خلال أسبوعين على فوزه الانتخابي المفاجئ، أعلن دونالد ترامب أسماء أغلب المسؤولين الرئيسيين لإدارته المستقبلية. بذلك، بات من المشروع البحث في توجهات هذه الإدارة. ولكن، حتى هذه الدرجة من التوقعات تظل أولية إلى حدٍّ كبير، وتفتقد إلى الكثير من اليقين. في النظام السياسي الأميركي، يخدم المسؤولون في الإدارة الرئيس، الذي قام شخصيًّا باختيارهم، ولا تعني معرفة خلفياتهم أنهم سيستطيعون فرض آرائهم على الرئيس. من ناحية أخرى، لابد أن هذه الخلفيات هي ما دفع الرئيس إلى اختيارهم في المواقع التي كلفهم بها.
مقدمة
خلال ساعات قليلة بعد منتصف ليلة الثامن والتاسع من نوفمبر/تشرين الثاني، أصبح واضحًا أن الملياردير، دونالد ترامب، حقَّق الفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية على منافسته، وزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون. مثَّل انتصار ترامب مفاجأة لقطاع واسع من الأميركيين، بمن في ذلك أنصاره، ومفاجأة أكبر للرأي العام العالمي، بما في ذلك الدول الحليفة للولايات المتحدة. كانت استطلاعات الرأي، وطوال أسابيع، تشير إلى فوز كلينتون، التي يعرفها الأميركيون والعالم منذ سنوات، وبدا أن بالإمكان توقع طبيعة السياسات التي ستتبعها إدارتها. في الجانب الآخر، وبخلاف ثروته الهائلة وإمبراطورية الفنادق وملاعب الغولف التي يملكها، ليس لترامب أي ماض سياسي يمكن القياس عليه. إضافة إلى ذلك، وبينما عملت كلينتون على تشكيل فريقها الانتقالي قبل شهور من يوم الانتخابات، لم يُولِ ترامب مسألة تشكيل الفريق الانتقالي اهتمامًا يُذكَر، ربما لأنه حتى هو شخصيًّا لم يكن واثقًا من الفوز.
تبنَّى المرشح ترامب خلال حملته الانتخابية خطابًا شعبويًّا صارخًا، معاديًا لأميركا الليبرالية، وللطبقة السياسية التقليدية، وللمهاجرين، وللمسلمين، وللمواطنين وغير المواطنين من أصول لاتينية؛ وكان واضحًا أنه جعل الناخب الأبيض ومخاوفه من الحاضر والمستقبل في مقدمة أولوياته. وحتى داخل مؤسسة الحزب الجمهوري، الذي خاض ترامب الانتخابات باسمه، لم يكن وُدٌّ سابق بين المرشح ترامب وقادة الحزب في الكونغرس ولجنة الحزب القومية والرؤساء الجمهوريين السابقين.
على مستوى السياسة الخارجية، أبدى الرئيس المنتخب خلال حملته الانتخابية إعجابه بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وعزمه التعامل معه لوضع العلاقات الأميركية-الروسية على سكة جديدة. ولم يُخْفِ ترامب، وبعض الرجال المحيطين به، رغبة في العودة إلى السياسة الأميركية التقليدية في التعامل مع الحكام الشرعيين وغير الشرعيين، الديمقراطيين والمستبدين، من أجل مواجهة "الإرهاب" والجماعات المعادية لأميركا ومصالحها. صرَّح ترامب بعزمه على مواجهة الصعود الصيني وحماية الصناعات الأميركية من المنتجات الصينية الرخيصة، وتصميمه في الوقت نفسه على إلغاء اتفاقية التجارة للدول الأميركية (نافتا)، المعتمدة منذ سنوات، واتفاقية التجارة عبر الباسيفيك، التي أبرمتها إدارة أوباما، ولم يُصدَّق عليها بعد. تحدَّث ترامب ومساعدوه بلغة غامضة حول علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها في الشرق الأوسط وشرق آسيا وحلف الناتو، وعن إيجاد حلٍّ لأزمة الشرق الأوسط والأزمة السورية؛ ولكنهم لم يخفوا عداءهم لإيران، وللتيار الإسلامي السياسي، وصداقتهم لإسرائيل وتعاطفهم معها.
بيد أن المرشح ترامب قال، أيضًا، الكثير من الأشياء ونقيضها خلال حملته الانتخابية؛ وهو ما يجعل توقع سياساته كرئيس مسألة محفوفة بالمخاطر.
بعد مرور أسبوعين على فوزه الانتخابي المفاجئ، أعلن ترامب أسماء أغلب المسؤولين الرئيسيين لإدارته المستقبلية. بذلك، بات من المشروع البحث في توجهات هذه الإدارة. ولكن، حتى هذه الدرجة من التوقعات تظل أولية إلى حدٍّ كبير، وتفتقد إلى الكثير من اليقين. في النظام السياسي الأميركي، يخدم المسؤولون في الإدارة الرئيس، الذي قام شخصيًّا باختيارهم، ولا تعني معرفة خلفياتهم أنهم سيستطيعون فرض آرائهم على الرئيس. من ناحية أخرى، لابد أن هذه الخلفيات هي ما دفع الرئيس إلى اختيارهم في المواقع التي كلفهم بها.
هذا استطلاع أوَّلي ومبكر لمعنى فوز ترامب ودلالاته، ولما يمكن أن تكون عليه سياسة إدارته.
سر النصر الانتخابي
ثمة عدد من العوامل والقوى التي ساعدت رجل الأعمال، الذي لم يحتل مطلقًا أي موقع حكومي أو سياسي من قبل، ولم يخدم في الجيش الأميركي، على الفوز في الانتخابات. يتعلق بعضها بالخطاب الشعبوي الذي عبَّر عنه، وبحالة الاغتراب المتزايدة بين الناخب الأميركي، والغربي بصورة عامة، والطبقة السياسية التقليدية. وقد نجح ترامب، بطريقة أو أخرى، في تقديم نفسه كمرشح غير تقليدي، مرشح لا يدين للنخبة السياسية بواشنطن بشيء، عازم على وضع نهاية للسياسة المعتادة في العاصمة الأميركية. من جهة أخرى، اعتُبرت السيدة كلينتون مرشحًا تقليديًّا، وابنة مخلصة للطبقة السياسية الحاكمة. ولتاريخها الطويل في الساحة السياسية، والإشكاليات التي شابت مسيرتها، عانت كلينتون دائمًا من درجة من عدم المصداقية وفقدان الثقة.
بيد أن السبب الرئيس لفوز ترامب يتعلق بخطابه القومي، وتوجهه إلى قطاع معين من الناخبين البيض. ترتكز الانتخابات الرئاسية الأميركية على نظام المجمع الانتخابي، الذي وُضِع في القرن الثامن عشر، وليس إلى الحساب المباشر لعدد الناخبين. والحقيقة، أن كلينتون فازت بالفعل في حساب الأصوات، وبفارق كبير نسبيًّا، يفوق المليونين من الأصوات. ولكنها خسرت بفارق ملموس، أيضًا، في حساب أصوات المجمع الانتخابي، الذي يجعل كل ولاية من الولايات الأميركية الخمسين وكأنها دائرة انتخابية مستقلة. وهذا ما يجعل الانتخابات الرئاسية عادة معركة حول الولايات المتأرجحة، التي لا تتعدى العشرة ولايات، طالما أن الولايات الأخرى محسومة تقليديًّا للديمقراطيين أو الجمهوريين. وعلى هذا الأساس بَنَتْ حملة ترامب الانتخابية استراتيجيتها.
بخطاب قومي صريح ومباشر، عبَّر ترامب عن مخاوف الطبقة العاملة وشرائح الطبقة الوسطى السفلى لقطاع الناخبين البيض، التي تشكِّل كتلة انتخابية ثقيلة الوزن في عدد ملموس من الولايات المتأرجحة. تقليديًّا، تميل هذه الكتلة، نظرًا لخلفيتها الاجتماعية، للحزب الديمقراطي، الأقرب للعمال وأصحاب الدخل المحدود والأقليات. ولكن ما حدث في السنوات العشر الماضية، وبدون تخطيط مسبق، أن شعرت هذه الكتلة بأن الديمقراطيين لم يعودوا يكترثون بهم، وأن الإدارات الديمقراطية التي تتبع سياسة تشجيع التجارة الحرة عبر العالم، تركتهم فريسة للبضائع المستوردة وهجرة الصناعات الأميركية إلى دول العمالة الرخيصة في آسيا وأميركا اللاتينية. ولأن أغلب أبناء هذه الكتلة الانتخابية ينتمي لمجتمعات بروتستانتية محافظة، سيما في ولايات الوسط الغربي، فإن التوجهات الليبرالية المتزايدة للديمقراطيين أثارت حفيظة الكثيرين منهم.
تحدَّث ترامب إلى هؤلاء بوعود إطلاق حرب تجارية ضد كل منافسي أميركا، وضد الاتفاقيات التجارية الدولية، ووعد باستثمارات هائلة في مشاريع تجديد البنية التحتية. ولم يُخْفِ ترامب عداءه للمثليين والسود والمهاجرين والمسلمين، مهددًا بترحيل الملايين من المهاجرين غير الشرعيين من البلاد، وبناء حائط على الحدود الأميركية-المكسيكية، ومنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة. لم يَرُقْ خطاب ترامب للكتلة العاملة البيضاء وحسب، بل وشجَّع أعدادًا متزايدة منهم على الذهاب إلى صناديق الاقتراع. في 1980، كانت نسبة المصوِّتين البيض، من مجموع من أدلوا بأصواتهم، 80 بالمئة. في 2014، انخفضت هذه النسبة إلى 60 بالمئة. وفي الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ارتفعت من جديد إلى ما يقارب 69 بالمئة.
وإن وُضِع في الاعتبار الوزن الذي تمثله هذه الكتلة من الناخبين في ولايات متأرجحة، مثل: بنسلفانيا، وأوهايو، وميتشيغان، وويسكنسن، التي فاز أوباما بها جميعًا، وخسرتها كلينتون لصالح ترامب، يمكن فهم طبيعة التحول الذي ساعد الملياردير النيويوركي على الفوز بالرئاسة. السؤال الآن هو ما إن كانت سياسات إدارة ترامب ستعكس بالضرورة توجهات وطموحات هذه الكتلة من الناخبين، التي ساعدته على الفوز؟ ولا يقل أهمية سؤال ما إن كان ترامب سيستطيع بالفعل تنفيذ الوعود، التي أطلقها بلا حساب أثناء حملته الانتخابية؟
رجال الرئيس
في الدول الأوروبية الديمقراطية، تلعب بيروقراطية الدولة، بكافة دوائرها (المدنية والعسكرية والأمنية)، دورًا رئيسًا في إعادة ضبط سياسات الحكومات المنتخبة بما يتلاءم ومصالح الدولة وتقاليدها المستقرة وتحالفاتها ومقدراتها. في النظام الأميركي، يحتل الرئيس المنتخب البيت الأبيض وفي صحبته ما يقارب أربعة آلاف موظف جديد، يحلون محل نظرائهم المغادرين مع الرئيس السابق. لا يعزل هؤلاء الرئيس كلية عن البيروقراطية الفيدرالية، ولكنهم يسهمون إسهامًا رئيسًا في تنفيذ سياسات الرئيس وتشكيلها، في الوقت نفسه. يقوم الرئيس، مثلًا، بتعيين مدير جديد لوكالة الاستخبارات الأميركية، ويقود هذه المدير آلاف الموظفين المهنيين، الذين يلعبون دورًا مهمًّا في التأثير على مديرهم، بينما يحاول هو في المقابل أن يوجههم إلى أولويات تتوافق وسياسات الرئيس. وينطبق هذا الوضع على كافة دوائر الدولة الأخرى، من التجارة والمالية إلى الدفاع والخارجية. تؤشر هذه العلاقة بالغة التعقيد بين رجال الرئيس، القادمين الجدد إلى الحكومة الفيدرالية، وبيروقراطية الدولة، إلى عملية تفاعل وتدافع مستمرة بين من يمثِّلون إدارة الرئيس وتوجهاته، من جهة، ودور البيروقراطية في عقلنة سياسات الإدارة وتوجهاتها المسبقة، من جهة أخرى.
خلال الأسابيع القليلة التالية على فوزه، سارع ترامب إلى تسمية عدد من أبرز الشخصيات في إدارته، أهمهم:
- ستيف بانون، مستشارًا استراتيجيًّا: وكان بانون، الذي يحمل خلفية عسكرية وعمل مسؤولًا تنفيذيًّا لموقع إخباري يميني، قد لعب دورًا رئيسًا في حملة ترامب الانتخابية. يُعتبر بانون معاديًا علنيًّا للمهاجرين والمسلمين ولكافة الدوائر الليبرالية الأميركية، ويوصف بالقومي الأبيض.
- رينس برايبوس، رئيسًا لموظفي البيت الأبيض: جاء برايبوس لمنصبه هذا من رئاسة اللجنة القومية للحزب الجمهوري، التي جعلته واحدًا من أبرز شخصيات الطبقة السياسية الواشنطونية التقليدية. ويُرجَّح أن ترامب اختاره لهذا المنصب لإرضاء، وتنظيم العلاقة مع قيادة الحزب الجمهوري، التي ينتاب رؤيتها للرئيس المنتخب الكثير من الشكوك. ويتوقع كثيرون أن صلاحيات منصب برايبوس ستضعه في صدام مع ستيف بانون.
- جيف سيشن، مدعيًا عامًّا، المنصب الذي يقابل وزير العدل في النظام الأوروبي: عمل سيشن من قبل مدعيًا عامًّا لولاية ألاباما، ثم أصبح عضوًا في مجلس الشيوخ عن ألاباما. عُرف سيشن في مرحلة مسيرته المهنية بالعداء العنصري للسُّود، مما تسبب في منعه من تولي منصب القاضي الفيدرالي، بعد استجوابه في مجلس الشيوخ. ولكن هناك من يقول: إن سلوك سيشن تغير بعد ذلك، سيما بعدما احتل موقعه في مجلس الشيوخ. ولكن سيشن عُرف بعدائه الدائم للمهاجرين، ودعوته إلى تبني إجراءات صارمة ضد من يهدد الأمن الأميركي، بما في ذلك الإرهاب ذو السمة الإسلامية.
- الجنرال مايكل فلين، مستشارًا لشؤون الأمن القومي: بهذه الصفة، سيُدير فلين، الذي ساند ترامب أثناء حملته الانتخابية، مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض. فلين، الذي قاد الاستخبارات العسكرية لعدة سنوات في إدارة أوباما، معروف بعدائه للإسلام السياسي بكافة توجهاته، وتأييده لديكتاتوريين مثل السيسي، وعدم معارضته للتعاون مع أمثال بشار الأسد لهزيمة تنظيم الدولة، وعدم حماسه للتورط المباشر في حروب خارجية، وخلافه مع طريقة إدارة أوباما للحرب في أفغانستان والعراق. سُجِّل على فلين ترحيبه بالمحاولة الانقلابية في تركيا، قبل أن تتضح طبيعة المحاولة ومصيرها، ولكنه نشر مقالة عشية يوم الانتخابات، شجب فيها تدهور العلاقات التركية-الأميركية أثناء إدارة أوباما الثانية، وضرورة العمل على إعادة بناء هذه العلاقات.
- مايك بومبيو، رئيسًا لوكالة الاستخبارات الأميركية: يحمل بومبيو خلفية عسكرية، وقد عمل محاميًّا ورجل أعمال بعد أن ترك صفوف الجيش، وأصبح نائبًا جمهوريًّا عن ولاية كنساس في مجلس النواب. باعتباره عضوًا في ما يُعرف بكتلة الشاي في الحزب الجمهوري. يُحسب بومبيو على الجناح المحافظ المتشدد في الحزب؛ وقد سُجلت له تصريحات معادية للإسلام، ولإيران والاتفاقية النووية الإيرانية.
- الجنرال جيمس ماتيس، وزيرًا للدفاع: ينتمي ماتيس، عسكريًّا، إلى مشاة البحرية الأميركية، وقد عمل في أفغانستان والعراق، وكان آخر منصب عسكري له تولي مسؤولية القيادة المركزية، المسؤولة عن الشرق الأوسط، لعدة سنوات خلال إدارة أوباما. يُنظر إلى ماتيس باعتباره عسكريًّا متشددًا فيما يتعلق بما يراه مصالح الولايات المتحدة في العالم، وعُرف عنه قوله: "كن مؤدبًا، كن مهنيًّا، ولكن لابد أن يكون لديك دائمًا خطة لقتل من تقابله". يؤيد ماتيس زيادة ميزانية الدفاع، ودعم برامج التطوير العسكري الأميركي. وسُجل له معارضته لنشاطات إيران في الشرق الأوسط ومحاولتها السيطرة على العراق.
فما الذي يمكن رؤيته في تعيين مثل هذه الشخصيات لأبرز مناصب إدارة ترامب؟
الواضح، بداية، أن أغلب رجال ترامب الرئيسيين (بمن في ذلك نائب الرئيس المنتخب: مايكل بنس) ينتمي إلى المؤسسة السياسية الأميركية، التي وعد المرشح ترامب الناخبين بأنه سيحرِّر إدارته من سيطرتها، وسيفرض بالتالي عليها وعلى واشنطن طريقة عمل مختلفة تمامًا عمَّا تعودته. يشير هذا التراجع عن البلاغة الانتخابية الشعبوية إلى طبيعة التعقيد الذي تتسم به إدارة دولة هائلة مثل الولايات المتحدة، وإدراك الرئيس المنتخب أنه لن يستطيع القيام بمهمات الحكم بدون الاستعانة بمن هم على دراية بعملية الحكم. والملاحظ، على أية حال، أنه حتى نهاية الأسبوع الثالث على فوزه الانتخابي، كانت الأغلبية العظمى ممن اختارهم لمواقع إدارته القيادية من الرجال البيض. ويضم فريق ترامب، حتى الآن، امرأتين فقط، تنتميان للحزب الجمهوري، واحدة بيضاء، مليونيرة، لوزارة التعليم، وواحدة من أصول هندية، ممثلًا لأميركا في الأمم المتحدة.
بغير ذلك، يحمل أغلب رجال ترامب، وليس كلهم بالضرورة، توجهات محافظة، ثقافية واجتماعية، ومتشددة في مجالي الأمن والدفاع. ولأن للمحافظة في السياق الأميركي معاني خاصة، لا تتفق بالضرورة مع مدلولاتها في السياق السياسي الأوروبي، ينبغي ملاحظة أن رجال ترامب، أولًا: ليسوا محافظين جددًا، مثل أولئك الذي شكَّلوا سياسات إدارة جورج بوش الابن الأولى، بمعنى أنهم ليسوا من الدعاة الأيديولوجيين لنشر القوة العسكرية الأميركية حول العالم، وفرض قيم خاصة على الشعوب والمجتمعات الأخرى، ومحاولة إعادة صياغة حياة هذه الشعوب والمجتمعات. هؤلاء، على الأرجح، محافظون تقليديون، يشبهون في توجهاتهم توجهات إدارة ريغان، مع بعض الاختلافات. وهم، ثانيًا: أقرب إلى المدرسة الكينزية في الاقتصاد، ولن يعارضوا الاقتراض أو اللجوء إلى التحفيز الكَمِّي (المزيد من طباعة الدولارات)، من أجل زيادة الإنفاق الحكومي على البنية التحتية، حتى لو أدَّى ذلك إلى تصاعد معدلات التضخم.
ولكن، وبالرغم من الغموض الذي يحيط توجهات ترامب في التعامل مع ملف المهاجرين، فالأرجح أن أغلب رجال إدارته سيؤيد ترحيل أعداد ما من المهاجرين غير الشرعيين ومحاولة ضبط الهجرة إلى الولايات المتحدة. كما أنهم معادون بصورة واضحة للتوجهات الليبرالية الثقافية، سواء فيما يتعلق بالمثلية الجنسية، أو التسامح مع استخدام أنواع من المخدرات خفيفة الأثر. وستحتل ملفات التجارة الدولية والأمن والدفاع أولوية بارزة لدى هذه المجموعة من القيادات. ولكن، وبخلاف إدارة ريغان، لا يبدو أن لدى من سُمِّي من رجال إدارة أوباما توجهات مسبقة لتعهد حروب مباشرة في مناطق النزاع من العالم. بصورة عامة، وأولوية إلى حدٍّ كبير، يرى أغلب رجال ترامب العالم بصورة براغماتية وغير أخلاقية، وربما لن يكون لديهم مانع من عقد صفقات سرية مع قوى كبرى أخرى حول مصير هذه المنطقة أو تلك من العالم.
محددات سياسة الرئيس
يكتشف الرئيس الأميركي، أي رئيس، بمجرد تسلمه مقاليد الحكم أن ليس بإمكانه تنفيذ كل السياسات التي تبنَّاها في برنامجه أو الوفاء بكل الوعود التي قطعها على نفسه أثناء الحملة الانتخابية. ثمة عدد من المحددات، بعضها ثابت، وبعضها الآخر متغير، تفرض على الرئيس هذا القدر أو ذاك من المساومة على بعض السياسات، من التخلي عن البعض، ومن المسارعة إلى انتهاج سياسات لم تكن أصلًا في الحسبان.
جاء بوش الابن إلى البيت الأبيض وهو عازم على التخلص من سياسة التورط في حروب خارجية، ولكن هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 أفسحت المجال لسيطرة مجموعة المحافظين الجدد في إدارته على السياسة الخارجية وإشعال سلسلة من الحروب في الشرق الأوسط. وسرعان ما أدَّى تعثر سياسة الحروب إلى تصاعد ضغوط المؤسسة على بوش، كما كشف تقرير بيكر-هاملتون، ومن ثم تخلصه من وزير دفاعه ومن معظم المحافظين الجدد، وبدء عملية انسحاب من ساحات الحرب. أوباما، من جهة أخرى، لم يستطع تشريع رؤيته للتأمين الصحي كما كان يرغب، واضطر إلى تعديل مقترحه بما يرضي أغلبية الكونغرس. أما في السياسة الخارجية، فقد أجبره صعود تنظيم الدولة في العراق وسوريا على إيلاء اهتمام أكبر بمنطقة الشرق الأوسط في ولايته الثانية، بعد أن كانت في أسفل سلم اهتماماته خلال ولايته الأولى.
كان على أوباما وبوش، كما معظم الرؤساء من قبلهم، مواجهة تحديات متعددة، داخلية وخارجية، أجبرتهم على القبول بتعديل سياسات، أو تبني سياسات، والتخلي عن أخرى. وهذا أيضًا ما سيتعرَّض له ترامب وإدارته.
ويمكن إيجاز محددات السياسة التي سينبغي على إدارة ترامب التعامل معها، بما يلي:
أولًا: طبيعة النظام السياسي الأميركي: تقوم الدولة الأميركية على أسس بالغة التعقيد والتوازن، سواء من حيث صلاحيات أذرع الدولة المختلفة، التنفيذية والتشريعية والقضائية، أو من حيث العلاقة بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات. كما أن كل من يختارهم الرئيس لمواقع قيادية في إدارته، ما عدا مستشار الأمن القومي، لابد أن يحظى بتصديق مجلس الشيوخ. ويحتاج الرئيس، طوال ولايته، تأييد مجلسي النواب والشيوخ ليحوِّل سياساته إلى قوانين. راهنًا، سيتمتع ترامب خلال العامين الأولين من ولايته، حتى انتخابات الكونغرس التالية، بوجود أغلبية جمهورية في مجلسي الكونغرس، النواب والشيوخ. وهذا ما سيجعل مهمته في تحويل مشاريعه إلى قوانين أيسر. ولكن أيسر هنا لابد أن تُفهم بصورة نسبية. إذ لا يبدو ترامب قريبًا من قلوب أغلبية الحزب الجمهوري؛ وفوق أن أعضاء مجلس الشيوخ أكثر استقلالًا عادة، فإن الفارق بين الكتلة الجمهورية والديمقراطية في مجلس الشيوخ ليس كبيرًا. كما أن على الرئيس ترامب أن يستمع لرأي القادة العسكريين والمسؤولين في الأجهزة الأمنية، الذين يفترض أنهم مهنيون، ويحددون مواقفهم طبقًا للمعطيات المهنية وليس الولاء السياسي.
ثانيًا: حدود مقدرات أميركا ودورها في العالم: تقوم رؤية المؤسسة الأميركية على أن الولايات المتحدة تمثِّل مركز الثقل في النظام الدولي، وصاحبة القرار الرئيس في هذا النظام. ولكن، وبالرغم من أن الولايات المتحدة لم تزل القوة الأولى في العالم، والأولى بمسافة كبيرة تفصلها عن القوى التالية، فليس ثمة شك في أن الولايات المتحدة لم تعد تتمتع بالتفرد الذي شهده العالم في التسعينات ومطلع هذا القرن. إن أراد ترامب المحافظة على موقع أميركا ودورها، فعليه التعامل مع التحديات التي شهدها هذا الموقع والدور في السنوات العشر الأخيرة. وعليه، في الوقت نفسه، أن يأخذ حدود مقدرات بلاده في الاعتبار. ترامب، مثلًا، لا يستطيع أن يعود إلى سياسة الحروب، باهظة التكاليف، والتي أثبتت فشلها في عهد إدارة بوش الابن. كما أنه ليس مطلق الحرية في تعهد حروب تجارية على من يريد، سيما أن لسياسته التجارية الخارجية أثرًا كبيرًا على دور أميركا العالمي، وأن دولًا، مثل الصين، تملك ما يزيد على التريليون دولار من سندات الخزانة الأميركية.
ثالثًا: الجدل التقليدي حول السياسة الخارجية: يتجلى الجدل حول الاستراتيجية التي يجب على الولايات المتحدة أن تتبعها في سياستها الخارجية، منذ التدخل الأميركي في الحرب العالمية الأولى، في توجهين رئيسين: الأول: ويقول بأن على الولايات المتحدة أن تتدخل بصورة مباشرة وسريعة وحاسمة لحماية مصالحها في العالم والدفاع عن حلفائها. والثاني: يقول بأن التدخل المباشر محفوف بالمخاطر، وأن الأجدى والأقل خطرًا وتكلفة، أن تلجأ الولايات المتحدة إلى التدخل غير المباشر، من خلال دعم الحلفاء والتأثير في ميزان القوى. ما تشير إليه تصريحات ترامب، حتى الآن، أنه، وعلى خطى الإدارة السابقة لإدارته، يتبنَّى التوجه الثاني، بخلاف طفيف عن سياسة أوباما. مثلًا، يقول ترامب إنه سيضغط على حلفاء أميركا حول العالم، وعلى الدول الأعضاء في الناتو، من أجل تحمل أعباء أكبر في الدفاع عن أنفسهم. فهل يعني هذا تشجيع دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية والسعودية على الذهاب لخيار التسلح النووي؟ وهل ستؤيد الدول الغربية الرئيسة مثل هذه السياسة، بما تحملها من مخاطر على صعيد انتشار السلاح النووي؟ ويقول ترامب إنه على استعداد لعقد صفقات مع الأطراف المختلفة في مناطق النزاعات والتوتر. فإلى أي حدٍّ ستدعم دوائر الأمن والدفاع والسياسة الخارجية الأميركية صفقات مع روسيا، مثلًا، تهدد أمن واستقرار دول أوروبية حليفة للولايات المتحدة؟
رابعًا: المتغيرات الطارئة في الوضع الدولي: لا يُفترض بالرئيس وضع المحددات التقليدية للنظام الأميركي والقوى الفاعلة في تحديد سياسته الداخلية والخارجية في الاعتبار، وحسب، ولكن عليه أيضًا التعامل مع المتغيرات المتسارعة في الوضع الدولي، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي. يواجه الرؤساء، عادة، أزمات لم تكن متوقعة، مثل الانهيار المالي/الاقتصادي في 2008، وهجمات سبتمبر/أيلول 2001، والاندلاع المفاجئ للثورات العربية، والأزمة الأوكرانية. والحقيقة، أن نوعية الرؤساء وجدارتهم لا تتضح في الروتين التقليدي لعملية الحكم، ولكن في فعالية التعامل مع الطارئ والمفاجئ. ومهما كانت التوقعات لسياسة ترامب، فإن الحكم على نمط عمله وطبيعة سياساته لن يتضح بصورة كافية إلا برصد تعامله مع أول أزمة كبيرة طارئة تواجه إدارته.
خامسًا: حجم المعارضة الشعبية: يُنتَخب الرئيس لأربع سنوات، والمفترض أن سجلَّه لن يتعرض للامتحان إلا إذا تقدم لإعادة انتخابه مرة ثانية. ولكن الواقع أن الإدارات الأميركية لا يمكنها تجاهل حجم التأييد أو المعارضة الشعبية لسياساتها خلال سنوات ولايتها الأربع. وبالرغم من أن الرؤساء الأميركيين أظهروا حساسيات متفاوتة للمعارضة الشعبية، فليس بينهم من تجاهل هذه المعارضة كلية. وليس ثمة شك في أن المعارضة الشعبية الهائلة للحرب في فيتنام كانت السبب الرئيس خلف قرار نيكسون بالتفاوض من أجل إنهاء الحرب وسحب القوات الأميركية من جنوب شرق آسيا. ترامب لن يكون استثناءً، سيما أن كونه أول رجل أعمال يصل إلى موقع الرئاسة يجعله أكثر عرضة للمعارضة الشعبية. ولا يمكن لترامب تناسي أن منافسته تفوقت عليه بعدد الأصوات، وبفارق ملموس. خلال الأسبوعين التاليين على فوزه الانتخابي، وحتى قبل توليه مقاليد البيت الأبيض، نُظِّمت مظاهرات معارضة لترامب في عدد كبير من المدن الأميركية، كان أغلب من شارك فيها من الشباب والنشطين الليبراليين واليساريين. وبالرغم من أن حدَّة هذه التظاهرات قد تراجعت، فمن المتوقع أن تعود من جديد، إن حاول الرئيس ترامب تشريع بعض من سياساته الأكثر مدعاة للجدل. وربما يُنظر إلى تراجع ترامب عن وعوده المتكررة أثناء الحملة الانتخابية، مثل تعيين مدع خاص، للتحقيق في استخدام هيلاري كلينتون عنوانها الإلكتروني الخاص أثناء توليها زارة الخارجية، باعتباره مؤشرًا على إدراكه لما يمكن أن يُحدثه مثل هذا القرار من انقسام في المجتمع الأميركي.
سادسًا: السمات الخاصة بالرئيس: تلعب السمات القيادية الخاصة للرئيس دورها هي أيضًا في تحديد طبيعة ولايته وتوجهات إدارته. الرئيس الذي يقرر مواجهة الكونغرس يحتاج إلى مهارة سياسية بالغة في حشد الرأي العام، أكثر من الرئيس الذي يميل إلى التفاوض. وقد اضطر كل الرؤساء، الذين لجأوا إلى المبالغة والكذب في حملاتهم الانتخابية، إلى تراجعات متفاوتة عن الوعود التي قطعوها على أنفسهم خلال الحملة الانتخابية. ولأن ترامب خاض حملة انتخابية شعبوية، مثقلة بالوعود المبالغ فيها، وحتى بالأكاذيب، فلن يكون غريبًا أن يغضَّ النظر عن الكثير من هذه الوعود، كليًّا أو جزئيًّا. مشاريع مثل إعادة فتح مناجم الفحم التي أُغلقت لأسباب اقتصادية أو بيئية، وإعادة تشغيل مصانع أغلقت لعدم قدرتها على المنافسة، وإلغاء معاهدات دولية مستقرة، كانت كلها مشاريع مبالغًا فيها، يصعب، إن لم يكن من المستحيل على الرئيس ترامب الوفاء بها.
سياسات الرئيس المتوقعة
خلال الأسابيع الثلاث التالية لفوزه الانتخابي، أسقط الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، عددًا ملموسًا من وعوده الانتخابية، وأطلق وعودًا لم يسمع بها الناخبون من قبل. تراجَعَ ترامب، مثلًا، عن هجومه على المؤسسة الأميركية، وأعلن عن تعيينات قيادية في إدارته، كلها تقريبًا، ممن ينتمون إلى مؤسسة الحكم التقليدية؛ وتراجع عن ترحيل 11 مليونًا من المهاجرين غير الشرعيين، وبدأ يتحدث عن أولئك الذين يوجد لهم سجل إجرامي فقط. تراجع كذلك عن ملاحقة هيلاري كلينتون وسجنها؛ وتراجع عن تصريحاته التي قال فيها: إن تغير المناخ ليس سوى مؤامرة صينية على الصناعة الأميركية. وفي الوقت نفسه، تحدث، وإن بصورة غامضة ومدعاة للتساؤلات، عن تكليف زوج ابنته، رجل الأعمال الأميركي اليهودي الأرثوذكسي، جارد كوشنر، بالعمل على التوصل إلى تسوية للمسألة الفلسطينية؛ وعن رغبته في العمل من أجل وضع نهاية لما أسماه: "الصراع المجنون" في سوريا.
ما تعنيه هذه التحولات السريعة أن ترامب بات يدرك الحدود المفروضة على موقع رئيس الولايات المتحدة. ليس كل ما هدد به ترامب خلال حملته الانتخابية يمكن تنفيذه، وليس كل ما وعد بفعله يمكن أن يتحول إلى تشريعات، وليس كل ما شجبه وأكد على تجنبه يمكنه تجنبه بالفعل. ترامب الرئيس لن يستطيع، داخليًّا، قلب النظام السياسي الأميركي رأسًا على عقب، كما أوحى للناخبين خلال الحملة الانتخابية، ولن يستطيع انتهاج سياسة عزلة كلية، خارجيًّا.
بيد أن هذه التحولات، التي تفرضها الحدود التقليدية على صلاحيات الرئيس لا يجب أن تُخفي جوهر بنية إدارة ترامب وتوجهاتها. ترامب، كما أغلب الرجال الذين أعلن عن تعيينهم في مواقع إدارته القيادية، يُرجَّح أن يكون رئيسًا معاديًا للمهاجرين والأقليات ولما تعنيه أميركا الليبرالية، وقد ينعكس هذا العداء على السياسات التي سيتبعها في الداخل، طالما كان الكونغرس مطواعًا لتحويل سياسته إلى تشريعات نافذة. وهذا قد يولِّد مناخًا من التوتر والانقسام في المجتمع الأميركي، ويكدِّر حياة الملايين من المسلمين والسود، والمواطنين أو المقيمين من أصول لاتينية، كما حياة الأقليات الثقافية. ما قد تصنعه رئاسة ترامب، سواء قصد هذا أو لم يقصد، مناخًا من عودة السُّلطة للرجل الأبيض بتعريفه التقليدي، الأنجلوساكون، البروتستانت، باعتباره المالك الأصلي للولايات المتحدة وحارس قيمها؛ وهو ما قد يرفع مستويات العنف الاجتماعي والعنصري في المجتمع الأميركي.
في المجال الخارجي، ثمة شكوك ملموسة حول ما يمكن أن يصبح سياسات فعلية لإدارة ترامب؛ فعلى صعيد التجارة بين الدول، يمكن لترامب بالفعل التوقف عن تصديق الاتفاقية عبر الباسيفيك، ومن ثم إلغاؤها أو إجبار أطرافها المختلفة على العودة إلى مائدة التفاوض. ولكنه لن يستطيع سوى اللجوء إلى التفاوض مع كندا والمكسيك حول تعديل اتفاقية نافتا، إن رغب في ذلك. كما أن خيار التفاوض، وليس الحرب التجارية، هو الوحيد الممكن للتعامل مع الصين، وإن كانت نواياه في الوقت الراهن توسيع المواجهة مع الصين إلى القضايا الاستراتيجية أيضا كما بينته مكالمته التليفونية مع قيادة تايوان.
على صعيد العلاقات مع روسيا، يمكن لترامب أن يعقد صفقة ما حول أوكرانيا وسوريا؛ ويمكن حتى أن يقوم بتخفيض ملموس للعقوبات المفروضة على روسيا. ولكن من المستبعد أن يسمح بتهديد روسيا لدول البلطيق، ومن المرجَّح أن لا يستطيع توقيف نشر برنامج الصواريخ المضادة للصواريخ في أوروبا، وأن لا يستطيع تجاهل حلفاء أميركا في أوروبا ويسهم منفردًا في تحديث البنية الصناعية الروسية. وإن أوفى ترامب بوعوده حول زيادة الإنفاق الدفاعي، والعمل على رفع مستوى التفوق التقني للقوات المسلحة الأميركية، فلن يكون بوتين سعيدًا على الإطلاق؛ إذ ليس لدى روسيا لا المال ولا الإمكانيات لمجاراة أميركا في هذا المجال.
ويمكن لترامب أن يمارس ضغطًا على الحلفاء في الناتو، ودفعهم إلى زيادة ميزانياتهم الدفاعية لما يعادل 2 بالمئة من الدخل القومي، كما هي شروط عضوية الحلف، ولكن من المستبعد اتخاذه قرار من الناتو، ولا السماح بانتشار التسلح النووي خارج نطاق الحلف، ولا حتى لدول حليفة تقليديًّا مثل اليابان وكوريا والسعودية.
أما في الشرق الأوسط، فتبدو صورة سياسات ترامب المتوقعة بالغة الاضطراب والتداخل، تمامًا كما هو الوضع في الإقليم. يتجه ترامب، الذي سيقدِّم الاستقرار على الحرية والديمقراطية، إلى تقوية العلاقات مع مصر السيسي، وربما الضغط من أجل تسوية للأزمة في سوريا تميل لصالح نظام الأسد، والمحافظة على دعم حرب الحكومة العراقية ضد تنظيم الدولة. كما ستعلن إدارة ترامب عن مواقف معادية لقوى التغيير في الشرق الأوسط، وعلى الخصوص قوى التيار الإسلامي السياسي، الذي ترى أنه يشترك والتنظيمات الجهادية في تسييس الإسلام وتجلِّي رُوحه النضالية. إدارة ترامب، باختصار، تحمل أخبارًا سيئة لطموحات التغيير والتحول الديمقراطي في الشرق الأوسط.
في ما يخص العلاقة مع إيران، سيصعب على ترامب التحلل من الاتفاق النووي، كما صرَّح مرارًا؛ أولًا: لأن الاتفاق اكتسب طابع المعاهدة الدولية متعددة الأطراف؛ وثانيًا: لأن لا دول أوروبا ولا دول الجوار الإيراني تريد إلغاء الاتفاق. ما سيستطيعه ترامب هو التصديق على قانون تمديد العقوبات على إيران، الذي أقرَّه الكونغرس مؤخرًا، وربما حتى تشديد هذه العقوبات، مستخدمًا هذا المبرر أو ذاك. وإن قررت إدارة ترامب مواجهة التوسع الإيراني في الجوار العربي، فستنفذ هذه السياسة من خلال تقديم دعم لدول الخليج، وربما حتى تشجيع مصر على الالتحاق بما يشبه التحالف الإقليمي المناهض لإيران.
تشير تصريحات ترامب وبعض رجاله إلى رغبة في تحسين العلاقات مع تركيا، ليس لأن إدارة ترامب ستنظر بودٍّ أكبر لأردوغان (الحقيقة، إنها ليست كذلك)، ولكن لأنها تريد حليفًا قويًّا، يمكن الاعتماد عليه وسط الفوضى الإقليمية. إن لجأت إدارة ترامب للخيار التركي، فعليها اتخاذ إجراء ما في ما يتعلق بوضع فتح الله غولن، والتخلي عن سياسة التحالف مع فرع حزب العمال الكردستاني في سوريا. ولكن، حتى إن اتخذت مثل هذه الإجراءات، فلن تنظر أنقرة بترحيب كبير إلى توجه واشنطن نحو تسوية سوريَّة، تؤدي إلى بقاء نظام الأسد.
وتمثِّل إدارة ترامب خبرًا سيئًا للقضية الفلسطينية؛ ليس فقط للعلاقات التقليدية التي تربطه، والكثير من رجال إدارته، بالإسرائيليين، ولكن أيضًا لوجود مشاعر متناقضة تربط بين المشروع الصهيوني وفكرة سيادة الرجل الأبيض. تمثل المركزية البيضاء في جوهرها تيارًا عنصريًّا ومعاديًا للسامية، وتحمل في الوقت نفسه تعاطفًا مع مشروع السيطرة الصهيوني، ذي الجذور الغربية، على المحيط العربي-الإسلامي. ويُظهر مقترح ترامب بتولي زوج ابنته، رجل الأعمال اليهودي الذي لا يحمل أية خبرة دبلوماسية، مهمةَ البحث عن تسوية للصراع العربي-الإسرائيلي، درجة الاستخفاف التي ينظر بها الرئيس المنتخَب للمسألة. وسواء حاول ترامب البحث عن حل تفاوضي للصراع أم لا، فالواضح أنه سيتبنى سياسة منحازة للجانب الإسرائيلي، وأنه سيكون أقل اعتراضًا على التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس، الذي يُعتبر السبب الرئيس خلف فشل كل من حاول قبله.
تصريحات ترامب المبكرة، والمبكرة جدًا، حول مقاربته لأزمات الشرق الأوسط، باختصار، لا توحي بأنه يحمل تصورًا لإعادة بناء الاستقرار في الإقليم، أو النظر بعناية إلى مصلحة شعوبه. لا في سوريا، أو إيران، أو العراق، ولا فلسطين، يبدو أن ترامب يحمل ضوءًا في نهاية النفق.
في النهاية، هذا رئيس مختلف حقًا؛ وبالرغم من أنه لم يطرح بعد رؤية متماسكة، منطقية، ومسوغة لسياساته، الداخلية منها أو الخارجية، فما رشح حتى الآن من تصوره لقضايا أميركا والعالم لا يبعث على الاطمئنان. ولا يعني الاطمئنان هنا استقرار الوضع الدولي، وحسب، ولكنه يجب أن يعني موقع أميركا ودورها في العالم أيضًا. إن سياسة ترتكز إلى قومية أميركية ضيقة، والقومية بمدلولاتها الأميركية البيضاء، لن تؤدي على الأرجح إلا إلى تدهور ثقل الولايات المتحدة المعنوي وتراجع موقعها الأخلاقي. وفي حال فقدت الولايات المتحدة دورها القيادي للغرب الليبرالي، الكتلة المركزية في النظام الدولي، سيندفع العالم إلى مرحلة من فقدان التوازن واليقين، تتزايد فيها أهمية القوى الإقليمية وتتصاعد فيها حدَّة الصراع بين هذه القوى.