إلى أين تتجه تونس بعد الانتخابات التشريعية؟

يبقى المتحكم الحقيقي في الشأن التونسي هو الخارج؛ فالقرار النهائي بأيدي القوى الإقليمية المتحكمة في الرساميل العابرة للدول والقارات، وبحكم غياب مقومات السيادة وغياب أي مشروع وطني جامع لتحقيق تلك المقومات، فإن التغني بالسيادة الوطنية ورفض التدخل الخارجي في الشأن التونسي هو مجرد مزايدات سياسية.
من المنتظر أن يحل البرلمان التونسي الجديد محل البرلمان الذي علق الرئيس سعيد أعماله ثم حلّه (الجزيرة).

أجري في تونس يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2022(1) الدور الأول من الانتخابات التشريعية الخاصة بإحدى غرفتي المجلس التشريعي المنصوص عليهما في الدستور التونسي الجديد(2). وقد جاءت نتائج هذه الانتخابات لتضيف إلى أزمة الشرعية الدستورية أزمةً جديدة هي أزمةُ الشرعية الشعبية. فبنسبة مشاركةٍ لم تتجاوز 11.22% (وهي نسبة شككت فيها العديد من الجهات بحكم غياب الرقابة الدولية الموثوق بها وعدم حيادية هيئة الانتخابات)، وجدت تونس نفسها أمام أدنى نسبة مشاركة شعبية في تاريخها، بل وجدت نفسها أمام أسوأ نتيجة انتخابات في العالم كله. إننا أمام أرقام تنتمي فعلا إلى "زمن سياسي كوني جديد"، لكن ليس بالمعنى الذي يقصده الرئيس في سردية "تصحيح المسار"، بل بالمعنى الذي تحولت فيه "أم الثورات العربية" إلى تجربة سياسية فاشلة تحتل صدارة الدول ذات المشاركة الشعبية الدنيا قبل هايتي (17.82% سنة 2015) وأفغانستان (19% سنة 2019).

وبصرف النظر عن "حرب التأويلات" التي أعقبت ظهور النتائج(3)، فإن نسبة المشاركة الشعبية قد أكدت اتساع الهوة بين ادعاءات الرئيس احتكار تمثيل "الشعب" وبين الإرادة الشعبية التي عبّرت عن رفضها لمشروعه من خلال العزوف شبه الكلي عن المشاركة في الانتخابات التشريعية. ونحن قد استعملنا تعبير "اتساع الهوة" لأننا نؤمن بأن شعبية الرئيس قد ضُربت في مقتل داخل أغلب الأجسام السياسية والمدنية المناصرة له منذ أن أصدر المرسوم عدد 117 المؤرخ في 22 سبتمبر/أيلول 2021. ففي هذا الأمر الرئاسي السيئ الذكر(4) المتعلق بالتدابير الاستثنائية ظهرت نية ساكن قرطاج في تحويل "حالة الاستثناء" إلى مرحلة انتقالية تؤسس لـ"جمهورية جديدة" ذات نظام رئاسي. وهو نظام يحتكر فيه الرئيس جميع السلطات لا بحكم المراسيم والأوامر، بل بحكم الدستور الجديد ذاته. وقد نجح الرئيس في تمرير هذا الجزء من خارطة طريقه بعد الاستفتاء الشعبي العام على الدستور يوم 25 يوليو/تموز 2022.

لفهم الانتخابات التشريعية الأخيرة ومحاولة بناء قراءة استشرافية للواقع التونسي بعدها، سيكون علينا أن نضعها ضمن سياق "خارطة الطريق الرئاسية الثانية" لأننا نؤمن بأن السيد قيس سعيد قد حكم "حالة الاستثناء" بخارطتي طريق وليس بخارطة واحدة. وقد يبدو الواقع التونسي للمراقب غير المطلع على انتكاسات "الانتقال الديمقراطي" وأزماته الدورية قبل وصول الرئيس سعيد إلى الرئاسة أقربَ إلى الكابوس أو المشهد السريالي منه إلى الوضع "المعياري" الذي كان من المفترض أن تصل إليه البلاد بعد ثورة 17/14 (17 ديسمبر و14 يناير) المجيدة. ونحن لسنا هنا بصدد تحديد أسباب فشل الانتقال الديمقراطي (سياسيا واقتصاديا وثقافيا) قبل انتخابات 2019 التشريعية والرئاسية، ولكننا نؤكد أنّ "إجراءات" 25 يوليو/تموز 2021 (سواء أسميناها انقلابا أم تصحيح مسار) هي نتيجة منطقية لاستراتيجيات انقلابية تجد جذرها في منطق "استمرارية الدولة"، ومن بعده في غياب سردية ثورية جامعة وتحول الصراع السياسي من مداراته الأصلية (وهي القضايا الاقتصادية والاجتماعية) إلى مدار صراعات الهوية أو ما يُسمّيه أمين معلوف بـ"الهويات القاتلة"(5).

خارطتا الطريق الرئاسية: من حالة الاستثناء إلى المرحلة الانتقالية

قبل تفعيل الفصل الدستوري الخاص بحالة الاستثناء، كان الرئيس الذي تحول إلى ثوري بعد أن أمضى عمره "إنسانا مستقرا"(6) قد نجح في ترسيخ حالة من الاستقطاب الحاد بين الأحزاب البرلمانية، كما نجح في توظيف حالة الفوضى البرلمانية لشيطنة الأحزاب والحياة النيابية كلها، بل مسار الانتقال الديمقراطي ومخرجاته من خلال هجمات متكررة على السلطة القضائية وعلى بعض الهيئات الدستورية وعلى الإعلام. كانت حالة الاستثناء -أو خارطة الطريق الأولى- قد بدأت فعليا منذ أن انتقل مركز الحقل السياسي من البرلمان إلى قصر قرطاج، أي منذ أن أصبح القانون المنظم للسلطات مجرد حبر على ورقٍ في واقع يهيمن فيه الرئيس على المشهد السياسي بدعمٍ نشطٍ من بعض الأحزاب البرلمانية والإعلام والاتحاد العام التونسي للشغل والعديد من المنظمات المدنية التي وجدت في الرئيس "حصان طروادة" الذي ستحقق به ما عجزت عن تحقيقه بصناديق الاقتراع وبالدعوات المتكررة إلى الانقلاب المدني أو العسكري منذ المرحلة التأسيسية.

ولذلك فإن تفعيل الفصل 80 من الدستور كان محل ترحيب من أغلب القوى السياسية والمدنية ووسائل الإعلام التي تنتمي إلى "العائلة الديمقراطية"، أي إلى أصحاب الإيديولوجيات والسرديات الكبرى التي تكتسب هويتها بالتقابل مع "الإسلام السياسي" لا بالتقابل مع المنظومة القديمة رغم كل ادعاءاتها التي تحاول بها التغطية على هذا المعطى المهيمن على استراتيجية الاستئصال بنوعيه "الصلب" (تحويل حركة النهضة إلى مجرد ملف أمني قضائي وإخراجها من الحقل السياسي القانوني) و"الناعم" (إبقاء النهضة في الحقل السياسي القانوني مع تحجيم دورها السياسي بتعديل النظام إلى نظام رئاسي وعدم التحالف معها في الحكم أو المعارضة). ولكنّ هذا الدعم لحالة الاستثناء -رغم هشاشة الأساس الدستوري لإجراءات الرئيس وتعارضها الصريح مع فصول الدستور التي تنص على عدم المس بالبرلمان بالتجميد أو الحل، وعلى عدم إقالة الحكومة وعلى الإدارة المشتركة لحالة الاستثناء "المؤقتة"- أخذ في التراجع بعد أن تبينت الكثير من الأجسام الوسيطة أن الرئيس لا ينوى إشراكها في إدارة المرحلة وتحديد مخرجاتها، خاصة إثر صدور الأمر الرئاسي عدد 117 الذي أفقد حاكم قرطاج جزءا كبيرا من حزامه الحزبي والمدني بعد أن أصبحت نيته في تحويل حالة الاستثناء إلى مرحلة انتقالية تؤسس لجمهورية جديدة أمرا لا لبس فيه.

بطرحه خارطة الطريق الثلاثية (استشارة إلكترونية، استفتاء شعبي عام على الدستور الجديد(7)، انتخابات برلمانية لغرفتي المجلس النيابي) انتقل الرئيس من منطق "التقية" والمواربة الذي هيمن على الأشهر الأولى بعد صدور "الإجراءات" (خارطة "الإجراءات المؤقتة") إلى منطق الجهر بمشروعه السياسي (خارطة "التأسيس الجديد") غيرَ آبه بالانتقادات الموجهة إليه حتى من لدن أنصار "تصحيح المسار". كانت خارطة الطريق الثانية تعني أن الرئيس سيمضي في تنزيل مشروعه السياسي بمنطق فرض الأمر الواقع والقرار الأحادي بعيدا عن أي تشاركية نادى بها أنصاره "النقديون" في بعض الأحزاب وفي المركزية النقابية. فالاستشارة الإلكترونية تعني عمليا رفض محاورة جميع "الأجسام الوسيطة"، أي رفض الاعتراف بوجود انقسام لا يخلو منه أي اجتماع بشري (انقسام إيديولوجي، جهوي، فئوي، إلخ) يوجب تعدد الوسائط ويشرّع وجودها على الأقل في الفلسفات السياسية الحديثة التي يدعي هو تجاوزها تجاوزا جدليا، وهو في الحقيقة ينتكس إلى ما قبلها في سردية سياسية هجينة هي خليط بين منطق الخلافة ومنطق الثورات الشيوعية. وهو خليط محصوله "التربّب على الناس" وحكمهم بمنطق "لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون"(8).

ما هي "الإرادة الشعبية" التي تهم الرئيس؟

لقد استعملنا أعلاه -عن قصد- كلمة "الناس" (لأنها كلمة أبعد نجعةً في التجريد) ولم نورد كلمة "المواطنين" لأن منطق "التأسيس الثوري الجديد" الذي يحكم سردية "تصحيح المسار" لا يتعامل مع "الشعب" باعتباره مجموع المواطنين التونسيين، بل الشعب في الحقيقة هو أولئك الذين ناصروه وما زالوا يناصرونه، أما البقية فهم إما "مخمورون" و"مأجورون" (أولئك الذين عارضوا الانقلاب من لحظته الأولى) وإما "طماعون" و"خائنون" (أولئك الذين ساندوا الرئيس بعد 25 يوليو/تموز ثم عارضوه خاصةً بعد صدور المرسوم 117 المذكور أعلاه). ونحن لا نستطيع فهم موقف الرئيس من فشل الاستشارة الشعبية ومن بعدها فشل الاستفتاء والانتخابات التشريعية إلا إذا استحضرنا معنى الشعب أو الإرادة الشعبية في سرديته السياسية. وإذا ما كان "الشعب" هو في الحقيقة محصورا في مساندي تصحيح المسار/الانقلاب (أي من يسميهم الرئيس "الصادقين")، فإن الإرادة الشعبية التي تعني الرئيس لا تنحصر في هؤلاء. إننا في الظاهر أمام مفارقة، ولكنها مفارقة سرعان ما تنحلّ إذا ما فهمنا البنية العميقة لسردية تصحيح المسار خاصة فيما يتعلق بمعنى "التفويض الشعبي".

لفهم معنى "التفويض الشعبي"، يجب أن نتذكر أنّ "طوبى" التأسيس الثوري الجديد لا تحتاج إلى الإرادة الشعبية إلا مرة واحدة، مثلها في ذلك كمثل الانقلابات التي حولتها الآلات الدعائية ومنطق الأمر الواقع إلى "ثورات تصحيحية". فالشعب التونسي يعرف ما "يريد" (كما هو موجود في قول الرئيس "الشعب يريد ويعرف ما يريد")، وقد عرف ما يريد عندما اختار الرئيس قيس سعيد ومشروعه مرتين: مرة في الانتخابات الرئاسية ومرة بعد 25 تموز/يوليو 2021. وهو من منظور "التأسيس الجديد" الاختيار العقلاني الأوحد الذي يمكن التعويل عليه، أمّا باقي المحطات التي أظهرت خلاف ذلك (كل ما أسماه الرئيس وأنصاره "محطات تاريخية" عادت فيها منظومة الحكم إلى الشعب)، فإنها تعكس إرادة شعبية متلاعبا بها، أي إرادة لا تعرف مصلحتها ومتنكرة لها.

ومن المنطقي في هذه الحالة أن يمضىَ الرئيس في مشروعه -رغم فضيحة نسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات التشريعية- إذ يكفيه ما تبقى من "الصادقين" أو "الطلائع" مهما بلغ عددهم، فهؤلاء هم في النهاية "شعب الرئيس" أو "الشعب" كله، أما بقية المرتدين عن مساندة الرئيس فإنهم قد التحقوا بـ"المخمورين" و"المأجورين" و"الطامعين" الذين لن يبخع الرئيس نفسه على آثارهم أسفا، ولن يتراجع عن مشروعه ولو بقيَ فيه مع ثلاثة من أنصاره. إننا هنا نخرج "ظاهريا" من السياسة التي تحددها معطيات إحصائية ترتبط بنسبة الدعم الشعبي، إلى "الدين" أو "الأيديولوجيا"، حيث لا يكون المعيار هو الإرادة العامة، بل إرادة متعالية يمكن نسبتها إلى الله أو إلى "روح التاريخ" أو إلى إرادة شعبية مطلقة تتجسد مرة واحدة ولا تقبل الطعن أو المراجعة، ولا يمكن لصاحبها أن يتراجع عن "رسالته" ولو تحوّل إلى "مشروع شهيد" كما قال الرئيس نفسه في إحدى خطبه.

أين المعارضة وبدائلها رغم الفشل المتكرر للرئيس؟

لقد أثبت "تصحيح المسار" معطى هاما اخترق مسار الانتقال الديمقراطي برمته ألا وهو هيمنة المشاريع الانقلابية من جهة أولى، و"القابلية للانقلاب"(9) التي طبعت مجمل عملية التأسيس من جهة ثانية. ولو أردنا رسم خطاطة كبرى للمعارضة التونسية منذ تفعيل الفصل80  من الدستور فإننا نستطيع تقسيمها إلى قسمين:

هناك معارضة مبدئية أو جذرية رفضت إجراءات الرئيس منذ اللحظة الأولى واعتبرتها انقلابا كامل الأركان. وتشمل هذه المعارضة حركة النهضة وائتلاف الكرامة وحزب قلب تونس وحزب العمال اليساري وبعض الأحزاب الصغيرة غير المؤثرة في توازنات المشهد السياسي. وقد مثّلت هذه المعارضة (خاصةً حركة النهضة وحلفاءها) هدفا نسقيا للرئيس ومنظومة حكمه حتى اختُزل شعار "مكافحة الفساد" في استراتيجية سلطوية لا هدف لها إلا التتبع القضائي والشيطنة الإعلامية لحركة النهضة وحلفائها في "جبهة الخلاص الوطني". ورغم الوزن الشعبي لهذه المعارضة وهيمنتها على الشارع الاحتجاجي فإنها قد عجزت عن توسيع قاعدتها الشعبية وتقديم بديل مقبول لدى عموم التونسيين. فلو نظرنا إلى "جبهة الخلاص الوطني"(10) من جهة الرموز والخطاب، فإننا سنجد هيمنة للجناح التوافقي في حركة النهضة وتصدّر بعض الوجوه غير المقبولة شعبيا، كما سنجد إصرارا على خطاب التغني بمزايا الديمقراطية الصورية التي حكمت منذ الثورة بالتوازي مع التخويف من مشروع الاستبداد والحكم الفردي. ولذلك فإن نسبة كبيرة من الشعب ترى في "جبهة الخلاص" عن حق أو عن باطل مجرد تحالف بين رموز "الفشل" ومجرد محاولة لرسكلة المنظومة الحاكمة قبل25 يناير 2021. وهو أمر يتوجّس منه الناس خِيفة بحكم غياب أي مراجعات أو نقد ذاتي من رموز "التوافق" وغيرهم من قيادات جبهة الخلاص.

وهناك معارضة لطريقة إدارة "تصحيح المسار" ومحصوله الواقعي في مستوى تركيبة السلطة وفي مستوى الخيارات الاقتصادية. وهي تشمل أغلب مكونات ما يُسمى "العائلة الديمقراطية" سواء في الأحزاب (خاصة التيار الديمقراطي والتكتل والقطب، أي أبرز مكونات ما يسمى "تنسيقية الأحزاب الاجتماعية") أو في المجتمع المدني (خاصة الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية لحقوق الإنسان ومنظمة الأعراف والكثير من الجمعيات والمنظمات "الحداثية"). وتشترك هذه المعارضة في أنها قد مهدت للإجراءات الرئاسية أو دعّمتها في الأشهر الأولى، قبل أن تسحب تلك المساندة المبدئية وتتحول إلى معارضة صريحة أو معارضة "نقدية". كما تشترك مكونات هذه المعارضة في تضخّم العداوة بينها وبين حركة النهضة رغم أن أغلبها كان جزءا من المنظومة الحاكمة فيما تسميه "العشرية السوداء". ورغم احترازات هذه المعارضة على مسار التصحيح ومخرجاته، فإن استصحاب منطق التناقض الرئيس (مع الإسلام السياسي أو الرجعية الدينية) والتناقض الثانوي (مع الرجعية البرجوازية والدولة البوليسية ذات النظام الريعي الكليبتوقراطي)(11) قد جعل منها -منذ أعمال المجلس التأسيسي وفترة حكم الترويكا(12) عدوا ثابتا لحركة النهضة وبالتالي طابورا خامسا أو حليفا موضوعيا لأي مشروع انقلابي هدفه إقصاء الإسلاميين من مركز السلطة وصناعة القرار.

سيناريوهات إعادة التوازن الهش للمنظومة أو إسقاطها

مثلما كان منتظرا، فإن نتائج الانتخابات لم تغير شيئا في خطاب الرئيس التونسي ولا في خارطة طريقه، بل يبدو أن صدمة النتائج قد دفعت به -من باب آلية الإنكار- إلى التصعيد الخطابي والواقعي ضد خصومه (أي خصوم الإرادة الشعبية وحركة التاريخ حسب تصوره). فبعد أن حدّثنا الرئيس عن "العلو الشاهق" وعن "السعادة الخام" التي هي أهم من الدخل القومي الخام، ها هو الآن يفاضل بين "ناخبيه" ومن شارك في الانتخابات السابقة لـ"تصحيح المسار"، ويقسم تراتبية تفاضلية تجعل11 % من مجموع الناخبين أفضل من99  من ناخبي "العشرية السوداء"(13).

ويمكننا أن نفهم العقل السياسي الذي سيقود هذا السيناريو الأول -أي بقاء الرئيس في الحكم- باستحضار زيارته لأحد مراكز تصفية الدم. في تلك الزيارة، أنكر وجود أزمة حادة في هذا القطاع الصحي، بل أزمة تشمل قطاع الصحة العمومية كله، خاصة في مستوى انقطاع التزود بالأدوية(14)، ولم يكتف الرئيس بذلك بل وظف السجل الصحي لينقل "التصفية" من المجال الصحي إلى المجال السياسي قائلا "ربما تونس في حاجة إلى تصفية من نوع آخر، تصفية تخلصها من الأدران التي علقت بها والتي في قلوبها مرض لا يشفى من المستشفيات أو عن طريق الأطباء والممرضين"(15). وإذا ما خرجنا بالمرض من المعنى الأصلي إلى المعنى المجازي، فإن "التصفية" في هذا السياق تُلامس المعجم النازي والحل الأخير. ولعل السؤال الذي يُطرح هنا هو التالي: كيف سيُصفي الرئيس المحتكر للإرادة الشعبية خصومَه وقد بلغ عددهم نحو 90% من الشعب التونسي بعد نتائج الانتخابات التشريعية؟ بل كيف يمكن أن يكون رئيسا لكل التونسيين وهو يشكك في وطنية الأغلب الأعم من التونسيين وفي ذممهم المالية سواء أكانوا من النخب أم من عموم الناخبين؟

أما السيناريو الثاني فيتمثل في توجه "النواة الصلبة" لمنظومة الحكم نحو البحث عن توازنات سياسية جديدة عند تيقّنها من عدم قدرة الرئيس على الوفاء بالمطلوب منه. وفي هذا السيناريو يمكن لتلك "النواة الصلبة" أن تستبق أي تحركات شعبية قد تهدد وجودها ذاته بالدفع نحو توافقات سياسية جديدة يقودها الاتحاد العام التونسي للشغل تحت لافتة الدفاع عن "الطبقة الشغيلة" ورفض "الإصلاحات الاقتصادية" التي ستتحمل كلفتها أساسا الفئات الأكثر عطبا اجتماعيا. وفي هذا السيناريو سيجد الاتحاد نفسه مضطرا إلى الدعوة إلى "حوار وطني شامل" لا يُقصي حركة النهضة وحلفاءها، ولكنه سيعمل -بدعم من الدولة العميقة ورعاتها الإقليميين والدوليين- على تحجيم دور النهضة سواء في صياغة مخرجات الحوار أو في الاستفادة منها بما يتوافق مع تمثيليتها الشعبية.

في هذا السيناريو سنجد أنفسنا أمام نسخة جديدة من "الحوار الوطني" الذي أسقط الترويكا، ولكنه في هذه المرة لن يطرح -في مرحلته الأولى- إسقاط الرئيس بل تعديل خارطة طريقه السياسية والاقتصادية. ولمّا كنا نعلم يقينا أن الرئيس لن يقبل بأي حوار لأنه ما زال يطرح نفسه "بديلا " للفاعلين الجماعيين لا "شريكا" لهم، وما زال يتحرك بمنطق "مهدوي" أو "رسالي" لا علاقة له بالواقع، فإننا نُرجح أن يصعد الحوار الوطني -في صورة حدوثه- من سقف مطالبه فيطالب بانتخابات رئاسية مبكرة يعود فيها الجميع للإرادة الشعبية كي تحسم الموقف من الرئيس ومشروعه بصورة لا تقبل اللبس. ونحن لا نشك في أن الرئيس لن يقبل بطرح نفسه على صناديق الاقتراع على الأقل في هذه المرحلة التي أكدت عدم شعبيته. ولذلك فإن مطالب الأطراف المشاركة في الحوار ستنتقل بالضرورة إلى الدعوة إلى استقالة الرئيس أو العمل على إسقاطه بقوة الشارع.

رغم أن السيناريو الأول والسيناريو الثاني لمستقبل تونس في المدى القريب والمتوسط يبدوان الأكثر واقعية، فإن ذلك لا ينفي وجود سيناريو ثالث هو الآن في حكم "غير المفكر فيه" عند أغلب النخب وعموم الشعب. وهذا السيناريو يختلف عمّا سبقه لأنه لا يتحرك داخل المنظومة ولا تحكمه مصالح نواتها الصلبة واستراتيجياتها لإعادة التموقع والانتشار بعد كل أزمة دورية عرفتها تونس منذ المرحلة التأسيسية. ونحن نقصد هنا سيناريو "الكتلة التاريخية"(16)، أو مشروع "المشترك الوطني" أو "الكلمة السواء" الذي يتأسس على قراءة مختلفة لتاريخ الدولة-الأمة وأساطيرها التأسيسية وخياراتها الكبرى منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا، ويطرح على نفسه مشروعا للتحرر وبناء مقومات السيادة بعيدا عن صراعات الهوية وعن الاستقطابات الإيديولوجية القاتلة. ونحن نذهب إلى أن الشرط الضروري لهذا البديل الحقيقي الذي يتجاوز جدليا جميع السرديات الكبرى هو سقوط كل البدائل من داخل المنظومة وبلوغها مرحلة يستحيل معها أي ترقيع، بحيث تفقد شرعيتها ومشروعيتها بصورة لا يمكن أن تغطيها تلك المجازات التي مدارها تكريس التبعية والتخلف والمديونية والتفاوت الطبقي والجهوي.

وكيفما جرت الأمور داخل السلطة والمعارضة، فإن المتحكم الحقيقي في الشأن التونسي يظل خارجها، أي إن القرار النهائي يبقى بين أيدي القوى الإقليمية والدولية المتحكمة في الرساميل العابرة للدول والقارات(17). وبحكم غياب مقومات السيادة وغياب أي مشروع وطني جامع لتحقيق تلك المقومات، فإن التغني بـ"السيادة الوطنية" ورفض التدخل الخارجي في الشأن التونسي هو مجرد مزايدات سياسية لا قيمة لها إلا في مستوى الديماغوجية والتزييف الممنهج للوعي الجمعي. ولذلك فإننا نعتبر انقلاب 25 يوليو التعبير الأقصى عن أزمة المنظومة. وهو تعبير يجعل تونس أمام ممكنين تاريخيين: إما استمرار الأزمات الدورية لمنظومة الحكم حتى لو افترضنا سقوط الرئيس ومشروعه لأن البديل لن يخرج عن سلطة "النواة الصلبة" للمنظومة القديمة، وإما ظهور بديل وطني يتحرك من خارج المنظومة ويُسمي الأشياء بأسمائها بحثا عن حلول جذرية قد لا تكون شعبية بالضرورة ولكنها لا يمكن أن تستغني عن دعم جزء كبير من الشعب التونسي ونخبه البديلة لضمان نجاحها.

ABOUT THE AUTHOR

References

(1)- يُمثل هذا اليوم جزءا من السردية الجديدة التي اعتمدها الرئيس قيس سعيد لإعادة كتابة سردية الثورة. فقد كان عيد الثورة قبل "تصحيح المسار" هو يوم 14 يناير/ كانون الثاني ولكنّ الرئيس عوّضه بيوم 17 ديسمبر/كانون الأول في خطوة "رمزية" يريد من ورائها تأكيد انفصاله عن سردية "العشرية السوداء" التي يعتبرها انقلابا على الثورة واستحقاقاتها.

(2)- عمد الرئيس التونسي باستعمال الأوامر إلى تعديل نظام الاقتراع. فأصبح الناخب مطالبا بالاختيار بين الأفراد وليس بين القوائم الحزبية أو المستقلة، كما أصبحت العملية الانتخابية تتم على دورتين في صورة عدم تحصل أي مترشح على الأغلبية من مجموع الأصوات المصرح بها (أي أكثر من 51%). أما المجلس النيابي فصار يتكون من غرفتين: مجلس النواب ومجلس الجهات والأقاليم (ومن المنتظر إجراء الانتخابات الخاصة بالمجلس الثاني سنة 2023).

(3)- اعتبرت أغلب أطياف المعارضة هذه النتائج دليلا على سقوط وهم "الشعبية" أو تمثيل الإرادة العامة التي يتغنى بها الرئيس وأنصاره، بينما اعتبرت عبير موسي زعيمة الحزب الدستوري الحر العزوف الشعبي رسالة تفيد رفض الشعب لمخرجات الربيع العربي (ما تسميه بـ"منظومة الخراب والدمار") أي لوجود "الإسلاميين" وكذلك للإرادة المنفردة للانقلاب. أما هيئة الانتخابات "المعينة" فقد اعتبر رئيسها أن ضعف النتائج يعود إلى تغير نظام الاقتراع وإلى غياب المال السياسي الفاسد، وأما الرئيس فإنه قد واصل سياسة الهروب إلى الأمام ودعا إلى انتظار نتائج الدور الثاني وطعن كالعادة في نيات منتقديه وواصل شيطنتهم واعدا بالاستمرار في مشروعه رغم عزلته الداخلية المتزايدة.

(4)- للاطلاع على تفاصيل هذا الأمر يمكن العودة إلى الرائد الرسمي التونسي: "الأمر الرئاسي عدد 117 مؤرخ في 22 سبتمبر 2021 يتعلق بتدابير استثنائية".

(5)- هو كتاب وضعه صاحبه باللغة الفرنسية ( Les Identités meurtières) وترجمه إلى العربية د. نبيل محسن تحت عنوان :"الهويات القاتلة: قراءات في الانتماء والعولمة"، دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع، سورية، ط1 1999

(6)- مفهوم "الإنسان المستقر" هو مفهوم مشتق من أطروحة الكاتب الفرنسي دو لابويسيه (Étienne de la Boétie ; Discours de la servitude volontaire) وقد ترجم عبود كاسوحة هذه المقالة بعنوان "مقالة العبودية الطوعية" وصدرت الطبعة الأولى عن "المنظمة العربية للترجمة"، بيروت، لبنان، ديسمبر 2008.

(7)- مثّل الاستفتاء لحظة من لحظات انقلاب الرئيس قيس سعيد على ذاته وعلى تاريخه -أو بالتحديد على مواقفه عندما كان يُقدم نفسه باعتباره "خبيرا دستوريا". فـ"الخبير الدستوري" قيس سعيد كان يعتبر الاستفتاء "أداة من أدوات الدكتاتورية المتنكرة" لأنه "ليس استفتاء حول المشروع، إنما هو استفتاء حول صاحب المشروع"، وكان يقول "أتمنى أن أعيش يوما واحدا أرى فيه استفتاء سلبيا بأحد البلدان العربية". وبعد أن وصل إلى الرئاسة ارتد عن هذا الموقف وأصبح الاستفتاء عنده أداة من أدوات "التأسيس الثوري الجديد" بصرف النظر عن نسبة المشاركة أو الدعم النخبوي والشعبي لهذا التأسيس.

(8)- لو أردنا التعمق أكثر في منطق الرئيس والبنية العميقة لجملته السياسية فإننا سنجده يجمع -بطريقة لا واعية- في صورته "المتخيلة" التي يريد فرضها على التونسيين بين أكثر من نموذج أو مثال: فهو يستعير من الله سبحانه صفتي العلم المطلق والخير المطلق وله حكمة خفية لا يحيط بها مخلوق ولذلك فإنه "لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون" (و"هم" هنا تحيل إلى جميع المواطنين والمسؤولين حتى من أنصاره، أما هو فقد جعل نفسه فوق المراقبة والمساءلة كما يشهد لذلك دستوره الجديد)، وهو أيضا يجسد صفة العصمة لدى النبي (لا يخطئ ولذلك لا يمكن أن يتراجع، بل لا يجوز الاعتراض عليه ورد أحكامه)، وهو أيضا يجيد الخليفة الراشد (خاصة الفاروق عمر بن الخطاب الذي كان "محدَّثا" أي يجري الله الحق على لسانه)، وهو أيضا يمثل صورة المهدي المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا، وهو أخيرا القائد الأممي الذي يحمل فكرا سياسيا كونيا جديدا سيجبّ ما قبله من إيديولوجيات سياسية لا في تونس فحسب، بل في المعمورة كلها.

(9)- نحن هنا نستعير مصطلح "قابلية الاستعمار" للمفكر الجزائري المرحوم مالك بن نبي، ونعطيه دلالة مختلفة ترتبط بفشل الانتقال الديمقراطي في تونس. فلولا "قابلية الانقلاب" وغياب شروط المقاومة الفكرية والموضوعية لما نجح الرئيس في ضرب كل الأجسام الوسيطة سواء بالتحييد (الأحزاب) أو بالتدجين (المركزية النقابية وأغلب منظمات المجتمع المدني والهيئات المهنية مثل المجلس الأعلى للقضاء، والهيئات الدستورية مثل الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي والبصري، والهيئة العليا المستقلة للانتخابات) أو بالإغلاق (الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد).

(10)- هي جبهة معارضة تأسست في 31 مايو 2022 برئاسة السيد أحمد نجيب الشابي، وتضم العديد من الأطراف أهمها حركة النهضة وقلب تونس وحراك تونس الإرادة وائتلاف الكرامة والمبادرة الديمقراطية وحراك مواطنون ضد الانقلاب وتنسيقية مجلس النواب وغيرهم. وتضم الجبهة في هيئتها التنفيذية سميرة الشواشي وجوهر بن مبارك ورضا بلحاج ورياض الشعيبي وعمر الصيفاوي وسمير ديلو ويسري الدالي وسامي الشابي ومحمد أمين السعيداني.

(11)- الكليبتوقراطية تعني حرفيا "حكم اللصوص" ، وهو مصطلح يصلح لوصف منظومة الحكم في تونس قبل الثورة وبعدها، ليس فقط للدلالة على فساد السلطات السياسية والنقابية والإدارية، بل للدلالة على المتحكم الحقيقي في كل السلطات، أي تلك العائلات الريعية الكبرى التي لا يتجاوز عددها العشرات ولكنها تتحكم في الاقتصاد وتسيطر على مجمل مناحي الحياة السياسية والثقافية وغيرها من خلال قوة المال في الداخل وبتوظيف شبكة علاقاتها ومصالحها المشتركة مع القوى الإقليمية والدولية.

(12)- الترويكا (أو الثلاثي الحاكم) مصطلح يستعمل للدلالة على الائتلاف الحاكم المتكون من ثلاثة أحزاب (النهضة، التكتل، المؤتمر). وقد تأسس هذا الاتلاف في 22 نوفمبر 2011 وانحل في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2014. وتأتي أهمية الترويكا من أنها أول تجربة تونسية يتحالف فيها الإسلاميون والعلمانيون تعبيرا عن الإرادة الشعبية وبعيدا عن منطق التنافي أو الإلغاء المتبادل. ولكنّ الترويكا لم تنبن على أسس قوية، بل كانت تحالفا براغماتيا هشا، ولذلك لم تكن نواة لـ"كتلة تاريخية" بالمعنى الغرامشي، بل مجرد تحالف مؤقت للحكم. وهو ما عجّل بسقوطها بعد عملتي الاغتيال السياسي و"الحوار الوطني" الذي أعاد ورثة المنظومة القديمة إلى مركز السلطة بعد انتخابات 2014.

(13)- صرح بذلك في اجتماعه مع الوزيرة الأولى ووزراء السيادة والقيادات العسكرية يوم 28 ديسمبر/كانون الأول 2022.

(14)- صرح رئيس جمعية الصيادلة لإذاعة شمس آف آم يوم الخميس الماضي بفقدان 690 نوعا من الدواء في تونس، في حين صرح رئيس نقابة الصيادلة بأن عدد الأدوية المفقودة هو في حدود 350 نوعا. وبصرف النظر عن الرقم الحقيقي، فمن المؤكد أن عدد الأدوية المفقود كبير، وهي أدوية تهم بعض الأمراض الخطيرة والمزمنة. ولذلك أعلن المكتب التنفيذي للغرفة الوطنية لأصحاب مصحات تصفية الدم عن عزم الغرفة إيقاف النشاط في كل مصحات الجمهورية ما عدا الحالات الاستعجالية ابتداءً من 11 يناير/كانون الثاني 2023 "إلى حين إيجاد الحلول الكفيلة بإنقاذ القطاع".

(15)- التصريح موجود في صفحة رئاسة الجمهورية وفي الكثير من المواقع الإلكترونية.

(16)- يُنسب مفهوم "الكتلة التاريخية" إلى المفكر اليساري الإيطالي أنطونيو غرامشي (1895/1936)، وهو مفهوم نظري معقد يمكن اختزاله بالدعوة إلى بناء ائتلاف واسع بين القوى اليسارية والكنيسة وبين الشمال الإيطالي المصنع والجنوب الفلاحي لمواجهة العدو الوجودي المشترك، أي فاشية موسيليني. ونحن نذهب إلى إمكانية "تَونسة" هذا المفهوم وإثرائه بالدعوة إلى بناء كتلة تاريخية تتجاوز صراعات الهوية بين الإسلاميين والعلمانيين وتطرح على نفسها برنامجا تحريريا واضحا هدفه أن يتجاوز جدليا الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة وما انبنى عليها من خيارات اقتصادية واجتماعية وثقافية فاشلة.

(17)- في شهر يوليو 2022 بلغ الدين العام التونسي 82.34 مليار دولار (أي 620.109 مليار دينار تونسي) بحيث ارتفعت نسبة الدين العمومي لتونس من الناتج المحلي الخام إلى 5.78%.