يكون موقع الدبيبة التفاوضي أقوى بل ويمكن أن يشكِّل نفوذًا مستقلًّا عن القيادة السياسية للمنطقة الغربية والتي يترأَّسها المجلس الأعلى للدولة؛ مما يعني تعقد المسار التفاوضي أكثر وإطالة عمر الأزمة وتأخير الانتخابات إلى أجل غير مسمى.

يبقى من الخيارات البحث عن طريق ثالث، أي حكومة جديدة لا تخضع لأي من طرفي النزاع الراهن، وسيكون ملحًّا في حال ظل الجفاء بين الدبيبة، من جهة، وطبرق والرجمة، من جهة أخرى، هو سيد الموقف، وهو ما قبل به الدبيبة قبل العملية العسكرية الأخيرة، وقد تدفع تطورات ما بعد فشل العملية العسكرية الدبيبة لتغيير موقفه، إلا أنه إنْ فعل سيواجه ضغطًا كبيرًا من الداخل والخارج قد لا يستطيع تفاديه.

ABOUT THE AUTHOR

References

(1) هل ينتصر أردوغان على السيسي في حرب الغاز القادمة؟، الجزيرة نت، 28 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول: 27 أغسطس/آب 2022):

https://bit.ly/3CN96ua

(2) حكومة باشاغا: خلفيات تشكُّلها وتداعياته على المشهد الليبي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 7 مارس/آذار 2022، (تاريخ الدخول: 28 أغسطس/آب 2022):

https://bit.ly/3wKpk3p

(3) ليبيا.. هل يسقط توافق الدبيبة وحفتر بشأن النفط حكومة باشاغا؟، الجزيرة نت، 18 يوليو/تموز 2022، (تاريخ الدخول: 29 أغسطس/آب 2022): https://bit.ly/3KyU1y5

(4) العرفي: نتوقع إعادة النظر في حكومة باشاغا، موقع الساعة 24، 29 أغسطس/آب 2022، (تاريخ الدخول: 30 أغسطس/آب 2022): https://bit.ly/3Q6Q6d4

(5) تعيين رئيس جديد لمؤسسة النفط.. ما دلالات التقارب بين الدبيبة وحفتر؟، العربي الجديد، 13 يوليو/تموز 2022، (تاريخ الدخول: 30 أغسطس/آب 2022): https://bit.ly/3q14kS6

(6) زيارة عقيلة صالح لأنقرة: صفحة جديدة في العلاقات الثنائية، العربي الجديد، 5 أغسطس/آب 2022، (تاريخ الدخول: 28 أغسطس/آب 2022): https://bit.ly/3B4OoVq