أحدث الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مفاجأة نوعًا ما عندما قال في تصريحات نشرتها وكالة أنباء الأناضول الرسمية (7 يوليو/تموز): "سنوجه دعوتنا إلى الرئيس السوري، بشار الأسد (لزيارة تركيا)، وقد تكون في أي لحظة، ونأمل أن نعيد العلاقات التركية-السورية إلى ما كانت عليه في الماضي". بعد هذا التصريح بأيام قليلة، وعلى هامش مشاركته في قمة دول الناتو، 12 يوليو/تموز، أعرب أردوغان عن استعداده للقاء الرئيس السوري، سواء في تركيا أو دولة ثالثة. استخدم أردوغان لقب السيد عند ذكره الأسد، وهو الذي سبق أن وصفه بالقاتل، ودعا إلى تقديمه للمحكمة الجنائية الدولية.
بعد مرور نحو أسبوع على تصريح أردوغان الأول، علَّقت الخارجية السورية على تكهنات التطبيع التركي-السوري في بيان مبهم. لم تعلن الخارجية السورية عن قبول دعوة أردوغان، وبدت لغة بيانها أقرب إلى الاستقبال الفاتر، وعمومية التصور، منها إلى الوضوح. قالت الخارجية السورية، في البيان الذي أوردته وكالة الأنباء الحكومية، سانا، 13 يوليو/تموز: إن "عودة العلاقة الطبيعية مع تركيا تقوم على عودة الوضع الذي كان سائدًا قبل عام 2011"، أي الحقبة السابقة على اندلاع الانتفاضة الشعبية ضد حكم الرئيس السوري، ومن ثم اندلاع الحرب الأهلية، وكأن التاريخ يعود إلى الوراء ولا يمضي قدمًا.
أشار بيان الخارجية السورية إلى أن دمشق "تعاملت مع المبادرات الخاصة بتصحيح العلاقة السورية-التركية، وترى أن نتيجة تلك المبادرات ليست غاية إعلامية، وإنما مسار هادفٌ يستند إلى حقائق قائمة، ويُبنى على مبادئ محددة تحكم العلاقة بين الدولتين، أساسها احترام السيادة والاستقلال ووحدة الأراضي، ومواجهة كل ما يهدد أمنهما واستقرارهما، ويخدم المصلحة المشتركة للبلدين والشعبين". وأوضح البيان أن "أي مبادرة في هذا الصدد يجب أن تُبنى على أسس واضحة، ضمانًا للوصول إلى النتائج المرجوة والمتمثلة بعودة العلاقات بين البلدين إلى حالتها الطبيعية، وفي مقدمة تلك الأسس انسحاب القوات الموجودة بشكل غير شرعي من الأراضي السورية، ومكافحة المجموعات الإرهابية التي لا تهدد أمن سوريا فقط، بل أمن تركيا أيضًا". وانتهى البيان إلى أن سوريا وجَّهت "شُكرها وتقديرها للدول الشقيقة والصديقة التي تبذل جهودًا صادقة لتصحيح العلاقة السورية-التركية".
ولم يلبث الرئيس السوري أن أدلى بدلوه هو الآخر في الرد على دعوة أردوغان. قال الأسد، وهو يشارك بصوته في انتخابات مجلس الشعب السوري، 15 يوليو/تموز، إنه يرحب بلقاء نظيره التركي إن كان اللقاء "يحقق مصلحة البلد". وقال: "إذا كان اللقاء (مع الرئيس التركي) يؤدي إلى نتائج، أو إذا كان للعناق، أو إذا كان للعتاب، أو إذا كان لتبويس (تقبيل) اللحى، كما يقال بالعامية، ويحقق مصلحة البلد فأنا سأقوم به". وأضاف: "نحن إيجابيون تجاه أي مبادرات لتحسين العلاقات (مع تركيا)، وهذا شيء طبيعي، لا أحد يفكر بأن يخلق مشاكل مع جيرانه، لكن هذا لا يعني أن نذهب من دون قواعد... اللقاء بحاجة إلى قواعد ومرجعية". وتساءل الرئيس السوري عما إن كان اللقاء من شأنه "حل المشكلة، تحسين علاقات، إعادتها إلى وضعها الطبيعي، فإن أول سؤال نسأله: لماذا خرجت العلاقات عن مسارها الطبيعي منذ 13 عامًا؟ نحن لم نسمع أي مسؤول تركي يتحدث عن هذه النقطة بشكل صريح". وقال الأسد: "هل سيكون مرجعية اللقاء إلغاء أو إنهاء أسباب المشكلة التي تتمثل بدعم الإرهاب والانسحاب من الأراضي السورية؟ هذا هو جوهر المشكلة، لا يوجد سبب آخر". وأضاف: "نحن نسعى لعمل يحقق نتائج؛ لسنا ضد عقد لقاء، لكن المهم أن نصل إلى نتائج إيجابية تحقق مصلحة سوريا وتركيا"، التي قال: إنها "بلد جار، وهناك علاقات عمرها قرون طويلة". وذكر الأسد أن "سوريا أصرت على أن اللقاء ضروري بغض النظر عن مستواه. أنا لا أتحدث عن لقاء الرئيسين، بشكل عام اللقاءات مستمرة ولم تنقطع، وهناك لقاء يُرتب على المستوى الأمني من قبل بعض الوسطاء وكنا إيجابيين".
والواضح أن تصريح الأسد جاء أكثر تحديدًا وتخصيصًا من بيان وزارة خارجيته. ما يستشف من كلمات الرئيس السوري، أولًا، أن إطارًا مرجعيًّا لمباحثات بين الرئيسين لم يتم الاتفاق عليه بعد. وبينما لم يضع بيان الخارجية السورية شروطًا محددة للقاء، وبدا وكأنه يغض النظر عن شرط انسحاب القوات التركية من شمال سوريا؛ الأمر الذي ألمحت إليه تسريبات دوائر الوسطاء العراقيين والروس، عاد الأسد وذكَّر بهذا الشرط. وعلى الرغم من أن الأسد لم يرفض فكرة لقاء الرئيس التركي، إلا أنه قال ما يعني أنه ليس بصدد الاستعداد لهذا اللقاء، وأن الاتصالات على مستوى الأجهزة الأمنية جارية بالفعل.
لعدد من المراقبين، بدت تصريحات الرئيس التركي وكأنها توحي بأن تركيا مشت خطوات بعيدة نحو التطبيع مع سوريا، المثقلة بأكثر من عقد من الحرب الأهلية والدمار وفقدان السيادة والسيطرة. ويشير هؤلاء إلى أن زيارة الأسد المفاجئة لموسكو واجتماعه ببوتين، 25 يوليو/تموز، كانت في الحقيقة حلقة أخرى من الحراك الروسي الذي يعمل بقوة دفع عالية لجمع الرئيسين، التركي والسوري، وتطبيع العلاقات التركية-السورية. ولم تلبث وسائل الإعلام التركية أن بدأت في نشر تقارير عن مصادر لم تسمِّها تفيد بأن موعدًا للقاء أردوغان والأسد قد حُدِّد بالفعل، وأن الرئيس الروسي سيستضيف الرئيسين في موسكو. ولكن مثل هذه التقارير لم تجد توكيدًا من المتحدث باسم الخارجية التركية، أو من مدير مكتب الاتصال في رئاسة الجمهورية.
في 28 يوليو/تموز، وبعد يوم واحد من إدراج دمشق اسم الرئيس التركي ضمن القائمة السورية لداعمي الإرهاب، ذكرت صحيفة تركيا، التي توصف أحيانًا بالمقربة من دوائر حزب العدالة والتنمية الحاكم، أن أنقرة ودمشق ضاعفتا الجهود لتطبيع العلاقات بين البلدين، وأن لقاءات مكوكية قد جرت بين مسؤولي الاستخبارات التركية والسورية لتحديد مكان وزمن عقد القمة الثنائية بين أردوغان والأسد. وقالت الصحيفة: إن لقاء القمة المتوقع قد يُعقد عند معبر كسب الحدودي بين ولاية هاتاي ومحافظة اللاذقية خلال أغسطس/آب، وهو ما تم الاتفاق عليه بين رئيس الاستخبارات التركية، إبراهيم قالن، ونظيره الروسي، سيرغي ناريشكين، خلال زيارة سريعة قام بها الأخير لأنقرة.
بيد أن عددًا من المراقبين لم ير في حديث أردوغان مفاجأة ما بالضرورة، نظرًا لأن تسريبات لم تثبت صحتها دائمًا حول مساع لتطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق تزايدت بصورة ملحوظة في الشهور القليلة الماضية. وكان معبر كسب قد شهد قبل ثلاث سنوات لقاء بين مسؤولين في الاستخبارات التركية والسورية في بداية التحركات التي قادتها روسيا لتطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق؛ كما عُقد لقاء آخر بين وزيري الدفاع، التركي والسوري، في ديسمبر/كانون الأول 2022، استضافه وزير الدفاع الروسي. كافة هذه اللقاءات، إضافة إلى جهود الوساطة بين البلدين التي يتعهدها مسؤولون عراقيون منذ شهور، لم تنجم عنها نتيجة ملموسة بعد. وربما كان فقدان الإنجاز هذا هو ما استبطنته تعليقات الرئيس السوري على دعوة أردوغان.
فكيف يمكن بالفعل قراءة توقعات المصالحة بين تركيا وسوريا؟ وإلى أي حدٍّ تتقارب أو تتباعد أهداف كل من أنقرة ودمشق من مسار المصالحة والتطبيع؟ كيف ستتعامل تركيا مع قوى المعارضة السورية في حال تقدمت خطوات أخرى نحو المصالحة مع نظام الأسد؟ وإلى أي حد يمكن للقوى الإقليمية والدولية صاحبة التأثير في سوريا المساعدة على عملية التطبيع أو تعطيلها؟
أهداف ومصالح متباينة
سوريا هي بالطبع دولة جارة بالغة الأهمية لتركيا وتصور الأخيرة لأمنها القومي، وليس فقط للحدود المشتركة الطويلة والممتدة التي تجمع البلدين. والمؤكد أن اهتمام أنقرة بالجارة السورية لم يبدأ مع صعود العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في 2002، ولا مع اندلاع الثورة السورية في 2011، بل إلى خمسينات القرن الماضي عندما اتجهت تركيا إلى التموضع في ساحة المحاور الدولية والحرب الباردة، والتحرر من سياسة العزلة التي اختارتها خلال حقبة ما بين الحربين. الاهتمام البالغ بسوريا وتوجهات أنظمتها الحاكمة كان ما دفع حكومة مندريس إلى تهديد سوريا، عندما اتجهت الأخيرة بخطوات متسارعة إلى التحالف مع الاتحاد السوفيتي. وقد عادت تركيا إلى التهديد بالغزو مرة أخرى في 1998، عندما أصبحت سوريا الأسد الأب، الراعي الرئيس لحزب العمال الكردستاني ومضيفة زعيم الحزب، عبد الله أوجلان.
في السنوات التالية على الغزو الأميركي للعراق، شهدت العلاقات بين البلدين تقاربًا متسارعًا، بما في ذلك الاتفاق حول تعويض المتضررين من الجانبين من ضم تركيا ولاية هاتاي في 1938، وحرية التجارة والنقل. بانطلاق حركة الربيع العربي، حاولت أنقرة دفع نظام الأسد الابن إلى تبني إصلاحات دستورية وسياسية وتجنب مصير نظامي ابن علي ومبارك؛ وعندما اندلعت الثورة السورية، في مارس/آذار 2011، ترددت أنقرة طويلًا في اتخاذ موقف مناهض لنظام الأسد، وتابعت بدلًا من ذلك الضغط لإجراء إصلاحات شاملة في سوريا. وتأخرت تركيا إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2011 لتعلن تأييدها لتغيير النظام السوري، بعد أن أيقنت أنْ ليس لدى الأسد أي استعداد للاستجابة للمطالب الشعبية، أو التوقف عن استخدام العنف ضد المتظاهرين.
أدركت أنقرة مبكرًا، وربما مباشرة بعد التدخل الروسي العسكري في سوريا في أواخر 2015، أن احتمالات إسقاط النظام السوري تراجعت. ولعدة شهور بعد التدخل الروسي، توترت العلاقات التركية-الروسية، ووصلت حدَّ الصدام المباشر. ما أعاد المياه إلى مجاريها بين أنقرة وموسكو لم يكن الموقف الروسي الشاجب لمحاولة الانقلاب الفاشل في تركيا في صيف 2016، وحسب، ولكن أيضًا حاجة البلدين لبعضهما البعض، اقتصاديًّا وسياسيًّا، وسعيهما إلى تنظيم علاقاتهما في الساحة السورية. ولكن، لم تشرع موسكو في التحرك النشط لإنجاز مصالحة بين أنقرة ودمشق إلا بعد أن بدأت الحرب الروسية في أوكرانيا.
ليس ثمة تصريحات قاطعة من أي مسؤول تركي حول ما تسعى أنقرة لتحقيقه من تطبيع العلاقات مع دمشق الأسد. ولذا، فإن الدوافع خلف استجابة أنقرة لجهود الوساطة مع دمشق لابد أن تُقرأ من زاوية التدافع السياسي الداخلي التركي، ومن رؤية أنقرة للجانب السوري من أمنها القومي. ما يبدو مؤكدًا في هذه المرحلة، على الأقل، أن تركيا لن تقوم بسحب قواتها من الشمال السوري، مهما قطعت من خطوات في طريق المصالحة مع نظام الأسد، نظرًا لأن النظام لم يزل عاجزًا عن السيطرة على حدود بلاده والتعامل مع أية مصادر تهدد الأمن التركي. وترى تركيا أن من المستبعد أن يستطيع النظام استعادة سيطرته على البلاد وحدودها في المدى المنظور.
تستهدف أنقرة من المصالحة، في المقابل، إضفاء شرعية على وجودها في الشمال السوري، بالعودة إلى اتفاقية أضنة 1998 (التي سمحت لتركيا بمطاردة الذين تصنفهم إرهابيين بعمق 5 كيلومترات داخل سوريا)، وربما حتى بتوسيع نطاق الاتفاقية. وتنظر أنقرة إلى توسع نطاق سيطرتها في الشمال السوري باعتباره ضرورة لتوفير فضاء أكبر لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم. ولابد أن هذا الأمر بالذات، أي عودة أكبر عدد ممكن من اللاجئين السوريين في تركيا (الذين يُعتقد أنهم يزيدون عن ثلاثة ملايين لاجئ) هو هدف رئيس للمصالحة مع نظام الأسد، بعد أن أصبحت مسألة اللاجئين ورقة فعالة في يد المعارضة التركية، ومصدر توتر اجتماعي في بعض المناطق التركية.
ويتصل وضع ومستقبل المعارضة السورية بمسألة اللاجئين السوريين. وعلى الرغم من أن أصواتًا سورية ارتفعت مؤخرًا تتنبأ بأن تدير أنقرة ظهرها لحلفائها السوريين إن استجاب الأسد للمطالب التركية الأخرى، فالأرجح أن تركيا لن تتخلى عن قوى المعارضة السورية بأي صورة من الصور، نظرًا لأن العلاقة مع المعارضة لا تعتبر إحدى أهم أوراق الدور التركي في سوريا، وحسب، ولكن أيضًا لأن هذه العلاقة تمثل ضمانًا لاستمرار الوجود التركي في شمالي سوريا وتضفي شيئًا من الشرعية على هذا الوجود. والمتوقع أن تستمر تركيا في المطالبة بإطلاق مسار سياسي للإصلاح والمصالحة الوطنية في سوريا طبقًا لقرار مجلس الأمن 2254، بما يضمن عودة أغلب قوى المعارضة إلى سوريا وانخراط هذه القوى في رسم مستقبل بلادها. وتأمل تركيا، في ظل التصعيد الهائل في الصراع في الشرق الأوسط، أن تساعد كل من روسيا وإيران على دفع النظام إلى تبني سياسة إصلاح سياسي ومصالحة وطنية.
أما الهدف الآخر المهم لتركيا فيتعلق بوضع مناطق سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية في شرق وشمالي شرق سوريا؛ حيث تخطط قوات سورية الديمقراطية (التي تعتبرها تركيا مجرد ذراع لحزب العمال الكردستاني) لعقد انتخابات بلدية. ترى أنقرة أن مشروع الانتخابات البلدية هو في الحقيقة مقدمة لإعلان قوات سورية الديمقراطية عن الحكم الذاتي في مناطق سيطرتها؛ مما يشكل تهديدًا بالغ الخطورة على الأمن التركي (وعلى وحدة الأراضي السورية، بالطبع). ولأن الحماية التي يوفرها الوجود العسكري الأميركي لوحدات حماية الشعب الكردية وقفت حائلًا دائمًا أمام تحرك عسكري تركي لدحر قوات سورية الديمقراطية، كما كانت تركيا قد فعلت من قبل في منطقة عفرين، ترى دوائر أمنية تركية أن تفاهمًا مع نظام الأسد يمكن أن يؤدي إلى عمل سوري-تركي مشترك للتعامل مع وحدات حماية الشعب وبسط سيطرة النظام على المناطق التي تديرها وحدات حماية الشعب.
خلف ذلك، تعمل تركيا على المصالحة مع سوريا في سياق أوسع من سياسة التهدئة وحل النزاعات وفتح قنوات التواصل مع كافة أطراف الجوار الإقليمي. بعد سنوات من جهود تعزيز الموقع والدور الإقليميين، تعمل أنقرة على التقاط الأنفاس، وحماية المكاسب التي حققتها في الإقليم، سواء في ليبيا وأذربيجان والصومال، وإعادة بناء العلاقات مع دول الجوار ضمن أطر متعددة من الترابط الاقتصادي والتجاري، السياسة التي تتجلَّى في اتفاقية ممر التنمية مع العراق (وقطر والإمارات)، ومباحثات التجارة الحرة مع دول الخليج، وإقامة مجلس تنسيق استراتيجي مع كل من مصر والسعودية، واتفاقية التنقيب عن الغاز والنفط مع الصومال، وإجراءات التطبيع وفتح الحدود مع أرمينيا، وتوسع الدور الاقتصادي في ليبيا.
في المقابل، يمكن القول: إن الأهداف التي يسعى نظام الأسد إلى تحقيقها تبدو أكثر وضوحًا وتحديدًا، وإن كان من الصعب تحققها في ظل أوضاع سوريا الحالية. ما يريده النظام من المصالحة مع تركيا يمكن اختصاره في كلمات بيان الخارجية الذي طالب بالعودة في العلاقات بين البلدين إلى ما قبل 2011. بمعنى أن سوريا الأسد تريد انسحابًا كاملًا للقوات التركية من شمالي سوريا، يتضمن تخلي أنقرة كلية عن قوى المعارضة السورية (التي تصفها دمشق بالجماعات الإرهابية)، وأن تعمل تركيا على فك الحصار الدولي عن النظام، وتساعد في إعادة بناء سوريا، مدنًا واقتصادًا. ولأن لا بشار الأسد ولا بيان الخارجية السورية أشار إلى وحدات حماية الشعب الكردية، يمكن الاستنباط بأن التعاون بين دمشق وأنقرة فيما يتعلق باحتواء وحدات حماية الشعب سيكون مشروطًا بالاستجابة التركية للمطالب السورية ذات الأولوية.
هذا، في المجمل، ما يضع مقاربة تركيا للمصالحة ومقاربة نظام الأسد على خطين متوازيين، وبدون أن يكون لدى أي من البلدين الاستعداد لتقديم تنازلات جوهرية عن أهدافه المعلنة، فإن من الصعب تصور اقترابهما من عودة طبيعية للعلاقات في المدى المنظور.
حسابات أطراف الصراع على سوريا
إضافة إلى تباين الأهداف التركية والسورية، فإن عملية المصالحة بين البلدين لا تجري في فراغ، بل في سياق من تعدد الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية. تقف في مقدمة هذه القوى، بالطبع، كل من روسيا وإيران والولايات المتحدة والعراق، وإن كان يجب عدم استبعاد دول عربية أخرى من الحسابات، مثل السعودية والإمارات وقطر.
روسيا هي الطرف الأكثر اهتمامًا بالمصالحة التركية-السورية، وهي من بدأت الدفع نحو هذه المصالحة قبل عامين على الأقل. تحافظ روسيا على علاقات وثيقة مع تركيا، وقد ازدادت هذه العلاقات دفئًا خلال العامين الماضيين. ولأن روسيا تخوض حربًا طاحنة في أوكرانيا، ومواجهة واسعة النطاق مع الغرب، سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، أصبح تعويم النظام السوري وتطبيع علاقاته مع جواره العربي والتركي ضرورة ملحَّة لإعادة ترتيب أوراق روسيا الإستراتيجية في الساحة الدولية، وفي الشرق الأوسط على وجه الخصوص، ولتخفيف الأعباء التي يمثلها نظام الأسد على الدور الروسي.
ولكن من المستبعد أن تتخذ إيران، حليف الأسد الذي لا يقل نفوذًا عن روسيا في سوريا، موقفًا مشابهًا تجاه مشروع المصالحة التركية-السورية. تخوض إيران منافسة متعددة الجبهات مع تركيا في الشرق الأوسط؛ ولابد أن إيران تذكر كيف أن التقارب التركي-السوري في السنوات قبل 2011 أدى إلى توجه سوري جارف، شعبيًّا ورسميًّا، نحو تركيا. تبلغ مديونية سوريا الأسد لإيران حوالي 50 مليار دولار، وتنظر إيران إلى نفوذها في سوريا كواحد من ركائز توسعها في الشرق الأوسط، وبدون تحول جوهري في رؤية إيران لعلاقاتها مع تركيا، ولطبيعة وجودها في جوارها العربي، فلابد أن إيران ستنظر إلى احتمالات التطبيع التركي-السوري بقدر كبير من القلق.
أما العراق، الذي لعب دورًا ثانويًّا في الوساطة بين تركيا وسوريا في الشهور القليلة الماضية، فيرى أن المصالحة التركية-السورية تصب في مصلحته. ستساعد المصالحة، أولًا، على ضبط مناطق الحدود المشتركة بين الدول الثلاث أمنيًّا؛ وستوفر، ثانيًا، مناخًا سياسيًّا واقتصاديًّا مواتيًا للتقدم في مشروع طريق التنمية الطموح، الذي يفترض أن يربط البصرة بالمتوسط، ويجذب استثمارات عربية وتركية هائلة.
الولايات المتحدة، من جهة أخرى، طرف أقل فعالية في الأزمة السورية، ولكنها ليست طرفًا هامشيًّا على أية حال. تحتفظ الولايات المتحدة بوجود عسكري في شرق وشمالي شرق سوريا، وتقوم بدور كبير في توفير الدعم العسكري والغطاء السياسي لوحدات حماية الشعب الكردية، على الرغم من المعارضة التركية الحادة والمعلنة. تقول واشنطن: إن دوافع وجودها في سوريا وتحالفها مع وحدات حماية الشعب الكردية تتعلق بمحاربة الجماعات التي تصنفها إرهابية، لاسيما تنظيم الدولة، ولكن المؤكد أن هذا الوجود وثيق الصلة أيضًا بمحاولة الولايات المتحدة الاحتفاظ بدور ما في رسم مستقبل سوريا والمنطقة ككل، والحد من النفوذين، الروسي والإيراني، في المنطقة. ولأن مصالحة تركية-سورية لن تصب في مصلحة الوجود والدور الأميركيين، وقد تفضي في النهاية إلى تحجيم أو اقتلاع وحدات حماية الشعب الكردية الحليفة لواشنطن، لا يُخفي الأميركيون معارضتهم لهذا المصالحة.
طريق صعب ومتعرج للمصالحة
لكل هذا يبدو الطريق إلى المصالحة والتطبيع بين تركيا وسوريا أكثر صعوبة وتعقيدًا مما أوحت به تصريحات الرئيس التركي الداعية للقاء مع الرئيس السوري. كيف يمكن، مثلًا، إقناع الدولة التركية بسحب قوات جيشها من المواقع التي توجد فيها في الجانب السوري من الحدود، بينما يعجز نظام الأسد عن بسط سيطرته على ما لا يكاد يزيد عن 40 بالمئة من أراضي سوريا؟ التخلي عن مناطق وجود القوات التركية في شمالي سوريا يعني بالضرورة أن الجيش التركي سيترك خلفه فراغًا في القوة وفراغًا أمنيًّا، لن يصعب على وحدات حماية الشعب الكردية وثيقة الصلة بحزب العمال الكردستاني التقدم لملئه، لاسيما أن هذه الوحدات الكردية لم تزل تتمتع بدعم أميركي كبير ولا تواجه أية ضغوط ملموسة من النظام السوري.
الأصعب هو تصور قيام الأسد بتوفير المساعدة الضرورية والمناخ المناسب لعودة ملايين اللاجئين السوريين إلى بلادهم. الحقيقة أن ليس ثمة ما يشير إلى أن الأسد يرغب في تغيير النظام الأمني القمعي الذي يحكم به سوريا أو أنه سيعمل على ذلك، والذي ازداد وحشية منذ اندلاع الثورة. وبالنظر إلى الجوهر الطائفي للنظام، وإلى تصنيف اللاجئين كمعارضين (ومسلمين سُنَّة)، فالواضح أن المجموعة الحاكمة في دمشق تنظر بارتياح إلى مغادرة هؤلاء السوريين بلادهم، وليست لديها أية مصلحة في عودتهم. إضافة إلى ذلك كله، فإن عودة هؤلاء اللاجئين إلى سوريا تتطلب مقدرات اقتصادية هائلة، ليس لدى النظام القدر الأدنى منها، ولا يُتوقع له تحقيقها في المدى المنظور.
المؤكد على أية حال أن لروسيا مصلحة كبرى في إجراء مصالحة بين تركيا وسوريا، وأن الضغوط الروسية على الأسد لاتخاذ خطوة إيجابية نحو المصالحة لن تتوقف. ولا يستبعد أن يقوم الأسد، الذي كان التدخل الروسي طوق النجاة من الإطاحة به في 2015، بالاستجابة للضغوط الروسية، وأن يعقد لقاء مع الرئيس أردوغان. ولكن من المستبعد أن يؤدي مثل هذا اللقاء إلى أية متغيرات فعلية على الأرض لتجسيد المصالحة، لا على مستوى إصلاح بنية النظام، أو إعلان عفو وطني شامل، أو قبول عودة قوى المعارضة السورية شريكًا في الحياة السياسية. ولأن ليس من مصلحة النظام التخلي عن ورقة الضغط الكردية على تركيا، فليس من المتوقع أن يبادر الأسد إلى التعاون مع أنقرة في العمل على تحجيم وحدات الشعب الكردية.
قد تقتضي المصالحة تغييرًا جوهريًّا في طبيعة النظام السوري وعلاقته بشعبه كي تفتح أفقًا جديدًا لمستقبل سوريا وعلاقاتها بجوارها. مثل هذا التغيير، حتى إن لم يكن مستحيلًا، يظل ضعيف الاحتمال في المدى المنظور. وربما يتطلب إحداث هذا التغيير ضغوطًا أكبر من مجرد وعود مصالحة مع تركيا.