جمهوريات مدى الحياة: كيف تعيق أنظمة الحكم في إفريقيا مسار الديمقراطية؟

يتناول النص أزمة غياب التداول السلمي على السلطة في إفريقيا، مستعرضًا نماذج لرؤساء معمَّرين أو مورِّثين للحكم، وتأثير ذلك على الديمقراطية والتنمية والاستقرار، مع إبراز دور الانقلابات والتحايل الدستوري في تكريس الحكم الفردي وإفراغ المؤسسات من جوهرها.
موريس كامتو (يمين)، مرشح الحركة الإفريقية من أجل الاستقلال الجديد والديمقراطية (MANIDEM) للرئاسة بالكاميرون (وكالة الأنباء الفرنسية AFP)

مقدمة

لقد مرَّت القارة الإفريقية بتحولات مختلفة على مستوى أنظمة الحكم فيها خلال عقود ما بعد استقلال بلدانها، لكن الدول التي حافظت على سجل خالٍ من الانقلابات العسكرية وكان الوصول إلى السلطة فيها فقط عبر صناديق الاقتراع ظلت قليلة جدًّا وتشكِّل الاستثناء، ولم يسلم بعضها من طول مكوث الرؤساء في السلطة عبر العبث بالدساتير.

ولذلك صارت في القارة إلى غاية اليوم ثلاثة نماذج من الدول: دول شقَّت أو تشق طريقها نحو الممارسة الديمقراطية في بعدها الانتخابي على الأقل وهذه تُعد مجهرية. ودول مزجت بين الانقلابات العسكرية والانقلابات الدستورية، وأنتجت في النهاية بقاء رؤساء في السلطة لأزيد من أربعة عقود، وصنف ثالث من الدول لا تزال الجيوش الوطنية تقوِّض تجاربه الديمقراطية من حين لآخر تحت مسوغات مختلفة.

وإذا كانت عديد البلدان الإفريقية لم تسلم خلال فترة ما بعد الحصول على استقلالها من طول بقاء الرؤساء في السلطة -حيث ظل بعضهم في المنصب إلى أن توفي-، وشيوع ظاهرة الحزب الواحد والصوت الواحد -التي لم يتم كسر طوقها في عديد البلدان إلا خلال تسعينات القرن الماضي-، فإن الانقلابات العسكرية ظلت ملازمة للكثير من الدول، بعضها كان مسوغه في البداية وضع حدٍّ لاحتكار السلطة، ولكن ذلك فتح الباب أمام فوضى انقلابية بلا نهاية، وكان من نتائج ذلك تجاوز إفريقيا عتبة المئتي انقلاب خلال سبعة عقود أو أقل.

ولكن اللافت في تجربة الأنظمة الجمهورية في إفريقيا، أن عددًا من بلدان القارة ظل عصيًّا على آليات التغيير الممكنة، فلا الانقلابات العسكرية استطاعت الإطاحة بالرؤساء المعمرين في السلطة، ولا الانتخابات أتاحت كذلك إمكانية التداول على الحكم، ولا هذه الدول شهدت ثورات شعبية تجبر الرؤساء على مغادرة السلطة كما حدث في بعض البلدان، بل إن الشعوب أسهمت بشكل كبير في تجذير أحكام هؤلاء من خلال إعادة انتخابهم في كل مناسبة.

تيودورو أوبيانغ: الرئيس الذي أمضى أكثر من نصف عمره بالرئاسة

نالت غينيا الاستوائية، وهي دولة صغيرة تقع بوسط القارة الإفريقية، تحد الكاميرون والغابون، وتزيد مساحتها قليلًا على 28 ألف كيلومتر مربع، استقلالها، في 12 أكتوبر/تشرين الأول عام 1968. لكن هذه الدولة الغنية بالغاز الطبيعي والنفط والذهب(1) والتي تعتمد نظام حكم رئاسيًّا، لم تعرف بعد نحو 57 سنة من الاستقلال عن إسبانيا إلا رئيسين فقط.

كان فرانسيسكو ماسياس نغيما، وهو عم الرئيس الحالي للبلاد، تيودورو أوبيانغ، أول رئيس لغينيا الاستوائية، واستمر في الحكم 11 سنة، نظَّم خلالها انتخابات رئاسية، واعتمد دستورًا يسمح له بأن يكون رئيسًا مدى الحياة، لكن قبضة الحديد التي حكم بها، والانتهاكات الواسعة التي ارتكبها نظامه بحق خصومه، عجَّلت بإنهاء حكمه.(2) ففي الثالث من أغسطس/آب عام 1979، أطاح به الجيش، وتم بث بيان في إذاعة مالابو موقَّع من طرف العقيد تيودورو أوبيانغ نغيما مباوساغو، ينتقد فيه الأخير نظام عمه، ويعد بعصر جديد فيما يتعلق بالحقوق والحريات.

وقد حاكم النظام الجديد الرئيس المخلوع، فرانسيسكو ماسياس نغيما، وأُدين بعدة تهم بينها "الإبادة الجماعية"، و"الخيانة العظمى"، و"القتل الجماعي"، وتم إعدامه، في 29 سبتمبر/أيلول 1979، مع 6 آخرين من نظامه.(3)

ولم يجد تيودورو أوبيانغ صعوبة في تسويق انقلابه العسكري داخليًّا وخارجيًّا، لكن بقاءه في السلطة لأزيد من 4 عقود ونصف ليس مستساغًا في نظام جمهوري، ويبدو أنه لا يزال يطمح للمزيد من المكوث في الحكم، فقد انتُخب، في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، بنسبة ناهزت 95% لولاية رئاسية سادسة مدتها 7 سنوات(4)، وهو ما يعني نظريًّا بقاءه في السلطة لأزيد من نصف قرن.

بول بيا: أكبر رؤساء العالم سنًّا ويطمح لحكم الكاميرون لولاية ثامنة

لم يمنعه بلوغه من الكِبر عتيًّا من الترشح لولاية رئاسية ثامنة، فقد أعلن الرئيس البالغ 92 سنة الترشح لولاية رئاسية ثامنة والتنافس في الانتخابات الرئاسية الكاميرونية، المقررة في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2025، مضيفًا في منشور على منصة "إكس" أن تصميمه على خدمة الكاميرونيين يتناسب وحجم التحديات التي تواجهها البلاد.(5)

وإذا نجح بول بيا في الفوز بالرئاسة، وهو الأرجح على غرار جميع الانتخابات السابقة وبنسبة يغيب فيها أي مظهر للتنافس، وبقي على قيد الحياة إلى غاية إكمال ولايته الثامنة، فإن عمره حينها سيكون 99 سنة، أي حوالي قرن من الزمن، أمضى نصفه في السلطة.

ويتولى بول بيا رئاسة الكاميرون، منذ السادس من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1982، إثر استقالة الرئيس السابق للبلاد، أحمد أحيدجو. وقبل توليه الرئاسة كان قد أمضى 20 سنة وهو يتقلب في المناصب بدءًا بتعيينه مكلفًا بمهمة في رئاسة الجمهورية، في أكتوبر/تشرين الأول عام 1962، وانتهاءً بتعيينه، في يونيو/حزيران سنة 1975، وزيرًا أول. وبعد 4 سنوات صدر قانون يقضي بأن يكون الوزير الأول هو خليفة الرئيس دستوريًّا، وبعد 3 سنوات على هذا القانون استقال الرئيس لأسباب صحية، وأضحى بول بيا رئيسًا.(6)

وتحوم شكوك كثيرة حول الوضعية الصحية للرئيس الكاميروني، وقد أصبح منذ فترة كثير التردد على الخارج لتلقي العلاج، كما أن ترشيحه للرئاسة في وقت سابق من طرف حزبه "الحركة الشعبية الديمقراطية الكاميرونية" أثار جدلًا وانتقادات واسعة في البلاد، وتسبب في بعض الانسحابات من الحزب.

يوري موسيفيني: المناضل المتنكب لقيم النضال أمام سطوة الحكم

عبر منصة "إكس"، أعلن الرئيس الأوغندي، يوري موسيفيني، ترشحه للانتخابات الرئاسية المقررة في يناير/كانون الثاني 2026، وهو ذات الشهر الذي سيكمل في نهايته الرجل الثمانيني 40 سنة بالسلطة.

عندما وصل إلى السلطة، عام 1986، عقب تمرد مسلح، كان يُنظر إلى خريج جامعة دار السلام التنزانية في تخصص الاقتصاد والعلوم السياسية، كمنقذ للبلاد، فقد عُرف عنه تشبُّعه بالفكر الماركسي، ودفاعه المستميت من أجل التحرر والعدالة الاجتماعية.(7)

لكن الأفكار التي ظل موسيفيني ينافح عنها، سرعان ما تحطمت على أسوار القصر، فقد قام بتعديلات دستورية من أجل السماح له بالترشح لعدد لا محدود من الولايات الرئاسية، وتتهمه منظمات حقوقية بالتضييق على الحريات و"قمع المعارضة، وترسيخ سلطته"(8).

نجح موسيفيني في تحقيق استقرار سياسي لبلاده، ولنموها الاقتصادي، وحقق بعض الإنجازات على صعيد البنية التحتية، والتعددية الحزبية التي كان يعارضها في البدء معتبرًا إياها تشكِّل خطرًا على بلد في طريق النمو(9)، لكن تشبثه بكرسي الرئاسة، وتمكينه لبعض أفراد أسرته من خلال شغلهم مناصب قيادية في هرم السلطة، كثيرًا ما أثار ردود فعل شعبية وسياسية غاضبة. كما أن بعض الإجراءات التي اتخذها موسيفيني خلال السنوات الأخيرة من حكمه، ومن ذلك توقيعه، شهر يونيو/حزيران الماضي، قانونًا يسمح بمحاكمة المدنيين أمام محكمة عسكرية، أثار جدلًا وردود فعل منددة داخليًّا وخارجيًّا، لكن كل ذلك يبقى محدود التأثير على مسار بقاء الرجل في السلطة.

أسياس أفورقي: قاد تحرير إريتريا لكنه أحكم قبضته عليها

لم تعرف إريتريا منذ استقلالها عن إثيوبيا، عام 1991، إلا رئيسًا واحدًا هو أسياس أفورقي، الذي يتولى رئاستها منذ سنة 1994.

وينهج أفورقي نموذجًا مختلفًا عن كل نماذج الأنظمة الجمهورية القائمة في القارة الإفريقية، فهو رئيس الجمهورية الوحيد الذي لم ينظم أي انتخابات رئاسية على مدى أزيد من 3 عقود، كما أنه لم يسمح بأي تعددية حزبية أو إعلامية، وظل يتوكأ على ماضيه النضالي المسلح لاستقلال البلاد.(10)

لقد حوَّل أفورقي إريتريا، التي يسميها عدد من الباحثين بـ"كوريا الشمالية الإفريقية"، إلى نموذج دولة فاشلة، بعدما صاغت في البدء دستورًا ينص على صون الحريات، ويؤكد على البعد الديمقراطي والتعددية، وهو ما أنعش آمالًا عريضة في صفوف الإريتريين في الداخل والخارج، قبل أن ينقلب الأمر إلى ضده.(11)

ورغم الأهمية الإستراتيجية التي تتمتع بها إريتريا في منطقة القرن الإفريقي، بفعل إطلالتها على البحر الأحمر؛ ما يجعلها طريقًا تجاريًّا حيويًّا بين الخليج العربي وأوروبا وأميركا(12)، إلا أن قبضة أفورقي الحديدية أضاعت على البلاد إمكانية الاستفادة من هذه الفرصة، فتحولت إلى دولة طاردة، وتتذيل الكثير من المؤشرات الدولية والعالمية.

وقد اعتمد أفورقي بشكل كبير في سبيل إبقاء حكمه طيلة هذه الفترة على طبيعة التحالفات الدولية التي يقيمها، سواء مع إيران أو روسيا أو غيرهما، وأيضًا على الموقع الإقليمي لبلاده، والذي يجعلها -رغم كل شيء- محورية في منطقة القرن الإفريقي، وقد منحه هذان البعدان قوة خارجية حصَّن بها أركان حكمه خارجيًّا، وجعل قبضته الحديدية داخليًّا عصية على الاختراق.

ساسو نغيسو: من الفشل في الالتحاق بـ"مدرسة" المعلمين إلى المكوث بالقصر الرئاسي

في مارس/آذار 2021، أعاد الكونغوليون انتخاب رئيسهم، دينيس ساسو نغيسو، لولاية جديدة، ستنتهي عام 2026، وحينها سيكون الرجل الثمانيني قد أمضى نحو 22 حَوْلًا في السلطة التي وصلها لأول مرة بالتعيين من طرف رفاقه، وعاد إليها مرة ثانية على وقع العنف والدماء، وحافظ على البقاء فيها لعقود عبر انتخابات كثيرًا ما كان كمن يسابق نفسه فيها.

ومن الطريف في مسار دينيس ساسو نغيسو، المولود عام 1943 في قرية بالكونغو برازفيل مجاورة لكل من الغابون وجمهورية إفريقيا الوسطى والكاميرون وجمهورية الكونغو الديمقراطية، أنه كان يتطلع لأن يكون مُدَرِّسًا، لكن الحظ لم يحالفه في ولوج كلية المعلمين في برازافيل، فالتحق بالجيش، وبدأ مسارًا قاده للرئاسة ولم ينته بعد.(13)

تلقى ساسو نغيسو تعليمًا وتكوينًا عسكرييْن في الجزائر وفرنسا، وبعد عودته إلى البلاد تقلد عدة مناصب في السلك العسكري، وانضم بالتوازي مع ذلك لحزب العمل الكونغولي الذي يعد حينها الحزب الوحيد في الكونغو برازفيل.

وبعد وفاة الرئيس الأسبق، ماريان نغوابي، في 18 مارس/آذار عام 1977، أصبح ساسو نغيسو نائبًا لرئيس اللجنة العسكرية للحزب الحاكم ووزيرًا للدفاع والأمن، وبعد عامين انتُخب رئيسًا للحزب ورئيسًا للكونغو برازفيل.(14)

قاد نغيسو الكونغو برازفيل من 1979 إلى 1992؛ حيث خرج من السلطة خلال تنظيم أول انتخابات رئاسية تعددية في المستعمرة الفرنسية السابقة، وبعد 5 سنوات عاد إلى الرئاسة مجددًا بعد انتصار قواته في حرب أهلية مدمرة شهدتها البلاد(15)، ومنذ ذلك الوقت لم تشهد البلاد رئيسًا غيره.

إسماعيل عمر غيلة: ربع قرن من رئاسة جيبوتي ويطمح للمزيد

في أبريل/نيسان عام 2021، انتُخب إسماعيل عمر غيلة لولاية رئاسية خامسة، وتزامن انتخابه مع تحقيق بلاده نموًّا اقتصاديًّا كبيرًا بلغت نسبته 7%، بعد انكماش شهده، سنة 2020، بسبب تداعيات جائحة كورونا.

ويُنتظر أن يبقى إسماعيل عمر غيلة رئيسًا لجيبوتي إلى غاية 2026 على الأقل، رغم الاتهامات التي توجه إليه بشأن عدم فسح المجال أمام مسار ديمقراطي حقيقي في البلاد، ولا حتى السماح بحق الاحتجاج وحرية الصحافة.(16)
وُلِد إسماعيل عمر غيلة في إثيوبيا، عام 1947، وعاش فيها جزءًا من شبابه، حيث كان والده يعمل هناك، ثم عاد إلى بلاده وقد كانت حينها تحت قبضة الاستعمار الفرنسي، فالتحق بالشرطة الفرنسية، قبل أن ينخرط لاحقًا في صفوف حزب الرابطة الشعبية الوطنية من أجل الاستقلال بزعامة حسن غوليد.

وعلى إثر الانخراط في صفوف الحزب المطالب بالاستقلال عن فرنسا، تم فصل عمر غيلة من سلك الشرطة الفرنسية، لكنه ظل مقربًا من حسن غوليد الذي سيصبح لاحقًا رئيسًا لجيبوتي بعد استقلالها، في 27 يونيو/حزيران عام 1977، عن فرنسا، فظل يتقلب في المناصب إلى أن انتُخب لأول مرة رئيسًا للبلاد، سنة 1999، وظل يعاد انتخابه في كل مرة إلى الآن(17).

ورغم أن جيبوتي دولة صغيرة من حيث المساحة وعدد السكان، إلا أنها تتمتع بموقع إستراتيجي جعلها تحظى بتنافس دولي كبير؛ حيث تقيم بها عدة دول، بينها الصين والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، قواعد عسكرية، وهذا ما جعل إسماعيل عمر غيلة يحظى بحماية دولية كبيرة حفاظًا على مصالح هذه البلدان.

بول كاغامي: النهضة مقابل البقاء في الرئاسة

في رواندا، يسود بول كاغامي ويحكم منذ توليه رئاسة البلاد بتزكية من البرلمان، عام 2000، ويطمح إلى البقاء في السلطة لغاية 2034 على الأقل، وذلك بعدما عدَّل الدستور، سنة 2015، ليتمكن من الترشح لثلاث ولايات رئاسية.(18)

رأى بول كاغامي النور في بلدة "تامبوي"، عام 1957، لكن أسرته نزحت إلى أوغندا هربًا من القمع الذي استهدف مكوِّن التوتسي، وهناك درس مختلف مراحل تعليمه بما في ذلك الجامعي، واختاره الجيش الأوغندي ضمن آخرين للدراسة في الولايات المتحدة الأميركية. وقد شكَّل اللاجئ الرواندي، وهو في العشرينات من عمره، مع شباب آخرين من عرقيته ما سيُعرف لاحقًا بـ"جيش المقاومة الوطنية الأوغندي" بزعامة الرئيس الحالي، يوري موسيفيني، وقد كافأهم لما وصل السلطة، سنة 1986، وكان نصيب بول كاغامي من ذلك تعيينه بمنصب رئيس الاستخبارات العسكرية الأوغندية.(19)

لكن ذلك لم يُنْسِهِ همَّ عرقية التوتسي، فأسَّس مع بعض المنتمين لعرقيته الجبهة الوطنية الرواندية.
وعلى إثر المجازر الفظيعة التي ارتكبها الهوتو ضد التوتسي، وتسببت في مقتل أكثر من 800 ألف شخص على الأقل، غالبيتهم من عرقية كاغامي، سرَّعت الجبهة الوطنية الرواندية، مستغلة تعاطفًا ودعمًا إقليميًّا ودوليًّا واسعًا لها، وتيرة هجماتها ضد الجيش الرواندي، وتمكنت من هزيمته والوصول إلى كيغالي، في يونيو/حزيران عام 1994، فسيطرت على الحكم وأصبح كاغامي نائبًا للرئيس، قبل أن ينتخبه البرلمان بالإجماع رئيسًا للبلاد، سنة 2000، ويواصل البقاء في السلطة من خلال الفوز في كل انتخابات رئاسية.(20)

وفي مقابل احتفاظه بالسلطة طيلة 25 سنة، حقق بول كاغامي نهضة اقتصادية وتنموية كبيرة لرواندا في الكثير من المجالات، وصار كثيرون يطلقون على بلاده لقب "سنغافورة إفريقيا".

فور نياسينغبي: وارث عرش أبيه في جمهورية التوغو

على غرار ما حصل في عدد من الجمهوريات الإفريقية، تولى فور نياسينغبي، الذي يرأس جمهورية توغو حاليًّا، السلطة، عام 2005، خلفًا لوالده الجنرال إياديما نياسينغبي، الذي حكم البلاد بقبضة من حديد 38 سنة، ولم يغادرها إلا محمولًا على النعش.

لكن الشاب الذي عرفه التوغوليون خلال حكم أبيه في عدة مناصب وزارية ومسؤوليات أخرى مختلفة، لم يصمد كثيرًا أمام الضغط الداخلي والخارجي، الذي اتضح لاحقًا أنه يناهض الخلافة المباشرة فقط، وليس مبدئيًّا في رفضه لتولي ابن الرئيس الرئاسة في نظام جمهوري.

استقال فور نياسينغبي من المنصب، وعقد البرلمان جلسة استثنائية انتخب خلالها رئيسه عباس بونفو رئيسًا مؤقتًا، أما نجل الرئيس فأعلن الترشح للانتخابات الرئاسية المقررة حينها، في أبريل/نيسان 2005، وفاز فيها بنسبة ناهزت 60%، وخلف والده في الحكم(21)، ليبدأ بذلك مسارًا ما زال مستمرًّا وقد طوى ربع قرن.

لكن حكم فور الابن واجه خلال السنوات الأخيرة موجة رفض داخلية واسعة، قادتها أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني. وسعيًا للتماهي مع ذلك، وضع الرئيس دستورًا جديدًا يقضي بالانتقال إلى نظام برلماني، يصبح فيه رئيس الحزب الحاصل على أغلبية برلمانية رئيسًا للوزراء، ورغم القوى الاحتجاجية الرافضة لهذا التوجه، باعتباره محاولة للالتفاف على البقاء في السلطة، إلا أنه مُرِّر بسلاسة، وفاز الحزب الحاكم، الذي يرأسه رئيس البلاد، بأغلبية ساحقة في الانتخابات البرلمانية التي قاطعتها المعارضة.

وفي 3 من مايو/أيار 2025، أدى نياسينغبي اليمين الدستورية رئيسًا لمجلس الوزراء، ويقود الحكومة والقوات المسلحة، كما أنه بقي رئيسًا شرفيًّا للبلاد، ويسمح له الدستور بالبقاء في المنصب لولاية مدتها 6 سنوات، قابلة للتجديد عددًا غير محدود من المرات، ما دام حزبه يفوز بأغلبية المقاعد البرلمانية(22).

توريث السلطة في الأنظمة الجمهورية بإفريقيا

يشكِّل توريث الرئاسة للأبناء في أنظمة الحكم الجمهورية بالقارة الإفريقية أحد العوامل المعيقة لحصول تحول ديمقراطي في القارة بشكل عام، وفي البلدان المعنية بشكل خاص؛ إذ عوض أن تشكِّل مغادرة رئيس للسلطة بعد عقود من الحكم فرصة لفتح الباب أمام تجربة تناوب على السلطة، فإن الحكم يورَّث في بعض الأحيان لأحد أبنائه.

وتوجد عدة أمثلة على ذلك، ففي الغابون مثلًا، عندما توفي الرئيس عمر بونغو أونديمبا، عام 2009، تولى نجله، علي بونغو أونديمبا، الرئاسة، وبقي فيها إلى أن أطيح به عبر انقلاب عسكري، في نهاية أغسطس/آب 2023، بقيادة الجنرال بريس أوليغي نغيما.

وفي جمهورية الكونغو الديمقراطية، حكم لوران ديزيري كابيلا، من عام 1997 إلى أن اغتيل سنة 2001، ليتولى نجله، جوزيف كابيلا، السلطة إلى غاية 2019، حيث نظم انتخابات رئاسية دون أن يترشح لها، وفاز فيها فيليكس تشيسيكيدي، وشكَّل ذلك أول عملية تناوب ديمقراطي على السلطة في البلاد.

وفي دولة تشاد، ظل الراحل إدريس ديبي إتنو، الذي وصل السلطة إثر انقلاب على الراحل حسين حبري، عام 1990، في السلطة إلى أن تم اغتياله في 2021، ليتولى ابنه الجنرال محمد إدريس ديبي إتنو الرئاسة لفترة انتقالية، وفاز في انتخابات 2024 الرئاسية. وتوجد حاليًّا بعض الحالات المثيرة في بعض البلدان الإفريقية، ففي غينيا الاستوائية مثلًا، يشغل تيودورو نغيما أوبيانغ مانغ منصب نائب رئيس الجمهورية، الذي ليس سوى والده تيودورو أوبيانغ نغيما.

وفي أوغندا، يتولى الجنرال موهوزي كانيروغابا، نجل رئيس البلاد، يوري موسيفيني، قيادة جيش البلاد، وسبق أن عين الرئيس زوجته بمنصب وزيرة للتربية والرياضة، أما في الكونغو برازفيل فقد عيَّن الرئيس دينيس ساسو نغيسو، عام 2021، نجله، دينيس كريستل، وزيرًا للتعاون الدولي وترقية الشراكة بين القطاعين، العام والخاص(23).

ويواجه عدد من أبناء الرؤساء الأفارقة الحاليين تهمًا دولية بشأن قضايا فساد أو ثراء غير مشروع، لكن ذلك لا يؤثر على نشاطاتهم كمشاريع رؤساء مستقبليين.

أزمة غياب الديمقراطية وتداعياتها

يشكِّل الوصول إلى السلطة عبر انتخابات نزيهة وشفافة، واحترام مقتضيات الدساتير فيما يتعلق بالتداول السلمي للرئاسة، واحدًا من مرتكزات الديمقراطية، ويؤثر غياب ذلك على الكثير من المناحي الأخرى، كالحكم الرشيد، وسيادة القرار، وحرية الاقتصاد...إلخ. ويُعد المرتكز المذكور آنفًا، إلى جانب احترام العلاقة بين السلطة والمواطن، بحيث تكون الأخيرة مسؤولة أمام الشعب وممثليه، إضافة إلى الحرية في إنشاء الأحزاب والمنظمات، وحرية نشاطها، وحرية الرأي والتعبير، من أهم الأسس الديمقراطية(24)، ولكن الذي يحدث في حالات أنظمة الحكم المذكورة سابقًا، وفي غيرها، أنه حتى إن توافرت نظريًّا بعض شروط ومقومات المسار الديمقراطي، فإنه يتم إفراغها من محتواها، وبالتالي لا يكون لها التأثير المنتظر، الذي يسمح بالتداول على السلطة، ويفتح الباب أمام تقدم البلدان وتنميتها، وتكون سيدة قرارها.

فمعظم الرؤساء الذين يحكمون دولًا إفريقية منذ عقود، ظلوا يُنتخبون شعبيًّا بالاقتراع العام المباشر، والأحزاب السياسية عددها بالمئات في بلدانهم، والجمعيات والمنظمات بالآلاف، والصحف الورقية والإذاعات والتليفزيونات منتشرة بكثرة، ولكن معظم كل ذلك يتحكم فيه، ولا يؤدي في غالب الأحيان الدور المنتظر منه، وبالتالي تم الحفاظ على الشكل، وتم العبث بالجوهر.

وينعكس التشبث بالحكم لفترات طويلة، وعدم احترام المقتضيات الدستورية، بشكل سلبي على الدول في الكثير من المناحي، منها عدم الاستقرار السياسي، وضعف الجوانب المتعلقة بالتنمية والحكامة في بعض الأحيان، وقد يولِّد ذلك ردود فعل أكبر تتعلق بعدم الاستقرار الأمني، من خلال تشكل ميليشيات أو مجموعات تحمل السلاح ضد الدولة، وتسعى لإسقاط النظام.

كما يتسبب التشبث بالسلطة في ضغوط خارجية، وأحيانًا عقوبات دولية، وهو ما ينعكس على أوضاع البلدان الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي تصبح الدولة أو الدول معرضة للانهيار في سبيل بقاء رئيس ما في منصبه لعقود.

وعلى الصعيد السياسي، يشجع عدم التداول السلمي على السلطة على الانقلابات العسكرية، كما يتسبب في هشاشة البلدان وتصنيفها ضمن قائمة الدول الفاشلة.

خاتمة

تكشف التجارب السياسية في عدد من الدول الإفريقية، كما ورد في النماذج السابقة، عن أزمة بنيوية عميقة في مسار الانتقال الديمقراطي، حيث ظل الوصول إلى الحكم أو البقاء فيه محكومًا بمنطق القوة أو التلاعب بالدساتير، أكثر مما تحكمه الإرادة الشعبية الحقيقية. فغياب التداول السلمي على السلطة، واستمرار ظاهرة الرؤساء المعمَّرين، أو توريث الحكم في جمهوريات يفترض أن تقوم على مبدأ المساواة السياسية، أفرغا الممارسة الديمقراطية من جوهرها، وحوَّلاها في كثير من الأحيان إلى مجرد واجهة شكلية.

وإذا كانت بعض هذه الأنظمة قد حققت نسبًا من الاستقرار أو التنمية، فإن الثمن كان باهظًا على صعيد الحريات، والمشاركة السياسية، وسيادة القانون؛ مما جعل القارة، رغم غناها بالموارد وتنوعها البشري، عرضة لدوامة الأزمات السياسية والانقلابات والعزلة الدولية. ولعل الدرس الأهم من هذه المسارات، أن استدامة الحكم لا تُبنى على احتكار السلطة، وإنما على تأسيس مؤسسات قوية، وتكريس التعددية، وإتاحة المجال أمام الأجيال الجديدة للمشاركة في صناعة القرار. وبدون ذلك، ستظل العديد من بلدان القارة حبيسة دائرة مفرغة من الجمود السياسي والتعثر التنموي، مهما اختلفت الشعارات أو تبدلت الوجوه.

ABOUT THE AUTHOR

References

1) غينيا الاستوائية، الجزيرة نت، 27 أكتوبر/تشرين الأول 2014، (تاريخ الدخول: 15 يوليو/تموز 2025)، https://urls.fr/IACHvP
2) انظر الموضوع:
Independence of Equatorial Guinea, seen on July 15, 2025, https://urls.fr/d1wEL1
3) انظر الموضوع:
Quad Teodoro Obiang s'emparait du pouvoir par un putsch en Guinée équatoriale, publié le 03 Août 2019, vu le 16 Juillet 2025, https://urls.fr/aHshg1
4) غينيا الاستوائية: إعادة انتخاب أوبيانغ رئيسًا بنحو 95 بالمئة من الأصوات، فرانس24، 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 16 يوليو/تموز 2025)، https://urls.fr/nRNlRS
5) أكبر رئيس في العالم يسعى لولاية ثامنة، عربي BBC News، 14 يوليو/تموز 2025، (تاريخ الدخول: 16 يوليو/تموز 2025)، https://urls.fr/KZOEGP
6) انظر:
Biographie du Président Paul Biya, Présidence de la République du Cameroun, vu le 16 Juillet 2025, https://urls.fr/DxmPCO
7) يوري موسيفيني "محرر ثوري" أسرته سطوة السلطة، الجزيرة نت، 3 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 19 يوليو/تموز 2025)، https://urls.fr/_OSblQ
8) انظر الموضوع:
Uganda’s President Museveni confirms bid to extend nearly 40-year rule, published on June 29,2025, seen on July 19, 2025, https://urls.fr/fx1JgZ
9) انظر الموضوع:
Museveni Yoweri Kaguta (1944-), vu le 19 Juillet 2025, https://urls.fr/sSSox6
10) أسياس أفورقي رئيس إريتريا منذ استقلالها، الجزيرة نت، 15 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 20 يوليو/تموز 2025)، https://urls.fr/_w2aMU
11) رئيس إريتريا ذو القبضة الحديدية.. ثلاثة عقود في السلطة، منبر الدفاع الإفريقي، 6 يونيو/حزيران 2023، (تاريخ الدخول: 20 يوليو/تموز 2025)، https://urls.fr/KW2Qu3
12) الصنيعة الاستعمارية "حدود سياسية وصراعات إقليمية": إريتريا-إثيوبيا منذ عام 1984، المركز الديمقراطي العربي، 30 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول: 20 يوليو/تموز 2025)، https://urls.fr/eQHOsI
13) دنيس ساسو نغيسو.. الزعيم المخضرم للكونغو برازفيل يقاوم عدوى الانقلابات، الشرق الأوسط، 22 سبتمبر/أيلول 2023، (تاريخ الدخول: 21 يوليو/تموز 2025)، https://urls.fr/VqoLFW
14) انظر الموضوع:
Biographie, vu le 20 Juillet 2025, https://urls.fr/T_RL7y
15) نبذة عن حياة رئيس الاتحاد الإفريقي الجديد، الجزيرة نت، 24 يناير/كانون الثاني 2006، (تاريخ الدخول: 21 يوليو/تموز 2025)، https://urls.fr/T4rMB2
16) إسماعيل عمر غيلة رئيسًا لجيبوتي للمرة الخامسة على التوالي، الميادين، 10 أبريل/نيسان 2021، (تاريخ الدخول: 21 يوليو/تموز 2025)، https://urls.fr/1Nu46F
17) إسماعيل جيله.. الشرطي "الفرنسي" الذي تزعم جيبوتي، الجزيرة نت، 24 مايو/أيار 2016، (تاريخ الدخول: 21 يوليو/تموز 2025)، https://urls.fr/DRAful
18) بول كاغامي من لاجئ في أوغندا إلى قائد لنهضة رواندا، الجزيرة نت، 10 يوليو/تموز 2024، (تاريخ الدخول: 21 يوليو/تموز 2025)، https://urls.fr/7O2Y1d
19) بول كاغامي.. منقذ رواندا وقائد مسيرة تنميتها الاقتصادية، الشرق الأوسط، 3 أغسطس/آب 2024، (تاريخ الدخول: 21 يوليو/تموز 2025)، https://urls.fr/bCKeB3
20) بول كاغامي من لاجئ في أوغندا إلى قائد لنهضة رواندا، مصدر سابق.
21) التوغو: التوجه نحو الانتقال لنظام برلماني يطيل بقاء حكم انياسينغبي، مركز الجزيرة للدراسات، 14 مايو/أيار 2024، (تاريخ الدخول: 21 يوليو/تموز 2025)، https://urls.fr/e0t8Jj
22) الرئيس التوغولي يؤدي اليمين رئيسًا لمجلس الوزراء، أفريكا بريس، 3 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 21 يوليو/تموز 2025)، https://urls.fr/KHUsuY
23) معضلة التوريث السياسي في إفريقيا، الأفارقة للدراسات والاستشارات، 28 مايو/أيار 2021، (تاريخ الدخول: 23 يوليو/تموز 2025)، https://urls.fr/0ce2bH
24) إشكاليات الظاهرة الديمقراطية في إفريقيا (دراسة)، 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، (تاريخ الدخول: 23 يوليو/تموز 2025)، https://urls.fr/iwRtBx