مسارات الحرب والتفاوض في غزة وأزمة الحلول

لا ضمان لنجاح إسرائيل في تحقيق أهدافها في غزة، أما حماس فتجد نفسها أمام تحدٍّ وجودي، فإن صمدت في هذه الحرب قد تشهد غزة تدخلاً عربياً ودولياً فاعلاً، ليفرض صيغة حل تَغيب معه حماس عن المشهد السياسي في القطاع، لكنها ستحافظ على قيادتها وسلاحها.
لم يجد نتنياهو وسيلة أفضل من العودة إلى الحرب لاستيعاب احتجاجات الشارع الإسرائيلي ضد حكومته وضده شخصيا.(الفرنسية)

مقدمة

تمكّن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، منذ نهاية اتفاق الهدنة الأول في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، من إحباط أي تقدم أمكن أن تُحققه مفاوضات وقف الحرب الإسرائيلية على غزة في محطاتها المختلفة. وكلما كانت المفاوضات تقترب من التوصل إلى صيغة تفاهمات ما، كان نتنياهو يسارع إلى التنصل منها والتراجع عنها بهذه الذريعة أو تلك، ويذهب إلى تأجيج الحرب التي لطالما كرر أنها لم تحقق أهدافها بعد ولم تصل إلى ما يسميه "النصر المطلق".

وإن كان نتنياهو يسوّق في كل مرة أن التفاوض تحت النار هو الذي يدفع المقاومة لخفض سقوف مطالبها ويأتي بها إلى طاولة المفاوضات "صاغرة" بهدف استعادة الأسرى، فإن الأمر لم يكن في حقيقته مرتبطا بتحسين شروط التفاوض، بقدر ما كان رغبةً في استمرار العدوان لتحقيق جملة من الأهداف الإستراتيجية المرتبطة، في المقام الأول، باعتبارات الداخل الإسرائيلي، ومن ثم بصورة إسرائيل وقوة ردعها وانعكاسه على مصير غزة والضفة ومستقبل فلسطين وصورة المنطقة بشكل عام. وهي الرؤية التي يبدو أن الولايات المتحدة وإسرائيل تتفقان حولها وتشتركان في صياغتها وتنفيذها، وهي التي لعبت، وما زالت، دوراً أساسياً في منع تجاوز العقبات التي اعترضت طريق إنجاح المفاوضات السابقة والهدنة الأخيرة(1).

تعود إسرائيل اليوم إلى خيار الحرب، بعدما انتهت المرحلة الأولى من الاتفاق الأخير لوقف إطلاق النار، ما يطرح تساؤلات حول مآلات الحرب والتفاوض، والأهداف المتوخاة منها جميعاً، وبالتالي المآل المتوقع للوضع في غزة.

مسار الحرب وأهدافه

في أعقاب 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بدأت إسرائيل نقاشاً حول الأهداف المناسبة والممكن تحقيقها في الحرب ضد حماس والإستراتيجية الأنسب لبلوغها، وتعمّق هذا النقاش بعد بدء الهجوم البري على قطاع غزة. أعرب غالبية الإسرائيليين عن دعمهم لأنماط إدارة الحرب الرامية إلى تفكيك حماس، والتي كانت في أغلبها تعبيراً عن مشاعر عامة عشوائية انتقامية تنادي بضرب حماس بأي طريقة ممكنة بعد أحداث 7 أكتوبر(2).

تتلخص أهداف الحرب المُعلنة على غزة والتي حددتها الحكومة الإسرائيلية؛ في القضاء على البنية التحتية العسكرية والحكومية لحماس، واستعادة الأسرى الإسرائيليين، ومنع الحركة من تشكيل أي تهديد مستقبلي لإسرائيل(3). بالإضافة إلى القوة الجوية النارية والاغتيالات التي طالت قيادات عسكرية وسياسية، والتوغل البري والتدمير الممنهج لكل البنية التحتية المدنية في غزة، استخدمت إسرائيل الحصار الشامل والتجويع على القطاع، ومنعت إدخال المساعدات الإنسانية، وكانت تأمل أن هذا "سيؤدي خلال أسابيع أو أشهر إلى استسلام حماس، أو ربما سيؤدي إلى انتفاضة سكان القطاع ضد حماس وسقوطها"(4).

مع استمرار الحرب تعالت أصواتٌ في الداخل الإسرائيلي تقترح وقف القتال في أقرب فرصة ممكنة، بدعوى أن "الحرب استنفدت أهدافها وتحولت إلى حرب مراوحة لا إمكانية لتحقيق المزيد من الإنجازات فيها"، أو أن إسرائيل "حققت بالفعل إنجازات مهمة يجب البناء عليها"(5). وقد ارتبطت هذه الأصوات بالرغبة في إعادة ترتيب أولويات الحرب لتحقيق الإفراج السريع عن "الأسرى الإسرائيليين"، ومن ثم معاودة الحرب على غزة إن اقتضت الضرورة.

في كل الأحوال، تَمسّك نتنياهو بموقفه القائل بضرورة استمرار الحرب حتى تحقيق "النصر المطلق"، وبنى كل خطواته ومقاربته في الحرب حول هذا المفهوم، دون أن يحدد طبيعة وشكل هذا النصر وكيفية تحقيقه. وتمحور الجدل الداخلي الإسرائيلي، وما زال، حول مفهوم "النصر" الذي يمكن تحقيقه واقعياً في الحرب ضد حماس، وما الذي لن يكون تحقيقه ممكناً(6).

تبنت حكومة نتنياهو ومعها كتلة صلبة من اليمين في المجتمع الإسرائيلي الفرضية القائلة بأنه يمكن من الناحية العسكرية، تدمير قيادة حماس ووحداتها العسكرية وبنيتها التحتية باعتبارها منظمة عسكرية "شبه دولة"، وهذا ما تم فعله بنسب متفاوتة في أغلب مناطق قطاع غزة.

استطاعت إسرائيل، حتى اللحظة، اغتيال قيادات وازنة في المقاومة، مثل هنية والعاروري والسنوار والضيف، وعدد كبير من كتائبها وعناصرها، وتدمير معظم القوة القتالية لحماس وترسانتها الصاروخية، واستعادة غالبية "الأسرى" الإسرائيليين وإنْ بالمفاوضات، وإعادة السيطرة على الممرات والمعابر، واقتطاع جزء من مساحة القطاع في شماله لتوسيع المنطقة الأمنية العازلة، وأخيراً تحويل القطاع إلى منطقة مدمرة غير قابلة للحياة، ربما تمهيداً لاحتلال أجزاء منه بهدف الاستيطان، أو تهجير سكانه، لاسيما في حال استمرار الحرب التدميرية.

لكن إسرائيل عجزت في المقابل عن القضاء على حماس بشكل كامل كقوة مقاومة ما زالت تخوض مجموعاتها حربا ضد إسرائيل وتفرض قوتها وسيطرتها على غزة، وتمنع إسرائيل من فرض بدائلها المختلفة التي طُرحت لحكم القطاع، إذ ما زالت حماس تملك استخدام حق "النقض" ضد أي طرف يفكر في تولي حكم القطاع أثناء الحرب أو بعدها بخلاف رغبتها، ناهيك عن استمرار امتلاكها لورقة "الأسرى" والمحتجزين واحتفاظها بهم كوسيلة ضغط على إسرائيل ومجتمعها.

مسار التفاوض وأهدافه

شهد مسار التفاوض بين حماس وإسرائيل محطات بارزة، تحت رعاية أطراف إقليمية ودولية فاعلة، أبرزها قطر ومصر والولايات المتحدة، في محاولة للتوصل إلى اتفاق بين الطرفين. وقد عُقد عدد من جولات التفاوض غير المباشرة بين الطرفين، بدءاً بمفاوضات العاصمة الفرنسية باريس في يناير/كانون الثاني 2024، مروراً بسلسلة المفاوضات غير المباشرة التي شهدتها القاهرة في الأسبوع الأول من فبراير/شباط 2024، ومن ثم في 13 من الشهر ذاته، تلاها استضافة العاصمة القطرية الدوحة لجولة من المفاوضات غير المباشرة يوم 19 مارس/آذار 2024.

انتهت الجولات السابقة جميعها دون أن يتمكن الوسطاء من إحداث اختراق والتوصل إلى هدنة، إلا أن الوساطات لم تتوقف عند هذه النقطة، إذ أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن يوم 31 مايو/أيار 2024 ما قال إنه "مقترح إسرائيلي لوقف إطلاق النار لمدة 6 أسابيع والإفراج عن جميع المحتجزين"، وتبناه مجلس الأمن الدولي في قراره رقم 2735 يوم 10 يونيو/حزيران، ونص على وقف دائم لإطلاق النار في القطاع والانسحاب التام لجيش الاحتلال منه، وتبادل الأسرى، وإعادة الإعمار، وعودة النازحين(7). لكن المقترح لم يُفض هو الآخر إلى نتيجة بسبب تنصل نتنياهو منه، رغم موافقة حماس عليه مع بعض التعديلات.

عادت الدوحة لتستضيف جولة أخرى من المفاوضات بين حماس وإسرائيل يومي 15 و16 أغسطس/آب 2024، بمشاركة الوسطاء الدوليين والإقليميين، وصدر بيان مشترك عن الولايات المتحدة، بدعم من قطر ومصر، يعلن تقديم اقتراح جديد لكلا الطرفين بهدف تقليص الفجوات القائمة. لكنّ تمسك نتنياهو بشرطَي البقاء في محور فيلادلفيا وتفتيش العائدين إلى شمال قطاع غزة، عطل التوصل إلى اتفاق. وفي 4 ديسمبر/كانون الأول 2024 وبعدما كانت قطر قد علّقت وساطتها بين الطرفين، استأنفت دورها وسيطاً رئيسياً للتوصل إلى اتفاق بين حركة حماس وإسرائيل، وبعد تدخل ستيف ويتكوف، مبعوث الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، حدث تقدم كبير في المفاوضات أتاح الإعلان عن وقف إطلاق نار بين الجانبين، دخل حيز التنفيذ يوم 19 يناير/كانون الثاني 2025، واستمر حتى أعلنت إسرائيل انتهاءه بغارات جوية شنتها على غزة فجر الثلاثاء 18 مارس/آذار 2025(8).

منطلق الموقف الإسرائيلي في المفاوضات: ظل الخلاف الرئيسي بين إسرائيل وحماس في محطات التفاوض المختلفة هو رغبة حماس في أن يؤدي وقف إطلاق النار إلى إنهاء الحرب، مقابل الموقف الإسرائيلي القائل بأن الحرب يجب أن تستمر بعد أي اتفاق. انطلق الموقف الإسرائيلي من الافتراض بأن "أهداف الحرب لم تتحقق"، لذلك اعتبر أن ما قد ينتج عن المفاوضات يجب أن يكون "مؤقتاً وجزئياً"، بهدف استعادة الأسرى حصراً، وبالتالي إمكان المضي في تحقيق أهداف الحرب بعد ذلك(9). ردد نتنياهو مراراً المبادئ التي "لن تتنازل إسرائيل عنها في إطار المحادثات مع حماس"، وهي أن أي اتفاق يتبلور "يجب أن يسمح لإسرائيل بالعودة إلى القتال حتى تحقيق كامل أهداف الحرب"(10)، ولم تكن إسرائيل مُستعدة للالتزام بإنهاء الحرب في أي مرحلة من مراحل المفاوضات ولا في مراحل اتفاق الهدنة الذي جرى توقيعه أخيراً.

دفع الموقف الإسرائيلي في جولات المفاوضات الأمور إلى حد العبث، إذ سعت إسرائيل إلى التفاوض على وقف إطلاق النار على أساس مطلب استمرار إطلاق النار، ولما طالبت حماس إسرائيل بإنهاء الحرب ردت الأخيرة أنها تريد استمرارها ولم تحدد أي مطالب أو شروط لإنهائها(11).

يرى معارضو نتنياهو وكثير من الإسرائيليين أن النصر غير ممكن دون عودة الأسرى و"بأي ثمن"، في حين يرى نتنياهو وحكومته واليمين الحاكم، أن "الثمن" المطلوب دفعه سيكون انتصاراً ساحقاً لحماس وبمثابة "هزيمة ساحقة واستسلام إسرائيلي في قضايا وجودية"(12). وقد استطاع نتنياهو أن يستخدم هذه المعاندة والمماطلة للتخفيف من حدة الاحتجاجات الشعبية والرسمية، ولضمان أن لا تصل المفاوضات إلى نتيجة، فيضمن بذلك استقرار تحالفه مع وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش الرافضَين لأي اتفاق مع حركة حماس كما موقفه تماماً.

منطلق حماس في المفاوضات: تبنّت حماس على امتداد جولات المفاوضات حزمة من التكتيكات بهدف الضغط على إسرائيل ومنع نتنياهو من التلاعب بالمفاوضات أو كسب الوقت والمماطلة. وقد تمسكت الحركة بمبادئها الأساسية في المفاوضات المتمثلة في إنهاء الحرب وانسحاب القوات الإسرائيلية من المحاور الرئيسية والمدن وعودة سكان شمال القطاع وإطلاق سراح أسرى فلسطينيين تُحددهم هي، وذلك بمقابل ومواجهة استثمار إسرائيل في تفوقها الميداني، أي في عمليات التدمير والإبادة للشعب الفلسطيني والاغتيال لقيادة المقاومة(13).

ورغم المرونة التي أبدتها حماس في الحيثيات المتعلقة بالإفراج عن الأسرى الفلسطينيين؛ أعدادهم، ومحكومياتهم، وأماكن الإفراج عنهم.. إلخ، فإنها أكدت مرارا أن نتنياهو يختلق الذرائع ليتفادى الالتزام بمقتضيات اتفاق وقف إطلاق النار، ويتهرب من الإعلان عن القبول بوقف الحرب والانسحاب من القطاع عبر افتعال إشكالات وتقديم شروط إضافية تقلل من احتمالات إبرام أو إتمام أي صفقة، لذلك طالبت حماس الوسطاء مراراً بوضع جدول زمني وخطة واضحة لتنفيذ ما عُرض عليها ووافقت عليه، بالإضافة إلى ضمانات دولية على التنفيذ. وقد تنبهت حماس إلى أن دافع السلوك الإسرائيلي، والأميركي بشكل كبير، في المفاوضات يُراد منه سحب ورقة الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين من يد الحركة، وهي ورقة قوية، مقدّمة لفعل ما هو أعظم في حال نجاح هذه الخطوة دون أي وازع أو قيد(14).

عودة الحرب والغاية منها

التزمت حماس بعد التوقيع على اتفاق الهدنة الأخير ودخوله حيز التنفيذ، بكامل التزاماتها في إطار المرحلة الأولى، وقامت خلال ساعات أو أيام بتصحيح أي عمل اتُهِمت بأنه يخالف شروط تنفيذه، كما في حالة إعادة جثة شيري بيباس(15). كان واضحا أن نتنياهو لم يكن ينوي أصلاً الوصول إلى المرحلة الثانية من الاتفاق، ناهيك عن المرحلة الثالثة، لذلك بدأ في اتخاذ خطوات محمومة هدفت إلى التسبب في انهيار وقف إطلاق النار.

افتقرت إسرائيل إلى حسن النية ليس فقط فيما يتصل بمندرجات وقف إطلاق النار وعدم التزامها بمناقشة المرحلة الثانية، بل ظل ملازماً لهذه المفاوضات في كل محطاتها السابقة. عملياً، كانت إسرائيل تأمل إثارة رد فعل عنيف من جانب المقاومة يوفر لها ذريعة للعودة إلى الحرب، وعندما فشلت كل الخروقات والاستفزازات، لجأت إسرائيل ببساطة إلى الادعاء بأن حماس مسؤولة عن انهيار الاتفاق، وشنت حملة قصف واسعة النطاق على قطاع غزة.

للوهلة الأولى تبدو أهداف الحرب واضحة وفق ما يتردد في إسرائيل من ادعاءات بأن العودة إلى القتال هدفها "الضغط لتحقيق إطلاق سراح الرهائن"(16). والواقع أنه من الصعب الفصل في التوقيت بين تجدد الحرب على غزة والصعوبات التي يواجهها نتنياهو في البعد الداخلي، إذ يُفترض أن يبدأ ائتلافه إجراءات التصويت على موازنة العام 2025 الأسبوع القادم، وليس لديه أغلبية لتمريرها، ويخشى أنّ عدم إقرارها حتى نهاية الشهر الحالي سيودي بحكومته، خاصة في ظل انسحاب بن غفير منها الشهر الماضي (فبراير/شباط)، وإعلان اثنين من أعضاء الكنيست من حزب "أغودات يسرائيل" بأنهما لن يصوتا على الموازنة بسبب عدم المصادقة على قانون التجنيد(17).

ومن أجل منع إسقاط حكومته، اضطر نتنياهو إلى اتخاذ خطوتين: الأولى، ضم حزب "أمل جديد"، حزب جدعون ساعر إلى صفوف الليكود، والثانية إعادة إيتمار بن غفير إلى الحكومة، وهو الذي اشترط عودته بعودة الحرب على غزة. أراد نتنياهو أن يذهب إلى هذا الاستحقاق، بأغلبية وازنة تضمن بقاء حكومته، فكانت دماء الفلسطينيين هي السبيل.

ومن الدوافع الداخلية لقرار استئناف الحرب، الغضب الشعبي المتزايد ضد سياسات حكومة نتنياهو، بل ضده شخصياً في الأساس، على خلفية الإخفاق التفاوضي المُتعمّد، وقرار إقالة رئيس الشاباك رونين بار والتحضير لطرد المستشارة القضائية للحكومة غالي بيهاريف ميارا. ومع تصاعد الاحتجاجات الشعبية المُعارِضة، ومشاركة قوى وشرائح جديدة فيها، مثل رؤساء الجامعات وأحزاب سياسية نأت بنفسها سابقاً نسبياً عن حراك عائلات "الأسرى"، لم يجد نتنياهو أفضل من تأجيج الحرب وسيلةً لتقليص حدة الاحتجاجات وربما تجاوزها. زد على ذلك رغبة نتنياهو في تجاوز شبح المحاكمات والتحقيقات التي تطارده يومياً على خلفية الفساد، وتلقّي الرشى، وسوء استخدام السلطة، وإخفاق 7 أكتوبر، مُضافاً إليها رغبة نتنياهو في تغيير طبيعة النظام في إسرائيل وتحقيق حلم اليمين الصهيوني المتعلق بإعادة صياغة "الدولة اليهودية"، وفق مقاسات اليمين المتطرف(18). وقد غرّد نتنياهو باللغة الإنجليزية مشبّهاً نفسه بالرئيس الأميركي دونالد ترمب ومهاجماً "الدولة العميقة" في إسرائيل "التي تستخدم النظام القضائي للانقضاض على اليمين الذي هو إرادة الشعب"(19).

وهناك أسباب وأهداف أخرى غير معلنة بوضوح، ساهمت في اتخاذ قرار العودة إلى الحرب، ويمكن أن يؤدي الكشف عنها بوضوح أو التصريح بها إلى تداعيات لا يرغب نتنياهو وحلفاؤه في حدوثها، أو على أقل تقدير يفضلون تأجيلها إلى وقت لاحق، ويمكن تلخيص أهمها في التالي:

أولا: أن نتنياهو منذ الأسبوع الأول بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان يتقصّد شن الحرب لأطول فترة ممكنة؛ حرب مستمرة مُصممة لخلق شعور دائم بحالة الطوارئ في إسرائيل، أو "حرب وجودية"  يستطيع أن يَسوقَ المجتمع الإسرائيلي فيها خلفه كما يشاء، لأنه كلما طالت الحرب زادت فُرصه في البقاء في السلطة، لأن معظم الإسرائيليين يستجيبون للدعوة إلى "الهدوء" أثناء الحرب(20).  

ثانيا: تحقيق أحد أهم أهداف الحرب على غزة بإنهاء حكم حماس وسحق قدراتها المدنية، فقد نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" عن مسؤولين إسرائيليين قولهم: "نستهدف الآن إداريين كبارا في حماس ممن لم نعتبرهم سابقاً أهدافاً، في رسالة بأننا لن نسمح لها بالاحتفاظ بالسيطرة على القطاع"، حيث تأمل إسرائيل أن تؤدي هجماتها إلى انهيار قدرات حماس وأن تتولى عشائر محلية السيطرة على غزة(21).

ثالثا: استكمال مشروع "التطهير العرقي" في القطاع وتحقيق الأجندة الأوسع من احتلال واستيطان وتهجير. فمشروع التهجير تراجع ولم يُدفَن، لاسيما أن محاولات الحلفين الإستراتيجيين إيجاد وجهة جديدة للمهجرين قسراً عن ديارهم؛ لم تتوقف، بل تواصلت لتشمل السودان والصومال وسوريا وغيرها من الدول الهشّة، التي يعِدها ترمب بمكافآت وجوائز ترضية(22).

رابعا: يتلاقي تجديد الحرب في غزة مع تحقيق الرؤية الأميركية الإسرائيلية المشتركة لحسم المعركة العسكرية مع حلفاء إيران في المنطقة، وتوجيه ضربة قاضية لهم(23).

خامسا: عودة الحرب على غزة بالتزامن مع الضربات الأميركية لليمن، وقد تكون مقدمة لضرب إيران لاسيما في ظلّ التحريض الإسرائيلي الكبير ضدّها، وتصريحات ترمب الأخيرة الذي توعّد بها طهران بعواقب وخيمة؛ تشير إلى نية تصعيد محتمل في المنطقة(24).

مآلات الحرب

يتوعد نتنياهو بأن الضربات الجوية ليست إلا البداية، ويهدد وزير دفاعه يسرائيل كاتس سكان غزة ويدعوهم إلى إعادة "الأسرى" وطرد حماس، وإلا فسيواجهون التهجير والموت. وبينما تحظى إسرائيل بدعم أميركي أعمى، يغيب عن غزة الإسناد الخارجي الكفيل بتغيير مسار الحرب أو وقفه، إذ لا يوجد أي موقف عربي رسمي أو شعبي يمكن المراهنة عليه لوقفها، كما تبدو المنظومة الدولية ضعيفة أو منحازة إلى إسرائيل.

في ظل ما سبق، تتمثل سيناريوهات الحرب المحتملة وانعكاساتها على مستقبل غزة فيما يلي:

أولا: من المرجح، في أقل تقدير، أن تتواصل فصول استباحة الدم الفلسطيني إلى حين اجتياز حكومة نتنياهو استحقاق التصويت على الموازنة، ما يعني أن غزة قد تذهب إلى حرب من عدة أسابيع، ترتفع شدتها وتنخفض، وفقاً لمجريات الحالة الداخلية الإسرائيلية، ومقتضيات التفاوض. فاستئناف الحرب على غزة "تفاوض بالنار"، في حدّه الأدنى، وقد يستمر أياماً وأسابيع متعددة(25).

ثانيا: قد تلجأ حماس إلى الانحناء قليلاً أمام العاصفة الهوجاء القادمة من واشنطن و"تل أبيب"، اللتين تقودان "ائتلافاً يمينياً" لا تقيده حدود ولا ضوابط، فتتعاطى إيجاباً مع مقترح ويتكوف(26)، مع تحسين شروطها المرتبطة بالمقابل الذي ستحصل عليه من الأسرى الفلسطينيين وتسريع إدخال المساعدات وفتح المعابر، دون أن يُقدم أي من الطرفين، الاسرائيلي أو الأميركي، ضماناتٍ بوقف الحرب، بتقدير أن هذا التمديد قد يغير نوايا إسرائيل. وقد يشجع الوضع الداخلي الإسرائيلي المضطرب حركة حماس على الرهان على إمكانية حدوث تحولات داخلية إسرائيلية بفعل الاحتجاجات المتصاعدة، فتكبح جماح نتنياهو وحكومته وتمنعه من استمرار الحرب، لكنه رهان محفوف بالمخاطر، وقد تتجدد الحرب مع نهايته، ويمكن أن ينتج عنه تداعيات صعبة ومعقّدة.

ثالثا: إذا أصرت حماس على موقفها الرافض لمقترح ويتكوف دون الحصول على ضمانات بإنهاء الحرب وانسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع، وقرّرت مواجهة الإستراتيجية الأميركية الإسرائيلية وعدم التفريط بورقة "الأسرى"، فإنه من المتوقع أن تستمر الحرب وتتصاعد، وقد يغرق ترمب -الذي وعد بإنهاء الحرب في غزة- في نفس المأزق الذي واجهه بايدن: "تقديم الدعم لحرب لا نهاية لها"، دون القدرة على التوصل إلى اتفاق يضمن إطلاق سراح "الأسرى" ووقف إطلاق نار دائم، ما يعني أنه سيواجه صعوبة في تنفيذ سياسات أخرى كان يسعى لتحقيقها في الشرق الأوسط، وربما يأتي التدخل الأميركي هنا، وإن متأخراً، لوقف الحرب على هذه الخلفية(27).

مستقبل غزة

استطاعت حماس أن تصمد رغم خسائرها الكبيرة، وما زالت تسيطر على القطاع، وفي حال انتهاء الحرب دون القضاء عليها وفق الرؤية الإسرائيلية، فسيتردد صدى "صمودها" في المنطقة، وقد تصبح مثالاً يُحتذى في المقاومة، ما يهدد قوة الردع الإسرائيلي الذي يشكل حجر أساس وجود إسرائيل في المنطقة، وهذا هو مصدر الشعور العميق في إسرائيل بأن الحرب على غزة هي "حرب وجودية"(28).

لذا، يبدو من الصعب أن يكون هناك في الأفق أي من الحلول السياسية المقترحة لغزة بالتعاون مع "عناصر محلية كالعشائر"، أو السلطة الفلسطينية "المتجددة"، أو الدول العربية المعتدلة، أو غيرها من أطراف دولية. فقد ثبت أن لا أحد تقريباً "يرغب" أو قادر على أن يكون بديلاً لحماس في غزة حتى اللحظة(29). وإسرائيل من طرفها تعتبر "الفوضى" وصْفتَها المفضلة، التي تسمح لها بخلق الذرائع لاستمرار الحرب، وربما تقبل لاحقاً إذاما وضعت الحرب أوزارها وعجزت عن تنفيذ مخطط التهجير، بصيغة "سلطة محلية وفق مقاسها" تتيح لها التحرك في القطاع لتستهدف حماس متى شاءت، كما تفعل اليوم في الضفة الغربية. ومع ذلك، فإن شبح التهجير وتنفيذ خطة "الحسم" اليمينية الصهيونية المتطرفة التي تتقاطع مع رؤية ترمب بشأن التهجير، ما زالت خطرا ماثلا ما استمرت الحرب.

خاتمة

تهيمن حالة من عدم اليقين على هذه الحرب، فلا ضمان لنجاح الأهداف التي وضعتها إسرائيل لنفسها، وقد تؤدي تطورات عديدة غير متوقعة، إلى قلب الأمور ضدها. على الجانب الآخر من مشهد الحرب، تجد حماس نفسها أمام تحدٍّ وجودي، بل إنه في حال استمرار حرب إسرائيل التدميرية وسقوط حماس(30)، ستهيمن إسرائيل على عموم المنطقة، لا على غزة فقط.

وإن صمدت حماس وخرجت منتصرة أو شبه منتصرة في هذه الحرب بفعل "صمودها"، أو إذا أطاحت التحولات الداخلية في إسرائيل بحكومة نتنياهو وكبحت جموح هذه الحرب، فقد نشهد تدخلاً عربياً أو دولياً فاعلاً يفرض صيغة حل ربما تَغيب فيها حماس عن المشهد السياسي في القطاع وتحافظ على قيادتها وسلاحها، بالتزامن مع ترتيبات عربية وأممية في قضايا الإعمار والأمن وغيرهما.

ABOUT THE AUTHOR

References
  1. محمد الهندي، طوفان الأقصى بين مسار التفاوض واستمرار العدوان، موقع الجزيرة نت، 17 أغسطس/آب 2024، (تاريخ الدخول: 18 مارس/آذار 2025)،  https://shorturl.at/cFffT
  2. روبرت ساتلوف وآخرون، أهداف الحرب الإسرائيلية ومبادئ الإدارة في غزة في مرحلة ما بعد "حماس"، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023، (تاريخ الدخول: 18 مارس/آذار 2025)، https://shorturl.at/kNPMe
  3. عزر جت، أهداف الحرب في غزة وإستراتيجية تحقيقها، معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، جامعة تل أبيب، 15 فبراير/شباط 2024، (تاريخ الدخول: 18 مارس/آذار 2025)،  https://shorturl.at/3rO6s
  4. المصدر السابق.
  5. المصدر السابق.
  6. المصدر السابق.
  7. موسوعة الجزيرة نت، محطات تفاوض بارزة سبقت اتفاق وقف إطلاق النار بغزة، 15 يناير/كانون الثاني 2025، (تاريخ الدخول: 18 مارس/آذار 2025)، https://shorturl.at/nBwor
  8. المصدر السابق.
  9. يوني بن مناحم، إسرائيل تُحدد أسس المفاوضات حول صفقة مع حماس، مدونة يوني بن مناحم: الخبراء العرب، 8 يوليو/تموز 2024، (تاريخ الدخول: 18 مارس/آذار 2025)، https://shorturl.at/VZbDf
  10. المصدر السابق.
  11. يوفال بنزيمن، هذا خطأ إسرائيل الإستراتيجي في المفاوضات مع حماس، صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، 15 فبراير/شباط 2025، (تاريخ الدخول: 18 مارس/آذار 2025)، https://shorturl.at/tGxTI
  12. المصدر السابق.
  13. عدنان البرش، تكتيكات حماس تحت قيادة السنوار: تفاوض دون تنازل وضغط نحو خطة تنفيذية، موقع بي بي سي نيوز عربي، 15 أغسطس/آب 2024، (تاريخ الدخول: 18 مارس/آذار 2025)، https://shorturl.at/5bgga
  14. شاؤل بارتال، ما الذي يقف خلف مطالب حماس في المفاوضات؟ مركز بيغن سادات للدراسات الإستراتيجية، جامعة بار إيلان، 4 مارس/آذار 2024، (تاريخ الدخول: 19 مارس/آذار 2025)، https://shorturl.at/JviW7
  15. ليلاخ بن دافيد، هكذا خرقت إسرائيل كل مراحل الاتفاق في طريق عودتها للمذبحة في غزة، موقع "محادثة محلية" العبري، 19 مارس/آذار 2025)، (تاريخ الدخول: 19 مارس/آذار 2025)، https://shorturl.at/Sjtqt
  16. يوسي ملمان، تجديد الحرب هدفه سياسي، يريد نتنياهو أن يخلق إحساساً دائماً بالطوارئ، صحيفة هآرتس العبرية، 18 مارس/آذار 2025، (تاريخ الدخول: 19 مارس/آذار 2025)، https://shorturl.at/nIBiI
  17. المصدر السابق.
  18. عريب الرنتاوي، استئناف الحرب على غزة: "تكتيك تفاوضي" أم عودة إلى شبح "التهجير"؟ موقع الميادين نت، 19 مارس/آذار 2025، (تاريخ الدخول: 19 مارس/آذار 2025)،  https://shorturl.at/4vli0
  19.   حساب نتنياهو على منصة إكس، 19 مارس/آذار 2025، (تاريخ الدخول: 20 مارس/آذار 2025)، https://rb.gy/nmleyt
  20. يوسي ملمان، مصدر سابق.
  21. يوني بن مناحم، مصدر سابق.
  22. عريب الرنتاوي، مصدر سابق.
  23. أحمد عبد الرحمن، استئناف العدوان على غزة وفرضية اندلاع الحرب الشاملة، الميادين نت، 19 مارس/آذار 2025، (تاريخ الدخول: 20 مارس/آذار 2025)، https://shorturl.at/oF9Zs
  24. المصدر السابق.
  25. عريب الرنتاوي، مصدر سابق.
  26. أحمد عبر الرحمن، مصدر سابق.
  27. يوسي ملمان، مصدر سابق.
  28. يوفال بنزمين، مصدر سابق.
  29. عزر جت، مصدر سابق.
  30. أحمد عبد الرحمن، مصدر سابق.