ضرب زلزال بقوة 7.8 درجات على مقياس ريختر جنوبي تركيا وشمال غربي سوريا، فجر يوم الاثنين 6 فبراير/شباط 2023. كان مركز الزالزال قريبًا من مدينة كهرمان مرعش التركية، ولكن محوره امتد إلى 400 كيلومتر على طول ما يعرف بالصدع الأناضولي الجنوبي. أوقع الزلزال خسائر فادحة، وإن متفاوتة، في عشر ولايات تركية، من أضنة وهاتاي إلى ديار بكر وملاطية، وفي عدة مدن وبلدات من محافظتي حلب وإدلب. ما ضاعف من وقع الكارثة، أن المنطقة المنكوبة ضُربت بزلزال ثان، بعد عشر ساعات من الأول، وبقوة لم تقل عن 7.6 درجات على مقياس ريختر، تسبب في انهيار الآلاف من المباني التي لم تكن قد انهارت في الزلزال الأول.
طبقًا لوكالة الكوارث والطوارئ التركية (أفاد)، شهدت المنطقة المنكوبة ما لا يقل عن 3800 رجة زلزالية خلال الأيام العشرة التالية على الزلزالين الكبيرين الأولين. وبالرغم من أن هذه الرجات لم تكن بقوة زلزالي السادس من فبراير/شباط، إلا أنها فاقمت من أثار الكارثة وتسببت في تعطيل عمليات الإنقاذ والإغاثة في بعض الأحيان، ونشرت الذعر والخوف بين الناجين، دافعة الكثير منهم إلى مغادرة مدنهم وبلداتهم واللجوء إلى مناطق أخرى آمنة.
قورن الزلزال في أيامه الأولى بزلزال الولايات المتحدة في 1906، ولكن تكشف حجم الكارثة تدريجيًّا دفع علماء زلازل إلى القول بأنه أحد أكبر الكوارث الطبيعية التي شهدتها الأرض في أكثر من مئة عام. أما وكالة (أفاد) التركية فقد أكدت أن زلزال كهرمان مرعش، كما بات يُعرف، هو الأكبر حجمًا والأكثر وقعًا طوال ألفي عام من تاريخ الأناضول.
خلال الأيام الأولى على وقوع الزلزال، ساد في تركيا مناخ من التضامن الوطني، الذي لم تعرفه البلاد منذ عقود. وفيما عدا استثناءات قليلة، تراجعت اللغة السياسية وجدل المسؤولية عما حدث لصالح تعزيز عمليات الإنقاذ ومد يد العون للناجين. ولكن، وكما كل الكوارث الكبرى، كان لابد لزلزال كهرمان مرعش في النهاية من أن يثير أسئلة عديدة حول الأسباب التي أدت إلى حجم الخسائر الهائلة في الأرواح والمباني، وحول العواقب السياسية للكارثة، داخليًّا ودوليًّا.
عواقب الزلزال الأولية
تعتبر منطقة الزلزال واحدة من مناطق الكثافة السكانية في الأناضول منذ دخلها المسلمون العرب في موجة الفتح الإسلامي الأولى. وطبقًا لتقديرات الدولة التركية، أثَّر الزلزال على ما يزيد عن 13.5 مليون مواطن في الجانب التركي بصورة مباشرة، وما يقارب ستة ملايين آخرين بصورة غير مباشرة. أما في الجانب السوري، فتقول مصادر المعارضة إن تعداد السكان الذين تأثروا بالزلزال، وأغلبهم من النازحين من مناطق سورية أخرى، لا يقل عن خمسة ملايين.
مع أواخر اليوم العاشر، أعلنت السلطات التركية نهاية عملية البحث والإنقاذ في خمس من ولايات حزام الزلزال، وكانت معظم جهود البحث والإنقاذ قد انتهت في الجانب السوري في اليوم السابق. بذلك، وصل عدد قتلى الزلزال في الجانب التركي إلى 38 ألفًا، وفي الجانب السوري خمسة آلاف، إضافة إلى عشرات آلاف الجرحى في الجانبين. وبالنظر إلى مدى تقدم عمليات البحث والإنقاذ، فمن المتوقع أن يفوق عدد قتلى الزلزال في الجانب التركي الأربعين ألفًا، وربما يزيد عن الستة آلاف في الجانب السوري.
ولكن الأثر الديمغرافي للزلزال لم يقتصر على القتلى والجرحى، فمثل كافة الكوارث الأخرى، يعتقد أن أكثر من مليون مواطن قد غادروا الولايات المنكوبة إلى مناطق أخرى في شمال وغربي تركيا، خوفًا من الارتدادات اللاحقة أو بحثًا عن مسكن لائق. حركة النزوح هذه ستترك أثرًا ملموسًا على طاقة الأيدي العاملة في الولايات العشر، لاسيما أن من غير الواضح ما إن كان نازحو اليوم سيعودون إلى بلداتهم وقراهم في المستقبل.
أوقع الزلزال الدمار فيما يصل إلى ألف من الوحدات السكنية في شمالي سوريا، بينما تضررت بدرجات مباشرة عدة آلاف وحدات أخرى. أما في الجانب التركي، فقد كان حجم الكارثة هائلًا، وتكاد أرقام الوحدات المدمرة أو التي لابد من هدمها تزداد يوميًّا، بفعل استمرار مهندسي (أفاد) في عملية الكشف عن المباني في ولايات الزلزال العشر.
لم تُرسم بعد صورة كاملة للآثار البشرية والهندسية للزلزال، لذلك فإن تقديرات تكلفة الكارثة، بما في ذلك أثرها على الدخل القومي ومتطلبات إعادة البناء وخسارة الأيدي العاملة، لم تعرف بصورة قاطعة بعد. ثمة تقديرات بأن مجمل التكلفة قد يفوق 80 مليارًا من الدولارات، ولكن الأرجح أن هذا الرقم ليس سوى نتيجة حسابات أولية. المؤكد، أن الزلزال سيؤدي إلى تراجع بمقدار 1–2 بالمئة من الناتج القومي لهذا العام. أما غير ذلك، فلابد من الانتظار قبل حساب التكاليف.
بالنظر إلى قوة الزلزال وحجم المنطقة التي أصابها، وإلى أن توقعات الزلزال القادم في تركيا كانت تدور حول حوضي مرمرة وإيجة، فالواضح أن الاستجابة الرسمية في اليوم الأول من الحدث، وربما حتى اليوم الثالث في بعض المناطق، شابها الارتباك. وقع عدد من عناصر (أفاد) المقيمين في المنطقة ضحية للزلزال، ولم تكن المعدات التي تحتفظ بها في الولايات العشر كافية للتعامل مع الدمار الهائل الذي أوقعه الزلزال. ولكن، ومنذ اليوم الثاني أو الثالث، كانت الدولة التركية قد نشرت عشرات الآلاف من منتسبيها، أو من المتطوعين، في كافة الولايات المصابة، وبدأت واحدة من أضخم عمليات البحث والإنقاذ والإغاثة التي شهدها العالم منذ عقود.
عشرات من الدول، وفي مقدمتها أذربيجان والجزائر، أرسلت مجموعات بحث وإنقاذ ومساندة، وعشرات من الدول العربية والإسلامية والغربية، وفي مقدمتها قطر والسعودية والإمارات والكويت، أرسلت عشرات الطائرات المحملة بالمعدات والمواد الإغاثية. كما جُمعت عدة مئات من ملايين الدولارات في حملات تبرع شعبية، نُظِّمت في دول الخليج العربية، بل وحتى في فلسطين وأفغانستان. وبالرغم من تواضع الدعم الذي قدمته الدول الغربية، دعت رئيسة المفوضية الأوروبية إلى عقد مؤتمر للمانحين لضحايا الزلزال في تركيا وسوريا، يعقد في منتصف مارس/آذار المقبل.
ولكن حالة التضامن التي أظهرها الشعب التركي، بكافة فئاته، مع ضحايا الزلزال، والمستمرة بوتيرة عالية، لم تعرفها تركيا منذ حرب الاستقلال. عشرات الآلاف من كافة التخصصات توجهوا إلى مناطق الزلزال للمساعدة في عمليات البحث والإنقاذ، ومئات من المهنيين ورجال الأعمال، من أبناء المناطق المنكوبة، المقيمين في إسطنبول وأنقرة، تحركوا بمبادرات فردية إلى مساعدة أهلهم وأقاربهم بكافة الوسائل والطرق الممكنة.
الجدل السياسي الداخلي
كان واضحًا في الأيام الأولى من الزلزال أن الشعب التركي لم يكن يرغب في تسييس الحدث. كما كان لافتًا أن السيدة ميرال أكشنر، رئيسة الحزب الجيد، سارعت إلى التصريح بأن هذا يوم يجب ألا يُسمع فيه إلا صوت الدولة، وعلى كل الأصوات الأخرى أن تصمت. ولكن كمال كاليتشدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، سارع، على خلفية من الزلزال، إلى فتح معركة سياسية مع الرئيس أردوغان. وصف كاليتشدار أوغلو أردوغان بالمسؤول عن الخسائر الفادحة، وأن حكوماته المتعاقبة طوال العشرين عامًا الماضية لم تعمل على إعداد البلاد لزلزال كبير.
لم تجد تصريحات كاليتشدار أوغلو صدى ملموسًا لدى أغلب قطاعات الرأي العام؛ ولكن استعداده لتفجير معركة سياسية لم يلبث أن أظهر عمق الانقسام الثقافي والسياسي في تركيا الحديثة. عشرات الأصوات التركية، من أكاديميين وإعلاميين ونشطين سياسييين، ارتفعت لمساندة كاليتشدار أوغلو وتوجيه أصابع الاتهام إلى الرئيس التركي وحزبه. وبين وقت وآخر، كشفت المعركة السياسية عن جانب أكثر قتامة، عندما عمل نشطون معارضون على نشر شائعات كاذبة حول آثار الزلزال، بهدف إحراج الحكومة، بدون الاكتراث بعواقب مثل هذه الشائعات على عمليات البحث والإنقاذ، أو على ضحايا الزلزال. كما أظهرت أصوات علمانية معارِضة شماتة لا تخفى في تعرُّض مناطق يُعرف أهلها بتوجههم الإسلامي لكارثة الزلزال؛ ودعت أخرى إلى مطاردة وقتل اللاجئين السوريين والأفغان، متهمين إياهم، كذبًا، بارتكاب جرائم سلب ونهب للمساكن المتضررة.
كمال كاليتشدار أوغلو هو صاحب الحظ الأقوى في أن يصبح مرشح تحالف الأحزاب الستة المعارضة لخوض انتخابات الرئاسة في مواجهة أردوغان. ويعتقد أن توجهه إلى تسييس الزلزال ليس المقصود به أردوغان على وجه الخصوص، بل محاول إقناع شركائه في تحالف الستة المعارضين لترشحه، مثل ميرال أكشنر، أو المترددين في دعم هذا الترشح، مثل أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان. أظهر كاليتشدار أوغلو خلال الشهرين الماضيين تصميمًا على الترشح للرئاسة، بينما يسود شعور في تحالف الستة أنه يفتقد المؤهلات الكافية لمنافسة أردوغان. ولذا، يبدو أن كاليتشدار أغلو وجد في تبني خطاب سياسي حاد، في خضم كارثة قومية، وسيلة ناجعة لتوكيد قدرته على مواجهة أردوغان في الحملة الانتخابية الرئاسية.
تمحور الجانب الثاني للجدل السياسي حول البنايات المنهارة، التي بُنيت بعد نفاذ قانون الإنشاءات الخاص بمقاومة الزلازل في 2000. انهيار هذه البنايات يعني بوضوح أن الرقابة على الإنشاءات لم تكن صارمة خلال العقدين الماضيين، وأن الفساد شاب إقرار هذه البنايات وترخيص صلاحيتها للسكن. ولأن العدالة والتنمية يحكم تركيا منذ أواخر 2002، تقول المعارضة، فالمسؤولية عن ترخيص هذه البنايات تقع على عاتق حكومات أردوغان المتعاقبة.
الحقيقة بالطبع أن ثمة تقصيرًا يتعلق بإنشاء هذه البنايات وترخيصها، ولكن المعروف أن البلديات، وليس الحكومة، هي الجهة المسؤولة عن البناء والإنشاء في تركيا. والمؤكد، أن الأيام الأولى من الزلزال شهدت مبالغات مقصودة في تقدير عدد بنايات ما بعد الـ 2000 المنهارة، وأن نسبة هذا الصنف من البنايات إلى مجموع البنايات التي سقطت لا يزيد عن اثنين إلى خمسة بالمئة. ولإدراك وزارة العدل لشبهات التقصير والفساد التي شابت ترخيص هذه البنايات، فقد سارعت إلى إصدار أوامر قبض وتحقيق مع عشرات المقاولين الذين تعهدوا إنشاء البنايات الحديثة المنهارة في ولايات الزلزال العشر.
كما لحق الجدل بصحة البناء ومدى تطبيق القانون وما شاع حول العفو العام الذي أصدرته حكومة أردوغان عن المقاولين المخالفين في 2018. ولكن، وفي حين يعترف أنصار الرئيس التركي أن عددًا من الأبنية التي تمتعت بعفو 2018 كانت ربما مخالفة بهذه الدرجة أو تلك لقانون الإنشاءات، فإن العفو تعلق في الأغلب بمخالفات ذات علاقة بالتخطيط أو عدد الأدوار وليس بعيوب في البناء ومقاومته للزلازل.
أما الجانب الثالث للجدل السياسي الداخلي، فيتعلق بموعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. وكان الرئيس التركي أعلن قبل وقوع الزلزال أنه سيدعو إلى عقد الانتخابات في منتصف مايو/أيار، بدلًا من موعدها المقرر في منتصف يونيو/حزيران، وذلك لتجنب موسم الامتحانات وعطلة عيد الأضحى. ولكن شائعات دارت بعد السادس من فبراير/شباط تقول بأن أردوغان يخطط لاستخدام وقع الكارثة وإعلان حالة الطوارئ في ولايات الزلزال لتأجيل الانتخابات حتى عن موعدها القانوني في يونيو/حزيران. وهذا ما دفع كاليتشدار أوغلو وعددًا من قيادات المعارضة إلى التحذير من التأجيل، والتذكير بأن الدستور لا يسمح بتأجيل الانتخابات إلا في حالة الحرب وحسب.
المؤكد أن أردوغان شخصيًّا لم يتناول مسألة الانتخابات بأي صورة من الصور في تصريحاته وخطاباته المتعددة منذ وقوع الزلزال. بولنت أرينتش، رئيس البرلمان الأسبق، وأحد قادة العدالة والتنمية المؤسسين، الذي لا يتولى منصبًا رسميًّا منذ سنوات، هو الذي أبدى رأيًا حول صعوبة عقد الانتخابات في ظل ظروف ما بعد الزلزال. ولكن رأيه لم يجد استجابة علنية من الرئيس، أو من أي من قادة الحكومة أو العدالة والتنمية.
الواضح، أن عددًا من زعماء المعارضة يرى أن آثار الزلزال ستصب في غير صالح أردوغان وحزبه، لأن عموم الأتراك سيبحثون عن جهة ما لتحميلها مسؤولية المأساة، بغض النظر عن أداء أردوغان وحكومته في الاستجابة للكارثة، وأن هذه الجهة ستكون الرئيس وحزبه. ويشير هؤلاء إلى عواقب زلزال 1999، التي أدت إلى سقوط حكومة بولنت إيجيفيت، وتمهيد الطريق لصعود حزب العدالة والتنمية الكبير في انتخابات 2002. كما يفترض هؤلاء، بدون التصريح علنًا، حقيقة أن اضطراب الوضع السكاني في محافظات الزلزال، سيحرم أردوغان وحزبه من مئات الآلاف من الأصوات بمنطقة معروفة بتصويتها للعدالة والتنمية بنسب مرتفعة.
بيد أن الأرجح، بالرغم من أن الحدث لم يزل في أيامه الأولى، أن أردوغان لن يطلب، أو يحاول، تأجيل الانتخابات، وأن أقصى ما سيقوم به هو الدعوة إلى عقد الانتخابات في يونيو/حزيران، قبل أيام من موعدها القانوني المقرر. ولا يستبعد أن يظل على مخططه السابق على وقوع الزلزال بعقد الانتخابات في مايو/أيار، وأن ترجيح أي من الخيارين سيعود إلى اللجنة العليا للانتخابات وما تحتاجه من وقت كاف لتنظيم العملية الانتخابية في المناطق المنكوبة، وضبط أحوال الناجين، الذي نزحوا إلى مدن أخرى، أو غادروا أماكن سكنهم الأصلية.
خلف هذا الجدل السياسي يعترف أنصار الرئيس بأن استجابة الحكومة للكارثة في أيامها الأولى لم تكن كما يجب، ولكنهم يقولون: إن حجم الكارثة كان أكبر بكثير مما تصورته أنقرة أو توقعته لأي زلزال محتمل، وأن ليس ثمة دولة في العالم كان يمكنها الاستعداد لمثل هذه الكارثة الطبيعية. ولكنهم يعتقدون في الوقت نفسه أن الشعب التركي يدرك أن أداء أجهزة الدولة ارتفع بسرعة فائقة إلى مستوى الحدث، وأن الشعب يرى بأم عينيه، سواء في المناطق المنكوبة، أو في عموم البلاد، عملية إنقاذ وإغاثة لم تشهدها البلاد في تاريخها الحديث كله. ويقول هؤلاء إن أيًّا من قيادات المعارضة لم يُظهر طوال الأيام التي تلت حدث الزلزال من الأداء ما يتوقعه الشعب من رجال دولته.
ويشير أنصار الرئيس إلى الاستجابة الشعبية غير المسبوقة لحملة جمع التبرعات لوكالة (أفاد)، مساء 13 فبراير/شباط، التي تجاوزت ما يعادل 6.1 مليارات دولار، باعتبارها تجديد ثقة بـ(أفاد) وبالدولة التركية. وكانت (أفاد) تعرضت لهجوم حاد من أوساط المعارضة، واتهامها بعدم الكفاءة وبأنها ليست سوى أداة سياسية لأردوغان، بل إن بعض الأصوات دعت الشعب التركي لعدم التبرع لـ(أفاد) ولا التطوع لدعم جهودها.
بكلمة أخرى، يخلص أصحاب هذا الموقف إلى أن الشعب سيضع ثقته من جديد في أردوغان، ليس لأنه يبرئ الرئيس وحكومته كلية من الانتقادات التي وُجهت إليهما، بل لأنه يعتقد أن أردوغان وحده من يستطيع أن يقود البلاد في معركة إعادة البناء ومواجهة عواقب الكارثة الثقيلة.
الزلزال والسياسة الخارجية
انتهجت تركيا أردوغان خلال السنوات القليلة السابقة على زلزال فبراير/شباط 2023 سياسة خارجية استقلالية نسبية. التزمت تركيا بما تفرضه عضويتها في حلف الناتو من واجبات، ولكنها حافظت على خطوط اتصال دافئة مع الصين وروسيا الاتحادية، وأحجمت عن الالتزام بالعقوبات غير المقرة من الأمم المتحدة، التي فرضتها الدول الغربية على الصين وروسيا وإيران. وكان التوتر في علاقات تركيا مع الولايات المتحدة ودول حلف الناتو الأخرى بدأ بالخلاف حول المقاربات الغربية للأزمة السورية، والبرنامج النووي الإيراني، وموقف الدول الغربية من المحاولة الانقلابية في 2016 والحماية التي وفرتها الولايات المتحدة ودول أوروبية لعناصر جماعة غولن، والموقف من الخلافات التركية-اليونانية في شرق المتوسط والحرب الروسية على أوكرانيا.
وبالرغم من أن أنقرة انتهجت سياسة تصالحية مع دول الجوار الإقليمي، مثل مصر والإمارات وإسرائيل، وحتى سوريا، فقد كانت علاقات تركيا، عندما وقع الزلزال، مع أرمينيا لم تزل مقطوعة، والتدافع مع اليونان يوشك أن يتطور إلى صدام عسكري.
ولكن الزلزال أحدث ما يشبه الانقلاب في علاقات تركيا الإقليمية والدولية. أظهرت الولايات المتحدة وكافة الدول الأوروبية الغربية تعاطفًا واضحًا مع تركيا، تجلى في إرسال فرق لدعم جهود البحث والإنقاذ، أسهمت في عمليات العون والإغاثة، وإن بدرجات متفاوتة. فتحت أرمينيا حدودها المغلقة منذ عقود مع تركيا، وشاركت هي الأخرى في جهود الإنقاذ والإغاثة. وكانت اليونان، التي عبَّرت وسائل إعلامها عن تضامن صريح مع الأتراك، إحدى أوائل الدول التي أرسلت فرق إنقاذ كبيرة، وسارع وزير خارجيتها إلى زيارة المناطق المنكوبة. وكان واضحًا أن وزير الخارجية التركية لم يعرب خلال المؤتمر الصحفي، الذي عقده مع نظيره اليوناني، عن امتنان تركيا لجهود الجارة الخصم، وحسب، ولكنه وعد أيضًا بتطبيع العلاقات بين الدولتين في القريب العاجل.
لم تتخلف روسيا والصين هي الأخرى عن مد يد العون؛ ولكن الواضح أن ما تنتظره تركيا من دعم غربي يفوق ما تنتظره من روسيا والصين، سيما بعد أن دعا الاتحاد الأوروبي لعقد مؤتمر للمانحين في منتصف مارس/آذار، يمكن أن ينتهي إلى تقديم دعم مالي واقتصادي ملموس للمناطق المنكوبة في تركيا وسوريا. كما تعرف تركيا أن الدول الغربية، التي تعتبر من أكبر شركائها الاقتصاديين، يمكن أن تلعب دورًا غير مباشر للمساعدة، سواء على صعيد العلاقات التجارية والاقتصادية المباشرة، أو على صعيد المنظمات الدولية التي يفترض أن تسهم في عمليات الإنقاذ والإغاثة وإعادة البناء.
سيصعب على تركيا ما بعد الزلزال تجاهل من مدوا لها يد العون في ساعة الألم والحاجة. من جهة أخرى، ولأن تركيا كانت قبل الزلزال تجتهد للخروج من بقايا أزمة مالية-اقتصادية، فإن أعباء ما بعد الزلزال الهائلة يمكن أن تتحول إلى كوابح متفاوتة القوة لتوجهات أنقرة الخارجية الاستقلالية، بغضِّ النظر عن الفائز في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة. تركيا ما بعد الزلزال ستكون أكثر حاجة لدعم حلفائها في الغرب، وأصدقائها في الجوار، مما كانت عليه قبل الزلزال.
سياسات للكوارث الطبيعية
تركيا هي بالطبع دولة كبيرة، حجمًا وشعبًا ومقدرات؛ وليست الزلازل في تركيا بالشيء المفاجئ أو المستغرب. وليس ثمة شك في أن تركيا ستنهض من تحت ركام الزلزال، الذي سيتحول في النهاية، كما زلزالي 1939 و1999، إلى مجرد ذكرى حزينة وتاريخ.
ولكن مسيرة النهوض ومواجهة عواقب الزلزال لن تكون يسيرة. كان هذا زلزالًا هائلًا، ألقى بأعباء بالغة على كاهل البلاد، أعباء لم تكن متوقعة على الإطلاق، تزداد حجمًا ووقعًا بمرور الأيام والساعات. ثمة مئات الألوف من الوحدات السكنية التي انهارت، أو لابد من هدمها وإعادة بنائها من جديد. وليس من المستبعد أن يرتفع عدد القتلى إلى ما يقارب الخمسين ألفًا، وأن يتجاوز عدد الجرحى المئة ألف. والمؤكد أن يترك الزلزال خلفه متغيرات ديمغرافية واقتصادية واسعة النطاق في منطقة واسعة من جنوب تركيا، من ملاطية شرقًا إلى هاتاي غربًا.
ليس ثمة دولة يمكنها أن تضع حسابات مسبقة للزلازل، مهما كانت طبيعة تجاربها مع هذا النوع من الكوارث الطبيعية. ولكن الزلازل بهذا الحجم والوقع لابد أن تأتي معها بآثار سياسية، وليس متغيرات ديمغرافية واقتصادية وحسب. وسواء أفضى هذا الزلزال إلى تغيير في طبيعة السلطة والقوى الحاكمة، أم لا، ونجم عنه قدر من الانكفاء في دور تركيا الدولي والإقليمي، أم لا، فالمؤكد أن زلزال فبراير/شباط سيشكِّل منعطفًا سياسيًّا بارزًا في تركيا الحديثة، في رؤية تركيا لذاتها وفي رؤيتها للعالم من حولها.