السلطة اللبنانية في مواجهة تحديات نزع سلاح المخيمات الفلسطينية

تواجه السلطة اللبنانية تحديات بخصوص نزع سلاح المخيمات، أهمها أن الرئيس عباس لا يمثل كل الفلسطينيين، وهناك تداخل سياسي بين سلاح حزب الله وسلاح المخيمات، ولا إجماع لبناني على كيفية معالجة هذا الملف.
أخذت مسألة نزع السلاح الفلسطيني داخل المخيمات بعدها السياسي الواسع، بعد زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لبيروت (رويترز).

مقدمة

أسقطت حرب إسناد غزة التي شنَّها حزب الله وما رافقها من حرب إسرائيلية على لبنان، جملة من الخطوط الحمر، كانت تعد منذ اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية، عام 1991، من المحرمات، في مقدمها سلاح حزب الله والسلاح الفلسطيني في مخيمات اللاجئين. رُبط نزع سلاح الحزب بجلاء الاحتلال الإسرائيلي عن مزارع شبعا وتلال كفر شوبا وقرية الغجر، لا يُسحب هذا إلا بزوال ذاك. في حين رُبط سلاح المخيمات بإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، والإقرار بحق العودة للاجئين، ولا يُسلَّم هذا إلا بتحقيق ذاك.  

تلقى "حزب الله" ضربة عسكرية قاسية، ألحقت دمارًا كبيرًا ببنيته القيادية والتنظيمية وبيئته وتوجهاته، وجاء بعده السقوط المزلزل لنظام آل الأسد في سوريا، الداعم للحزب والمتنفس لإمداداته العسكرية واللوجستية ومداه الجغرافي؛ ما أحدث تغييرات سياسية على المستوى الوطني، فرضت على الدولة اللبنانية المبادرة إلى البحث الجاد في نزع سلاح حزب الله كما سلاح المخيمات، خصوصًا بموجب النسخة المعدلة من القرار الدولي رقم 1701 الخاص بترتيبات وقف النار بين إسرائيل و"حزب الله".

تعهد رئيس الجمهورية، العماد جوزيف عون، في خطاب تنصيبه بحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية، وهو أمر تعهدت به أيضًا حكومة الرئيس نواف سلام في بيانها الوزاري، لتصبح مسألة سحب سلاح الحزب من المسلَّمات التي يتعين بتُّها بسرعة، ووُضعت على طاولة البحث الجدي بين رئيس الجمهورية والقيادة السياسية الجديدة للحزب، وقد مضت عمليات نزع سلاح الحزب جنوب نهر الليطاني بسلاسة نسبيًّا على يد الجيش.

هذا في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل احتلال أجزاء من جنوب لبنان، واغتيال كوادر الحزب وتدمير مخازنه ومخابئه العسكرية وفق بنك أهداف حافل، في خرق واضح لاتفاق وقف النار المعلن. بالمقابل، ذهب حزب الله نحو التريث في تسليم سلاحه شمال النهر، في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية والمتواصلة، وأنه لن يبحث في تسليمه شمال الليطاني قبل زوال الاحتلال.  

أما السلاح الفلسطيني داخل المخيمات فصارت مسألة نزعه تحصيل حاصل في التداول السياسي. وسبق ذلك تسليم "ودي" للسلاح المنتشر خارج المخيمات للجيش اللبناني لاسيما في مناطق قوسايا والسلطان يعقوب وحشمش في شرق البقاع وحارة الناعمة قرب بيروت، من فصائل كانت موالية للنظام السوري السابق، مثل "فتح الانتفاضة" و"الجبهة الشعبية- القيادة العامة".

صفقة تسليم السلاح الفلسطيني

أخذت مسألة تنظيم السلاح الفلسطيني داخل المخيمات بعدها السياسي الواسع، بعد زيارة رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، لبيروت، في 21 مايو/أيار 2025، والتي استمرت ثلاثة أيام التقى خلالها المسؤولين اللبنانيين لحسم هذه القضية، في مقابل رفض التوطين وتحسين الأوضاع الاجتماعية للمدنيين الفلسطينيين في لبنان ومنحهم حق العمل والتملك. اتفق الطرفان على "بسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها"، بما فيها مخيمات اللاجئين، وتشكيل لجنة مشتركة لإطلاق مسار وخطة طريق لتسليم السلاح الفلسطيني وفق جدول زمني محدد، وعبر وضع آلية تنفيذية لبدء سحب السلاح الفلسطيني على مراحل. نصَّ الاتفاق الأولي على أن "يبدأ العمل منتصف يونيو/حزيران في مخيمات بيروت، وبرج البراجنة، وشاتيلا، ومار الياس"، ثم ينتقل إلى "مخيمات البقاع والشمال"، ولاحقًا الى المخيمات الأكثر تعقيدًا في الجنوب، أي "الرشيدية وعين الحلوة". أبدى الطرفان، اللبناني والفلسطيني، "الحرص الشديد على عدم حصول أي صدام قد يبدأ داخل المخيمات ويمتد إلى خارجها، خصوصًا أن الترجيحات تفيد بأن التفاهم مع حماس وغيرها من الفصائل قد لا يكون سهلًا، وهو ما يطرح تساؤلًا عن موقف فتح في هذه الحال: هل تسلِّم سلاحها بينما يُحجِم الآخرون، خصوصًا بعدَ الصدامات التي حصلت بينها وبين مجموعات أخرى داخل المخيمات؟"(1).

لا يمكن عزل زيارة أبو مازن لبيروت عن ضغوط دولية وإقليمية تهدف إلى نزع السلاح الفلسطيني من المخيمات، ولو بالقوة، جزءًا من مقايضة أوسع تمتد من غزة إلى لبنان إلى طهران(2). أما عباس فقد سعى من وراء زيارته الى اصطياد عصفورين بحجر واحد: أولهما: الظهور بمظهر المنسجم مع السياسات اللبنانية والإقليمية والدولية الساعية لمصادرة أي سلاح في الدولة سوى سلاحها الرسمي. ثانيهما: استغلال هذه اللحظة التاريخية لحرمان منافسته الفلسطينية "حماس" من هذا الفضاء السياسي الذي تتمتع فيه بنفوذ كبير، ولتعود السلطة الممثل لساحة الشتات والمهجر التي خسرتها طوال السنوات الماضية بسبب إهمالها لها(3).

وكانت الأنظار قد اتجهت إلى سلاح الفصائل الفلسطينية في لبنان، بعد صدور قرار وقف النار بين "حزب الله" وإسرائيل، في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، لاسيما أن فحوى الاتفاق، وفقًا لما تسرَّب منه، اشترط على لبنان تهدئة الحدود مع إسرائيل، وعدم السماح للمنظمات الفلسطينية بمواصلة إطلاق الصواريخ. وسمع الرئيس عون خلال زياراته لبعض العواصم العربية، مثل الرياض والقاهرة، كلامًا واضحًا عن ربط إعادة إعمار لبنان بنزع السلاح غير الشرعي بما في ذلك سلاح المخيمات الذي "ينتهك" سيادة الدولة، و"يقدم الذرائع" لإسرائيل لاستمرار تهديدها للبنان. وأعلن الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، في الجلسة الافتتاحية للقمة العربية الأخيرة في بغداد قبل أيام (15 مايو/أيار 2025)، أن لبنان يواجه تحديًا تاريخيًّا يتمثل في حصر السلاح بيد الدولة؛ وهو ما رحَّب به الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في كلمته أمام القمة، مؤكِّدًا ضرورة احترام سلامة الأراضي اللبنانية. كما أوصلت نائبة المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس، رسائل ضغط إضافية تتعلَّق بمهلة زمنية محدَّدة لمعالجة ملف نزع سلاح "حزب الله" والسلاح الفلسطيني(4).

ترافقت الضغوط أيضًا مع سلسلة أحداث أمنية عدة، كان أبرزها: إطلاق صواريخ من جنوب لبنان باتجاه المستوطنات الإسرائيلية وتوجهت أصابع الاتهام فيها إلى عناصر حركة "حماس"؛ ما دفع بالحكومة اللبنانية إلى التخلي عن دبلوماسيتها المعتادة والإعلان عن عدم مشروعية سلاح الفصائل الفلسطينية وتوجيه تحذير لحركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية، من استخدام الأراضي اللبنانية في عمليات عسكرية ضد إسرائيل، وذلك بناء على توصية مجلس الدفاع الأعلى. بل اعتقلت السلطات اللبنانية عددًا من المتورطين وطالبت "حماس" بتسليم أربعة ناشطين آخرين، واستجابت الحركة بتسليمهم ما عدا واحدًا لأنه متوارٍ عن الأنظار.

والجدير بالذكر أن السلطات الأردنية كانت قد أعلنت، في منتصف أبريل/نيسان 2025، عن الكشف عن خلية مسلحة في الأردن كانت تخطط لإطلاق صواريخ من أراضي المملكة في اتجاه إسرائيل، وبثت بعض اعترافاتهم، أشار فيها أحد المتهمين إلى أنهم تلقوا التدريب داخل مخيمات فلسطينية في لبنان.

 الوجود الفلسطيني والسلاح

لا تكاد أية مرحلة في تاريخ لبنان تخلو من الحديث عن الوجود الفلسطيني في الأراضي اللبنانية، ومع كل حدث أمني أو سياسي يعاد فتح هذا الملف من بوابة جديدة، لعل آخرها طرح مسألة توطين الفلسطينيين في لبنان بشكل دائم مع تطورات الحرب في غزة والمخطط الأميركي-الإسرائيلي لتهجير سكان القطاع.

يعود الوجود الفلسطيني في لبنان إلى نكبة عام 1948 حين هُجِّرت أعداد كبيرة من أبناء فلسطين واستقرت فيه، وجاءت غالبيتهم من شمال فلسطين، من قرى الجليل ومدن الساحل مثل يافا وحيفا وعكا، وكانت غالبيتهم من سكان الريف والفقراء وممن فقدوا ممتلكاتهم. قُدِّر عددهم حينها بنحو 110 آلاف فلسطيني، وأُسكنوا في نقاط ثابتة في المدن اللبنانية، من الجنوب إلى أقصى الشمال.

أما اليوم، فإن عدد الفلسطينيين المسجلين لدى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم "الأونروا" في لبنان يقترب من 500 ألف فلسطيني (489293 فلسطينيًّا)، إلا أن الأرقام الفعلية تشير إلى تقديرات أقل، بسبب الهجرة والسفر نحو أوروبا وأميركا، لاسيما وقد كشفت بيانات صادرة عن لجنة الحوار اللبناني-الفلسطيني، ونتائج مسح أجرته إدارتا الإحصاء المركزي في كل من لبنان وفلسطين في عام 2017، أن العدد يبلغ فقط 175 ألفًا.

يتوزع الفلسطينيون على 12 مخيمًا، أهمها في الجنوب: مخيم عين الحلوة ويضم 50 ألف نسمة، مخيم الميَّة وميَّة ويضم 4500 نسمة، ومخيم الرشيدية ويضم 27500 نسمة، ومخيم البص ويضم 9500، والبرج الشمالي ويضم 19500 نسمة. وفي بيروت ومحيطها، يضم مخيم برج البراجنة 16 ألف نسمة، ومخيم صبرا وشاتيلا 8500 نسمة، ومخيم مار إلياس 600 شخص. أما في الشمال فيضم مخيم نهر البارد ألف شخص، والبداوي 16500 نسمة. وهناك مخيم ضبية الذي يضم 4591 نسمة، ومخيم الويفل في بعلبك ويضم 8 آلاف نسمة(5).

يعاني فلسطينيو لبنان من أوضاع معيشية صعبة للغاية ومن ضائقة اقتصادية؛ إذ تتجاوز نسبة الفقر بين سكان تلك المخيمات الـ 70%، فيما تبلغ نسبة البطالة 56%، مقارنة بنسبة البطالة في السياق اللبناني التي تبلغ 29%، كما تغيب فرص الحصول على الرعاية الصحية والتعليم.

أما السلاح فقد دخل إلى المخيمات قبل سنوات قليلة من اندلاع الحرب الأهلية في لبنان (1975–1990)، عندما وقَّعت الدولة اللبنانية مع منظمة التحرير الفلسطينية "اتفاق القاهرة"، عام 1969، برعاية الرئيس المصري، جمال عبد الناصر، وقد سمحت بنوده للفلسطينيين بالتنقل داخل لبنان، والتسلح ضمن المخيمات وتولي أمنها، والقيام بالعمل العسكري ضد إسرائيل انطلاقًا من الأراضي اللبنانية. بحلول عام 1971، أصبح لبنان القاعدة الوحيدة لمقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية، بعد اشتباكات مسلحة بين مقاتلي المنظمة والجيش الأردني، عُرفت بأحداث "أيلول الأسود"، عام 1970، والتي أنهت الوجود المسلح للمنظمات الفلسطينية في المملكة.

لم يكن اتفاق القاهرة في السياق اللبناني اعترافًا نابعًا من رؤية إستراتيجية، بل كان تسوية اضطرارية لمحاولة احتواء واقع متفجِّر(6)؛ حيث أتى بعد توترات أمنية داخلية بين الوجود الفلسطيني المسلح والجيش اللبناني، وأثار تاليًا انقسامًا كبيرًا بين اللبنانيين، وترك تأثيرًا كبيرًا على الاستقرار الداخلي في لبنان وأسهم في زيادة الصراع الطائفي، لاسيما بين أحزاب اليمين المسيحي وأحزاب اليسار المتحالف مع منظمة التحرير الفلسطينية، في أزمةٍ تحولت في نهاية المطاف إلى حرب أهلية شاملة بدءًا من 13 أبريل/نيسان 1975. كما كان السلاح الفلسطيني محوريًّا في التوازنات الإقليمية والمحلية وشارك "بفاعلية" في الحرب الأهلية اللبنانية وفصولها الدامية، وهو ما جعل من ملف السلاح أمرًا متشابكًا مع الداخل اللبناني كما الخارج.

توسَّع النفوذ الفلسطيني والعمل الفدائي في لبنان، قبل الحرب وخلالها ليشمل مناطق خارج المخيمات مثل الجنوب الذي أصبح يُعرف بـ"فتح لاند" و"جمهورية الفاكهاني" في بيروت. لكن الاجتياح الإسرائيلي، في يونيو/حزيران عام 1982، والذي بلغ العاصمة، بيروت، وأدى الى مجازر فظيعة بحق المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين في مخيمي صبرا وشاتيلا، انتهى بخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بقيادة ياسر عرفات. صحيح أن المنظمة سلَّمت السلاح الثقيل قبل انسحابها لكن السلاح المتوسط والخفيف وبعض الثقيل بقي خارج المخيمات وداخلها إلى اليوم على رغم اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان، ونصَّ على حصرية السلاح في يد الدولة اللبنانية وحدها. تراجع النشاط المسلَّح الفلسطيني لاحقًا، وأُلغيت اتفاقية القاهرة، في مايو/أيار 1987، لكن من دون التأسيس لاتفاق بديل يرعى شؤون الفلسطينيين؛ ما عمَّق الفراغ القانوني والسياسي الذي يعيشه الفلسطيني منذ النكبة. ثم جاء اتفاق الطائف ليعيد إنتاج الدولة بتوازنات جديدة، من دون أن يطرح تصورًا لحل قضية اللاجئين، وهكذا بقي السلاح، ولكن بلا أفق.

وجاء اتفاق أوسلو ليزيد الأمر تعقيدًا؛ لأنه أدى إلى انقسام فلسطيني ما بين مؤيد للتسوية ومعارض لها، وانقسمت بالتالي المرجعيات وتعددت، وأصبح جدل السلاح والحفاظ عليه محل اهتمام خارجي، لاسيما من قبل سوريا وإيران الرافضتين لتسوية أوسلو وسلطة رام الله. وفي الوقت الذي أخذت فيه المنظمة، ولاسيما حركة "فتح"، تركز على خدمة أولويات السلطة في رام الله لا اللاجئين، ظلت فصائل المعارضة تعتنق خطاب مقاومة عالي النبرة، انعكس على حياة فلسطينيي لبنان وتمثيلهم السياسي انقسامًا وإعادة إنتاج تنظيمات جديدة ومسلحة(7). من الناحية العملية، تراجع دور سلاح هذه الفصائل في مقاتلة إسرائيل وتعزز في القتال الداخلي بالمخيمات ودخل في الصراع على القرار الفلسطيني أو الانحياز لجهات أو قضايا خارجية في معظم الأحيان. وزاد الأمر سوءًا تفاقم البؤس والفقر ونقص الخدمات والاكتظاظ في المخيمات، وتحول عدد منها في نظر فريق من اللبنانيين إلى بؤرة إرهاب يلوذ بها الفارُّون والمطلوبون والقَتَلة، وتضم خليطًا من عشرات الشراذم والتنظيمات المسلحة بعضها موسوم بـ"الإرهاب والتطرف"، فلسطينية وغير فلسطينية، تتناحر وتتقاتل بسلاح فلسطيني(8).

وقد اعتادت إسرائيل تحريض اللبنانيين على الفلسطينيين، وأنهم عامل مزعزع للأمن والاستقرار في الدولة، وعكفت مؤخرًا ومباشرة بعد انتهاء مواجهتها الواسعة مع حزب الله، على استهداف مقار وأنفاق ومستودعات ادَّعت أنها تعود إلى منظمات فلسطينية مسلحة(9).

وإذا كانت بعض المخيمات الفلسطينية مثل مخيم مار إلياس وصبرا وضبية غير مسلحة، فإن مخيمات أخرى كانت مسرحًا للاشتباكات بين الفصائل الفلسطينية والجيش اللبناني على غرار ما حدث في مخيم نهر البارد في الشمال عام 2007، أو الاشتباكات الموسمية والمتكررة بين الفصائل الفلسطينية نفسها لاسيما في عين الحلوة، أكبر مخيمات لبنان والذي يوصف بأنه عاصمة الشتات الفلسطيني. وتودي هذه الاشتباكات بحياة مئة شخص سنويًّا، بحسب الرئيس السابق للجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، باسل الحسن(10).

أما أبرز الفصائل الفلسطينية في المخيمات فهي: "فتح" كبرى الفصائل المسلحة وأقدمها ويتبعها جناحها العسكري "كتائب شهداء الأقصى". وهي تشكو من انقسامات داخلية وانشقاقات عدة، فبعضها تابع لقيادة أبو مازن وبعضها الآخر يؤيد القيادي السابق في الحركة، محمد دحلان. ثم الفصائل الأخرى في منظمة التحرير وأبرزها: "الجبهة الشعبية" والجبهة الديمقراطية" و"جبهة النضال الشعبي" و"جبهة التحرير". وعلى ضفة أخرى هناك فصائل كانت موالية للنظام السوري السابق مثل "فتح الانتفاضة" و"الصاعقة" و"القيادة العامة". ثم هناك الحركات الإسلامية خارج منظمة التحرير، لاسيما أكبرها "حماس" و"الجهاد الإسلامي".   

وأخيرًا، هناك مجموعات "الجهادية السلفية" التي تأسست في التسعينات، مثل "عصبة الأنصار" و"جند الشام" و"عصبة النور" و"الشباب المسلم" وغيرها. بعض هذه الجماعات يثير قلق الدولة اللبنانية لأنها "مرتبطة" بأجندات إقليمية ولأن هذه المجموعات كانت محور غالبية الاشتباكات التي شهدها مخيم عين الحلوة(11).

عوائق فلسطينية أمام نزع السلاح

هذا الخليط المتفجر داخل المخيمات والفوضى السياسية والتنظيمية جعلت من قضية تنظيم السلاح الفلسطيني وحصره مسألة في غاية التعقيد، لتعدد المصالح والعلاقات بين الفلسطينيين وأطراف أخرى، لبنانية وغير لبنانية، ولأن بعض الفصائل والمجموعات الفلسطينية تخضع لتأثيرات خارجية تمويلًا وتنظيمًا واستخباراتيًّا. فمسألة نزاع السلاح الفلسطيني تتطلب أكثر من مجرد قرار فوقي بين الحكومة اللبنانية والسلطة الفلسطينية، فهي تتطلب حوارًا فلسطينيًّا داخليًّا جديًّا، ثم حوارًا لبنانيًّا فلسطينيًّا يضم أهم القوى الأساسية المؤثرة لدى الطرفين، كما تتطلب رعاية عربية خاصة وتفاهمات إقليمية. وهناك إدراك لمعظم المعنيين بهذا الملف، أن هناك ضرورة بالمقابل لفكِّ الحصار عن المخيمات وتوفير مقومات الحد الأدنى من الحقوق والحياة الكريمة للاجئين.   

ومن الناحية العملية، لا يمكن إغفال العوائق والتحديات لتنفيذ قرار نزع السلاح من المخيمات، من أبرزها:

1-السلطة الفلسطينية هي الطرف الأضعف في مخيمات لبنان في ظل تعدد المرجعيات السياسية. فالرئيس عباس لا يمثل كل الفلسطينيين في لبنان، وهو منذ رحيله عن بيروت، عام 1982، لم يزر أي مخيم فلسطيني؛ الأمر الذي يضع علامات استفهام حول نجاح الاتفاق. كما أن السلطة الفلسطينية نفسها تعاني من التشكيك بشرعيتها فلسطينيًّا، والمعارضون لها لا يقبلون حتمًا أن تكون واجهة تنفيذية لمسألة حساسة مثل "السلاح"، وهم يرون أنها تتعلق بمصير القضية.

  1. لا يمكن طي ملف السلاح والجانب الأمني من دون مقاربة شاملة تشمل الجوانب الحياتية والمعيشية وحق العودة. وهناك إدراك لمعظم المعنيين بهذا الملف بأن هناك ضرورة بالمقابل لفكِّ الحصار عن المخيمات وتوفير مقومات الحد الأدنى من الحقوق والحياة الكريمة للاجئين.  
  2. تُثبت الوقائع الميدانية أن قوات الأمن الوطني الفلسطيني التابعة للمنظمة، والتي يفترض نظريًّا أنها المسؤولة عن تنظيم أمن المخيمات، لم تنجح ولا مرة في منع إطلاق الصواريخ ولجم أي تحركات مسلحة خارجة عن السيطرة.
  3. وتثير مشاركة السلطة الفلسطينية، وتحديدًا حركة "فتح"، في صياغة خطة نزع السلاح، تحفظات من بعض الفصائل الفلسطينية "التي تتبنى مواقف سياسية وأيديولوجية مختلفة، لاسيما في ظل غياب مظلة وطنية فلسطينية موحدة داخل لبنان"(12).
  4. يبدو أن المفاوضات مع المجموعات الإسلامية الجهادية المنتشرة في بعض المخيمات، تبدو محدودة التأثير، فهذه الفصائل ترفض تسليم سلاحها ما لم تُقدَّم لها ضمانات واضحة في شأن مصير أعضائها المطلوبين، بحيث ترى هذه المجموعات أن أي خطة لنزع السلاح من دون تسوية شاملة هي محاولة لإضعافها وإقصائها قسرًا(13).
  5. رغم إبداء مصادر في حركة "حماس" في لبنان انفتاحها على أي أمر يؤدي إلى استقرار لبنان، فإنها رأت أن "عباس يمثل السلطة الفلسطينية في رام الله، وبالتالي أي قرار بشأن سلاح (حماس) والفصائل لابد أن يتم بعد التشاور والحوار معها"(14).

ومما يشير إلى تعقيد المهمة، صدور بيان لافت باسم "الحراك الفلسطيني الموحَّد"، في المخيمات الفلسطينية بلبنان، عشية وصول عباس إلى بيروت، اعتبر أن "ملف السلاح الفلسطيني في لبنان ليس مسألة تقنية أو عسكرية فحسب، بل يرتبط بحق العودة، وبكرامة الإنسان الفلسطيني، وبحقه في الحماية، وبالوجود السياسي والاجتماعي لمجتمع لا يزال يُحرم من أبسط حقوقه الإنسانية والمدنية".

وعبَّر البيان عن "رفض نيَّة رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، تسليم السلاح الفلسطيني في لبنان إلى الدولة اللبنانية، دون أي تشاور أو تنسيق مسبق مع الفصائل والقوى الفلسطينية أو ممثلي الشعب الفلسطيني في لبنان"#a#a15.

إجماع لبناني على منع السلاح لا على آلية الحل

ثمة إجماع عام لدى القوى اللبنانية على ضرورة بسط سيادة الدولة على كامل أراضيها وحصر السلاح بأيدي القوات الشرعية النظامية اللبنانية وتصفية ما يُعرف بالدويلات خارج الدولة، لكن تختلف وجهات النظر حول كيفية مقاربة الموضوع والتعامل معه. فما يُعرف بـ"الفريق السيادي" داخل السلطة ممثلًا خصوصًا بحزب "القوات اللبنانية" المعارض الأبرز لسلاح "حزب الله" والمخيمات، يرى ضرورة نزع السلاح بالقوة إذا ما لزم الأمر. وطالب ممثل القوات في الحكومة، وزير الخارجية، يوسف رجي، في المداولات الداخلية للمجلس الأعلى للدفاع بـ"إغلاق مكاتب حماس". في حين دعا رئيس الحكومة، نواف سلام، إلى "إصدار بيان شديد اللهجة يصنِّف حماس كعصبة الأنصار وجند الشام، وهما تنظيمان سلفيَّان خاضا مواجهات مسلحة ضارية مع الدولة اللبنانية"، معتبرًا أن الظرف الآن مواتٍ لتطويق الحركة، لكن الرئيس عون وقادة الأمن دعوا إلى مزيد من الهدوء في التعامل مع الموضوع، تحسبًا لانفجار الموقف داخل المخيمات من دون داعٍ، وظهر قائد الجيش، العماد رودولف هيكل، أكثر حذرًا بحديثه عن وسائل ضغط أخرى يمكن القيام بها لمنع "حماس" من المسِّ بالأمن القومي، دون ذكر اسمها( 16).

ترفض الجهات الأمنية اللبنانية أن تتولى بنفسها مسألة نزع سلاح المخيمات وأن تترك هذه المهمة للفصائل الفلسطينية نفسها، تداركًا لانفجار جديد على غرار انفجار مخيم نهر البارد الذي أدخل الجيش اللبناني في دوامة دامية ترتَّب عليها أثمان سياسية باهظة، عام 2007. وهناك فريق لبناني يدعو إلى الحذر من الانجرار إلى أفخاخ قد تُنصب للبنان من الخارج، خاصة أن موضوع السلاح الفلسطيني يظل مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بسلاح "حزب الله". فالحزب الذي يخشى من التمادي الأمني الإسرائيلي في لبنان، ولا يشعر بالاطمئنان إزاء التغيير الكبير في سوريا لأنه يصب في عكس مصلحته، ويساوره القلق من الأحداث السورية التي جرت خصوصًا في الساحل السوري وأن تمتد إلى لبنان، لا يوفر فرصة من أجل إطالة أمد احتفاظه بالسلاح ومقايضته بمكاسب دستورية للطائفة الشيعية في لبنان وتحصين دورها في المعادلة الطائفية. كما يربط نزع سلاحه بنزع سلاح المخيمات، وقد لا يرى ضيرًا في تأخير إنجاز المهمة فلسطينيًّا إلى حين إتمام الانسحاب الإسرائيلي واتضاح الصورة إقليميًّا في ضوء المفاوضات الأميركية-الإيرانية. وفي المقابل، فإن المعارضة الفلسطينية لاسيما في حركتي "حماس" و"الجهاد" تصر على ربط حوارها مع السلطات اللبنانية بحوارها مع حليفها "حزب الله" في شأن تسليم السلاح والتوقيت.

ميزان القوى لحصر السلاح

لا شك أن نزع سلاح المخيمات يعتمد على عناصر عدة، من أبرزها ميزان القوى بين الأطراف المؤيدة لنزعه فورًا وتلك التي تتحفظ أو تتمنع. وبتراجع حزب الله في لبنان والمنطقة، فإن "ميزان القوى السائد الآن في لبنان سيمنع أي قوى من الاعتراض على الشرعيتين، اللبنانية والفلسطينية، وإن حاولوا ترجمة اعتراضهم بممارسة العنف، لن يستطيعوا الصمود، وبالتالي هم يدركون أن الظرف السياسي تغيَّر"(17).

ولم يعد سرًّا، في ضوء التطورات المتلاحقة، أن تنشأ شبكة مصالح لبنانية إقليمية عربية ودولية لمساعدة الحكومة اللبنانية على بسط سيطرتها ونفوذها على كامل أراضي الدولة، ومصادرة أي سلاح "خارج عن القانون"، عبر توفير قاعدة بيانات مُحدَّثة حول أماكن وجود هذا السلاح في المخيمات، وأسماء المسلحين، ومواقع انتشارهم، ومصادر تمويلهم. مع الأخذ في الاعتبار غياب الكوابح الداخلية والخارجية، ولاسيما مع الضغوط القوية التي تمارَس على "حزب الله" للتحول إلى حزب سياسي، ومع تقدم المفاوضات النووية مع إيران؛ الأمر الذي قد يسهم في المزيد من تفكيك "محور الممانعة" الذي قادته طهران وتعرض لنكسات متلاحقة وضربات موجعة.

وإذا كانت "حماس" لم تسلِّم بعد بطلبات أبو مازن واتفاقه مع الحكومة اللبنانية، إلا أنها تعاملت بحذر شديد إزاء هذه التطورات اللبنانية الداخلية، وقرأت بسرعة التوجهات المستقبلية تجاه السلاح الفلسطيني في المخيمات؛ مما دفعها إلى تسليم من تشتبه السلطات بإطلاقهم صواريخ على إسرائيل، في محاولة لنزع فتيل مواجهة قد تندلع مع الأمن اللبناني، لن تكون في صالح الفلسطينيين.

أما فيما يتعلق بالمجموعات الراديكالية المتهمة بـ"الإرهاب" والتي تُؤوي مطلوبين للعدالة اللبنانية، فإنها تتمركز في حي التعمير، وهو بحسب خرائط وكالة "الأونروا" ليس من ضمن مخيم عين الحلوة جغرافيًّا، وتاليًا يمكن التعامل معها أمنيًّا من دون المس بالمخيم نفسه.

خاتمة

في الواقع، إن السلاح خارج نطاق الدولة، بشقيه اللبناني والفلسطيني، وهو من أكثر الملفات تعقيدًا في تاريخ لبنان الحديث، وإن اختلفت طريقة مقاربة كل واحد منهما على حدة وأسلوب المعالجة والحل، إلا أنهما يظلان شديدَيْ الترابط ولا يمكن حلهما إلا ضمن حزمة سياسية واحدة. لكن يمكن القول: إنها المرة الأولى منذ انتهاء الحرب الأهلية في لبنان التي توضع فيها قضية السلاح الفلسطيني الحساسة على سكة البحث الجدي والعميق. لكن الطريق ليست سهلة وتشوبها عوائق وتحديات معقدة وربما بعض المفاجآت، ويحتاج حلها النهائي إلى مقاربات دقيقة تراعي التوازنات الداخلية والخارجية، والتُوازن ما بين ضرورات أن يكون للدولة اللبنانية حقها في فرض سيادتها على كامل أراضيها، وإعطاء الفلسطينيين حقوقهم المشروعة على المستوى الإنساني والاقتصادي والسياسي، وأولها ضمان حقهم بالعودة إلى ديارهم. ويتطلب نجاح أي حل أن يُبنى على الحوار السياسي اللبناني الفلسطيني وتوفير الرعاية العربية والدولية لذلك.

ABOUT THE AUTHOR

References
  1. جريدة الأخبار، "السلاح الفلسطيني: معالجة غبّ الطلب الخارجي"، 23 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 27 مايو/أيار 2025)، https://tinyurl.com/355dm74c
  2. عز الدين إبراهيم، "اللاجئ والسلاح والدولة: تفكيك سردية الفلسطيني العالق في لبنان"، جريدة "الأخبار" اللبنانية، 22 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 27 مايو/أيار 2025)، https://rb.gy/aopfmb

3 - عربي بوست، "السلاح الفلسطيني مُلاحَق في لبنان! بيروت تتعرض لضغوط خارجية بسببه، فهل تتخلى المقاومة عنه؟"، 20 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 27 مايو/أيار 2025)،  https://rb.gy/wad9o9

4-المصدر نفسه.

5 – إندبندنت عربية، "الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان: 10 أسئلة"، 16 أبريل/نيسان 2025، (تاريخ الدخول: 27 مايو/أيار 2025)،  https://rb.gy/iabff5

6- عز الدين إبراهيم، "اللاجئ والسلاح والدولة: تفكيك سردية الفلسطيني العالق في لبنان"، جريدة الأخبار اللبنانية، مصدر سابق.

7 – المصدر نفسه.

8- نقولا ناصيف، "سلاح المخيمات، سقوط آخر الخطوط الحمر"، أساس ميديا، 23 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 27 مايو/أيار 2025)،  https://asasmedia.com/92313/

9- "السلاح الفلسطيني مُلاحَق في لبنان، بيروت تتعرض لضغوط خارجية بسببه، فهل تتخلى المقاومة عنه؟"، "عربي بوست"، مصدر سابق.

10- فايزة دياب، "ما مصير سلاح المخيمات الفلسطينية في لبنان؟"، مجلة "المجلة"، عدد يناير/كانون الثاني 2025، (تاريخ الدخول: 27 مايو/أيار 2025)،  https://rb.gy/atkdn5

11- "ما هي الفصائل الفلسطينية المسلحة في لبنان؟"، موقع "جنوبية"، 21 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 27 مايو/أيار 2025)،  https://tinyurl.com/k83tvzd2

12- الشرق الأوسط، "زيارة عباس إلى بيروت: هل يُطوى ملف السلاح الفلسطيني"، 20 مايو/أيار 2025، ص 5،  العدد 16976، (تاريخ الدخول: 27 مايو/أيار 2025)، https://tinyurl.com/5n7k754u

13-كارولين عاكوم، "لقاء عون-عباس ينزع «شرعية» السلاح الفلسطيني في لبنان"، صحيفة "الشرق الأوسط"، 21 مايو/أيار 2025، شؤون عربية، ص 5، العدد 16977، (تاريخ الدخول: 27 مايو/أيار 2025)، https://tinyurl.com/y97z64m7

14- المصدر نفسه.

15- موقع جنوبية، هل رفضت حماس تسليم السلاح؟، 21 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 27 مايو/أيار 2025)، https://tinyurl.com/whe5hmf7

16- عربي بوست، "السلاح الفلسطيني مُلاحَق في لبنان! بيروت تتعرض لضغوط خارجية بسببه، فهل تتخلى المقاومة عنه؟"، مصدر سابق.

17- المصدر نفسه.