في الثالثة والنصف بعد ظهر الثلاثاء، 17 سبتمبر/أيلول، استلمت آلاف أجهزة الاستدعاء التي يحملها عسكريون ومدنيون من حزب الله أو عاملون في مؤسسات قريبة منه، في أنحاء مختلفة من لبنان، وفي سوريا، رسالة واحدة. بعد لحظات، وفي وقت واحد، تعرضت كافة هذه الأجهزة للانفجار. قُتل في موجة التفجيرات هذه 12 شخصًا، منهم طفلان، وجرح ما لا يقل عن 2800 شخص. أولئك الذين سارعوا إلى التقاط أجهزتهم وتفحص طبيعة الرسالة التي استلموها، أصيبوا في الوجه أو العينين، وأولئك الذين تباطؤوا في النظر إلى الرسالة، أصيبوا في جوانبهم، نظرًا لأن من المعتاد أن يعلق جهاز الاستدعاء في حزام الشخص الذي يستخدمه.
في اليوم التالي، الأربعاء، 18 سبتمبر/أيلول، وفي أنحاء مختلفة من لبنان، كما في اليوم السابق، وقعت موجة أخرى من الانفجارات في أجهزة اتصال من نوع مختلف خاصة بكوادر حزب الله. هذه المرة، كانت مئات من أجهزة الاتصال اللاسلكي (التي تعرف باسم ووكي توكي) هي ما انفجرت في أيدي مستخدميها، أو في منازلهم ومقار إقاماتهم حيث وضع بعض هذه الأجهزة، أو حتى وآخرون يسيرون في جنازة من قتلوا في الموجة الأولى. وكما في الموجة الأولى، وقعت الانفجارات في وقت متزامن وبعد لحظات من وصول إشعار بمكالمة. ولأن عدد الأجهزة الذي فُجِّر كان أقل من أجهزة الاستدعاء، فقد كانت حصيلة موجة التفجير الثانية ما يقارب 450 جريحًا. ولكن، ولأن أجهزة الاتصال اللاسلكي أكبر حجمًا بكثير من أجهزة الاستدعاء، فقد قتل في الموجة الثانية 32 شخصًا على الأقل. كما تعرضت منازل ومكاتب، وربما مقار عسكرية، للتدمير الجزئي أو الكلي.
هذه أكبر هجمة غير تقليدية الطابع يتعرض لها حزب الله، والمؤكد أنها أصابت كوادر عسكرية ومدنية من الحزب، أو حتى عاملين من غير أعضاء الحزب يعملون في مستشفيات أو مراكز تعليمية قريبة من الحزب. والأرجح، أن موجتي تفجير أدوات اتصال مختلفتين أصابت شبكة اتصال الحزب الخاصة بالعناصر المتحركة بشلل جزئي. وعلى الرغم من أن أية جهة رسمية إسرائيلية لم تعلن عن تبني الدولة العبرية للهجمات، لم يكن هناك شك، لا في إسرائيل، ولا الولايات المتحدة، أو لبنان، في مسؤولية الدولة العبرية.
كيف يمكن تفسير كيفية وقوع هاتين الموجتين من الانفجارات، وقراءة أثرها على حزب الله؟ وأي رد يتوقع أن يتعهده الحزب على هذه الضربة المؤلمة لكوادره ومحيطه الاجتماعي وشبكة اتصالاته؟ وما الذي يعنيه هذا المنعطف لمسار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وجوار فلسطين الإقليمي منذ ما يقارب العام؟
عملية تخريب
من المعروف أن حزب الله أقام شبكة اتصال أرضية خاصة به، منفصلة كلية عن شبكة الهاتف اللبنانية الرسمية، منذ ما بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان. وربما كان قرار الحكومة اللبنانية مصادرة شبكة الاتصالات هذه السبب الرئيس خلف اجتياح قوات الحزب لبيروت الغربية والجبل ومقار القوى السياسية المعارضة له، في مايو/أيار 2008. ولكن هذه الشبكة، التي تربط مقار القيادة والتحكم والتمركز العسكري، غير كافية لتأمين الاتصال بالعناصر المتحركة أو البعيدة عن المقار والمواقع العسكرية. لهذا القطاع، القطاعات المتحركة، استخدم المنتسبون للحزب أجهزة الهاتف المحمول المعتادة.
ولكن الواضح، أن الاختراقات الاستخبارية الإسرائيلية لدوائر الحزب والمقربين منه وصلت في السنوات الأخيرة إلى مستوى أتاح للإسرائيليين تحديد وكشف هوية أعداد كبيرة من كوادر الحزب وقياداته، والتعرف على أجهزة الهاتف التي يحملونها، ومن ثم متابعتها. بعد أكثر من عمليات اغتيال ناجحة نفذها الإسرائيليون في لبنان وسوريا لقيادات وكوادر من الحزب، حذَّر أمين عام الحزب، السيد حسن نصر الله، في خطاب عام له في فبراير/شباط، من استخدام الهواتف المحمولة ودعا إلى التخلص منها. ويبدو أن الحزب لجأ في الأشهر القليلة التالية إلى وسائل اتصال بديلة، حتى تلك التي باتت تصنف تقنية قديمة ولم تعد تستخدم على نطاق واسع في العالم، مثل أجهزة الاستدعاء والووكي توكي.
في الساعات الأولى، بعد موجة انفجارات أجهزة الاستدعاء، راجت نظرية تقول: إن الاستهداف وقع بفعل عملية اختراق تقني فائق، أدت إلى رفع حرارة الأجهزة ومن ثم تفجير بطارياتها. ولكن المعروف أن أجهزة الاستدعاء صغيرة الحجم وإن بطارياتها أصغر بكثير من أن يتسبب انفجارها بقتل أو جرح مستخدميها. بعد قليل، وما إن تم فحص الأجهزة المنفجرة، اتضح أنها كانت في الحقيقة قد فخخت بكمية قليلة من المواد شديدة الانفجار، وأن من قام بتفجيرها كان يعرف شفرة الاتصال بهذه الأجهزة وتمكن بالتالي من ربط دائرة التفجير، تمامًا كما تعمل أداة تشغيل التلفاز عن بعد بتشغيله أو إيقافه عن البث والعمل.
بمعنى، أن أجهزة الاستدعاء قد فُخِّخت إما عند صناعتها، أو بعد ذلك في إحدى مراحل عملية التوريد. ما اتضح، على أية حال، أن الشركة التايوانية التي تحمل أجهزة الاستدعاء اسمها، غولد أبوللو، أعلنت مباشرة أنها لم تعد تنتج هذا الطراز من الأجهزة وأنها قامت ببيع رخصة تصنيعها لشركة هنغارية قبل عدة سنوات. وعندما قام مراسلو البي بي سي البريطانية بتتبع الوكيل الهنغاري لم يجدوا سوى مقر صغير لمكتب شركة، ترأسها سيدة من أصول إيطالية، في بناية تضم مكاتب عدة شركات أخرى. أقر متحدث باسم الشركة في البداية بأنها ليس لديها مصنع لإنتاج أجهزة الاستدعاء المعنية، بل ولا أي مصنع آخر، ثم توقفت الشركة عن الرد على الاتصالات كلية. ما يبدو، إذن، أن الشركة الهنغارية هي ربما غطاء لجهة أخرى، وأن الأجهزة التي فجرت في لبنان، والتي يقال: إن الحزب اشترى أربعة إلى خمسة آلاف جهاز منها، قد فخخت في مرحلة التصنيع. أما الشركة اليابانية التي تحمل أجهزة الاتصال اللاسلكي (الووكي توكي) اسمها، فقالت إنها لم تعد تنتج هذه الأجهزة منذ أكثر من عشر سنوات، وإنها لا تعرف الجهة التي قامت بتوريد الأجهزة للبنان، ولا حتى من قام بصناعتها. ولذا، فالأرجح أن تفخيخ هذه الأجهزة قد تم أيضًا في مرحلة التصنيع الأولى، وأن الحزب حصل عليها من غير مصنعها الأصلي.
من المستبعد، بالطبع، أن يكون الحزب قد اشترى كلا النوعين من الأجهزة بصورة مباشرة؛ وقد يكون استوردها عن طريق شركة لبنانية مقربة من الحزب، أو، عن طريق حلفائها في محور المقاومة. في كل من هذه الاحتمالات، لابد أن تكون أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية قد نجحت في اختراق الجهة الوسيطة، التي قامت بشراء الأجهزة لحزب الله. بدون مثل هذا الاختراق، كان من المستحيل التيقن من أن الأجهزة كانت في طريقها إلى حزب الله، وليس أي مستخدم آخر.
ما حدث، باختصار، لم يكن أكثر من عملية تخريب تقليدية، ساعد عليها الاختراق الاستخباراتي لدوائر الحزب أو مقربين منه، الذي بات واضحًا منذ زمن، والذي هو نتيجة للتركيز الإسرائيلي الكثيف وواسع النطاق على الساحة اللبنانية منذ سنوات، ولطبيعة الانقسام اللبناني الطائفي والسياسي. وعلى الرغم من اتساع نطاق الهجمات بصورة غير مسبوقة، فإن وسيلة الاستهداف التي استُخدمت هذه المرة سبق استخدامها في اغتيال قائد القسام الشهير، يحيى عياش، وفي حالة تفخيخ مجهضة لأجهزة اتصال وصلت إلى قطاع غزة في 2009، كما في حالات اغتيال فردية وإن معدودة لكوادر لبنانية وإيرانية.
هدف إسرائيل وردُّ الحزب المحتمل
ما ذكرته وسائل إعلام أميركية في وقت مبكر بعد جولتي التفجير أن العملية ضد شبكة اتصالات الحزب كان من المخطط تنفيذها قبل بداية هجوم إسرائيلي واسع النطاق على لبنان؛ ولكن إدراك الاستخبارات الإسرائيلية لبروز شكوك حول سلامة الأجهزة في دوائر الحزب دفعت إلى تفجير الأجهزة بصورة مبكرة قبل أن يكتشف تفخيخها. هذه النظرية لتفسير الهدف خلف هذه العملية هو الأضعف، لأن ليس ثمة دليل يقيني على أن أفرادًا أو كوادر من الحزب قد أبدت شكوكًا ما حول الأجهزة قبل انفجارها. وقد يكون الهدف الإسرائيلي من عملية التفجير يقع بين احتمالين:
الأول: أن القيادة الإسرائيلية، التي تبدو محرجة من عجزها عن تأمين حياة عشرات الآلاف من سكان الشمال للعام الثاني على التوالي، والتي كانت أعلنت قبل يوم واحد من موجة التفجير الأولى، أنها أضافت هدف العودة الآمنة لنازحي المناطق الشمالية إلى بلداتهم ومستعمراتهم، أرادت من العملية الضغط على الحزب ودفعه إلى الاستجابة للمقترح الأميركي لوقف النار على الجبهة الشمالية، وفك ارتباط نشاطه العسكري بالوضع في قطاع غزة. وهذا بالتحديد ما ذكره نصر الله في خطابه، مساء 19 سبتمبر/أيلول، عندما أشار إلى أن الحزب استلم مساء يوم التفجيرات الأول رسالة تفيد بأن هدف التفجيرات هو إقناع الحزب بضرورة فصل الجبهة الشمالية عن الحرب في غزة، والموافقة على وقف النار وعودة النازحين الإسرائيليين إلى مناطقهم؛ بدون ذلك فإن استهداف الحزب العقابي سيستمر. ما أضافه نصر الله أن رفض الحزب الاستجابة لرسائل اليوم الأول كان ما أدى إلى موجة تفجيرات اليوم الثاني.
ولكن، وعلى الرغم من وضوح الرسالة التي تسلمها الحزب، فمن الضروري وضع احتمال آخر للهدف الإسرائيلي في الحسبان. كانت موجة التفجيرات بالتأكيد واسعة النطاق، غير تمييزية، أصابت مدنًا وبلدات ومعاهد تعليمية ومستشفيات وأسواقًا، وليس مواقع عسكرية وحسب. وهي بالضرورة تفجيرات ذات طابع إرهابي ومناهض للقانون الدولي وقوانين الحرب. وما كان للإسرائيليين تعهد مثل هكذا عمل لمجرد إرسال رسالة تهديد لحزب الله. قد تكون أن القيادة الإسرائيلية، التي تواجهها معارضة أميركية وغربية قاطعة لحرب أكثر شمولًا وحدَّة ونطاقًا على لبنان، أرادت استفزاز حزب الله للقيام برد كبير، يبرر قيام إسرائيل بإعلان الحرب على لبنان، على أن تضمن الدولة العبرية وجود مساعدة أميركية دفاعية.
في اليوم الثاني للتفجيرات، وقف وزير الدفاع الإسرائيلي قرب الحدود مع لبنان وتحدث إلى مجموعة من جنود جيشه مؤكدًا على أن طبيعة التعامل الإسرائيلي مع الجبهة الشمالية تغيرت. وفي اليوم التالي، الخميس، 19 سبتمبر/أيلول، نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية تقريرًا يقول: إن قائد أركان الجيش قد وقَّع فعلًا على خطط عمليات على الجبهة الشمالية. وفي مساء اليوم نفسه، أطلقت القوات الجوية الإسرائيلية ما يقارب المئة غارة على مواقع الحزب على طول الجبهة الجنوبية. ردَّ الحزب على حملة الغارات الجوية بقصف مكثف وغير مسبوق بالصواريخ على المواقع الإسرائيلية، وصولًا إلى صفد.
لكن الإسرائيليين لم يتوقفوا، ولم يلبثوا أن قاموا بعد ظهر الجمعة، 20 سبتمبر/أيلول، باستهداف لجنة قيادة قوات الرضوان، قوات نخبة الحزب، في اجتماع لها في ضاحية بيروت الجنوبية؛ مما أدى إلى مقتل أكثر من 45 شخصًا، بينهم اثنان من كبار قادة الحزب، وأربعة عشر آخرون من الكادر العسكري على الأقل. ما يعنيه هذا التصعيد أن ثمة توجهًا إسرائيليًّا جديدًا للاستمرار في الضغط العسكري فوق وأبعد من مستوى حدود قواعد الاشتباك التي اتبعها الطرفان طوال الأشهر العشرة الأولى من الحرب.
لم يشر نصر الله في خطاب 19 سبتمبر/أيلول صراحة إلى احتمال أن يكون الهدف الإسرائيلي من الهجمات على شبكة الاتصالات هو التوصل إلى مبرر لحرب شاملة، ولكن الواضح أن تصوره للرد على سلسلة الهجمات التي تعرض لها الحزب يستبطن هذا الاحتمال. ولذا، وبالرغم من اعترافه بحجم الضربات المؤلمة وغير المسبوقة التي وجهت للحزب، وبأن الطرف الإسرائيلي قد تجاوز كل أسقف المواجهة المتعارف عليها، فقد تحدث بقدر كبير من الغموض حول طبيعة وتوقيت ومكان رد الحزب. ويبدو، إن كان الحزب لم يزل يسعى إلى تجنيب لبنان عواقب حرب أكبر وأكثر شمولًا، أن الرد الذي يخطط له الحزب سيكون محدودًا، وأن الحزب سيظل أحرص على عدم تقديم مبرر لحرب إسرائيلية على لبنان من طراز حرب 2006 منه إلى إيقاع ضربة انتقامية مدوية. ولكن هذا الانضباط قد لا يستمر طويلًا، سيما إن توصلت قيادة الحزب إلى قناعة بأن إحجامه عن القيام بالرد المكافئ أصبح سببًا في تمادي الطرف الآخر.
نجاحات تكتيكية بلا تغيير إستراتيجي
وضعت حكومة نتنياهو لهذه الحرب في بدايتها عددًا من الأهداف الإستراتيجية الواضحة، وإن بدت مستحيلة التحقق: تدمير مقدرات المقاومة الفلسطينية في القطاع وإيقاع هزيمة مطلقة بها؛ واستعادة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في القطاع؛ ومنع حماس بصورة قاطعة من العودة إلى حكم غزة. في الجبهة الشمالية، التي اشتعلت بصورة محدودة مباشرة بعد بدء الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، وقصد بها، كما قال حزب الله، مساندة المقاومين في القطاع لا الحرب الشاملة، تعلق الهدف الإسرائيلي بعودة نازحي بلدات وقرى الشمال إلى بيوتهم. وقد ظل هذا الهدف ضمنيًّا ومصرحًا به عند المسؤولين الإسرائيليين طوال أشهر الحرب إلى أن تم تبنيه بصورة رسمية في مجلس الوزراء قبل يوم واحد من موجة تفجيرات شبكة اتصالات حزب الله.
في كلتا الجبهتين، لم ينجح الإسرائيليون حتى الآن في تحقيق أهداف الحرب.
في قطاع غزة، لم تزل قوى المقاومة، سيما تلك التابعة لحماس، وبعد مرور ما يقارب العام على الحرب، قادرة على مواجهة القوات الإسرائيلية كلما تحركت هذه القوات إلى مناطق الاشتباك في مدن وبلدات ومخيمات قطاع غزة، بل وإيقاع خسائر ملموسة في هذه القوات. لم ينجح الإسرائيليون، إلا في حالة واحدة فقط، في استعادة أي من المحتجزين الأحياء؛ ولم يعد ثمة شك أن الهجمات التي قامت بها القوات الإسرائيلية تسببت في مقتل العديد، وربما العشرات، من المحتجزين. وعلى الرغم من شح المعلومات، تؤكد وسائل إعلامية إسرائيلية، ترتكز على الأرجح إلى مصادر أمنية، أن قوى المقاومة الفلسطينية تقوم بصورة حثيثة بإعادة تأهيل كتائبها في مناطق مختلفة من القطاع، كما تعمل على إعادة تسليح مجموعاتها، مستخدمة القذائف التي ألقيت على أهداف في القطاع ولم تنفجر. والأهم، أن العديد من الأجهزة الحكومية والبلدية سرعان ما تعود إلى العمل في معظم أنحاء القطاع، وإن بصورة جزئية، ما إن تنسحب القوات الإسرائيلية من المناطق التي قامت باجتياحها، بالرغم من الخسائر الهائلة التي أوقعتها الحرب في كوادر وعمال ومعدات هذه الأجهزة.
في الجبهة الشمالية، فاق عدد الهجمات التي قام بها الإسرائيليون خلال عام من الحرب، تلك التي تعهدها حزب الله وحلفاؤه، بنسبة ستين إلى أربعين بالمئة. قصفت مدن وبلدات لبنانية جنوبية بصورة عشوائية، تمامًا كما قصفت مدن وبلدات قطاع غزة. كما تعرض لبنان لضغوط سياسية ودبلوماسية هائلة من الولايات المتحدة والقوى الأوروبية. ولكن ذلك كله لم يؤد حتى الآن إلى فصل الجبهة الشمالية عن قطاع غزة، ولا إلى عودة آمنة للنازحين الإسرائيليين إلى بلداتهم ومدنهم في شمال إسرائيل.
نجحت إسرائيل، بالطبع، في اغتيال عشرات من كوادر وقادة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، ومثلهم ربما من قيادات أجهزة الأمن الحكومية، وقطاعات الخدمات البلدية والصحية والتعليمية. ولكن الأرجح أن تقديرات الجيش الإسرائيلي التي تقول بنجاحه في قتل ما يزيد عن عشرين ألفًا من مقاتلي القسام مبالغ فيها إلى حدٍّ كبير. النجاح الوحيد الذي حققته الحرب الإسرائيلية على القطاع تعلق بالتدمير العشوائي الممنهج وواسع النطاق للمدن والأحياء والمخيمات، وقتل عشرات الآلاف من المدنيين، وهو الإنجاز الذي يوصف الآن من جهات دولية وإنسانية بالإبادة، وليس له سوى علاقة واهية بالحرب وأهدافها. أما على الجبهة الشمالية، فقد نجحت الضربات الإسرائيلية في اغتيال أو قتل المئات من كوادر أذرع حزب الله وحلفائه العسكرية الميدانية، وعشرات من القادة، بمن في ذلك عدد من أبرز هؤلاء القادة.
بكلمة أخرى، في مقابل إنجازات تكتيكية محدودة، وأساليب حرب إبادة، لم يزل الفشل في تحقيق أهداف الحرب الإستراتيجية، في قطاع غزة وفي لبنان، يلاحق قادة الحرب الإسرائيلية.
حرب مديدة
توشك الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أن تتم عامها الأول. بذلك، أصبحت هذه الحرب أطول الحروب العربية-الإسرائيلية منذ ولادة الدولة العبرية في 1948. ليس ذلك وحسب، بل إنها أسقطت في طريقها عدة مقولات كلاسيكية عن طبيعة الحروب العربية-الإسرائيلية. إحدى هذه المقولات أن الدولة العبرية لا تستطيع الانخراط في حرب مديدة، وأن بنيتها العسكرية والاجتماعية غير مهيأة لخوض حروب مشابهة. الواضح، وعلى الرغم من خوض الجيش الإسرائيلي الحرب على عدة جبهات، أن علامات الإنهاك لم تظهر بعد على أداء الجيش الإسرائيلي. ولذا، تجب مراجعة الآراء التي تقول بأن الجيش الإسرائيلي لا يستطيع خوض حرب شاملة أخرى في نفس الوقت الذي لم يزل فيه منخرطًا في الحرب على غزة. قد لا يكون الظرف السياسي الدولي الآن، في أواخر سبتمبر/ أيلول، مواتيًا لشن حرب شاملة على لبنان، مثلًا. ولكن المؤكد أنه لم يكن من الصعب دائمًا على القيادة الإسرائيلية التعامل مع الضغوط الغربية، أو الالتفاف عليها، أو التخلص منها بوسيلة أو أخرى.
كما أسقطت الحرب مقولة عجز قوة مقاومة غير دولتية، معزولة ولا تتمتع بدعم مباشر من دولة ما، أو طرق للتوصل إلى الدعم، عن الصمود أمام آلة عسكرية متقدمة مثل الجيش الإسرائيلي. كانت التقديرات في بداية الحرب على قطاع غزة أن المقاومين الفلسطينيين يستطيعون ربما الاستمرار في المواجهة لثلاثة أو ستة شهور على الأكثر. ما أصبح واضحًا بعد زهاء العام من الحرب أن مقدرات وإرادة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة لم تتراجع بأي صورة ملموسة. يتحمل أهالي القطاع صعوبات الحرب وخسائرها بثبات استثنائي، وتدنت المراهنات على هجرتهم الجماعية. وما ينطبق على قطاع غزة، ينطبق على الضفة الغربية وعلى لبنان وجنوبه.
خلال أواخر أغسطس/آب وأوائل سبتمبر/أيلول 2024، كرر مسؤولون أميركيون، بصورة صريحة أحيانًا وضمنية في أحيان أخرى، عزم إدارة بايدن على تقديم مقترح جديد معدل ونهائي على إسرائيل وحماس لوقف النار وتبادل الأسرى. وُلِدت فكرة المقترح الجديد من عدة لقاءات بين وسطاء الحرب الثلاثة: الولايات المتحدة ومصر وقطر، في أوروبا وفي القاهرة والدوحة، بحضور الوفد الإسرائيلي المفاوض. والواضح، أن غياب الفلسطينيين عن هذه اللقاءات لم ينجم عن تراجع في موقف حماس عن عملية التفاوض، بل من إدراك الوسطاء الثلاثة أن الموقف الإسرائيلي، وليس الفلسطيني، ما بات يمثل العقبة الكبرى في طريق الاتفاق.
في 19 سبتمبر/أيلول، اعترف مسؤولون أميركيون في إدارة بايدن في حالة من التسليم بأن ليس ثمة صيغة جاهزة للاتفاق، وأن الأمل في التوصل إلى هذا الاتفاق تلاشى إلى حد كبير. وبالنظر إلى أن إدارة بايدن تحث الخطى نحو نهاية العهد، فمن المستبعد أن ينجح الأميركيون والوسطاء المصريون والقطريون في إنجاز الاتفاق المأمول. الحقيقة، أن لقاءات الوسطاء مع المفاوضين الإسرائيليين والفلسطينيين، التي نشطت بوتيرة عالية خلال أغسطس/آب وأوائل سبتمبر/أيلول، تكاد تكون قد توقفت.
إسرائيل، ومنذ ولادتها، دولة لا تستطيع التعايش مع التهديد، لا تقبل التفاوض أو المساومة مع التهديد. وكلما كان التهديد أقرب إلى حدودها، كان بالنسبة إليها، أكثر خطرًا ومدعاة لإزالته. وإنْ وُضِع الفشل الإستراتيجي في قطاع غزة ولبنان (واليمن كذلك) في الاعتبار، إضافة إلى مصالح رئيس الحكومة الإسرائيلية السياسية الخاصة، وعجز الأميركيين عن بذل الضغوط الكافية للتوصل إلى اتفاق، واقتراب إيران من حافة امتلاك السلاح النووي، فلابد أن هذه الحرب غير مرشحة للتوقف قريبًا، وأنها في طريقها إلى التوسع، آجلًا أو عاجلًا. قد تأخذ الحرب طابعًا مختلفًا من مرحلة أو أخرى، ومن جبهة إلى أخرى، ولكنها على الأرجح باتت حربًا مديدة، أفلتت حتى من يد من أشعلها.