كيف أحدثت الحرب المفروضة علی إيران نقلة إستراتيجية أمام إسرائيل؟

صبيحة الثالث عشر من يونيو/حزيران 2025، استفاق الإيرانيون علی خبر صاعق: مهاجمة إسرائيل إيران واستمرار هجومها وتمکنها من قتل عدد من أسمی القيادات العسکرية والعلماء النوويين. استمر الهجوم الإسرائيلي والصدمة الإيرانية حتی مساء ذلك اليوم عندما تکلم المرشد مطمْئِنًا الشعب الإيراني بتماسك النظام والقوات المسلحة للدولة، کما أُعلن بشکل متزامن عن أول ردٍّ صاروخي إيراني ضد أهداف في تل أبيب وحيفا-عملية (الوعد الصادق 3).
جدارية في طهران: لتعلم إسرائيل أن الدم الذي أراقته سيغرقها(أ.ف.ب).

عند بدء العدوان الإسرائيلي علی إيران، واجهت الأخيرة معضلة متعددة الأبعاد. فقد رافق الهجوم العسکري، عمليات تخريب واسعة لعملاء کانت تهدف لإدخال طهران حرب شوارع تتصدرها جماعات مسلحة کـ"مجاهدي خلق" وغيرها من جهة، ومحاولات لتأجيج الشارع الإيراني ضد النظام الإيراني، من جهة أخری. إلا أن الصدمة الکبرى کانت عسکرية-استخباراتية أتت علی العديد من قادة الأجهزة العسکرية والأمنية والعلماء النوويين. وخفَّف من هول الصدمة استعادة القيادة والسيطرة والرد الأولي والسريع مساء يوم الاعتداء علی إسرائيل ودخلت طهران بعدها مرحلة التأقلم مع المستجد بأبعاده الثلاثة. کما استطاعت أن تفرض معادلة لم تکن -کما يبدو من الخطاب الإسرائيلي- في حسابات تل أبيب. ورغم فرض الهجوم الأميرکي علی مواقع نووية إيرانية، في 22 يونيو/حزيران، استحقاقات جديدة تحدَّت الموازنة المحبذة إيرانيًّا، أتی الرد الإيراني ووقف إطلاق النار دون تأثير کبير علی تلك الموازنة. نحاول في هذه الورقة الوقوف عند تحديات الحرب والخيارات التي واجهت طهران والاحتمالات المستقبلية بعد وضع الحرب أوزارها.

الضربة والرد

في صبيحة الثالث عشر من يونيو/حزيران 2025، استفاق الإيرانيون علی خبر صاعق: مهاجمة إسرائيل إيران واستمرار هجومها وتمکنها من قتل عدد من أسمی القيادات العسکرية والعلماء النوويين. استمر الهجوم الإسرائيلي والصدمة الإيرانية حتی مساء ذلك اليوم عندما تکلم المرشد مطمْئِنًا الشعب الإيراني بتماسك النظام والقوات المسلحة للدولة، کما أُعلن بشکل متزامن عن أول ردٍّ صاروخي إيراني ضد أهداف في تل أبيب وحيفا-عملية "الوعد الصادق 3". مع بدء الحرب الإسرائيلية، دخلت إيران التي نعمت بالسلم منذ وضع الحرب العراقية-الإيرانية أوزارها، عام 1988، مرحلة جديدة من تاريخها الحديث. ما زاد من صدمة وذهول الإيرانيين أتی علی شکل تخريب داخلي عبر مسيرات بسيطة جرى تجميعها داخليًّا من قبل عملاء استُخدمت في ضرب أهداف عسکرية وفي إشغال منظومات الدفاع الجوي الإيرانية لاحقًا.

فُرضت الحرب علی إيران بأبعاد ثلاثة تخللها سوء تقديرات إسرائيلية أسهمت في تدارك إيران الوضع. فالبعد الأول والأوضح أتی عسکريا باستهداف القيادات والمنظومات والأهداف العسکرية ومنظومة القيادة والسيطرة داخل إيران وهو ما استمر دون انقطاع رغم تراجع الإنجازات الإسرائيلية مع مضي الأيام الأولی من الحرب. ومع بدء إيران ردها الأول مساء يوم الحرب، اتضح خروج منظومة القيادة والسيطرة من الصدمة الأولی وانتقالها من خانة رد الفعل إلی الفعل.

أما البُعد الثاني فأتی علی شکل عمليات تخريب باستخدام سلاح خفيف ومسيرات صغيرة محلية الصنع أسهمت في الاستهدافات الأولية التي استهدفت شخصيات عسکرية ونووية ومضادات جوية واستمرت في إشغال منظومات الدفاع الجوي الإيرانية في الأيام التالية. استطاعت طهران تحييد الکثير من تلك القدرات طيلة الأسبوع الأول من الحرب وتراجع بشکل مطرد عدد المسيرات المستخدمة إسرائيليًّا في المدن الإيرانية.

أما البُعد الثالث، فکان الأمل في إثارة بلبلة في الشارع الإيراني وتحريکه لمواجهة النظام وضرب التماسك الاجتماعي في طهران لهدفٍ تحدث عنه نتنياهو بشکل صريح: إسقاط النظام. إلا أن التماسك الداخلي والالتفاف حول العَلَم بدا واضحًا منذ اليوم الأول وازداد مع استمرار الحرب. فقد دعت القيادات السياسية والوجوه المعروفة في إيران بأطيافها المختلفة -قلَّما أجمعت علی موضوع في مراحل سابقة- إلی الوحدة ضد العدو والتماسك حول النظام. والقول المشترك بين تلك الوجوه والقيادات کان استهداف البلاد وضرورة الدفاع عنها بمنأى عن الخلافات الداخلية.

النقلة

وضعت الحرب المفروضة خيارات محدودة أمام طهران؛ فما کان ممکنًا في مراحل المواجهة المحدودة أو غير المباشرة من محاولات للحد من التصعيد، بات يمثل خطرًا يُهدد کيان الدولة ونظامها. وأمام المستجد، لم تر طهران طريقًا تلتمسه إلا طريق التصعيد وتغيير صورة وفحوى سياستها إزاء إسرائيل. فالصورة الضعيفة التي جرى الترويج لها إسرائيليًّا أتت بضوء أخضر أميرکي للحرب الإسرائيلية عليها(1). کما أن سياسة "ضبط النفس" ووضع سقف علی مستوى التصعيد أمام إسرائيل في المراحل السابقة أسهما في صورة ضعف إيران وقبول الدول الغربية -وإسرائيل- بها والانطلاق منها لاستهداف إيران. وبين تلك الصورة والواقع الناتج عنها، لم تر طهران أمامها سوى تغيير إستراتيجيتها العسکرية والرد المماثل وترك مهمة تحديد سقف المواجهة لإسرائيل وداعمها الرئيس، الولايات المتحدة.

وبالفعل، لم تأت الحرب من فراغ. فقد مثَّلت المواجهات السابقة والإنجازات الإسرائيلية في العامين المنصرمين دافعين رئيسيين للتحرك الإسرائيلي وفرضها الحرب علی إيران. وبعد السابع من أکتوبر/تشرين الأول، وسياسة إيران المتأنية والمترددة في التماشي مع تطورات التصعيد الإسرائيلي ضد محور المقاومة وإيران، استخلصت إسرائيل والولايات المتحدة إرادة إيرانية بعدم التصعيد والحد منه قدر المستطاع. ففي آخر مواجهة مباشرة بين الطرفين، قامت إسرائيل بضربة عسکرية قوية آثرت طهران عدم الرد عليها لأسباب نوقشت بشکل جدلي في الداخل وأثارت الخلافات في دوائرها الإستراتيجية؛ ما زاد من ثقة تل أبيب بقدراتها أولًا وباقتناعها بابتعاد طهران عن الرد إن هي واجهت ضربات عسکرية قوية ثانيًا. وذهب بعض إستراتيجيي إسرائيل أبعد من ذلك باستخلاص ضعف إيران وعدم قدرتها علی الرد؛ وهو ما يُضعف إرادتها، حسب هؤلاء، عن دخول منازلة واسعة مع إسرائيل أو الولايات المتحدة.

في المقابل، ردَّ الإيرانيون المؤيدون لضبط النفس بأن الابتعاد عن التصعيد لا يعني عدم المقدرة علی الرد لکنه يشير إلی إيثار إيران الحد من الصدام والوصول لحلول دبلوماسية إزاء القضايا الشائکة کالملف النووي عبر التفاوض. وکان الکثير من هؤلاء تکلموا عن "مصيدة الحرب" التي تشيدها إسرائيل للوقيعة بين إيران والولايات المتحدة وحذَّر من الوقوع في تلك المصيدة. ومن هؤلاء شخصيات کنائب الرئيس خاتمي الإصلاحي، محمد علي أبطحي(2). وکان النقاش محتدمًا حول الموضوع إذ رد البعض، کمستشار رئيس البرلمان الإيراني قاليباف، مهدي محمدي، علی تلك السردية بالقول: إن الحديث عن مصيدة الحرب الإسرائيلية يمثِّل بحدِّ ذاته مصيدة يراد بها التراجع أمام العدو(3). وأيًّا أخذنا، يبدو أن طهران ارتأت التريث وتوخي الحيطة في تلك المرحلة. کما دفعت الصعوبات الاقتصادية طهران لمحاولة نزع فتيل الصراع وعدم الرد بغية الترکيز علی إلغاء العقوبات المفروضة عليها ضمن عملية تفاوضية وهو ما قامت به مع الرئيس ترامب، رغم تراکم کل المساوئ فيه من المنظور الإيراني.

إلا أن السردية الإسرائيلية بدت أکثر قبولًا في واشنطن عندما أذنت الأخيرة لنتنياهو بشنِّ حربه علی إيران. وکانت الصدمة الأولية تُبدي دقة القول بضعف إيران إلا أن الرد الإيراني مساء ذات اليوم والأيام التالية دخل بتفاصيل علی أرض المعرکة أتت علی تلك السردية. فبعد الاندفاع الأولي أتت الضربات الصاروخية المؤلمة، وبشکل مسرع، بموازنة نتجت عن تغيير السلوك الإستراتيجي الإيراني النائي بالنفس عن التصعيد سابقًا. فقد انتقلت طهران من "ضبط النفس" للحد من احتمالات التصعيد إلی "التناسب الإستراتيجي" (strategic proportionality) لتعزيز الردع وهو ما يتضمن الرد المماثل علی هجمات إسرائيل وعدم وضع سقف علی مستوى التصعيد إيرانيًّا. وکانت إيران، کما يبدو، قد اتخذت منذ اليوم الأول القرار بتلك النقلة بضربها منشآت ومراکز عسکرية وأمنية مهمة في حيفا وتل أبيب. بالإضافة لذلك، ومع بدء إسرائيل استهداف البنی التحتية الإستراتيجية للبلاد، کضرب مصفاة نفط بالقرب من طهران، ردت إيران بضرب مصفاة نفط حيفا.

أتی التناسب الإستراتيجي أُکُله بالحد من حرية إسرائيل في استهداف البنی التحتية للطاقة والاقتصاد الإيرانيين. فقد أظهرت إيران قوتها الصاروخية ودقة استهدافاتها عبر تعطيل مصفاة حيفا واستهداف الموساد ومؤسسة وايزمان وغيرها من الأهداف الرئيسية، ناهيك عن إظهارها عمليًّا عدم التزامها بأي سقف أمام الاستهدافات الإسرائيلية لإيران. أتی ذلك، وفي غضون أيام قليلة، بتوازن تهديدٍ بين إيران وإسرائيل بدا بعيدًا عن الحسابات الإسرائيلية عند بدئها الحرب ضد إيران. وکان توازن التهديد هذا حريًّا بتصعيد الصدام عبر دخول أوسع للولايات المتحدة في الحرب الدائرة من جهة، أو البناء عليه لوقف إطلاق نار بين الجانبين، من جهة أخرى.

قطع مسار الخطر

رکز نتنياهو علی سردية ضعف إيران لحمل واشنطن علی القيام بـ"الضربة القاضية" وقطع نَفَس العدو الرئيس لإسرائيل. وعند اتضاح توخي الرئيس ترامب الحذر أمام تلك السردية، آثرت إسرائيل الدخول بمفردها وفرض حرب علی إيران تُضعفها بشكل أكبر وتُظهر ذلك الضعف لتشجيع الرئيس ترامب علی الدخول بغية قطف ثمار المواجهة. ورغم تردده السالف، أظهر ترامب في الأيام الأولی للحرب ميلًا جمًّا للعب دور المنتصر دون دخول الحرب بالقول: إن سلاح الولايات المتحدة يُظهر قوته في الانتصار الإسرائيلي السريع الذي يجري تحقيقه علی الأرض. وفي اليوم الثالث للمعركة أردف قائلًا: "إننا نسيطر علی أجواء إيران"(4)، وإن علی طهران "الاستسلام دون شروط"(5).

وردَّت طهران علی ذلك بطريقتين: الأولی أتت علی شكل استهدافات مركزة وقوية لأهداف إسرائيلية استمرت لساعات بعد خطاب ترامب، والثانية أتت علی لسان المرشد الأعلی بإشارته لـ"سُخف" كلام ترامب وبأنه يستطيع تهديد من يخاف تهديده لا الإيرانيين(6). أظهرت إيران باستهدافاتها بُعد المسافة بين سردية النصر الإسرائيلي القادم والواقع علی الأرض. وأتی رد المرشد الأعلی علی آمال ترامب في قطف ثمار النصر دون مواجهة. بذلك دخل ترامب المعترك بضربة ضد ثلاث منشآت نووية إيرانية ردًّا علی عدم استسلام إيران غير المشروط.

وأبدى الاستهداف الأميركي سقفًا أميركيًّا علی التصعيد ضد طهران دون المطلوب إسرائيليًّا بكثير. فقد أعلمت واشنطن طهران بتوقيت الهجوم سلفًا؛ ما أدى لإخلاء المواقع الثلاثة وعدم وقوع إصابات أو إشعاع نووي. وكانت قد أتت بمقاتلاتها من ولاية ميسوري وأطلقت صواريخ توماهوك من غواصاتها دون تفعيل القواعد الأميركية المحيطة بإيران لتعقيد ردِّ الأخيرة إن قررت مهاجمة تلك القواعد -وقد كانت توعدت بالرد علی القواعد التي ينطلق منها أي عدوان علی إيران-. والواضح أن الدخول في حرب واسعة مع إيران لا يجري عبر مقاتلات تقطع المحيطات ودون استخدام القواعد المحيطة بطهران؛ ما يشير إلی دوافع سياسية للهجوم أكثر منها إستراتيجية داعمة لإسرائيل.

لم تتأنَّ طهران كثيرًا في ردِّها علی واشنطن؛ فقد قامت بضربة مؤلمة لإسرائيل استخدمت فيها صاروخ "كاسر خيبر" العملاق خلَّفت دمارًا تناقلته قنوات الأخبار، وآثرت الرد علی واشنطن مباشرة بشكل مماثل للاستهداف الأميركي، كما يبدوا، فقد شكر الرئيس ترامب إعلام إيران حكومته بالضربة علی قاعدة العديد في قطر ما أتاح الفرصة لإخلائها ومنع وقوع ضحايا.

وإذ كان الدخول الأميركي علی خط الحرب في لحظاتها الأولی أتی بتكهنات ترجح التصعيد، إلا أنه وبعد اتضاح معالم الضربة وإشعار طهران بها سلفًا، ظهر دون لبس أن لا توجه أميركيًّا لمناصرة إسرائيل بشكل أكبر أمام طهران. بذلك تسيدت الموازنة التي قامت نتيجة "التناسب الإستراتيجي" الواجهة وبدا فرض الواقع الجديد نفسه علی المعتدي. فقد أدرك نتنياهو أن واشنطن لن تحارب عنه وأنه أمام خيارين: الاستمرار بضرب طهران وتلقي ردودها المتناسبة مع ضرباته أو التراجع دون تحقيق أهداف حربه وقبول وقف إطلاق نار مع عدوه اللدود.

ومساء رد طهران العسكري علی واشنطن واتضاح التموضع الأميركي، قررت الحكومة المصغرة لبنيامين نتنياهو قبول وقف لإطلاق النار. وإذ أعلن رئيسها بعد ذلك تحقيق إسرائيل الكثير نتيجة الحرب، لا يخفی أنه لم يحقق أيًّا من الأهداف المعلنة عند بدء الحرب. كما أن الرجل بات يُدرك الموازنة الجديدة بين كيانه وإيران القائمة علی موازنة التهديد، وهي موازنة تؤثر علی الولايات المتحدة وموقفها من الصدام الإسرائيلي-الأميركي وسياستها التفاوضية إزاء إيران.

حديث المكاسب

كانت الصورة السائدة عن إيران في الدول الغربية والمنطقة قبل بدء الحرب الإسرائيلية توحي بضعف إيران وحلفائها. تغيرت تلك الصورة نتيجة تطورات ثلاثة:

  • أولًا: انتقلت طهران من "ضبط النفس" إلی "التناسب الإستراتيجي" ما ترك رسم حدود المواجهة لإسرائيل والولايات المتحدة. وكانت الضربات الإيرانية تنتقي الأهداف المتناسبة مع تلك المستهدفة إسرائيليًّا في إيران. تلك معادلة لم تكن قائمة قبل الحرب وفرض موازنة تهديد أجبرت إسرائيل علی القبول بوقف إطلاق النار دون تحقيق أهدافها المرجوة وبموقف إستراتيجي أمام إيران أدنی مما كانت عليه قبل بدئها الحرب.
  • ثانيًا: بإظهار إيران القوة والدقة في استهدافاتها للأهداف المنتقاة في إسرائيل(7)، تراجع خطاب وسياسة واشنطن في معاداة طهران ومطالبتها بالاستسلام غير المشروط في المرحلة الأولی للحرب. وبنأي ترامب بالولايات المتحدة عن الحرب بين الجانبين إلا بشكل غير مباشر، اتضح أن علی إسرائيل تحمل أعباء المواجهة بمفردها والأمل بتغيير موازنة التهديد مع إيران أو القبول بوقف إطلاق نار، وهو ما رجَّحَته بعد الضربة الأميركية المنسقة والرد الإيراني المماثل عليها.
  • ثالثًا: ومع تحقيق توازن التهديد ونأي واشنطن بنفسها، بدت طهران أكثر ميلًا لجرِّ إسرائيل لحرب استنزاف مؤلمة بدت واضحة في ضرباتها الأخيرة علی حيفا وتل أبيب وبئر السبع، بصواريخ أقل عددًا وأكثر فتكًا. بعبارة أخرى، بانتقال طهران إلی تحقيق موازنة التهديد، بدأت مرحلة إيلام العدو بأقل عدد ممكن من الصواريخ لتمكين طهران من الاستمرار لفترات طويلة في المواجهة.

بذلك انتقلت المواجهة بالأهداف الإسرائيلية الأولية إلی محاولة تدارك الوضع عسكريًّا أو دبلوماسيًّا. وزادت إسرائيل من هجماتها في اليومين الأخيرين من الحرب لتواجه تصعيدًا إيرانيًّا مماثلًا. بذلك، فرض واقع الحرب -لا تحقيق أهداف الحرب- نفسه علی ساسة دولة الاحتلال وأتی بهم لقبول وقف لإطلاق النار.

إيرانيًّا، لم تكن الحرب في هذه المرحلة خيارًا لو لم تُجبَر طهران علی خوضها. أتت الحرب علی إيران بالكثير من الأثقال. فقد خسرت إيران عددًا مهمًّا من قادتها العسكريين وعلمائها النوويين كما راح ضحيتها عدد كبير من المدنيين. كما خسرت طهران جزءًا مهمًّا من قدراتها الدفاعية إثر استهدافات إسرائيلية أو عمليات تخريب داخلية. ولا يمكن عند عدِّ المكاسب الإيرانية من الحرب المفروضة عليها التقليل من شأن تلك الخسائر. إلا أن الحرب، كما يتجلی اليوم، أتت بمکاسب مهمة لإيران أيضًا يمکن عدُّها في خمسة عناوين رئيسية:

  • تعزيز الردع: ضربت إسرائيل القدرات الدفاعية الإيرانية إلا أنها أُجبرت علی قبول وقف إطلاق النار نتيجة القدرات الهجومية لطهران. فالردع يولد من القدرات الهجومية لا الدفاعية للدول يتخلله تهديد بالضرب المتبادل إن هي وجَّهت ضربات لخصمها. ثبت اليوم لإسرائيل القوة والدقة الصاروخية الإيرانية وهي حَرِيَّة بردع إسرائيل -والولايات المتحدة- عن خوض حرب دون أخذ تلك المقدرة بالحسبان.
  • تحسين الموقف التفاوضي: فُرضت الحرب علی إيران لتغيير الواقع الدفاعي والنووي الإيرانيين. إلا أن الضربات التي وُجِّهت للبرنامجين ومنها الضربة الأميركية، لم تأتِ عليهما. ويعزز هذا الواقع السردية القائلة بعدم إمكانية إيقاف التطور النووي الإيراني بالقوة العسكرية حتی لو أتت هذه القوة علی سرعة التطور النووي في إيران. وغني عن القول تعزيز هذا الواقع المستجد موقف إيران التفاوضي أمام الأطراف الغربية.
  • الوحدة الداخلية: راهنت إسرائيل علی التذمر الشعبي من الوضع المعيشي والسياسات الاجتماعية وموجات الاعتراض التي برزت في الأعوام الماضية في المدن الإيرانية لقلب المجتمع ضد النظام بضربتها العسكرية وتحريك الشارع عبر العملاء. ولكن أظهر المجتمع الإيراني عكس ذلك؛ فقد زاد التماسك والالتفاف حول العَلَم؛ وهو ما يعزز موقف النظام أمام الأطراف الغربية تفاوضًا وأمام إسرائيل مواجهة.
  • الحفاظ علی أسس القوة: ورغم تلقي إيران ضربات مؤلمة تتطلب زمنًا وجهدًا وميزانية کبيرة لتقليل مفعولها، إلا أن أسس القوة الإيرانية أمام إسرائيل والولايات المتحدة بقيت قائمة ومؤثرة علی سير المعرکة وأنتجت وقفًا لإطلاق النار يراه أغلب الإيرانيين مشرفًا؛ فالبرنامج النووي ما زال قائمًا وكان رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية أعلن عن برنامج مركَّز لإعادة تأهيل البرنامج وتعافيه من الأضرار التي لحقت به. وعسكريًّا، بقيت القدرات الصاروخية سيدة الموقف في تثبيت موازنة التهديد أمام إسرائيل والولايات المتحدة.
  • خبرة غير مسبوقة: أهم مكسب للجيوش هو الخبرة العسكرية وتأتي تلك من خوض المعارك. تخرج إيران من حرب مدججة بآخر التقنيات العسكرية بخبرة ما كانت لتكون لو لم تُهاجَم. وإذ ينطبق الأمر كذلك علی عدوها، إلا أن خبرة إسرائيل بالحرب لم تنقطع في التراكم نتيجة حروبها المستمرة. أما إيرانيًّا، فقد وضعت الحرب التقنية العسكرية والإستراتيجيات الحربية للبلاد علی المحك أمام جيش مدجج بالتقنية التسليحية الأميركية والخبرات الإستراتيجية المتراكمة. وهذا يعطيها حيزًا واسعًا لإحداث طفرات في قدراتها العسكرية وتخطيطها الدفاعي.

ورغم تلك المكاسب، من الأرجح أن تركز طهران علی التعافي من آثار الحرب علی بنيتها التحتية، عسكريًّا ومدنيًّا. وإذ يركز إستراتيجيوها في المرحلة القادمة علی ترجمة الأوراق التي أتت بها تلك الحرب مكاسب علی الطاولة، فهي تنظر إلی هذه المكاسب باعتبارها جزءًا مهمًّا من عملية التعافي. ومن المتوقع أن تركز إسرائيل علی الإخلال بهذا الدأب عبر دبلوماسيتها وأدوات ضغطها في واشنطن من جهة وعبر اختراقات متوقعة لوقف إطلاق النار -لن تتردد طهران في الرد عليها وفق إستراتيجية التناسب- من جهة أخرى. 

خلاصة

ما كان لإيران أن تدخل حربًا في الظرف الراهن دون أن تُفرض عليها. ولذلك أسباب ترتبط بالعقوبات المنهكة علی اقتصادها ومشاكلها الداخلية الناتجة عن العقوبات كما لها صلة بنزوع إيران إلی حل الخلاف النووي لإلغاء العقوبات عبر عملية دبلوماسية كانت قد بدأت مع إدارة الرئيس ترامب. إلا أن الحرب الإسرائيلية فرضت استحقاقات علی إيران أجهزت علی سياسة ضبط النفس وابتعاد طهران عن التصعيد سابقًا. فقد عَبَرَت إيران بردها -عملیة الوعد الصادق 3- السقوف السابقة في المناكفات العسكرية وانتقلت إلی التناسب الإستراتيجي -الضرب المماثل لأهداف تقترب بأهميتها وثقلها الإستراتيجي من المواقع المستهدفة في إيران-. أتت تلك النقلة بتوازن تهديد لم يكن كما يبدو قائمًا عند التخطيط الإسرائيلي للحرب -في المخيال الإستراتيجي الإسرائيلي علی الأقل-. ومع اتضاح نأي واشنطن بنفسها عن الصراع المباشر وقيامها بعملية محدودة ومنسقة سَلَفًا، واجهت تل أبيب خياري وقف إطلاق النار أو العمل علی قلب موازنة التهديد. وإذ بدت مقدرة طهران علی الحفاظ علی تلك الموازنة خاصة منذ منتصف الحرب وميلها لجر إسرائيل لحرب استنزاف، آثرت الأخيرة الخيار الأول، وقف إطلاق النار. ورغم الخسائر الوازنة التي لحقت بطهران إلا أن المكاسب قد تضاهي تلك الخسائر وتشمل تعزيز ردعها المبني علی القدرات الهجومية، وتحسين موقفها التفاوضي أمام الدول الغربية، وإظهار الوحدة الوطنية والالتفاف حول العَلَم أمام العدو الخارجي والخبرة العسكرية التي ستسعفها مستقبلًا في تعزيز قدراتها الرادعة. مع كل ذلك ورغم الأضرار، حافظت طهران علی أسس القوة الرئيسية لديها، البرنامج النووي والقدرات الصاروخية. ويبقی السؤال الأهم حول طبيعة السياسة الإيرانية في مرحلة ما بعد الحرب ومدى جهوزيتها لترجمة وقف إطلاق النار إلی إنجازات سياسية علی طاولة المفاوضات.

ABOUT THE AUTHOR

References

(1) Merve Berker (2025) “Israel had ‘green light’ from US before attacking Iran,” Anadolu Agency, June 13(accessed: June 13l2025). https://www.aa.com.tr/en/americas/israel-had-green-light-from-us-before…

(2) "تلۀ إسرائيل براي إيران به روايت أبطحي" (مصيدة إسرائيل لإيران علی لسان أبطحي)، صحيفة عصر وطن، 9 مهر 1403، (تاريخ الدخول: 23 يونيو/حزيران 2025)،  https://2u.pw/pNWEQ

(3)"تلۀ جنگ خود تلۀ إسرائيل است" (مصيدة الحرب، هي مصيدة إسرائيل)، مشرق نيوز، 8 مهر 1403، (تاريخ الدخول: 23 يونيو/حزيران 2025)،  https://2u.pw/nwU1x

(4)Tarini Parti (2025) “Trump Says ‘We’ Have ‘Total Control’ of Skies Over Iran,” The Wall Street Journal, June 18. https://www.wsj.com/livecoverage/israel-iran-conflict-news/card/trump-s…

(5)Parisa Hafezi, Jaidaa Taha and Maayan Lubell (2025) “Trump calls for Iran's 'unconditional surrender' as Israel-Iran air war rages on,” Reuters, June 17. https://www.reuters.com/business/aerospace-defense/trump-urges-tehran-e…

(6)"كسي را تهديد کنيد که از تهديد بترسد" (هددوا من يخاف التهديد)، موقع تابناک، 28 خرداد 1403، (تاريخ الدخول: 23 يونيو /حزيران 2025)،  https://2u.pw/EdJnr

(7) وکان النائب السابق لقائد الفرقة 8200 في جيش الاحتلال، عساف کوهين، قد قال في حوار مع القناة 12 الإسرائيلية: إن إيران تستهدف المواقع العسکرية ولا تصبو لضرب الأهداف المدنية.