هناك قدر كبير ومتزايد من الأبحاث حول الحدود تتقاطع فيها تخصصات مختلفة مع مجموعة واسعة من القضايا من بينها الهجرة؛ حيث يتم فحص الحدود في سياق سياسات الهجرة التقييدية التي أدت إلى توليد مهاجرين غير نظاميين على نطاق واسع في الجنوب العالمي وإقامة جدران وأسوار حول الشمال تكرس الكثير من الاهتمام للسيطرة على الحدود في سياق الأمن الوطني والسياسة الخارجية.
في مقابل ذلك، لا يتم تسليط الضوء على هذه القضية إلا من خلال ما تجرفه الأمواج من جثت إلى شواطئ العالم المتقدم، بينما حالات الوفيات المرتبطة بالحدود لا تحدث فقط في المواقع المحددة من الحدود البحرية، وإنما كذلك في البرية منها، وفي الطريق وفي الاحتجاز أو أثناء الترحيل.
وتحاول هذه الورقة الوقوف على كيفية تأثير سياسات مراقبة الحدود على حياة المهاجرين غير النظاميين سعيًا إلى فك خيوط المسؤولية عن الوفيات التي تحدث في صفوفهم نتيجة العبور غير القانوني للحدود، خصوصًا أن هذه الوفيات ترتبط بالحدود؛ حيث يهلك هؤلاء بسبب الطرق التي يتم بها التحكم في الحدود بين الشمال والجنوب، وهي وفيات غير عشوائية، مما يثير سؤال المسؤولية.
أولًا: العلاقة بين الهجرة والحدود
تعتبر الحدود عنصرًا مركزيًّا في تحليل الهجرة الدولية، بل إن الهجرة هي ذاتها ممارسة حدودية؛ ذلك أن الحدود لا تضمن شيئًا آخر غير فعل العبور، أي إن "الهجرة الدولية بأشكالها العديدة والمتنوعة (للعمل، والدراسة، والانضمام إلى أفراد الأسرة، والبحث عن ملجأ) تصبح مرئية من خلال الحدود الإقليمية(1). بل إن مفهوم "الحدود" يشير في بعده الجغرافي إلى حركات الهجرة في حد ذاتها: حيث يترك المهاجرون مكان عيشهم ومعيشتهم المركزي، ويغادرون إلى مكان آخر(2).
وتتضح نسبية نفاذية الحدود من خلال السهولة التي يعبر بها بعض المهاجرين الحدود على النقيض من البعض الآخر؛ حيث تعمل الحدود كفلاتر (مرشحات) تفرق بين أنواعهم؛ إذ في الوقت الذي تظل الحدود بوابة مفتوحة نسبيًّا لأصناف من المهاجرين مثل السياح والنخب الاقتصادية والكفاءات، تؤدي التهديدات والضغوط الفردية إلى سياسات هجرة حمائية كتلك التي تنتشر عبر الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على خلفية الخوف من فقدان الرفاهية الاقتصادية والأمن العام والهوية؛ حيث "الهدف هنا هو الوقاية الاجتماعية، والغرض منه هو منع المهاجرين غير الشرعيين من أن يصبحوا 'مشاكل' في الجسم الاجتماعي من خلال منع دخولهم إلى البلاد"(3)، وهو ما يكشف أن الحدود هي أكثر بكثير من مجرد خطوط على الخريطة أو مواقع في منظر طبيعي، ولكنها تشكل عمليات قابلة للتعديل من الإقصاء والعزل والتمييز(4).
ومع ذلك تظهر الحدود متناقضة ومتنازعًا عليها في التوتر بين المثال: حدود مغلقة تمامًا ضد المهاجرين غير المرغوب فيهم، والواقع: الحدود التي يسهل اختراقها حيث تلعب قوات أمن الدولة والمهاجرون غير الشرعيين لعبة القط والفأر التي لا تنتهي(5). ذلك أنه لا يمكن السيطرة على تحركات الهجرة ببساطة من خلال إدارة الحدود، سيما بالنسبة للحدود البحرية التي يتطلب ضبطها أن تغطي المراقبة سطحًا شاسعًا، وليس فقط نقطة دخول، كما هي الحال في المطار، ولا خطًّا، مثل الحدود البرية.
وقد انتقلت السيطرة على الهجرة غير المرغوب فيها من الحدود نفسها إلى مناطق وبلدان منشأ أو عبور المهاجرين؛ إذ في محاولة لدفع السيطرة على الهجرة بعيدًا عن حدودها الإقليمية، صارت دول الاتحاد الأوروبي تستعين بمصادر خارجية لتوسيع الضوابط الحدودية إلى ما وراء الحصن الأوروبي في إطار نوع من الامتداد الإقليمي لحدود الاتحاد الذي يعكس الطبيعة المعقدة والمتغيرة للحدود في العالم المعاصر؛ "فمن خلال إزالة سياسة الرقابة على حدودها، تمكنت الدول من التهرب من ضوابطها الداخلية بناءً على معايير العدالة وحقوق المواطنة؛ حيث يحاول هذا الإضفاء الخارجي توسيع الحدود لتقييد وصول المهاجرين إلى الحقوق التي تمنحها الدول الليبرالية"(6).
إنه بُعد ما قبل الحدود -الذي يتجسد- من خلال عمليات المراقبة "عن بعد" بالتعاون مع بلدان المنشأ والعبور، أي نشر الأدوات والتدابير خارج الحدود نفسها، من خلال إضفاء الطابع الخارجي على السياسات والضوابط بواسطة آليات مثل: التعاون الشرطي عبر الحدود، واعتماد ضباط اتصال في بلدان العبور والمنشأ، وإنشاء ملاجئ أو مراكز معلومات للمهاجرين في بلدان العبور(7).
وبرغم سلسلة الأنشطة التي تتجاوز الحدود الإقليمية في بلدان المنشأ وفي بلدان العبور بناءً على طلب الدول المستقبلة وذلك من نقاط تفتيش واعتراض على الحدود، "وبينما تنشر البلدان المستقبلة القوية برامج وإستراتيجيات تغطي مناطق متجاورة في حملاتها الأمنية، يتم إنشاء صور للحدود المادية باعتبارها مرنة وقابلة للحركة؛ غالبًا ما تعطي هذه المرونة الظاهرة إحساسًا بـ 'فقدان السيطرة'"(8).
وذلك ليس لأن المراقبة المكثفة للحدود لا تستطيع تشكيل سلوك المهاجرين بطريقة تمنعهم من عبور الحدود بشكل غير مشروع، وإنما لأنه مع ضخ كميات هائلة من الموارد والتقنيات في مجال إنفاذ الحدود والتي تجمع عددًا متزايدًا من أفراد الشرطة (عملاء حرس الحدود)، والهياكل المادية (الأسوار والأضواء)، وأجهزة المراقبة (المروحيات والمسيرات، وأجهزة الاستشعار الأرضية، والكاميرات، ومناظير الرؤية الليلية بالأشعة تحت الحمراء)، أصبحت الحدود الجنوبية للاتحاد الأوروبي محاطة للغاية بشبكات الإجرام التي تنشط في مجال تهريب المهاجرين.
ثانيًا: حقائق ووقائع على مهالك المهاجرين أمام التحصينات الحدودية الأوروبية
إن التجربة المعيشة للحدود تكشف عن أنها لا تقل غموضًا بالرغم مما قد تبديه خطوطها من شفافية. إذ تستحيل الحدود إلى مناطق لانعدام الأمن بالنسبة للمهاجرين في الوقت الذي تسعى لإنتاج الأمن لفائدة الدول؛ حيث من المؤسف أن تعزيز إنفاذ الحدود من قبل هذه الأخيرة صار يعني بالنسبة للعديد من المهاجرين الألم والمعاناة بل وحتى الموت.
إن الجدلية بين الرقابة على الحدود ومحاولة المرشحين للهجرة الالتفاف عليها ومناورتها وما ينتج عن ذلك من انقسام طرق المهاجرين غير النظاميين هي إحدى الآليات التي تؤدي إلى ارتفاع أعداد الهلكى على مشارف الحدود البرية أو البحرية سيما حول منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط التي تحولت إلى الطريق الأكثر فتكًا بالمهاجرين في العالم؛ حيث تحول هذا البحر إلى سائل قاتل وغدا معه المهاجرون أرواحًا ضائعة، وتحولت الوفيات المرتبطة بحدوده إلى أحداث روتينية، علمًا بأن هذه الوفيات لا تحدث في البحر فحسب، بل حتى قبل عبوره أو بعده.
ورغم أن الطريقة التي تتم بها السيطرة على الحدود والموسومة بإستراتيجية "المنع من خلال الردع" تقوم على فكرة جعل العبور غير القانوني لهذه الحدود أمرًا صعبًا ومكلفًا للغاية، إلا أن تعداد من يقدمون على المحاولة ليس بالهين وهو ما يفسر ارتفاع أعداد الذين يهلكون من بينهم؛ إذ "خلال الفترة الممتدة بين 2014 و2020 أودى البحر الأبيض المتوسط بحياة أزيد من 21200 شخص أثناء محاولتهم الالتحاق بأوروبا"(9).
ويعد التهريب الذاتي ممارسة شائعة في صفوف المهاجرين غير النظاميين، ويقوم على محاولة التسلل إلى المعابر الحدودية وتجريب اختراقها، وهو يعتمد في ذلك على السرية التي يجسدها المهاجرون من خلال أنماط الحركة وعدم الحركة لديهم. غير أن تدابير المراقبة والاعتراض تصعِّب الدخول إلى الوجهات المقصودة بل قد تؤدي إلى مآلات كارثية لمصير هؤلاء خاصة في حالات "التصعيد الحدودي"، وذلك كما حدث "في سبتمبر/أيلول 2005، حين اقترب آلاف من سكان غرب ووسط إفريقيا من الجيبين الإسبانيين، سبتة ومليلية، في شمال المغرب؛ حيث تم نشر قوات الأمن المغربية والحرس المدني الإسباني. وفي 29 سبتمبر/أيلول، أُطلقت أعيرة نارية في سبتة، وأُبلغ عن مقتل خمسة مهاجرين"(10).
في المقابل، قد تفرض الحراسة المشددة للحدود على المرشحين للهجرة التحول إلى وجهات أخرى، لا تقل صعوبة؛ حيث "أدى تحويل حركة المهاجرين غير الشرعيين بعيدًا عن المناطق الحضرية إلى مواقع نائية أقل حراسة إلى تحويل عملية عبور الحدود من مسعى بسيط نسبيًّا إلى مغامرة معقدة وخطيرة"(11)، ويضطر المهاجرون لقطع مسافات طويلة بعيدًا عن المناطق المأهولة وطرق النقل في ظل تضاريس وعرة؛ إذ يواجه أولئك الذين يسلكون طريق الألب على الحدود الفرنسية-الإيطالية جبالًا عالية يضطرون لتجاوزها إلى المشي في ظل أجواء باردة جدًّا. وعلى النقيض من ذلك يواجه المهاجرون المنطلقون من إفريقيا جنوب الصحراء صحاري قاحلة مع طقس حار. وهكذا تتحول هذه التضاريس، باعتبارها جزءًا من الحدود، إلى سلاح طبيعي ضد المهاجرين، يكبدهم الإرهاق الجسدي الذي يفضي في حالات كثيرة إلى موتهم.
لهذا، ومع تقلص المسارات القانونية للهجرة، يلجأ المهاجرون للمهربين والمتاجرين بالبشر؛ حيث "يؤدي العنف والقهر ضد النازحين إلى دفع الهجرة لطرق أکثر سرية، کما يعيد تنظيم تجارة التهريب، ويعزز شبکاتها الإجرامية. وبالنتيجة، يضطر العديد من الأشخاص للبحث عن طرق أخرى، أکثر خطورة في کثير من الأحيان، وللاعتماد على المهربين معدومي الضمير أکثر من ذي قبل. وفي النهاية يسفر هذا عن ارتفاع أکبر في عدد الهالکين"(12).
لقد أدى تعزيز الإجراءات الأمنية وعسکرة الحدود إلى ارتفاع عدد القتلى من النازحين قسرًا. بشکل عام، فإن إغلاق أحد طرق الهجرة يجبر النازحين على سلك طرق أخرى أکثر وعورة. في 2017، مات 1 من کل 57 نازحًا حاولوا عبور البحر المتوسط بينما ينخفض الرقم إلى 1 من کل 267 نازحًا في 2015(13).
وفضلًا عن القصص المأساوية للوفيات عبر الحدود، تنضاف صور أخرى من المعاناة ترجع إلى "سياسات الاستقبال المطبقة في إطار ما يسمى بنهج النقاط الساخنة، الذي يخطط لاحتجاز الأشخاص في الجزر بشكل منهجي لعدة أشهر في ظروف استقبال سيئة للغاية"(14). فهذه المراكز تشيد على عجل لتكون مساحات لتطبيق حالة الاستثناء على المستوى الفردي لكل مهاجر غير نظامي يتم إيداعه في انتظار ترحيله. كما أن الوقت الذي يُجبر فيه المهاجرون على الانتظار لا يمثل فحسب وقتًا ميتًا بالنسبة لهم، ولكنه يبقى شكلًا من أشكال الترهيب وانعدام الأمن، لأنه يعزز لديهم القلق والخوف وعدم اليقين؛ حيث لا يعرفون أنواع التدابير التي تواجههم خلف أبواب مغلقة في اتجاه ترحيلهم.
على أن وضع المهاجرين غير النظاميين رهن الاحتجاز ليس دافعه فقط شل حركتهم على خلفية الخوف من هروبهم، وإنما هو ممارسة تحمل -فضلًا عن ذلك- دلالات التجريم، وفي هذا الإطار "جادل مارك داو ((Dow Mark بأن الغرض من احتجاز المهاجرين ليس فقط الاحتواء والترحيل في نهاية المطاف، ولكن المقصود به أيضًا معاقبة الأفراد وكأداة للاستجواب"(15). وتعتبر المراقبة الإلكترونية والوسم (وضع علامات) عناصر مقلقة من حيث الاستخدام المتزايد للتكنولوجيا لتعزيز تدابير التجريم،... إذ تصدر إنذارات خارقة من الجهاز المتصل بأجساد (المحتجزين) ويشعر الناس كل يوم بالتأثير الجسدي والنفسي غير الإنساني لهذه التكنولوجيا(16).
وهكذا لم تعد مراكز الاحتجاز مجرد أماكن لاستبعاد المهاجرين غير النظاميين من التنقل ولكن أيضًا لاستثنائهم من استحقاقات الكرامة الإنسانية، بل إنها أبانت عن فشلها في توفير الحماية اللازمة لهؤلاء المهاجرين خاصة حماية حياتهم، وخير دليل على ذلك "الحريق الذي وقع، في أكتوبر/تشرين الأول 2005، في مركز احتجاز المهاجرين غير الشرعيين الواقع في مطار شخيبول بأمستردام؛ حيث توفي في النيران أحد عشر مهاجرًا غير شرعي كانوا على وشك الترحيل من هولندا"(17).
إذن، فحتى من لم يمت في انتظار الوصول إلى أوروبا، يمكن أن يموت في انتظار ترحيله، أو قد يقوده الحظ لأن يرحل إلى جحيم لا يقل عن سيناريو الموت، إلى غرفة انتظار قد لا تفضي إلى موت ولكن إلى عذاب، وفي هذا الإطار فقد "عرضت 'سياسة الإعادة' الإيطالية حقوق الإنسان للمهاجرين للخطر، ليس فقط لأنها لم تمنحهم فرصة التقدم بطلب للحصول على الحماية الدولية، ولكن أيضًا لأنه تم نقل المهاجرين إلى ليبيا، وهي دولة معروفة باضطهادها وسوء معاملتها للمهاجرين"(18).
ثالثًا: مسؤولية السياسات الحدودية الأوروبية
على الرغم من أن أوروبا تحاول دفع السيطرة على الهجرة بعيدًا عن حدودها الإقليمية، إلا أن المسؤولية عن التكلفة الإنسانية لإنفاذ سياساتها في هذا الإطار لا تزال تخضع لمبدأ الإقليمية، ويبقى الإشكال المطروح هنا هو ذلك المتعلق بمدى تكييف هذه المسؤولية من حيث كونها سياسية أم مجرد أخلاقية أم أكثر من ذلك قانونية.
إن المآسي التي تدور على عتبات حدود بعيدة عن أوروبا تبقى صنيعة هذه الأخيرة، ما دامت سياسات الهجرة الأوروبية تستند على "تصدير الحدود"؛ إذ "أدى تمويل الاتحاد الأوروبي وتبرعاته من المعدات العسکرية والأمنية، وکذلك الضغط الذي يمارسه بشأن إحکام حدود البلاد الأخرى خارج الاتحاد، إلى تقوية وتعزيز سوق تأمين الحدود بإفريقيا. وبدأت مؤسسة الضغط (اللوبي) اتحاد الإيروسبيس وصناعات الدفاع في أوروبا (ASD) في الترکيز على الضغط من أجل تصدير الحدود الأوروبية"(19).
ومن المعلوم أن الأضرار الجسدية التي تلحق بالمهاجرين هي نتاج المواجهة الحدودية بالوكالة، إلا أن بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي هي من تبادر بتمويل ودعم جهود تصدير الحدود في إطار اتفاقيات ثنائية مع دول الحراسة من جنوب المتوسط. و"ما يجعل هذا التعاون إشکاليًّا بشکل خاص هو أن أغلبية الحکومات المستفيدة من الدعم هي أنظمة استبدادية، توجه الدعم الذي تتلقاه إلى أجهزة أمن الدولة والمسؤولة تحديدًا عن القمع وانتهاكات حقوق الإنسان"(20).
بل أكثر من ذلك في أوروبا، هناك ديناميكيات تشير إلى التحول نحو التقييدية -'المنعطف التقييدي' أو المنعطف العقابي- في سياسات الهجرة والتي تتميز بزيادة السيطرة على الهجرة، و'تجريم' الهجرة(21)، وقومية سياسات الهجرة؛ إذ إن هذه الأخيرة "همشت التنظيم من قبل المؤسسات فوق الوطنية وتم تطويرها من قبل وزراء داخلية الدول الأعضاء، الذين اتخذوا موقفًا متشددًا بشأن الهجرة، وكانوا، في كثير من الحالات، مسؤولين عن تحفيز خطاب عدم الشرعية والتجريم"(22)، هذا الخطاب الذي يكتب مشهدًا إضافيًّا للحدود، هو مشهد التشدد المحافظ الذي لا يكتفي بتعزيز المنطق الحمائي للمجتمع المسور، ولكنه يتحول إلى آلية لإضفاء الشرعية على الممارسات الشرسة التي تعرض معها السلطات الحدودية المهاجرين للانتهاكات الحقوقية وذلك في استغلال تام لوضعهم غير القانوني.
وتؤدي العسكرة، في إطار الأجندة الأوروبية المهووسة بأمننة الهجرة، إلى "تصلب" الحدود الإقليمية للاتحاد الأوروبي، وأيلولتها إلى إجراءات دفاعية تبعًا لاستعداء أولئك الذين يحاولون عبور الحدود فقط للبحث عن مأوى أو عمل "ومن المثير للشفقة أن وفاتهم يُنظر إليها ضمنًا على أنها 'أضرار جانبية' للحرب ضد الهجرة غير الشرعية"(23) التي تقودها وكالة فرونتكس (FRONTEX)(24)، ولذلك ما فئتئت منظمات حقوق الإنسان تنادي بإغلاقها، وذلك على خلفية تحول أنشطتها إلى فخاخ لموت المهاجرين على حدود الاتحاد الأوروبي، سيما حينما تخرج أنشطتها عن المألوف أو عن الإطار القانوني، وذلك مثل الحالة التي غرق فيها مهاجرون في البحر أثناء نشر سفينة عملية مشتركة بتنسيق من الوكالة سنة 2006.
ونظرًا لأن المهاجرين يلجؤون لمهربين مع ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر، حيث يأخذهم هؤلاء عبر طرق محفوفة بالمخاطر، وينقلونهم على متن قوارب لا يمكن توقع أن يكون أفضل حظوظها شيئًا آخر غير أن تنقلب. فيعتقد أن موتهم يقع على رؤوس المهربين الذين سهَّلوا رحلاتهم. لذا، "يجب على المهربين بذل العناية الواجبة للتأكد من أن قواربهم صالحة للإبحار وآمنة إلى حدٍّ معقول. إذا انتهك المهربون هذا الشرط، فهم مذنبون بالإهمال. ولكن هل صحيح أن المهربين مسؤولون أخلاقيًّا عن آلاف المهاجرين الذين يموتون كل عام أثناء عبور الحدود الخطرة؟ يقع اللوم بشكل أكثر وضوحًا على الحكومات التي تفرض قيودًا على الهجرة. وتجبر هذه الحكومات المهاجرين على القيام برحلات خطيرة من أجل ممارسة حقوقهم المعنوية، والحكومات مسؤولة عن وفاتهم أيضًا"(25). فمع أن مسؤولية المهربين ثابتة، إلا أن الحكومات التي تفرض قيود الهجرة هي الجهات التي تتحمل معظم اللوم عن آلاف المهاجرين الذين يموتون أثناء محاولتهم الإفلات من هذه القيود، خاصة في ظل ممارسات عدم المساعدة؛ حيث إن تقديم المساعدة للمهاجرين الذين يواجهون محنة ما على الحدود هو مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون قانونية بمقتضى القانون الدولي. "فعلى الرغم من أن الهدف الأساسي لعمليات دوريات الحدود التي تنفذها الدول الأعضاء وفرونتكس هو مراقبة وضبط الحدود الخارجية، إلا أنها تتمتع أيضًا، وفقًا للقوانين البحرية، بقدرة والتزام بالبحث والإنقاذ(26). غير أن ممارساتها تدير ظهرها لذلك كما في قضية القارب الذي تُرك ليغرق سنة 2011، "ففي هذا الحادث، الذي وقع بينما كانت أكثر من ثمان وثلاثين سفينة حربية منتشرة على سواحل ليبيا في سياق التدخل العسكري لحلف شمال الأطلسي، تُرك اثنان وسبعون مهاجرًا فارين من منطقة الحرب لينجرفوا في وسط البحر الأبيض المتوسط لمدة أربعة عشر يومًا وقد لقي ثلاثة وستين شخصًا حتفهم"(27).
وبالرغم من أن جهود حرس الحدود ليست العامل الوحيد لإنقاذ حياة المهاجرين المعرضين للخطر، إلا أن انخراط فاعلين آخرين في جهود الإنقاذ، يواجه التوجس من المنع، بل التجريم، الذي يستهدف تقديم المساعدة الإنسانية للمهاجرين المنكوبين. فنظام العقوبات الذي يعاقب عمليات الإنقاذ صار مثبطًا للصيادين؛ إذ جعلهم مترددين في التصرف وفقًا لالتزامهم بإنقاذ أي مهاجرين في محنة. وإذا كان الأمل المعقود على مثل هذه التدخلات في إنقاذ الحياة قد لا يقضي على جميع الوفيات ولكنه أفضل من عدم اتخاذ أي إجراء على الإطلاق، فإن حكومات الدول هي من يقع عليها عاتق ليس فقط اتخاذ ممارسات لإنقاذ الحياة وإنما تطبيق تدابير استباقية في هذا الإطار وذلك من قبيل تدريب عناصر خاصة من حرس الحدود على القيام بعمليات الإنقاذ على طول المناطق الحدودية في المياه والجبال والصحاري.
إن ارتفاع عدد المهاجرين الذين يلقون حتفهم في اقترانه بالتخلي عن حياتهم إلى حد الموت، إنما يرتبط قبل ذلك بصعوبات عبور الحدود، وبحشد الحدود باسم إنفاذ السياسات المناهضة للهجرة؛ حيث يعمل ضبط الأمن على الحدود إلى توجيه المهاجرين نحو الخطر من خلال دفعهم إلى البحث عن المرور عبر مطبات برية أو بحرية تعرضهم لحوادث مؤسفة، وبالتالي فالسلطات الحدودية قد لا تكون مسؤولة بالمعنى الدقيق للكلمة عن الوفيات على الحدود، إلا أنها تتحمل قدرًا معينًا من المسؤولية عنهم بقدر ما تكون هذه الوفيات نتيجة للسياسات المتشددة المدججة بالتكنولوجيات 'القاتلة' والتي تجبرهم على التضحية بأنفسهم في محاولة لعبور قد يسلم أو لا يسلم.
لذلك فقد خول بعض الباحثين للمهاجرين إمكانية "أن يقاوموا القيود المفروضة على الهجرة من خلال التهرب منها، وخداع عملاء الحدود، واستخدام القوة الدفاعية"(28). وتجسد هذه الأخيرة بالنسبة للباحث ما اعتبره حق المهاجر في مقاومة 'الإكراه الحدودي'، أي اتخاذ مجموعة من الإجراءات الدفاعية لمقاومة التهديد الذي تفرضه عليه قيود الهجرة خاصة حينما يشكِّل حرس الحدود تهديدًا غير مبرر باستخدام العنف، وذلك على اعتبار أن استخدام القوة يفي بشروط الدفاع عن النفس المسموح بها.
كما أن عدم شرعية سلوكات السلطات الحدودية تجاه المهاجرين شكَّل أساسًا لتوظيف منظور جرائم الدولة في إدانة سياسات إنفاذ الحدود على خلفية الأضرار التي تتسبب فيها سواء بالإصابة أو المرض أو الموت. وفي هذا الإطار اعتبر بعض آخر من الباحثين "بما أن الضرر يمكن أن يحدث بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال أفعال الإغفال أو ارتكاب الأفعال، فإن أطر جرائم الدولة ذات المفهوم الواسع قادرة على استيعاب أمثلة على العنف الهيكلي وكذلك عمليات القتل المباشر التي يرتكبها عملاء ترعاهم الدولة"(29)، وذلك مثل تلك التي يأتيها بشكل متعمد متعهدو مراقبة الحدود. فالممارسات على الحدود التي تظهر توقعًا واعيًا لعواقبها المميتة يجعلها تتوفر على عنصر القصد الجرمي.
1)- Andrew Geddes, Europe’s Border Relationships, and International Migration Relations, JCMS, 43(4), 2005, p. 788.
2)- Hans Karl Peterlini, and Jasmin Donlic, in the Radius of Borders-and beyond, in: Hans Karl Peterlini, and Jasmin Donlic (eds). Yearbook Migration and Society 2020/2021 Beyond Borders, (Bielefeld: Transcript Verlag, 2021), p. 7.
3)- Jonathan Xavier Inda, Border Prophylaxis: Technology, Illegality, and the Government of Immigration, 18(2), 2006, p. 117.
4)- Alexander C. Diener and Joshua Hagen, Borders: A Very Short Introduction, (Oxford: Oxford University Press, 2012), p. 84-85.
5)- Luna Vives, The European Union–West African sea border: Anti-immigration strategies and territoriality, European Urban and Regional Studies, 24(2), 2016, p. 2.
6)- Belén Fernández-Suárez, Migration Policies at the Spanish Border in Southern Europe: Between ‘Welfare Chauvinism’, Hate Discourse and Policies of Compassion, in: Natalia Ribas-Mateos and Timothy J. Dunn (eds). (Cheltenham: Edward Elgar Publishing Limited, 2020), p. 227.
7)- Susana Ferreira, Human Security and Migration in Europe’s Southern Borders, (Cham: Palgrave Macmillan, 2019), p. 189.
8) Cecilia Menj´ ıvar, Immigration Law Beyond Borders: Externalizing and Internalizing Border Controls in an Era of Securitization, The Annual Review of Law and Social Science, 10(1), 2014, p. 362.
9) كارول بارتون وآخرون، تقرير تسليط الضوء على الهجرة العالمية 2022، (برلين: التحالف العالمي للهجرة، 2022)، ص 8.
10)- Hannah Cross, Migrants Borders and Global Capitalism: West African Labor Mobility and EU borders, (Oxon and New York: Routledge, 2013), p. 82.
11)- Jonathan Xavier Inda, p. 130.
12) مارك إكرمان، مد الحصون: عن السياسات والمستفيدين والمتضررين من برنامج الاتحاد الأوروبي لتصدير الحدود، https://www.tni.org/files/publication-downloads/expanding_the_fortress_…
13) نفسه، ص 7.
14)- Chiara Denaro, Documenting and Denouncing Violence at Eastern European Borders: the Socio-Legal Relevance of Refugee Voices Through the Production of Audio-Visual Material, in: Natalia Ribas-Mateos and Timothy J. Dunn (eds), Handbook on Human Security, Borders, and Migration, (Cheltenham: Edward Elgar Publishing Limited, 2020), p. 189.
15) Paloma E. Villegas, Moments of Humiliation, Intimidation, and Implied ‘Illegality’: Encounters with Immigration Officials at the Border and the Performance of Sovereignty, Journal of Ethnic and Migration Studies, 41(14), 2015, p. 2368.
16) التحالف العالمي للهجرة، تقرير تسليط الضوء على الهجرة العالمية 2022، https://idcoalition.org/wp-content/uploads/2022/05/SRGM_AR.pdf
17)- Henk van Houtum and Roos Pijpers, The European Union as a Gated Community: The Two-faced Border and Immigration Regime of the EU, Antipode, 39(2), 2007, p. 299.
18)- Susana Ferreira, p. 190-191
19) مارك إكرمان، ص 6-7.
20) نفسه، ص 3.
21)- Belén Fernández-Suárez, p. 227.
22)- Hannah Cross, p. 86.
23)- Henk van Houtum and Roos Pijpers, p. 299.
24) الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل.
25)- Javier S. Hidalgo, Unjust Borders: Individuals and the Ethics of Immigration, (New York: Routledge, 2019), p. 156.
26)- Susana Ferreira, p. 189.
27)- Charles Heller and Lorenzo Pezzani, The Other Boats: State and Nonstate Vessels at the EU’s Maritime Frontier, in: William Walters, Charles Heller, and Lorenzo Pezzani (eds), Viapolitics: Borders, Migration, and the Power of Locomotion, (Durham: Duke University Press, 2022), p. 221.
28)- Javier S. Hidalgo, p. 121.
29)- Leanne Weber and Sharon Pickering, Globalization and Borders: Death at the Global Frontier, (New York: Palgrave Macmillan, 2011), p. 200.