منذ عقود تشهد منطقة شرق الكونغو الديمقراطية حالة من الاضطراب المستمر نتيجة تحولها إلى بؤرة صراع بين مجموعة كبيرة من المجموعات المسلحة، التي يعمل بعضها وكلاء لدول الجوار المتنافسة، ويوصف هذا الصراع بأنه واحد من أكثر النزاعات دموية منذ الحرب العالمية الثانية؛ حيث يصل عدد الضحايا من القتلى وفق بعض التقديرات إلى قرابة 6 ملايين(1).
وتعد كل من كيفو الشمالية والجنوبية وإيتوري في المنطقة المذكورة بؤرة الصراع المتجدد عبر عقود، تختلط فيه الدوافع السياسية والعرقية العابرة للحدود نتيجة كون المقاطعات الثلاث تشكل جزءًا من حدود الكونغو الديمقراطية الشرقية مع كل من أوغندا في الشمال الشرقي ورواندا وبوروندي من الشرق وتنزانيا من الجنوب الشرقي.
الجولة الأخيرة من الصراع التي اندلعت شرارتها أواخر عام 2021 تنذر بتوسعه وجر المنطقة إلى حرب مفتوحة بين رواندا من جهة والكونغو مدعومة من أوغندا وبوروندي من جهة أخرى، بما يقوض الاستقرار الإقليمي في وسط وشرق إفريقيا.
أولًا: الديناميات الداخلية للصراع في الكونغو
يرتبط استمرار الصراع في شرق الكونغو الديمقراطية عبر عقود بمجموعة من الديناميات المتشابكة التي جعلت من الحرب أو استدامتها مصلحة مباشرة أو غير مباشرة لبعض أطراف الصراع، ولعل أهم هذه الديناميات يتمثل في التالي:
أ- الفشل في الإجابة عن سؤال الهوية
تتميز الكونغو الديمقراطية بتنوع كبير جدًّا في إثنيات أبنائها، ونتيجة عدد من العوامل التاريخية أدى الخلاف حول كونغولية بعض المجموعات، البانيا رواندا(2) والبانيا مولينغي(3) بالتحديد، إلى إحداث أولى التوترات العرقية التي أفضت إلى اندلاع سلسلة ممتدة من الصراعات المستمرة منذ عقود على مستويات مختلفة.
وعوضًا عن البحث الجاد للتوصل إلى حل جذري لهذه المعضلة فقد عمد بعض السياسيين إلى توظيفها لخلق توازنات تؤمِّن لهم السيطرة على المجتمع من جهة، وضمان استمراريتهم في سدة السلطة من جهة أخرى، كما يظهر في مجموعة من المراسيم أصدرها الرئيس الكونغولي الأسبق، موبوتو سيسي سيكو، عمَّقت الأزمة التي لا تزال الكونغو تعيش في ظلها حتى بعد غيابه عن السلطة منذ قرابة عقدين ونصف العقد من الزمان(4).
ب- فساد النخب السياسية
عملت السلطات السياسية المتعاقبة في كينشاسا على ترسيخ نمط من الزبائنية السياسية من خلال خلق اختراق مؤسسات الدولة بشبكات غير رسمية عملت على توظيف ثروات البلاد لتعظيم مكاسبها الخاصة.
وبينما يبدو أن مصلحة الدولة تقتضي العمل للاستفادة من الثروات الهائلة في شرق الكونغو من خلال الوصول إلى تسويات سياسية تنهي العنف وتمنح الحكومة السيطرة على عمليات التعدين وأرباحها، فإن سلوك النخب السياسية تجاه الصراع كان مزيجًا "من اللامبالاة والعجز والانتهازية"(5)، وفق توصيف الخبير في شؤون الكونغو، جيسون ستيرانز.
تعدى فساد النخبة السياسية هذا إلى عملها على حماية نفسها من الانقلابات العسكرية المحتملة من خلال رفع قيمة علاوات ومكافآت الضباط التقديرية المرتبطة بالمشاركة في العمليات العسكرية، وغض الطرف (أو المشاركة) عن الممارسات غير القانونية التي يقوم بها منسوبو المؤسسة العسكرية في شرق البلاد(6).
ج- فساد المؤسسة العسكرية
تخترق الجيش الكونغولي مجموعات من شبكات الولاء التي لا تقتصر على الأصول العرقية في بنائها، بل تتجاوزها إلى عوامل مرتبطة بالخدمة المشتركة في الحروب أو المصالح المادية القائمة على سلاسل من الفساد والمحسوبية، ارتبطت التعيينات والترقيات فيها بمعايير غير مهنية، وهو ما أدى إلى "تقليص القدرات القتالية للقوات المسلحة لجمهورية الكونغو الديمقراطية"(7).
مأسسة الفساد داخل القوات المسلحة شرعنت اختلاس الميزانيات والمعدات العسكرية ما أدى إلى "تقويض الفعالية العملياتية. غالبًا ما وجدت القوات نفسها في الخطوط الأمامية بدون طعام أو ذخيرة أو إمدادات طبية أو معدات اتصالات كافية"(8).
د- تحالف الجيش مع بعض الفصائل المتمردة
في بعض الحالات تحولت القوات المسلحة لجمهورية الكونغو الديمقراطية إلى مصدر دعم مهم لبعض الجماعات المتمردة؛ ما أنشأ روابط من المصالح المتبادلة أسهمت في استمرار دوامة العنف في البلاد.
في هذا السياق، حافظت حركة "ندوما للدفاع عن الكونغو (NDCRénové)" على علاقات تجارية مربحة مع قادة الجيش المحليين؛ حيث قايضتهم الذهب من مواقع التعدين التي تسيطر عليها بالذخيرة، وأتاح لها هذا التحالف الفرصة "لبناء اقتصاد واسع النطاق حول التكامل الأفقي لتعدين الذهب ونظام الضرائب من خلال التذاكر (jetons) عبر منطقة دائمة التوسع"(9).
هـ- التمرد بديلًا عن تطبيق اتفاقيات السلام
تم توقيع العديد من اتفاقيات السلام في الكونغو الديمقراطية، لكنها لم تؤسس لمراحل انتقالية تخرج البلاد من أزمتها، بل من الملاحظ أن التنافس بين أطراف "العملية السلمية" وعدم توافر الإيمان الحقيقي بها أفضيا، ضمن أسباب أخرى، إلى انشقاقات متتالية شكلت وقودًا لا ينضب لإعلان تمردات مسلحة جديدة.
على سبيل المثال، نصَّت اتفاقية بريتوريا التي أنهت حرب الكونغو الثانية (1998-2003)، على دمج المجموعات المسلحة داخل الجيش الرسمي للكونغو الديمقراطية وتحولها إلى أحزاب سياسية تمهيدًا للانتخابات المزمع إجراؤها بعد 3 سنوات.
ورغم أن هذه الاتفاقية ضمنت لقادة الحركات المتمردة السابقين مناصب عسكرية رفيعة فإن نتائج العملية الانتخابية لم تكن مرضية للعديد من الأطراف؛ حيث حولت "التجمع الكونغولي من أجل الديمقراطية" من السيطرة على "ثلث البلاد إلى امتلاك حوالي 4% من التمثيل في المؤسسات المنتخبة"(10).
هذا التحول في موازين القوى كان أحد العوامل الرئيسية وراء دفع بعض قادة التجمع إلى الانشقاق عن الجيش بحجة عدم وفاء الحكومة بالتزاماتها، منشئين المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب (CNDP)، عام 2006، وهو ما أدخل البلاد في تمرد استمر حتى 2009 عقب توقيع اتفاقية سلام مع كينشاسا.
لم تكن هذه حالة معزولة بل هي نمط من السلوك السياسي يمكن متابعته عبر السنوات، ففي سيناريو مشابه ظهرت حركة M 23، عام 2012، نتاجًا لفشل اتفاقية 2009، ورغم توقيعها اتفاقية مماثلة مع الحكومة الكونغولية، عام 2013، فإنها استأنفت التمرد من جديد عام 2021 بنفس الحجج السابقة.
و- القدرة على تمويل التمرد
خلال عقود، أسست الحركات المتمردة في شرق الكونغو ما يمكن وصفه بإقطاعيات سياسية تمكنت من تأسيس اقتصادات داعمة لاستمرارية أنشطتها(11).
تتعدد مصادر هذا الاقتصاد من السيطرة على الموارد المعدنية الضخمة إلى فرض الضرائب والإتاوات في المناطق التي تقع تحت سيطرة هذه الحركات(12)، كما أن ارتباطات بعض هذه الحركات بمصالح نخب سياسية واقتصادية في دول الجوار أو داخل الدولة الكونغولية وفرت لقادتها الحماية وحوَّلت استدامة نشاطها إلى نوع من الضرورة أحيانًا.
ز- غياب السرديات الكبرى والتطبيع مع العنف
في مجموعة من المقابلات مع أجيال مختلفة من المقاتلين في الكونغو، وصل البروفيسور المساعد في جامعة سيمون، فرايزر جوان ستيرانز، إلى استنتاج مثير للانتباه، يمكن تلخيصه في أن اللجوء إلى العنف تحول تدريجيًّا من أداة لتحقيق أهداف وطنية كبرى إلى وسيلة للوصول إلى الامتيازات المادية، "عندما قاتلنا في عام 1996، قاتلنا من أجل تحرير البلاد. الآن، يقاتلون من أجل كسب المال، ليظهروا للحكومة أنهم أقوياء حتى يتمكنوا من الحصول على منزل كبير ومنصب كبير في كينشاسا"(13)، هكذا يقول أحد المقاتلين القدامى.
ربط هذا التحول بالأثر المدمر للحروب المستمرة على المجتمعات الزراعية ووسائل عيشها ما أفقد الشباب القدرة على اللجوء إلى الزراعة(14)، يؤيد الاستنتاج أن اقتصاد الحرب خلق نوعًا من "التطبيع" مع العنف وحول الانضمام إلى التمرد إلى إحدى "المهن" القليلة المتوافرة لكسب الرزق.
ثانيًا: شرق الكونغو الديمقراطية ساحة التنافس الإقليمي
عوامل مختلفة أسهمت في تحويل شرق الكونغو الديمقراطية إلى ساحة مفتوحة للتنافس بين دول الجوار، كنتيجة للطبيعة المعقدة للصراعات المتطاولة في المنطقة، ويبدو هذا جليًّا عند النظر إلى التهم المتبادلة بين كل من رواندا والكونغو الديمقراطية وأوغندا وبوروندي بدعم المتمردين.
هذا الانغماس من دول الجوار في شرق الكونغو يمكن رده إلى مجموعة من العوامل، لعل أهمها:
أ- العامل الأمني
الموقع الجغرافي لشرق الكونغو المحاذي لرواندا وبوروندي وأوغندا والتداخل الإثني مع مجتمعات دول الجوار أسهم في تحويل المنطقة إلى ملجأ للعديد من موجات اللجوء الناتجة عن الاضطرابات السياسية والعرقية المستمرة، مشكلة تجمعات وفرت بدورها خزانًا بشريًّا للعديد من الميليشيات المسلحة المحلية أو الفارة من دول الجوار مستفيدة من ضعف السيطرة الأمنية لكينشاسا على المنطقة في بعض الحالات، أو من احتضانها من قبل نفس السلطات في إطار حروب الوكالة التقليدية في منطقة البحيرات العظمى.
وهكذا وفر لجوء فلول ميليشيات الهوتو المتهمة بارتكاب الإبادة الجماعية في رواندا إلى شرق الكونغو الديمقراطية (زائير حينها) المبرر لكيغالي لاجتياح الكونغو في حربي 1996-1997 و1998-2003(15)، وفي ظل اتهام رواندا لكينشاسا بتوفير المأوى لمقاتلي القوات الديمقراطية لتحرير رواندا (FDLR) تدعم كيغالي حركات متمردة كونغولية بهدف الضغط على الحكومة الكونغولية من جهة، وضرب ميليشيات الهوتو المعادية من جهة أخرى(16).
وفي ظل تشابه المعضلات الأمنية لدول الجوار الكونغولي، تبدو رواندا راغبة في "الحفاظ على مجال نفوذها وبنائه في جمهورية الكونغو الديمقراطية، تمامًا كما فعلت أوغندا وبوروندي أثناء محاربة الجهات الفاعلة غير الحكومية بموافقة"(17) كينشاسا، وهو ما لم ترحب به الأخيرة مدعومة بكمبالا وبوجمبورا ما يزيد التوتر بين العواصم الثلاث من جهة، وكيغالي من جهة أخرى.
ب- تحقيق مكاسب سياسية
ثمة وجه آخر للعامل السابق مرتبط بتوظيف الأوضاع المضطربة في شرق الكونغو الديمقراطية من قبل بعض الأنظمة المجاورة لتحصيل مكاسب سياسية سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.
في هذا الإطار، يمكن وضع الخطاب السياسي الرواندي المحذر من خطورة "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا (FDLR)"، باعتبارها وريثة لقوى متطرفي الهوتو التي قامت بتنفيذ مجازر 1994 الدامية بحق التوتسي، ضمن خطاب سياسي موجه لاستدامة شرعية "الجبهة الوطنية الرواندية" الحاكمة كقوة أنهت الإبادة الجماعية.
وفي سياق حمايتها للأمة من أشباح تكرار تلك الأحداث تبدو(FDLR) أداة مناسبة تستخدمها كيغالي مهدِّدًا خارجيًّا يبرر قمع المعارضة السياسية وفرض القيود على الحريات المدنية من قبل نظام الرئيس، بول كاغامي(18).
في حين يوظف الرئيس الأوغندي، يوري موسيفيني، هجمات "القوات الديمقراطية المتحالفة" في التبرير لانتهاكات حقوق الإنسان والإفلات من العقاب والحصول على الدعم المادي والمساعدات الأمنية والعسكرية من الشركاء الدوليين في إطار ما يُسمى بـ"الحرب على الإرهاب"، من خلال ربط "القوات الديمقراطية المتحالفة (AFD)" بالقاعدة وحركة الشباب الصومالية أولًا، والذي قوَّاه مبايعة أحد فصائلها لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)(19).
ج- العامل الاقتصادي
تعد منطقة شرق الكونغو الديمقراطية موطنًا لمجموعة متنوعة من الموارد الطبيعية بما في ذلك الذهب والماس والنفط وغيرها من المعادن الثمينة. وتستفيد هذه المجموعة من الفراغ الأمني في المنطقة المذكورة وتنخرط كل من أوغندا وبوروندي ورواندا في الاستفادة من الثروات الطبيعية في المنطقة بشكل مباشر، أو عبر وكلائها من الميليشيات المسلحة، وهذا ما يفسر وصف الرئيس، بول كاغامي، للصراع في الكونغو بأنه "حرب ذاتية التمويل"(20).
وتذكر ورقة صادرة عن "مركز إفريقيا للدراسات الإستراتيجية" صيف العام الماضي أن المتمردين المدعومين من رواندا وأوغندا يسيطرون على سلاسل إمداد إستراتيجية تمتد من المناجم في كيفو الشمالية والجنوبية إلى البلدين، مسخرين عائدات تهريب الذهب والماس والكولتان لشراء الأسلحة وتجنيد عمال المناجم والحرفيين ورشوة موظفي الجمارك والحدود الكونغوليين(21).
ووفقًا لنفس الورقة، فإن إنكار رواندا وأوغندا وبوروندي نهب ثروات الكونغو تنفيه بعض الأدلة، ممثلة لذلك بمعدن الكولتان الثمين الذي تحتل الكونغو المرتبة الأولى عالميًّا بإنتاجه، لكن المفارقة أن الدول الثلاث تحتل المراتب "الثالثة والتاسعة والحادية عشرة على التوالي، على الرغم من أن لديها فقط رواسب معروفة محدودة"(22).
بالنظر إلى ما سبق، يبدو ضعف الدولة الكونغولية وعجزها عن السيطرة على مواردها مصلحة مشتركة لجيرانها، ولكنه في المقابل يزيد حمى التنافس فيما بينها مهددًا بتصعيد حروب الوكالة بين أذرعها المسلحة في المنطقة.
د- التنافس الجيوسياسي
تشهد منطقة البحيرات العظمى تنافسًا حادًّا لعل أبرز أقطابه رواندا وأوغندا، والذي أوصل البلدين إلى حافة الحرب عام 2019(23).
ورغم أن الرغبة في الاستفادة من الموارد الاقتصادية للكونغو الديمقراطية تلعب دورًا حيويًّا في تصعيد التنافس بينهما، فإن سعي كل منهما لإثبات تفوقه الإقليمي عامل آخر لا يقل أهمية في رسم سياستهما المتعلقة بأدوارهما في الجار العملاق المنهك.
ويرتبط بدء الخلاف بين كمبالا وكيغالي بمجريات حربي الكونغو الأولى (1996-1997)، والثانية (1998-2003)، حيث أثار بروز الدور الرواندي في إسقاط موبوتو سيسي سيكو وما تلاه من ترتيبات لتقاسم السلطة قلق أوغندا(24)، ولاسيما أنه قُرئ كمحاولة من النخبة الرواندية لا للخروج من عباءة أوغندا فقط بل لمنافستها أيضًا.
في المقابل، عملت كمبالا على الانخراط بشكل أعمق في تشكيل جبهة موالية من الميليشيات المشاركة في الحرب الكونغولية الثانية بما فيها بعض حلفاء رواندا، وهو ما أدى إلى توتر العلاقات مع كيغالي ومهّد للصدام بين قوات البلدين والميليشيات الموالية لكل منهما في بلدة كسينغاني شرقي الكونغو في ثلاث جولات من المعارك عامي 1999 و2000، والتي شكَّلت انعطافة نهائية في مسار البلدين نحو التنافس حتى اليوم(25).
وقد اتخذ التنافس بين البلدين شكل حروب الوكالة على الأراضي الكونغولية؛ حيث تتبادل كمبالا وكيغالي الاتهامات بدعم كل منهما ميليشيات مناهضة للأخرى(26).
ورغم الهدوء النسبي الذي عاشته المنطقة مؤخرًا فقد أشعلت اتفاقيات كينشاسا الأمنية مع كل من كمبالا وبوجمبورا التي وفرت لهما الغطاء القانوني للتدخل العسكري داخل الأراضي الكونغولية لملاحقة معارضيها، مخاوف رواندا التي تخشى من تأثيرات هذه الخطوات على نفوذها داخل الكونغو وتداعيات ذلك على أمنها القومي(27)، وهو ما أفضى في رأي البعض إلى استئناف حركة M23 نشاطها أواخر 2021(28) الذي لا تزال تبعاته تهدد منطقة البحيرات باندلاع حرب إقليمية.
ثالثًا: أهم الفاعلين المسلحين في شرق الكونغو الديمقراطية
تنطوي الأزمة في شرق الكونغو الديمقراطية على تعقيد عميق ناتج عن مجموعة من الدوافع المختلفة للنزاع والعنف التي تحدث على مستويات مختلفة تتدرج من المحلي إلى الإقليمي(29).
أدى هذا الواقع إلى أن تموج مقاطعات كيفو الشمالية والجنوبية وإيتوري بالكثير من الفصائل المسلحة يزيد عددها وفق تقديرات أممية على 100(30)، وهي نتاج مجموعة من الآليات المرتبطة بالنزعات نحو عرقنة الخلافات والميل إلى القوة لحل الخلافات من جميع الأطراف بما فيها الدولة، والمعضلات الأمنية نتيجة غياب الثقة بين المجتمعات المحلية ما يدفع إلى تشكيل مجموعات مسلحة تدافع عن عرقيات معينة وهو ما يستدعي الأمر نفسه من الأطراف المقابلة(31).
بجانب هذا، يمثل العنف المستمر في المنطقة وجهًا آخر للتدخل الأجنبي الداعم لهذا الطرف أو ذاك؛ ما حول المنطقة إلى ساحة لحروب الوكالة تُصفَّى فيها الحسابات الإقليمية.
وأهم القوى المسلحة الناشطة في شرق الكونغو الديمقراطية هي:
أ- حركة 23 مارس (M23)
تأسست عام 2012 من مقاتلين سابقين في الجيش الكونغولي كانوا أصلًا مقاتلين في حركة متمردة من البارامولينغي(32). في بدء تأسيسها دعمتها كل من رواندا وأوغندا وبعد هزيمتها عام 2013 وقَّعت اتفاق سلام مع كينشاسا ففرَّ جزء من قواتها إلى رواندا وأوغندا ثم عاد الفصيلان إلى شرق الكونغو الديمقراطية لاحقًا حيث اتهم كل منهما الآخر بأنه أصبح تابعًا لكمبالا أو كيغالي(33). استأنفت مجموعات منها القتال من جديد، عام 2021، متهمة الحكومة بعدم الوفاء بتعهداتها. وذكر تقرير لخبراء الأمم المتحدة، صيف العام الماضي، أن ثمة أدلة قوية على دعم رواندي لعمليات هذا الجناح، وهو ما تنفيه كيغالي(34).
ب- الائتلاف الوطني للشعب من أجل سيادة الكونغو (CNPSC)
كيان تأسس عام 2017 من مجموعات من حركات ماي ماي التي تشكلت تسعينات القرن الماضي في رد فعل على ما اعتبرته غزوًا روانديًّا للكونغو داعمًا لميليشيات بانيامولينغ في حرب الكونغو الأولى (1996-1997)، وتستند هذه المجموعات إلى تراث طويل من التمرد لشعب بيمبي بجنوب كيفو، ويخوض الائتلاف معارك مع الجيش الكونغولي وميليشيات البانيامولينغ على حد سواء(35).
ج- القوات الديمقراطية لتحرير رواندا (FDLR)
وهي ميليشيا مسلحة رواندية معارضة من الهوتو، تورط زعماؤها في مذابح 1994 بحق التوتسي، وبعد هزيمتهم من قبل الرئيس، بول كاغامي، أعادوا تجميع صفوفهم في منطقة شمال كيفو عام 1998، متحالفة مع الرئيس الكونغولي الأسبق، لوران كابيلا، الذي حاول من خلالها تقليص نفوذ كيغالي شرقي البلاد(36). وبينما تتهم رواندا كينشاسا بمساندة هذه القوات(37)، فإنها تشتبه أيضًا بأن كلًّا من أوغندا وبوروندي تدعمان (FDLR)(38).
د- مؤتمر رواندا الوطني (RNC)): ميليشيا مسلحة مركزها في جنوبي كيفو، قادتها من التوتسي المنشقين عن كاغامي، حيث تحالفوا مع ميليشيات بانيامولينغي من التوتسي الكونغولية المعادية للجيش الكونغولي ورواندا(39). واتهمت كيغالي كلًّا من كامبالا وبوجمبورا بدعم هذه الحركة(40).
هـ - القوات الديمقراطية المتحالفة (AFD)
تحالف ميليشيات أوغندية معارض للرئيس، يوري موسيفيني، بدأ عمله المسلح في غرب البلاد مطلع تسعينات القرن الماضي، وما لبث أن احتضنه نظام موبوتو سيسي سيكو في إطار حروب الوكالة مع كمبالا؛ حيث لا يزال نشطًا في منطقة بيني بشرق الكونغو الديمقراطية، ولاحقًا صنفت كينشاسا (AFD) تنظيمًا إرهابيًّا، لتخوض الأخيرة معارك مستمرة مع الجيش الكونغولي أيضًا. عام 2018، بايع أكبر مكونات هذا التحالف تنظيم الدولة ليتسمى بـ"ولاية وسط إفريقيا"(41).
و- حركة المقاومة من أجل سيادة القانون في بوروندي (RED-Tabara)
ميليشيا قوامها من التوتسي البورونديين المتمردين على الهوتو المسيطرين على الحكم في بوجمبورا، تتركز قواعدها في منطقة في جنوبي كيفو المحاذية لرواندا وبوروندي؛ حيث تصنف الأخيرة الحركة منظمة إرهابية متهمة كيغالي بدعمها وهو ما تنفيه الأخيرة، في حين تثير العمليات التي يجريها الجيش والميليشيات البوروندية داخل العمق الكونغولي قلق كيغالي(42).
خاتمة
نتيجة للطبيعة المركبة للصراع في الكونغو الديمقراطية ينطوي التوتر المستمر على مجموعة من التداعيات الكارثية على العديد من المستويات. فاستمرار هذا الصراع ينذر بالمزيد من الكوارث الإنسانية؛ حيث تشير أرقام الأمم المتحدة إلى نزوح مئات الآلاف من السكان نتيجة القتال الذي تصاعدت وتيرته مؤخرًا(43)، ينضم هؤلاء إلى 5.4 ملايين نازح داخليًّا و853000 لاجئ وطالب لجوء كونغولي في الدول المجاورة(44).
إقليميًّا، دقت التطورات التي شهدتها شرق الكونغو منذ أواخر عام 2021، جرس الإنذار من أن يؤدي التوتر المتصاعد بين أطراف الأزمة محليًّا وإقليميًّا إلى دخولها في حروب مباشرة ولاسيما بين الكونغو ورواندا، في منطقة ذات تراث طويل من هذا النوع من الصراعات.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن الصراع يفتح الباب لتدخلات أطراف من خارج المنطقة؛ حيث تبدو في الأفق محاولة روسيا لاستنساخ تجربة مالي في توفير الدعم العسكري والأمني مقابل امتيازات اقتصادية وجيوسياسية(45)، وهو ما يهدد بتحول المنطقة إلى ساحة صراع بين القوى الدولية المتصارعة ولاسيما في مرحلة ما بعد الحرب الأوكرانية.
كما أن استمرار الصراع ينذر بتعميق التحديات الأمنية المرتبطة بتوفير بيئة مناسبة لنشاط الجماعات الإرهابية لا بالنظر إلى وجود ولاية وسط إفريقيا التابعة لتنظيم الدولة في شرق الكونغو فقط، بل أيضًا بالنظر إلى الأوضاع في منطقة كابو ديلجاو في موزمبيق ونشاط حركة الشباب في الصومال.
تواجه الوساطة التي يقوم بها الرئيس الكيني، أوهورو كينياتا، الكثير من التحديات للوصول إلى تسوية سياسية تفضي إلى سلام مستدام، ولعل من أهمها ارتباط التوتر الحالي بالمكاسب السياسية للعديد من الأطراف بما فيها حكومة الرئيس الكونغولي، فيليكس تشيسكيدي(46).
بجانب هذا، يبدو أن من المتعذر معالجة المسألة العرقية التي مثلت أحد أهم أوجه هذا الصراع إلا ضمن حل شامل للأزمة السياسية في البلاد ينطوي على إعادة بناء الدولة الكونغولية وتحديد معايير جديدة للمواطنة.
1- Mugerwa, Cranimer, Review of Congo war halves death toll, NBC News, 20 January 2010, (Seen: 27 January 2023), https://cutt.us/KNac5
2- تعني التسمية "أولئك الذين من رواندا" وهم يتحدثون الكينيارواندية، وهي اللغة الرئيسية في رواندا، ويتركزون في رواندا وبوروندي ولهم امتدادات في الكونغو الديمقراطية وأوغندا.
3- في ظل تصاعد التوتر العرقي تحت حكم موبوتو رفض التوتسي الكونغوليون بانيارواندا واختاروا هوية البانيامولينغ، في المقابل اختار نظراؤهم من الهوتو هوية بانيابويشا، والهويتان المختارتان تُنسبان إلى مجموعتين من سكان الكونغو الأصليين. انظر:
Cloete, Jacob, How conflicts intertwined over time and destabilised the DRC – and the region, The Conversation, 27 July 2022, (Accessed: 29 January 2023), https://cutt.us/XKMvF
4- حسن، حمدي، صراع البحيرات العظمى.. صناعة محلية وخبرة أجنبية، الجزيرة، 3 أكتوبر/تشرين الأول 2004، (تاريخ الدخول: 28 يناير/كانون الثاني 2023)، https://cutt.us/4aPFq
5- Sterans, Jason, The War That Doesn’t Say Its Name The Unending Conflict In The Congo, Princeton University Press, 2021, p. 74.
9-Schouten, Peer, Violence and Fragmentation in Congo’s Political Marketplace, LSE, 2021, p.32.
10- Sterans, Jason, The War That Doesn’t Say Its Name, p.47.
11- ACCORD, Rebellion and Conflict Minerals in North Kivu, 24 April 2017, (Accessed: 1 February 2023), https://cutt.us/47OyQ
13-Sterans, Jason, The War That Doesn’t Say Its Name, p.80
15- Beloff, Jonathan, Rwanda and DRC’s turbulent past continues to fuel their torrid relationship, The Conversation, 9 August 2022, (Accessed: 30 January 2023), https://cutt.us/3iPrP
16- Reuters, Fighting picks up between M23 and Congolese army in eastern Congo, 11 November 2022, (Accessed: 30 January 2023), https://cutt.us/QC0W4
17- CSIS, Addressing Rising Tension between the DRC and Rwanda, 10 June 2022, (Accessed: 30 January 2023), https://cutt.us/sLhlo
18- Amnesty, Rwanda: Decades of attacks repression and killings set the scene for next month’s election, 7 July 2017, (Accessed: 30 January 2023), https://cutt.us/GUlWe
19- Titeca, Karistof & Mwine-Mugaju, Eric, The cynical realpolitik of the War on Terror: Uganda 2021 edition, African Arguments, 29 November 2021, (Accessed: 30 January 2023), https://cutt.us/SqcqG
20 - Reliefweb, Report of the Panel of Experts on the Illegal Exploitation of Natural Resources and Other Forms of Wealth of DR Congo, 12 April 2001, (Addessed: 30 January 2023), https://cutt.us/V72NG
21- ACSS, Rwanda and the DRC at Risk of War as New M23 Rebellion Emerges: An Explainer, 29 June 2022, (Accessed: 30 January 2023), https://cutt.us/DxsYV
23- African news, Uganda, Rwanda presidents agree ceasefire after Angola, Congo mediation, 22 August 2019, (Accessed: 30 January 2023), https://cutt.us/15Dxz
24- Nantulya, Paol, Escalating Tensions between Uganda and Rwanda Raise Fear of War, ACSS, 3 July 2019, (Accessed: 30 January 2023), https://cutt.us/WykjS
26- ICG, Averting Proxy Wars in the Eastern DR Congo and Great Lakes, p.s.
27- ICG, Easing the Turmoil in the Eastern DR Congo and Great Lakes, 25 May 2022, (Accessed:30 January 2023), https://cutt.us/vO6wf
28- ACSS, Rwanda and the DRC at Risk of War as New M23 Rebellion Emerges, ps.
29- Verweijen, Judith, Why Violence in the South Kivu Highlands Is Not ‘Ethnic’ (And Other Misconceptions About the Crisis), Kivu Security Tracker, 31 August 2020, (Accessed: 29 January 2023), https://cutt.us/OvZ1y
30- U.S. Department of State, Country Reports on Terrorism 2019: Democratic Republic of the Congo, (Accessed: 29 January 2023), https://cutt.us/CaGm5
33- ICG, Averting Proxy Wars in the Eastern DR Congo and Great Lakes, 23 January 2020, (Accessed: 29 January 2023), https://cutt.us/BsJ2h
34- Aljazeera, DR Congo expels Rwandan ambassador as M23 rebels seize towns, 30 October 2022, (Accessed: 29 January 2023), https://cutt.us/RIIli
35- للمزيد حول المجموعة، انظر:
37- آر تي أونلاين: تصعيد جديد للتوتر.. اتهامات متبادلة بين رواندا والكونغو بدعم المتمردين، 4 يوليو/تموز 2022، (تاريخ الدخول: 29 يناير/كانون الثاني 2023)، https://cutt.us/S2le3
38- ICG, Averting Proxy Wars in the Eastern DR Congo and Great Lakes, 23 January 2020, (Accessed: 29 January 2023), https://cutt.us/BsJ2h
40- Uwiringiyimana, Clement, Rwanda accuses Uganda of supporting rebels, Reuters, 2 October 2019, (Accessed: 29 January 2023), https://cutt.us/eX4Rv
Congo Research Group, Inside the ADF Rebellion A Glimpse into the Life and Operations of a Secretive Jihadi Armed Group, November 2018.
42- ICG, Averting Proxy Wars in the Eastern DR Congo and Great Lakes, p.s.
43- OCHA, Democratic Republic of the Congo: Humanitarian Situation in Rutshuru, Nyiragongo and Lubero Territories - Situation Report #14 (19 January 2023), 20 January 2023, (Acceded: 1 February 2023), https://cutt.us/SvmB9
44- UNHCR, DRC situation, (Accessed: 1 February 2023), https://cutt.us/1oMFs
45- Parens, Raphael, Conflict in Eastern Congo: A Spark Away from a Regional Conflagration, Foriegien Policy Research Institute, 8 September 2022, (Accessed: 1 February 2023), https://cutt.us/4CUAT
46- ICG, A Dangerous Escalation in the Great Lakes, 27 January 2023, (Accessed: 1 February 2023), https://cutt.us/cnHfv