استراتيجية إريتريا تجاه شرق السودان.. المحددات، الأدوات، والأهداف

تحاول هذه الورقة تشريح استراتيجية أسمرة تجاه شرق السودان خلال العقدين الماضيين، موضحة المحددات العامة المساهمة في رسم خطوط هذه الاستراتيجية، مروراً بأدوات السياسة الإريترية في ذلك الإقليم الحساس، وانتهاء بتحديد الأهداف التي ترمي أسمرة إليها من خلال هذه الاستراتيجية.
رفضت أسمرة توقيع اتفاقية مع الخرطوم لتنظيم التجارة الحدودية بينهما فضلت التعامل مع الولايات. (الجزيرة).

لطالما مثلت إريتريا أحد أهم اللاعبين في ملف شرق السودان المحاد لإقليمي قاش بركة والساحل الشمالي الإريتريين، حيث مثلت تلك المنطقة عمقاً متعدد الأبعاد لقوى الثورة الإريترية في نضالها ضد الاحتلال الإثيوبي (1961-1991)، ما منح الإقليم خصوصية فائقة لدى صانع القرار الإريتري استمرت بعد إعلان استقلال إريتريا (1993) وإلى يومنا هذا.

تحاول هذه الورقة تشريح استراتيجية أسمرة تجاه شرق السودان خلال العقدين الماضيين، موضحة المحددات العامة المساهمة في رسم خطوط هذه الاستراتيجية، مروراً بأدوات السياسة الإريترية في ذلك الإقليم الحساس، وانتهاء بتحديد الأهداف التي ترمي أسمرة إليها من خلال هذه الاستراتيجية.

1- محددات الاستراتيجية الإريترية تجاه شرق السودان:

أ- المحدد الأمني:

تتسم ولايات شرق السودان بأهمية أمنية كبيرة بالنسبة لصانع القرار في أسمرة، حيث تمتد الحدود بين البلدين على ما يزيد على 600 كيلومتر جزء كبير منها مساحات سهلية منبسطة يسهل فيها التنقل عبر الحدود، كما تضم هذه المنطقة إحدى أكبر الجاليات الإريترية في الخارج حيث يبلغ عدد المسجلين في معسكرات المفوضية السامية الأممية في كسلا والقضارف ما يزيد على 123 ألف لاجئ(1)، فضلاً عن كلٍّ من المقيمين خارجها والحاصلين على الجنسية السودانية، وكثير من هؤلاء من مجموعات قبلية تعيش على طرفي الحدود بين إريتريا والسودان.

 تبدو الأهمية الأمنية لهذه الكتلة البشرية عند مقارنتها بمعسكرات اللاجئين الإريتريين في إقليم تيغراي الإثيوبي، حيث سمحت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي قبل الحرب الإثيوبية الأخيرة للفصائل المعارضة الإريترية بالعمل ضمن تلك المعسكرات، وذكرت تقارير أن أسمرة ضغطت على الحكومة الإثيوبية للتضييق على اللاجئين والمعسكرات(2)، كما تم استهداف هذه المعسكرات إبان حرب تيغراي.

ب- المحدد الاقتصادي:

مثل السودان وشرقه بالتحديد ساحة لعبور البضائع وتهريبها إلى إريتريا إبان مرحلة الحصار والعقوبات الأممية التي فرضت عليها في ما قبل توقيع اتفاقية السلام مع إثيوبيا في مايو/أيار 2018.

كان لهذا انعكاسه في توفير الموارد النقدية لأسمرة عبر انخراط الأذرع الاقتصادية لحزب الجبهة الشعبية للعدالة والديمقراطية الحاكم، كسقن والبحر الأحمر، وكذلك البعثات الدبلوماسية الإريترية في الخارج، في الأنشطة الاقتصادية العابرة للحدود بشكل رسمي أو غير رسمي عبر شبكات تضم بعض حلفاء أسمرة كقبائل الرشايدة(3).

ج- المحدد الغذائي:

 من جهة أخرى وفرت التجارة العابرة للحدود العديد من السلع الأساسية التي كانت تتعطش لها الأسواق الإريترية، حيث تعيش إريتريا أزمة غذائية ممتدة، فوفقاً لتقرير بنك التنمية الإفريقي عن إستراتيجيته حول إريتريا (2014) فإن "حوالي 70% من السكان في حالة ضعف شديد وانعدام الأمن الغذائي"(4)، في حين أكد تقرير لليونيسف (2020) أن "الإنتاج الغذائي المحلي يقدر أنه لا يلبي سوى 60% إلى 70% من احتياجات السكان"(5).

ويبدو أن إدخال المواد الغذائية عبر الحدود السودانية يغطي جزءاً من هذه الفجوة، وقد أشارت بعض المصادر إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير وحدوث أزمة غذائية في بعض المناطق المحاذية للسودان، كان أحد أسبابها إغلاق الحدود مع دول الجوار ضمن الإجراءات الحكومية للحد من انتشار وباء كورونا(6).    

د- المحدد الجيوسياسي:

يمثل شرق السودان منطقة استراتيجية بالغة الحساسية بالنسبة للسودان بشكل خاص وللتجارة الدولية عموماً، إذ يضم واجهته البحرية على أحد أهم الممرات الملاحية في العالم، كما يحتوي على أهم مواني السودان وثاني أكبر مدنه، كما تمثل ولايتا كسلا والقضارف عاملاً هاماً في الأمن الغذائي للسودان، بالإضافة إلى احتواء الإقليم على معادن هامة منها الذهب.

 ولذا فقدرة أسمرة على التأثير في مجريات الأحداث في الشرق تكسبها أداة ضغط هامة على الخرطوم والقوى الدولية المعنية بسلامة الملاحة في البحر الأحمر، ولا سيما أن شرق السودان تحول إلى ساحة تجاذب وصراع بين قوى إقليمية ودولية مختلفة(7).

2- أدوات السياسة الإريترية في شرق السودان:

أ- بناء شبكة واسعة من العلاقات: مستفيدة من الطبيعة المركبة لمشاكل شرق السودان استطاعت أسمرة نسج خيوط تحالف من العديد من القوى الفاعلة المحلية(8) على امتداد العقود الثلاثة الماضية.

  • التحالف مع قوى سياسية: استطاعت أسمرة بناء تحالف وثيق مع كل من "مؤتمر البجا"(9) و"الأسود الحرة"(10) اللذين انضما إلى التجمع الوطني الديمقراطي السوداني المعارض لنظام الإنقاذ والمدعوم إريترياً، وبعد دخول أطراف أساسية في التحالف في اتفاقات سلام مع حكومة البشير، كان الفصيلان المذكوران نواة كيان موحد تحت اسم "جبهة الشرق" التي استمرت في العمل ضد نظام الإنقاذ انطلاقاً من الأراضي الإريترية، وهذا التحالف استمر بين الجبهة وأسمرة استمر عقب توقيع اتفاق سلام الشرق عام 2006.
  • التحالف مع قوى عسكرية: حيث تحتضن إريتريا قوات تتبع عمر محمد طاهر عمر القائد العسكري التاريخي لمؤتمر البجا والذي رفض التوقيع على اتفاقية سلام الشرق 2006 واحتفظ بقواته المقدرة بآلاف المقاتلين المسلحين داخل الأراضي الإريترية، حيث ظل معارضاً لنظام الإنقاذ في السودان، وفي رسالة معبرة عن الدعم الإريتري شارك أسياس أفورقي مرتدياً الزي المحلي للبجا في حفل تخريج قوات تتبع طاهر صيف عام 2019(11).  
  • التحالف مع قوى مجتمعية: يبرز في هذا السياق العلاقة المميزة بين أسمرة والخليفة العام لخلاوي همشكوريب الشيخ سليمان علي بيتاي من قبيلة الجميلاب في شرق السودان، حيث تمثل هذه الخلاوي مؤسسة تعليمية شديدة الأهمية في شرق السودان وذات نفوذ معنوي كبير، حيث بلغ عدد فروعها في المنطقة 22 تضم 22 ألفاً من الطلاب الذكور والإناث، في حين تنتشر مراكزها البالغ عددها 200 في العديد من مناطق السودان(12).
  • والعلاقة بين الطرفين ممتدة حيث تبرعت أسمرة عام 2010 بمخبز للخلاوي وحضر الافتتاح الجنرال الإريتري البارز تخلي كفلاي (منجوس) (13)، وفي يوليو/تموز 2019 شارك الشيخ بيتاي في احتفال تخريج طلاب معسكر ساوا بجانب الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، وأواخر العام نفسه سافر الشيخ بيتاي للعلاج في الإمارات بجواز إريتري وعلى نفقة الحكومة الإريترية(14)
  • التحالف مع قوى قبلية: تربط النظام الإريتري علاقات متينة مع العديد من الهياكل القبلية في شرق السودان، حيث يبرز في هذا السياق علاقة أسمرة مع المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة الذي يمثل مجموعة من قبائل البجا أبرزها الهدندوة، وقد لعب هذا المجلس دوراً محورياً في الأحداث السياسية في مرحلة ما بعد سقوط الرئيس السابق محمد عمر البشير، وقد صرح زعيمه محمد الأمين ترك أن "إريتريا بالنسبة لنا وطن"(15).

ب- العلاقات المباشرة مع الولايات: عملت أسمرة على نسج علاقات وثيقة ومباشرة مع ولايات الشرق مفضلة ذلك على التعاون مع الحكومة المركزية في الخرطوم، وهو ما يوصف بأنه "جزء من السياسة الإريترية تجاه السودان"(16).

وبينما رفضت أسمرة توقيع اتفاقية مع الخرطوم لتنظيم التجارة الحدودية بينهما فضلت التعامل مع الولايات، فربطت اتفاقيات متنوعة بين كل من ولايتي كسلا والبحر الأحمر وبين أقاليم إريترية(17)، كما قام الولاة فيهما بزيارات إلى أسمرة حيث عقدوا جلسات محادثات مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي(18)، وفي إشارة واضحة على عمق العلاقة بشرق السودان قام الأخير بزيارات متعددة إلى المنطقة، بعضها بشكل غير رسمي(19)، حيث التقى زعماء محليين، كما شارك في مناسبات منها افتتاح موسم السياحة في بورتسودان عام 2013(20).  

رسمياً تمنح هذه العلاقات الفرصة للشركات الإريترية للعمل في الولايات المعنية(21)، وعلى مستوى آخر تؤمن هذه العلاقات البيئة المناسبة لعمل وحماية شبكات التهريب والاتجار غير الرسمي بين البلدين(22)، حيث وضعت دراسة سودانية "الفساد بين المسؤولين" و"فشل" الدولة في حراسة الحدود بين البلدين(23) ضمن عوامل ازدهار التجارة غير الرسمية العابرة للحدود.

ج- النشاط الأمني:

يعود النشاط الأمني الإريتري بمنطقة شرق السودان إلى عقود الكفاح المسلح ضد الاستعمار الإثيوبي (1961-1991)، حيث مثل السودان قاعدة خلفية للإمداد اللوجستي، والمنفذ الذي تتحرك عبره القيادات الإريترية في الخارج للترويج لقضيتهم واستجلاب الدعم.

هذا الحضور الأمني الإريتري استمر بعد الاستقلال 1993 مستهدفاً الفصائل المعارضة التي تمركزت في السودان في بعض المراحل، بجانب التجمعات الإريترية في المنطقة التي تشكل كتلة سكانية كبيرة خارج السيطرة المباشرة لأسمرة وخزاناً بشرياً محتملاً لأي نشاط مناهض لها.

في إدارتها لعملياتها بشرق السودان عمدت الأجهزة الأمنية الإريترية إلى تعزيز تعاونها مع نظيراتها السودانية في المنطقة سواء بشكل مباشر، أو غير مباشر عبر اختراق بعض منسوبيها، وهو ما أدى إلى تسهيل أنشطة التهريب بأنواعها المختلفة، وكذلك وصول البلاغات التي تتهم إريتريا بارتكاب انتهاكات داخل الأراضي السودانية إلى طريق مسدود حيث كان مصيرها الحفظ(24).

ولهذا وصفت إريتريا بامتلاكها "معرفة واستخبارات ممتازة عن المنطقة"(25)، مستفيدة بجانب ما سبق من بعض المجتمعات المحلية العابرة للحدود ومن شبكات حلفائها في المنطقة، وعلى مر السنوات شهدت المنطقة عمليات اختطاف لمعارضين إريتريين اتهمت بها أجهزة الأمن الإريترية(26).

3- أهداف السياسة الإريترية في شرق السودان:

أ- تأمين جانب السودان: في ظل حالة السيولة السياسية التي تعيشها منطقة القرن الإفريقي يبدو من الضروري لأسمرة تأمين الحياد السوداني في حال تأثر علاقة إريتريا سلبياً مع إثيوبيا في أعقاب عملية السلام بين حكومة أديس أبابا والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، حيث ارتكزت السياسة الإريترية طوال الخمسة عشر عاماً الماضية على بناء توازن إقليمي لا تصبح فيه أسمرة محاصرة بالعداء بين جاريها الكبيرين.

 ب- دعم أسمرة كلاعب محوري في الإقليم: لطالما عملت أسمرة على بناء شبكات تحالف مع فاعلين محليين في دول الإقليم ما وفر لها القدرة على التأثير في مسار الأحداث فيها، حيث يبرز في هذا السياق روابط إريتريا بقوى مختلفة في شرق السودان وغربه والأمهرة في إثيوبيا، والنفوذ الإرتيري في شرق السودان يمنح أسمرة أدوات ضغط لا على حكومة الخرطوم وحدها بل أيضاً على الأطراف الدولية المعنية باستقرار المنطقة أيضاً.

ج- عرقلة التحول الديمقراطي في السودان: لا يبدو النظام الإريتري مرحباً باكتمال التحول الديمقراطي في السودان تخوفاً من تحول الأخير إلى بيئة تنشط فيها المعارضة الإريترية وإلى نموذج محفز لها للقيام بإنجاز مماثل عبر الحدود، حيث كان من الملاحظ أن حلفاء أسمرة قاموا دور بارز في التمهيد ودعم انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول(27)،  كما ضمت مجموعة "قوى الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية" الرافضة للاتفاق الإطاري بين المجلس العسكري وبعض القوى المدنية السودانية، شخصيات بارزة من حلفاء أسمرة في الإقليم وخارجه(28).

د- التأثير في السياسات المرتبطة بشرق السودان بما يخدم المصلحة الإريترية: استهدفت أسمرة من خلال شبكة التحالفات التي صنعتها مع فاعلين رئيسيين في شرق السودان الحفاظ على دور هام في هندسة السياسات المرتبطة بشرق السودان، حيث أدى دعمها لجبهة الشرق إلى استبعاد رعاية أطراف دولية لعملية سلام الشرق وانفراد إريتريا بدور الوساطة بينها وبين الحكومة في الخرطوم.

 ورغم المقاومة الأولية من الأخيرة لتولي أسمرة هذا الدور فإن أهم عوامل تخليها عن هذه المقاومة وفقاً للبروفيسور جون يونغ كانت "الرأي السائد في الخرطوم بأن جبهة الشرق كانت تحت سيطرة الإريتريين، وبالتالي لا يمكن التوصل إلى اتفاق دون موافقتهم"(29).

معارضة كل من الخرطوم وأسمرة نشر قوات أو مراقبين دوليين حولت إريتريا إلى الضامن الوحيد للاتفاق ممّا منحها العديد من المكاسب، فعلى سبيل المثال نص اتفاق سلام الشرق الموقع في أسمرة أكتوبر/تشرين الأول 2006، في المادة 26 على تشكيل لجنة عسكرية عليا لمراقبة تطبيق وقف إطلاق النار تتألف من ثلاثة ممثلين لحكومة السودان وثلاثة لجبهة الشرق وممثل للحكومة الإريترية ما يجعله صوتاً مرجحاً، وهو في الوقت نفسه رئيس اللجنة(30).

 في حين مكن اتفاق أسمرة حلفاء الأخيرة من المشاركة المباشرة في هندسة السياسات المتعلقة بمنطقة شرق السودان، حيث نصت الاتفاقية على تمثيل جبهة الشرق في مستويات الحكم الولائي والمحلي وكافة المؤسسات بما فيها مؤسسة الرئاسة الجهاز التنفيذي والتشريعي والقضائي والأمن والقوات المسلحة.

تسبب اندلاع ثورة ديسمبر 2018 في السودان وما تلاها في خسارة كل من أسمرة وحلفائها الموقعين على اتفاقية الشرق لدورهم الحيوي في ملف الشرق، مع تبني مسارات جوبا كآلية لبناء توافقات على إدارة البلاد في الفترة الانتقالية وما بعدها، حيث أدى ذلك إلى تفجر صراع جديد في الإقليم حول هوية القوى الممثلة للمنطقة في هذه الترتيبات.

ولتجاوز هذا الواقع الجديد يبدو أن السياسة الإريترية عملت على مسارين متوازيين: الأول التحالف مع المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة برئاسة محمد الأمين ترك ناظر الهدندوة الرافض لمفاوضات جوبا بحجة أن من وقعوا عن مسار الشرق لا يمثلون الإقليم.

المسار الثاني تمثل في المبادرة الإريترية للوساطة لحل مشكلة شرق السودان التي رحبت بها القوى الحليفة لأسمرا كمبروك سليم زعيم "الأسود الحرة"(31)، توجت هذه الجهود الإريترية بدعوة زعماء أهليين وسياسيين إلى أسمرة لعقد مؤتمر يناقش القضايا المصيرية للشرق، وهو ما أجهضته السلطات السودانية(32).

ويهدف الجهد الإريتري الحثيث في هذا الإطار إلى استعادة نفوذ أسمرة كوسيط وراع لأي تفاهم، في حين يقوم حلفائها بتولي إدارة ملف الشرق من داخل دواليب المؤسسات الرسمية السودانية.

 د- مراقبة اللاجئين الإريتريين: لطالما مثل شرق السودان مثار قلق أمني لأسمرة بالنظر إلى عدد من العوامل أهمها تركز كتلة سكانية كبيرة من اللاجئين الإريتريين في معسكرات ومدن الشرق من جهة، ومن جهة أخرى وجود قبائل حدودية مشتركة كالحباب والبني عامر بامتداداتها في كلا البلدين من جهة أخرى.

تكتسي هذه المجموعات البشرية أهمية كبرى كونها تمثل المعادل الديمغرافي والتاريخي لمجموعة التغرينية التي تمثل الحاضنة الرئيسية لقادة النظام الإريتري، كما أن قطاعاً هاماً منها محسوب على قوى سياسية مناوئة تاريخياً للحزب الحاكم في إريتريا قبل وبعد التحرير، بالإضافة إلى أن موجات اللاجئين في السنوات الأخيرة ضمت الكثير من الشباب الذين تلقوا تدريبات عسكرية في إطار الخدمة الوطنية في إريتريا والذين اضطرتهم سياسات أسمرة إلى مغادرة البلاد.

 التجربة التاريخية أكدت أن شرق السودان كان القاعدة الخلفية الحاسمة في استمرار وانتصار الثورة الإريترية، وهو سيناريو لا يغيب عن صانعي القرار في أسمرة، ولذلك تقع هذه التجمعات تحت رقابة لصيقة من الأجهزة الأمنية الإريترية التي تمتلك شبكات أمنية قديمة الوجود في المنطقة(33)، بجانب ما يقدمه لها حلفاؤها المحليون من معلومات استخباراتية حول أي تحرك معارض وسط الإريتريين في شرق السودان(34).

وفي السياق ذاته عملت أسمرة مباشرة ومن خلال حلفائها على الحد من صعود أبناء قبائل البني عامر والحباب السودانيين سياسياً، بعد ثورة ديسمبر، إن كان لهم مواقف من سياساتها(35)، كما شهدت مرحلة ما بعد سقوط الإنقاذ موجة من الخطاب العنصري الحاد أدى إلى اشتباكات دامية استهدفت أبناء هذه القبائل في مدن مختلفة في الإقليم، ترافق هذا مع محاولة خلق زعامات جديدة لهذه المجموعات تربطها علاقات بإريتريا.

ه- إضعاف وتقييد أي نشاط معارض: في إطار ما وصفه أستاذ السياسة بجامعة ليدز البريطانية ليونيل كليف بـ"التدخل المتبادل"(36) كنمط تقليدي في سياسات دول القرن الإفريقي، احتضنت كل من أسمرة والخرطوم الفصائل المعارضة للأخرى إبان الصراع بينهما الذي بدأ منذ منتصف التسعينيات انتهاء بمنتصف العقد الأول من هذا القرن.

بلغ الدعم السوداني لفصائل المعارضة الإريترية العاملة على أراضيها ذروته بين عامي 2004 و2006(37)، وشكل اتفاق سلام الشرق نقطة انعطاف في هذه العلاقة حيث أسفر عن حل الخرطوم للجماعات المسلحة المناهضة لأسمرة والمتحالفة مع القوات المسلحة السودانية(38)، وحظرها نشاط قوى المعارضة السياسية الإريترية العاملة في السودان(39).

ساهم هذا الاتفاق في خلق بيئة أمنية آمنة على الحدود الغربية الإريترية المحاذية للسودان طيلة حكم الرئيس المعزول عمر البشير، وهو ما ستعمل القوى الحليفة لأسمرة في شرق السودان على استدامته حيث رفض محمد الأمين ترك زعيم المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة انطلاق أي عمل معارض للحكومة الإريترية من شرق السودان(40).

و- استدامة الحركة التجارية العابرة للحدود: خلال السنوات التي عانت فيها أسمرة من العقوبات الأممية والحصار كان السودان وشرقه بالتحديد الرئة التي تنفست من خلالها إريتريا بعد إغلاق الحدود و"الحرب الباردة" مع كل من إثيوبيا وجيبوتي.

نشطت في تلك الفترة التجارة الحدودية بين البلدين بشقيها الرسمي وغير الرسمي، حيث خلصت إحدى الدراسات إلى أن التجارة غير الرسمية "تشكل جزءاً كبيراً من التجارة عبر الحدود في شرق السودان، وبالنسبة للعديد من السلع، يتجاوز حجم التدفقات غير الرسمية التدفقات التجارية الرسمية إلى حد كبير"(41).

وبالاعتماد على التقارير الرسمية لمصلحة الجمارك وقوات مكافحة التهريب في ولاية كسلا، تقدر الدراسة المذكورة قيمة الصادرات الرسمية من السودان إلى إريتريا بـ150 مليون دولار في حين بلغت نظيرتها غير الرسمية 23.19 مليوناً عام 2014، أما الواردات غير الرسمية من إريتريا فقد ناهزت 70 مليون دولار مقابل أقل من مليون دولار للرسمية في نفس العام(42).

تنوعت السلع المهربة بين المواد الغذائية كالقمح والبصل والتمور والدقيق ومواد البناء والمنتجات النفطية والأجهزة الكهربائية.

ووفقاً لتقرير أممي ترتبط شبكات التهريب بنافذين إريتريين وسودانيين(43) في حين تشارك البعثات الدبلوماسية الإريترية في الخارج في تنسيق وتغطية هذه النشاطات(44).

الخاتمة

يتسم إقليم شرق السودان بأهمية بالغة بالنسبة لأسمرة وتزداد هذه الأهمية مع التحولات الجارية في المنطقة حيث إن عملية السلام الإثيوبية تضع الكثير من علامات الاستفهام حول مستقبل التحالف بين رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد والرئيس الإريتري أسياس أفورقي.

تزداد مخاوف أسمرة مع تزايد حدة العداء بينها وبين قوى نافذة في المجتمع الدولي على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي ترى في النظام الإريتري عاملاً مهدداً لأمن واستقرار الإقليم من جهة، ولنفوذها في المنطقة بعد التطور الكبير الذي شهدته العلاقات الإريترية بكل من روسيا والصين في الأعوام الأخيرة.

وفي هذا الإطار يبدو شرق السودان أحد المواقع المحتملة لانطلاق أعمال عدائية تستهدف أسمرة مستقبلاً، حيث شهد العام الماضي محاولة فاشلة من بعض أطراف المعارضة الإريترية المدعومة إقليمياً ودولياً لتنظيم عمل معارض مسلح لأسمرة، وهو ما قد يتكرر لاحقاً بدعم من أطراف مختلفة على رأسها التيغراي في حال بلوغ قطار السلام الإثيوبي محطته الأخيرة.

ولهذا تنشط أسمرة في محاولة إعادة ترتيب الأوراق في شرق السودان بما يضمن تحقيق أهدافها المذكورة وإعادة عقارب الساعة في ما يخص الإقليم إلى ما قبل لحظة ديسمبر 2018، في حين قد يؤدي الفشل في هذا المسعى إلى دعم أسمرة لتصعيد الأزمة في منطقة شرق السودان حيث يلوح بعض حلفائها بخيار الانفصال عن السودان(45).

ABOUT THE AUTHOR

References

1- UNHCR, Eritrean Refugees Overview in Sudan (as of 31 March 2021), Relief web, 18/04/2022, (Seen: 28/12/2022), https://cutt.us/52O6L

2- عبد القادر محمد علي، صراعات الساسة.. كيف رسمت مصيراً قاتماً للاجئين الإريتريين في إثيوبيا؟، صحيفة الاستقلال، 21/06/2020، (شوهد: 28/12/2022)، https://cutt.us/CrveT

3- Report of the Monitoring Group on Somalia and Eritrea pursuant to Security Council resolution 1916 (2010), 2011, Art,417.

4- African Development Bank Group, Eritrea Interim Country Strategy Paper (I-CSP) 2014-2016, September 2014, p. 18.

5- UNICEF, Eritrea: Annual Humanitarian Situation Report: January-December 2019, Relief web, 23/01/2020, (Seen: 28/12/2022), https://cutt.us/BrXcf

6- ቢቢሲ ትግርኛ, ኣብ ኤርትራ ሕጽረት ሃለኽትን ጥሜትን የጋጥም ምህላው ተፈሊጡ, 24 ሰነ 2020, https://cutt.us/UBWEC

7- انظر على سبيل المثال: عبد القادر محمد علي، القاعدة الروسية في السودان.. صراع القوى الكبرى وديناميات السياسة المحلية، مركز الجزيرة للدراسات، 15/07/2021، https://cutt.us/BQYR7

8- بالنظر إلى الطبيعة القبلية لمجتمع شرق السودان يبدو الفصل بين القوى السياسية والمجتمعية والعسكرية ودورها القبلي من الصعوبة بمكان، حيث يمثل شيخ خلاوي همشكوريب على سبيل المثال الزعيم الفعلي لقبيلة الجميلاب، والتصنيف الوارد هنا اتبعه الباحث بهدف التوضيح.

9- مثل هذا الحزب بقيادة موسى محمد أحمد واجهة سياسية لمجموعة البجا الناطقة بالبداويت.

10- يتكون هذا الحزب بشكل رئيسي من أبناء قبيلة الرشايدة ويرأسه مبروك سليم مبارك الذي سمى ابنه أسياس أفورقي تيمناً بالرئيس الإريتري. انظر: صباح أحمد، مبروك مبارك سليم.. من جبال تسني إلى ضاحية المنشية، الصحافة، 17/09/2010، (شوهد: 24/12/2022)، https://www.sudaress.com/alsahafa/13790

11- الجزيرة مباشر، اتهامات للإمارات بتأجيج دعوات انفصالية في شرق السودان، 26/09/2019، (شوهد: 24/12/2022)، https://cutt.us/TsXiM

12- موقع النيلين: همشكوريب.. حكاية قرية (تمسي وتصبح على كلام الله)، 13/12/2017، (شوهد: 24/12/2022)، https://cutt.us/CRRBE

13- أومال: نظام أفورقي يتبرع بمخبز لصناعة الكسرة والرغيف لخلاوى همشكوريب القرآنية، 24/10/2010، (شوهد: 27/12/2022)، https://cutt.us/uLRft

14- عبد القادر باكاش، سليمان علي بيتاي: البشير قال لي (يا انا يا أفورقي لازم يتقلع أحدنا من الحكم)، موقع النيلين، 16/11/2019، (شوهد: 24/12/2022)، https://cutt.us/xCkiV

15- https://cutt.us/KknRw

16- جمال همد، أشتم رائحة أمنية في زيارة مناوي لإريتريا، عدوليس، 22/12/2022، (شوهد: 27/12/2022)، https://cutt.us/hzcDy

17- MIE, The Eritrean Northern Red Sea Region And The Sudanese Red Sea Region Agree To Facilitate Implementation Of Previous Agreements, 01/08/2010, (Seen: 27/12/2022), https://cutt.us/zUP4t

18- MIE, President receives and holds talks with Administrator of Kassala region, 27/05/2013, (Seen: 27/12/2022), https://cutt.us/75bbD

19- سودارس، "أفورقي" يزور "كسلا" ويجتمع بالوالي، 28/11/2013، (شوهد: 27/12/2022)، https://cutt.us/B3I65

20- أمل هباني، أفورقي عيش سفاري …دبيي …خليك زغاوي، التغيير، 24/11/2013، (شوهد: 27/12/2022)، https://cutt.us/WqJry

21- عدوليس، استكمالاً للاتفاقيات الأولية مع شركة سقن: وزير التخطيط العمراني بكسلا يزور أسمرا، 16/10/2011، (شوهد: 27/12/2022)، https://cutt.us/bGISX

22- منال عبد الله، تهريب السلع الإستراتيجية.. جرائم على حدود (نعش) الاقتصاد، الصيحة، 20/07/2020، (شوهد: 29/12/2022)، https://www.assayha.net/39631/

23- ElTayeb Mohamadain, Hassan A. Abdel Ati, Informal Cross-Border Trade in Eastern Sudan. A Case Study from Kassala and Gedarif States, CHR. MICHELSEN INSTITUTE, 2015, p. 13.

24- مكالمة هاتفية مع جمال همد رئيس تحرير موقع عدوليس الإريتري المقيم في أستراليا، بتاريخ 29/12/2022.

25- John Young, The Eastern Front and the Struggle against Marginalization, The Small Arms Survey, 2007, p. 39.

26- حركة الإصلاح الإسلامي الإريتري، حركة الإصلاح الإسلامي الإريتري: تصريح صحفي حول اختطاف الأخ محمد علي سيدنا، 14/11/2017، (شوهد: 28/12/2022)، https://islaher.com/4332/

27- أغلق المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة الطريق القومي الحيوي الرابط بين بورتسودان والخرطوم خريف العام الماضي. انظر: سودان تريبون، إغلاق الطريق القومي بشرق السودان وعزل الخرطوم عن الموانئ، 17/09/2022، (شوهد: 28/12/2022)،  https://cutt.us/WjJ07

28- حافظ كبير، "الكتلة الديمقراطية" تختار الناظر ترك نائباً لرئيسها، ألترا سودان، 01/12/2022، (شوهد: 29/12/2022)، https://cutt.us/qTfAW

29- John Young, The Eastern Front and the Struggle against Marginalization, The Small Arms Survey, 2007, p. 37.

30- اتفاقية سلام شرق السودان، المادة 26، الفقرات من 94 إلى 97.

31- طه العيسوي، قيادي بشرق السودان لـ"عربي 21": مبادرة أرتيريا ستحل الأزمة، عربي 21، 24/05/2022، (شوهد: 25/12/2022)، https://cutt.us/6EJnL

32- الشرق، الخرطوم ترفض استضافة إريتريا مؤتمراً عن أزمة شرق السودان، 05/08/2022، (شوهد: 27/12/2022)، https://cutt.us/hgpe7

33- مقابلة مع ناشط حقوقي إريتري مقيم في السودان، يناير/كانون الثاني 2016.

34- سهام علي أحمد، طبيعة النزاع بشرق السودان دراسة حالة ولاية كسلا (1995-2006م)، رسالة ماجستير غير منشورة في جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، 2017، ص 27.

35- مكالمة هاتفية مع وجيه قبلي من شرق السودان بتاريخ 31/12/2022.

36- Lionel Cliffe, Regional Dimensions of Conflict in the Horn of Africa, Third World Quarterly, February 1999, Vol. 20, No. 1, p.89.

37- محمود عثمان إيلوس، السودان وملف المعارضة الإريترية، عدوليس، 04/07/2006، (شوهد: 25/12/2022)، https://cutt.us/wjLG8

38- John Young, The Eastern Front and the Struggle against Marginalization, The Small Arms Survey, 2007, p. 40.

39- Sudan Tribune, Sudan bans activities of Eritrean opposition, 01/06/2008, (Seen: 28/12/2022), https://cutt.us/SufbP

40- https://cutt.us/Zxrke

41- ElTayeb Mohamadain, Hassan A. Abdel Ati, Informal Cross-Border Trade in Eastern Sudan. A Case Study from Kassala and Gedarif States, CHR. MICHELSEN INSTITUTE, 2015, p. 13.

42- المصدر السابق، نفس الصفحة.

43- يذكر تقرير صادر عن فريق الرصد المعني بالصومال وإريتريا أسماء بعض المسؤولين كالجنرال تخلاي كفلي المسؤول عن المنطقة الغربية في إريتريا، ومبروك مبارك سليم الزعيم الرشيدي وقائد تنظيم الأسود الحرة. انظر:

Report of the Monitoring Group on Somalia and Eritrea pursuant to Security Council resolution 1916 (2010), 2011, Art,417.

44- المصدر السابق.

45- الطابية، الناظر ترك يهدد بالانفصال ويحذر من تجاوز مواطني الشرق، 21/12/2022، (شوهد: 28/12/2022)، https://cutt.us/Tm7kc