"كولومبيا" وأخواتها: الحركة الطلابية بين 1968 و2024

يكتسي حراك الجامعات الأميركية المناهض للحرب الإسرائيلية على غزة أهمية خاصة. فهو إلى جانب مناصرته الصريحة للقضية الفلسطينية، أطاح بعدد من المسلَّمات التي ظلت، على مدى عقود، تكبِّل العقل السياسي والأكاديمي الغربي، مثل "معاداة السامية" و"تقديس الصهيونية" و"علوية النموذج الإسرائيلي" في منطقة الشرق الأوسط.
(الجزيرة)

رغم حساسية الموقع الاجتماعي الذي تحتله حركة الشبيبة عامة والحركة الطلابية خاصة، ورغم تعدد الأدوار التي تلعبها هذه الفئة المتميزة في مسيرة التحولات السياسية والاجتماعية فإن الاهتمام بها على صعيد البحث العلمي ظل محدودًا. ولعل ما أسقطها من حساب منظِّري التغيير الاجتماعي هو عدم انسجامها مع قوالبهم النظرية التي صيغت بالأساس على مقاس فئات اجتماعية أخرى تبدو أكثر أهمية بسبب موقعها الاجتماعي وبفضل ما تتوفر عليه من أدوات التغيير. فالحركة الطلابية ليست بأهمية الحركة العمالية من منظور التقسيم الطبقي للمجتمع، وموقعها الهامشي من أدوات الإنتاج لا يؤهلها للعب دور ذي قيمة تذكر. كما أنها ليست من دوائر النخبة لدى من يتبنى المقاربة النخبوية للتغيير والتي تضع المسؤولية على عاتق فئات محددة من المثقفين والسياسيين وأعيان القوم يتداولون في الأمر العام ويعقدون الصفقات ويتخذون القرارات. وهي قطعًا لا تنتمي إلى تلك الفئات التي تملك القدرة التنظيمية والقوة المادية والموقع المناسب من أجهزة الدولة "الصلبة" القادرة على إحداث التغيير سواء في شكله الأمني والعسكري أو في صورة بيروقراطية الدولة. ومع ذلك تظل الحركة الطلابية تجتذب اهتمام الكثير من المثقفين والناشطين والسياسيين الساعين إلى التغيير على اختلاف توجهاتهم الفكرية. فما عناصر الجذب التي تجعل من هذه الفئة الاجتماعية محط أنظار هؤلاء وأولئك؟ وإلى أي حدٍّ يمكن القول بدور اجتماعي وسياسي للحركة الطلابية يسهم في دفع حركة التغيير؟

بعض عناصر الإجابة على هذا السؤال نجدها في ثنايا الجدل الفكري والسياسي الذي صاحب وأعقب انتفاضة الطلاب في فرنسا أواخر ستينات القرن الماضي. فحركة مايو/أيار 1968 لم تكن مجرد احتجاج شبابي على سياسات حكومة الاتحاد من أجل الجمهورية الجديدة، وقد أدركت نهاية عهدها مثقلة بمخلفات الحروب الاستعمارية التي انتهت بانسحاب فرنسا من آخر مستعمراتها. وكان استقلال الجزائر الذي سبق الأحداث بسنوات قليلة قد خلَّف انقسامات سياسية وتصدعات حادة في الوسط السياسي والحزبي الفرنسي لم تفلح في رأبها الإصلاحات الدستورية التي أدخلتها الجمهورية الخامسة، والتي لم تكن قد استقرت بعدُ ورسخت.

على صعيد السطح، جاءت انتفاضة الطلاب في تلك الأجواء تعبيرًا عفويًّا، ومباشرًا، وبصوت عال، عن توترات السياسة والثقافة والمجتمع في تلك المرحلة بالذات. لذلك سرعان ما توسعت دائرتها لتشمل فئات اجتماعية أخرى أبرزها طبقة العمال، ولتمسح جلَّ المدن الفرنسية إلى جانب مجمَّعات الطلاب والمعاهد الثانوية، ولتستهدف بغضبتها النظام الديغولي بعد عشر سنوات من انتصابه. أما في العمق، فقد كانت تلك الحركة بمنزلة مشرط الجراح يحفر عميقًا في أسس النظام الاجتماعي والسياسي الذي أرسته دول أوروبا ما بعد الإمبراطورية وهي تنكمش داخل حدودها القومية. إنها لحظة وعي بالذات جاءت على شكل اعتراض شامل على مجمل التركيبة القائمة. فلم يكن الاحتجاج موجهًا ضد المجتمع التقليدي ببناه الفكرية والثقافية والاقتصادية وحسب، وإنما استهدف مختلف أوجه الحياة المعاصرة مسائلًا مراكز سلطتها، بأطرها الأيديولوجية ونظمها السياسية وعلاقاتها الاجتماعية وأنماطها الاستهلاكية.

بهذا المعنى، لم تكن انتفاضة 68 فرنسية خالصة، فامتدت آثارها إلى عدد من البلدان الأخرى التي شهدت في نفس الفترة تحركات طلابية وعمالية واسعة مثل ألمانيا وإيطاليا وتشيكوسلوفاكيا في أوروبا، والمكسيك والبرازيل في أميركا اللاتينية، واليابان في آسيا. ورغم أهمية الحركة الطلابية بشكل عام وما فجرته انتفاضة طلاب 68 على وجه الخصوص من أسئلة راهنة، فإن قليلين هم الذين التقطوا تلك اللحظة وتمكنوا من إعطاء تلك الحركة الاحتجاجية مدلولها الاجتماعي والسياسي.  

هربرت ماركيز، من رواد مدرسة فرانكفورت الأوائل وأحد أبرز ناقدي النظم الاجتماعية الحديثة بوجهيها، الرأسمالي والاشتراكي، أهدى كتابه "نحو التحرر: ما بعد الإنسان ذي البعد الواحد" إلى شبيبة مايو 68. قدم ماركيز قراءته لانتفاضة الطلاب انطلاقًا من خلفيته الماركسية، ولكن بروح نقدية قادته إلى توسيع مجال الرؤية ليشمل تحليله هذه الفئة الجديدة باعتبارها قوة تحرر اجتماعي وسياسي. فقد حرَّكت أمواج الاحتجاجات الطلابية مجتمعات أوروبا بجناحيها، الشرقي والغربي، وهي كما يقول: "آخذة في التوسع سواء في الأمم الاشتراكية القديمة أو في البلدان الرأسمالية. ففي فرنسا، ولأول مرة تتحدى هذه الحركة نظامًا سخَّر في مواجهتها كل عناصر قوته"([1]).

خلافًا للطبقات الاجتماعية التقليدية التي باتت "مكبَّلة بقيود البنى التحتية لتلك المجتمعات، فتحولت إلى قوة معارضة للتغيير"، بدأت الحركة الطلابية، أو "الإنتلجنسيا الشابة"، على حدِّ تعبير ماركيز، تلعب دورًا سياسيًّا مهمًّا قد يسهم في تغيير خط سير تطور المجتمعات المعاصرة. إن دخول الحركة الطلابية كمعطى جديد إلى ساحة الجدل الفكري والسياسي يقتضي كما يقول ماركيز: "أن تدرج النظرية النقدية هذا البعد في جهازها المفهومي وأن تدرس تداعياتها على جهود بناء المجتمع الحر"([2]).

من داخل فرنسا، ومن قلب وسطها الأكاديمي كان أحد أبرز منظري الحركات الاجتماعية، آلان توران، يرصد ملامح قوة اجتماعية جديدة وهي تتشكل في أحضان الجامعات الفرنسية. لقد كان لتلك الاحتجاجات أهداف ومقاصد سياسية، يقول توران: "وينبغي أن لا نفهمها انطلاقًا من وعي الذين شاركوا فيها أو في سياق أزمة المؤسسة الجامعية، وإنما بالاستناد إلى صراعات المجتمع وتناقضاته وإلى نظامه الاجتماعي والسياسي"([3]).

تكتسي الحركة الطلابية، من بين باقي الحركات الاجتماعية والسياسية أهمية خاصة لأكثر من سبب؛ أول تلك الأسباب وأهمها على الإطلاق موقعها الوسطي الذي يجعل منها جسرًا بين أطراف معادلات كثيرة، وذلك هو بالتحديد مكمن الجاذبية فيها وموطن قوتها وضعفها على حدٍّ سواء.

موقع الوسط ودور الجسر

- تتمتع الحركة الطلابية بموقع اجتماعي وثقافي وسياسي فريد؛ فجيل الجامعة وسط بين شبيبة المعاهد الثانوية المتحفزة لخوض تجربة الفضاءات المفتوحة، إنْ على صعيد حرية الجدل الفكري والسياسي أو على صعيد التخفف من ضغط الروابط الاجتماعية التقليدية وما تحيل عليه من أشكال السلطة الرمزية والفعلية، وبين بيئة العمل والإنجاز بتحدياتها المهنية المعقدة وخبرتها الواقعية وما تفضي إليه من نجاحات وإخفاقات. فالحركة الطلابية هي الجسر الذي يربط بين هذا الجيل وذاك، وهي البوتقة التي تُختبر في معتركها طموحات أولئك الصغار وتلتقي أحلامهم بواقع هؤلاء الكبار. إنها باختصار جسر بين الحاضر والمستقبل.

- الحركة الطلابية جسر بين مؤسسة العائلة ومؤسسات النشاط السياسي والمدني. فغالبًا ما تشكل الجامعة حلقة الوصل بين الطلبة، وقد وفدوا إليها من محيط العائلة بعلاقاته الأهلية التي تسير وفق تراتبية ثابتة ومحددة، وتدور ضمن دوائر مغلقة مهما انفتحت وضيقة مهما اتسعت، وبين الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني التي تحتاج باستمرار لدماء جديدة توسع من خلالها مساحات نشاطها وتزيد من تأثيرها السياسي والاجتماعي. فالحركة الطلابية بالنسبة إلى النسيج الحزبي والجمعوي ليست مجرد ساحة للحضور أو ميدان للمنافسة، إنها خزان للطاقة وأداة للضغط ومرآة تعكس على صفحتها أفكارها وأطروحاتها. والأهم من ذلك، أنها منبر لتدريب كوادرها السياسية ومدرسة لتخريج قيادات الوطن المستقبلية.

- الحركة الطلابية جسر بين المحلي والعالمي، فتياراتها وفصائلها تعكس كثيرًا مما ما يدور في ساحات الفكر والأيديولوجيا من جدل ونقاش لأطروحات اليمين واليسار، سواء في الشرق أم في الغرب. وتوازيًا مع الخطوط الفكرية التي تربط ما بين ميادين الصراع الفكري وحلقات النقاش التي تزخر بها ساحات الجامعة وبين ما يتم تداوله على صعيد العالم من أفكار وإبداعات وفنون، تمتد التيارات السياسية الجامعية عبر أطرها الحزبية الوطنية إلى ما وراء الحدود لترتبط بنظيراتها الإقليمية والعالمية. وكثيرًا ما تكون حركة الفصائل الجامعية، صعودًا ونزولًا، قوة وضعفًا، مجرد صدى لحركة قوى كبرى، فتتفق باتفاقها وتختلف باختلافها، وتتحد باتحادها وتنقسم بانقسامها.

- على الصعيد العربي، لطالما شكَّلت الحركة الطلابية في عدد من البلدان جسرًا بين الوطني والعربي. فكانت جامعات عربية مرموقة ساحات مفتوحة تقاطعت عبرها خيوط الحركة الطلابية العربية واستقطبت في مناسبات عديدة رموزًا فكرية وثقافية وأدبية وفنية ووفودًا طلابية ونقابية من بلدان مختلفة. وكانت النقاشات المفتوحة والأنشطة المتنوعة في تلك المناسبات تدور حول قضايا عديدة مثل الاستبداد والتبعية والديمقراطية والتحرر، وكانت القضية الفلسطينية على الدوام القضية الأبرز. ومن الجامعات التي برزت فيها حركات طلابية نشطة وفاعلة في سبعينات وثمانينات القرن العشرين على سبيل المثال، جامعات تونس والمغرب والسودان ومصر والأردن. ورغم أن الأنشطة الاحتجاجية السياسية والنقابية، كانت في أحيان كثيرة، تخصم من منسوب التحصيل العلمي، إلا أنها في المقابل كانت تسلِّح الوعي الطلابي بمعارف وخبرات وعلاقات لا توفِّرها المناهج التعليمية.

"كولومبيا" وأخواتها

اليوم، وبعد عقود من الخمود، تعود الشبيبة الجامعية إلى ميادين الاحتجاج من جديد، لتأخذ موقعها تحت الشمس، بعد أن منحتها الحرب على غزة وصمود المقاومة الفلسطينية جرعة "تحررية" هي في أشد الحاجة إليها. لقد انطلق الحراك الطلابي من قلب الولايات المتحدة ومن نخبة جامعاتها العريقة، وسينتشر مع الأيام في باقي جامعات العالم مرورًا بأوروبا إلى أقاصي آسيا.

جدير بالذكر أن هذا الحراك الطلابي الذي يبدو للبعض مفاجئًا، ليس وليد تفاعل سطحي وسريع مع قضية خارجية، بل هو حلقة من حلقات تراث احتجاجي متراكم، ونتاج صراع فكري واجتماعي وسياسي يعتمل في عمق المجتمع الأميركي. وقد كان لجامعات أميركا في الماضي إسهام مباشر في إنهاء حرب فيتنام في منتصف سبعينات القرن العشرين، وإنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في منتصف التسعينات، فقد انطلقت شرارة التحركات الاحتجاجية في الحالتين من ذات الجامعات، كولومبيا وأخواتها.

يكتسي حراك الجامعات الأميركية هذه المرة أهمية خاصة، فهو إلى جانب مناصرته الصريحة للقضية الفلسطينية، أطاح بعدد من المسلَّمات التي ظلت تكبِّل العقل السياسي والأكاديمي الغربي لعقود، مثل: "معاداة السامية" و"تقديس الصهيونية" و"علوية النموذج الإسرائيلي". خلال هذا الحراك، تكلَّم السيناتور اليساري الأميركي، بيرني ساندرز، داعيًا رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، إلى عدم الخلط بين إدانة القتل في غزة ومعادة السامية. وأكد ساندرز أن القول بأن الحكومة الإسرائيلية "قتلت 34 ألفًا في 6 أشهر ليس معاداة للسامية". خلال هذا الحراك، تكلمت كذلك الكاتبة والمخرجة الكندية، نعومي كلاين، معتبرة أن الصهيونية صنم ينبغي أن يُكسر. وقالت كلاين في تجمع احتجاجي على الحرب الإسرائيلية على غزة: إن "الكثير من أبناء المجتمع اليهودي يعبدون صنمًا زائفًا يُسمى الصهيونية، وإن الصهيونية لطالما تسببت لهم في كوارث". وخلال هذا الحراك، اعتبرت عضو الكنيست الإسرائيلي، أفرات رايتن، في صحيفة هآرتس أن إسرائيل خسرت الجامعات وأن سردية تفوق النموذج الإسرائيلي قد انهارت. وأكدت "أن السردية الجديدة تربط بين الصهيونية والقمع والإمبريالية". إن مجرد فتح النقاش في هذه المسلَّمات-المحرَّمات سيكون له أثر فكري وسياسي غير مسبوق لطوفان الأقصى ولما أحدثه في طريقه من "طوفانات" أخرى، مثل طوفان الجامعات الأميركية.

 

ABOUT THE AUTHOR

References

[1]  Herbert Marcuse, Vers la Liberation: Au-Delà de L'homme Unidimensionnel, Les Editions de Minuit, 1969, p. 8.

[2] Ibid. p. 37.

[3] Alain Touraine, the Post-industrial Society: Tomorrow's Social History, Classes, Conflicts and Culture in the Programmed Society, Random House, 1971, p. 91.