
مقدمة
منذ 20 يوليو/تموز 2024، تشنُّ إسرائيل هجمات جوية، وأحيانًا بحرية، على جماعة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن، ضمن عملية وسمتها بـ"الذراع الطويلة". استهدفت هذه العملية أصولًا حكومية ذات قيمة إستراتيجية، ومواقع عسكرية وأمنية، وأحياء سكنية. ومن أبرزها ما وقع يومي 28 أغسطس/آب و10 سبتمبر/أيلول 2025، حيث خلَّفت دمارًا واسعًا في البنى والهياكل الأساسية، وأودت بحياة عشرات المدنيين، بينهم رئيس حكومة الحوثيين (غير المعترف بها)، أحمد غالب الرهوي، وأحد عشر وزيرًا وموظفًا رفيعًا.
يناقش هذا التقرير الهجمات الإسرائيلية على الحوثيين من خلال تتبع تسلسلها الزمني، وتحديد مركزية أهدافها، ورصد التحولات التي طرأت عليها، مع تسليط الضوء على دلالاتها العسكرية والإستراتيجية وتداعياتها المحلية والإقليمية، بالاستناد إلى المنهج الوصفي-التحليلي.
أولًا: انطلاق الهجمات وغاياتها ومركزية أهدافها
1- انطلاقة الهجمات وغاياتها المعلنة
بدأت إسرائيل هجماتها الجوية على الحوثيين، في 20 يوليو/تموز 2024، واستمرت حتى 19 ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، قبل أن تتوقف أربعة أشهر لتُستأنف في 5 مايو/أيار 2025(1)، ثم ظلت متواصلة حتى 10 سبتمبر/أيلول 2025، وهو تاريخ آخر هجمات أثناء إعداد هذا التقرير.
تركَّزت الضربات على أصول إستراتيجية اقتصادية وخدمية، إضافة إلى مواقع عسكرية ضعفت قيمتها نتيجة حرب الحوثيين مع التحالف الداعم للحكومة (2015–2022). وفي الهجمتين الأخيرتين استهدفت إسرائيل مواقع مدنية بصنعاء؛ ما أدى إلى تدمير منازل وتضرر مبانٍ مجاورة ومواقع أثرية منها المتحف الوطني.
تعود أهمية هذه الأهداف إلى كونها ركيزة في نشاط الحوثيين العسكري والإداري؛ ما يجعل ضربها جزءًا من الرؤية الإسرائيلية الأوسع التي تضم شبكة أعدائها الإقليميين: حزب الله، وحركة حماس، والحشد الشعبي في العراق، وإيران التي تُعد الداعم الرئيس لهم جميعًا. ومن ثمَّ ركَّزت إسرائيل على موانئ الحديدة الثلاثة، ومطار صنعاء الدولي ومرافقه، ومصنَعَي الإسمنت في عمران وباجل، ومحطات توليد الكهرباء في صنعاء والحديدة، وصهاريج تخزين الوقود ومحطات توزيعه.
اقتصاديًّا، تُدر هذه الأصول عائدات مالية كبيرة. فقد حصل الحوثيون خلال الفترة من 1 أبريل/نيسان 2022 إلى 30 يونيو/حزيران 2024 على نحو 994 مليار ريال (ما يقارب 1.8 مليار دولار) من الرسوم الجمركية على واردات الوقود عبر الموانئ التي يسيطرون عليها(2). أما مصنع إسمنت عمران فكان يدرُّ نحو 8 مليارات ريال شهريًا (14.44 مليون دولار)، فيما بلغ عائد مصنع باجل نحو 4 مليارات ريال شهريًّا (7.22 ملايين دولار)(3).
عسكريًّا، تشير تقارير مجلس الأمن إلى أن الحوثيين استخدموا مطار صنعاء لإرسال متدربين إلى مركز "بهبهان" التابع للحشد الشعبي في جرف الصخر بين بغداد وكربلاء، للتأهيل على العمليات البحرية ضد السفن. كما أشارت تقارير أخرى إلى تعاون بين الحوثيين والمقاومة الإسلامية في العراق في هجمات استهدفت حيفا وأشدود في إسرائيل(4). ويرتبط هذا أيضًا بالاتهامات المتكررة بتهريب الأسلحة والتقنيات الإيرانية عبر موانئ الحديدة، فضلًا عن استخدام هذه الموانئ لانطلاق الزوارق الموجهة ضد السفن التجارية.
بهذا المنطق بررت إسرائيل ضرباتها بأنها وسيلة لتعميق الأضرار بالحوثيين ومنع تهديداتهم(5). وقد نجحت هذه الضربات في تعطيل المنشآت المستهدفة وإخراج بعضها من الخدمة نهائيًّا، مثل مصنعي إسمنت عمران وباجل، وأربع طائرات مدنية للخطوط اليمنية كان الحوثيون يستخدمونها. على سبيل المثال، قُدِّرت خسائر موانئ الحديدة، خلال الفترة 20 يوليو/تموز-19 ديسمبر/كانون الأول 2024، بنحو 313 مليون دولار(6)، فيما بلغت خسائر الضربة الأولى على مطار صنعاء نحو 500 مليون دولار(7).
2- مركزية الأهداف
صنعاء: تعرَّض مطار صنعاء الدولي لهجمات عديدة ومتكررة، بالرغم من أنه عينٌ مدنية، وقد أسفر ذلك عن تدمير برج المراقبة، وأربع طائرات مدنية كانت حِكرًا على الحوثيين دون الحكومة اليمنية. وإلى ذلك محطتان للكهرباء، الأولى: ذَهْبان (شمالي صنعاء)، والثانية: حِزيَز(جنوبي صنعاء)، ومخابئ سرية في حيِّ حَدَّة السَّكني مخصصة لانعقاد اجتماعات حكومة الحوثيين. ومن المواقع العسكرية: قاعدة الدَّيلمي الجوية المجاورة للمطار المدني، ومقر دائرة التموين العسكري ومخازنها في عَصُر، ومواقع تخزين أسلحة ثقيلة وذخائر في جِبال عَيْبان، وعَطَّان، ونُقُم، التي تحيط بصنعاء، وفي مواقع عسكرية أخرى مجاورة، مثال: الحَفاء، وصَرِف، ودار الرئاسة بالنَّهدَين، والصُّباحة، والسَّواد، وريمة حُمَيد، وبني حُشَيْش.
الحُديدة: استهدفت الهجمات الإسرائيلية في مدينة الحديدة ثلاثة موانئ، هي: ميناء الحُديدة التجاري الرئيس، وميناءَي الصَّليف ورأس عيسى. وقد تأثرت أرصفتها ومعدات الشحن والتفريغ، ودُمِّر نحو 38 صهريجًا لتخزين الوقود. وضُربت محطتان لتوليد الطاقة الكهربائية، هما: محطة كهرباء الحالي بالمدينة، ومحطة كهرباء رأس كَتْنِيب البخارية. ومن المواقع العسكرية المستهدفة: قاعدة الكَثيب البحرية، ومعسكر الدفاع الساحلي، ومقر الشرطة العسكرية.
باجِل وعَمْران وحَزْم الجوف: هذه المناطق كانت أقل عرضة للضرب، لكنها الأكثر فداحة في الخسائر المادية أو البشرية. فمدينة باجِل تقع شمال شرقي الحديدة بنحو 55 كلم، وتقع مدينة عَمْران، ضمن محافظة عمران، شمالي صنعاء بنحو 50 كلم، وقد تعرَّض مصنعا الإسمنت في كلٍّ منهما لضربات مدمِّرة، أدَّت إلى إيقافهما، كُليًّا، عن الإنتاج، وإلحاق أضرار جسيمة بالعمال والمواطنين في محيطيهما. وأما مدينة حَزْم الجوف فهي مركز محافظة الجوف، وتقع شرقي صنعاء بنحو 143 كلم، واستُهدفت فيها ثلاثة مرافق حكومية، مالية وإدارية وعسكرية.
يرصد الجدول التالي الهجمات الإسرائيلية على الحوثيين، وفقًا لتسلسُل وقوعها، علمًا بأنَّ بعضًا منها تعرَّض لعشرات الغارات(8).
الهجمات الإسرائيلية على الحوثيين (20 يوليو/تموز 2024- 10 سبتمبر/أيلول 2025)
م |
التاريخ |
نوع الهجوم ووسائطه |
المناطق والأعيان المستهدفة |
النتائج والآثار |
|
1 |
20/07 |
2024
|
غارات جوية: طائرات هجومية إف-15، و إف-35، وطائرات بوينغ 707 مُمِدَّة بالوقود
|
الحديدة: ميناؤها الرئيس، ومطارها، ومحطة كهرباء الحالي، والمؤسسة الاقتصادية، والشرطة العسكرية. |
مقتل 6 أشخاص، وإصابة 87 شخصًا آخر، وتدمير 17 خزانًا نفطيًّا. |
2 |
29/09 |
الحديدة: ميناؤها الرئيس، وميناء ورأس عيسى، ومحطتا كهرباء الحالي ورأس كتنيب البخارية. |
مقتل 3 مهندسين، وإصابة 45 شخصًا آخر. |
||
3 |
19/12 |
صنعاء: محطتا كهرباء حِزْيَز وذَهْبان. الحديدة: موانئ الحديدة، والصَّلِيف ورأس عيسى. |
تدمير 70 % من القدرة التشغيلية لموانئ الحديدة، بما فيها 4 لنشات (زوارق)، ومقتل 11 شخصًا. |
||
4 |
26/12 |
صنعاء: المطار الدولي. الحديدة: ميناؤها الرئيس. |
تدمير برج المطار، وطائرتين مروحيتين، ومقتل 6 أشخاص، وإصابة 40 شخصًا. |
||
5 |
05/05 |
2025 |
الحديدة: ميناؤها الرئيس. باجل: مصنع الإسمنت. |
تدمير ما أعيد تأهيله في الميناء، وتدمير مصنع الإسمنت، ومقتل 3 أشخاص وإصابة 39 شخصًا. |
|
6 |
06/05 |
صنعاء: المطار الدولي، وقاعدة الديلمي الجوية، وجبل عطَّان. عَمران: مصنع الإسمنت. |
تخريب أرضية المطار، وتدمير مبنيي الركاب، و3 طائرات ركاب عاملة، وطائرتان متوقفتان. |
||
7 |
28/05 |
صنعاء: المطار الدولي. |
تدمير برج المطار، وآخر طائرة مدنية. |
||
8 |
09/06 |
هجومان بحريان: سفن البحرية الإسرائيلية. |
الحديدة: الميناء الرئيس، وميناءا رأس عيسى والصَّلِيف. |
تدمير ما أعيد تأهيله، ومقتل مدنيين. |
|
9 |
29/06 |
غارات جوية: |
الحديدة: الميناء الرئيس، وميناء رأس عيسى، ومحطة كهرباء الحالي. |
تدمير ما أعيد تأهيله، ومقتل 4 أشخاص مدنيين، وإصابة 33 شخصًا. |
|
10 |
07/07 |
" " " |
تدمير ما أعيد تأهيله. |
||
11 |
21/07 |
الحديدة: منشآت الميناء ومعداته. |
" " " |
||
12 |
17/08 |
غارات جوية وبحرية. |
صنعاء: محطتا كهرباء ذَهْبان وحِزْيَز. |
إخراج المولدات من الخدمة. |
|
13 |
24/08 |
صنعاء: منشآت عسكرية جوار دار الرئاسة، ومحطات حكومية للكهرباء والوقود. |
تدمير كلي، ومقتل عدد من المدنيين. |
||
14 |
28/08 |
غارة جوية وبحرية. |
صنعاء: مقر سرِّي لاجتماعات حكومة الحوثيين. |
مقتل رئيس حكومة الحوثيين و11 شخصًا (وزراء وموظفين). |
|
15 |
10/09 |
غارات جوية. |
صنعاء: مقر دائرة التوجيه المعنوي للجيش، ومجمع وزارة الدفاع، ومقر رئاسة الأركان، ومحطة حكومية للوقود. الجوف: المجمع الحكومي، وفرعَا البنك المركزي والمالية. |
صنعاء: تدمير شامل للأعيان المستهدفة، ومقتل 28 شخصًا، وإصابة أزيد من 113 شخصًا. الجوف: مقتل 7 أشخاص، بينهم مدير فرع البنك، وقائد المنطقة العسكرية الخامسة، وإصابة 18 شخصًا. |
المصدر: إعداد الباحث
ثانيًا: تحولات الهجمات ودلالاتها
1- التحولات التي طرأت على الهجمات
أ- أولوية الاستهداف
تركَّزت الضربات الإسرائيلية بدايةً على الأصول الاقتصادية التي تُعد مصادر رئيسية لتمويل الحوثيين وفق الرواية الإسرائيلية. غير أن هجمات 28 أغسطس/آب 2025 مثَّلت نقطة تحول بارزة؛ إذ استهدفت الجسد السياسي التنفيذي للجماعة من خلال ضرب مقر الحكومة غير المعترف بها، وأسفرت عن مقتل رئيسها وأحد عشر من الوزراء والموظفين رفيعي المستوى. وإذا افترضنا -كما تشير بعض التحليلات- أن هذه الحكومة ليست سوى واجهة لحكومة ظل، فإن توجيه الضربات بهذا الشكل يعكس إصرار إسرائيل على ملاحقة القيادة العليا، بما في ذلك زعيم الجماعة، عبد الملك الحوثي.
كما أظهرت هجمات 10 سبتمبر/أيلول 2025 اتساع دائرة الأهداف لتشمل الجهاز الإعلامي العسكري (دائرة التوجيه المعنوي)، ومراكز سياسية ومالية وعسكرية، مثلما جرى في مدينة الحزم (الجوف) التي تقع على خط إمداد إستراتيجي يُعتقد أنه يُستخدم في عمليات التهريب الممتدة من شمال بحر العرب مرورًا بسلطنة عمان.
ب- وسائل الاستهداف
اعتمدت إسرائيل في البداية على الطائرات المقاتلة من طراز "إف-15" و"إف-35"، بفضل قدراتها على الوصول لمسافات تصل إلى 2000 كلم وقدرة "إف-35" على التخفي والمناورة الرادارية. وفي 9 يونيو/حزيران 2025، دخل الأسطول البحري الإسرائيلي المتمركز شمال البحر الأحمر على خط العمليات؛ حيث شنَّ هجمات استهدفت موانئ الحديدة. تكرر هذا الأسلوب في 17 و24 أغسطس/آب، فيما شهد يوم 28 من الشهر نفسه استخدامًا مشتركًا للقوات الجوية والبحرية معًا.
هذا التحول يشير إلى رغبة إسرائيل في توزيع الأعباء بين مختلف أذرع جيشها، خصوصًا أن قواتها الجوية منشغلة بجبهات أخرى في غزة ولبنان وإيران. كما أن اللجوء إلى القدرات البحرية يقلِّل كلفة العمليات نظرًا إلى قرب تموضع السفن الإسرائيلية من مسرح العمليات في اليمن. وفضلًا عن ذلك، يوفر هذا الاستخدام فرصًا لاختبار القدرات القتالية البحرية وتطوير خبرات عملية في الاتجاه الجنوبي، الذي يُعد من أبرز مصادر التهديدات المحتملة لإسرائيل.
ج- المعلومات الاستخباراتية
أظهرت الضربات الأخيرة مستوى متقدمًا من الدقة؛ ما يوحي بوجود شبكة استخباراتية متعددة المستويات، محلية وإقليمية ودولية. لم يعد مصدر واحد كافيًا لتفسير النتائج المحققة. ومن أبرز التساؤلات التي أُثيرت عقب هجمات أغسطس/آب: هل نجحت إسرائيل في اختراق الحوثيين؟
أثارت هذه الفرضية جدلًا واسعًا، واستُحضرت تصريحات لعضو المجلس السياسي الأعلى للحوثيين، سلطان السامعي، في مايو/أيار 2024، حين قال: "نحن مخترقون من قِبل أجهزة دولية مخابراتية أميركية صهيونية"(9). هذا التصريح، إلى جانب دقة الاستهدافات، يعزز احتمال وصول الاختراق إلى مراكز قيادية سياسية وعسكرية وأمنية بارزة. ويُذكر أن نقاشات مشابهة طُرحت إبان الهجمات الأميركية-البريطانية المشتركة، في يناير/كانون الثاني 2024، والتي دمَّرت نحو 800 قطعة من الطائرات والزوارق غير المأهولة والصواريخ(10)، وكذلك الضربات الأميركية اللاحقة بين 15 مارس/آذار و6 مايو/أيار 2025.
ورغم هذه المؤشرات، تبقى القيادة العليا للحوثيين محصنة إلى حدٍّ كبير، بفضل منظومة أمنية صارمة وإجراءات وقائية مشددة(11). ويُذكر أن الأجهزة الأمنية الحوثية شَنَّت، في أغسطس/آب الماضي، حملة اعتقالات واسعة شملت عدة محافظات، وصولًا إلى مكتب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) بصنعاء حيث صودرت أصول وممتلكات موظفين(12).
2- الدلالات العسكرية والإستراتيجية
تُظهر المقارنة بين الجبهة اليمنية والجبهات الأخرى (غزة، لبنان، إيران) تباينًا في النهج الإسرائيلي. ففي الجبهات الثلاث الأولى كان التركيز على استهداف القيادات السياسية والعسكرية في أعلى الهرم قبل التوجه إلى البنى التحتية. أما في اليمن، فقد اتجهت إسرائيل أولًا إلى تدمير القواعد المادية والبنية الاقتصادية، ثم بدأت تدريجيًّا باستهداف القيادات التنفيذية، مع بقائها عاجزة حتى الآن عن الوصول إلى رأس الهرم القيادي.
هذا النمط يعكس رغبة إسرائيل في إضعاف القدرات المادية للحوثيين قبل توجيه ضربات نوعية ضد قياداتهم. ومن المرجح استمرار هذا المسار طالما امتلك الحوثيون قدرات على ضرب العمق الإسرائيلي عبر الطائرات الانقضاضية غير المأهولة أو الصواريخ الفرط صوتية والعنقودية.
وتتضاعف الضغوط على الحوثيين نتيجة استهداف شبكات مالية مرتبطة بقياداتهم من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل(14)، إضافة إلى احتمال حصول تل أبيب على معلومات استخباراتية من خصوم محليين للحوثيين(15). هذه العناصر مجتمعة تُبقي الباب مفتوحًا أمام تصعيد إسرائيلي متعدد المسارات يراوح بين ضرب البنية الاقتصادية، واستنزاف القدرات العسكرية، ومحاولات إضعاف البنية القيادية.
ثالثًا: الحدود المحلية للهجمات وتشابكها الإقليمي
من خلال العودة إلى تسلسل الأحداث يتضح أن أول هجوم للحوثيين على إسرائيل وقع في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بينما جاء أول رد إسرائيلي في 20 يوليو/تموز 2024. أي إن إسرائيل تغاضت نحو تسعة أشهر عن هجمات الحوثيين، قبل أن تغيِّر سياستها عقب حادثة اختراق طائرة غير مأهولة لأجواء تل أبيب وسقوطها على شقة سكنية أسفرت عن مقتل أحد السكان. منذ تلك اللحظة ارتبطت الاستجابة الإسرائيلية بشكل مباشر بحجم الأثر الذي تحدثه هجمات الحوثيين، وفق معادلة تراعي مستوى الضرر، وكلفة الرد، وقوة الردع.
خلال الفترة الممتدة من يوليو/تموز 2024 إلى سبتمبر/أيلول 2025، قابلت كل ضربة حوثية مؤثرة استجابة إسرائيلية واسعة النطاق. استهدفت هذه الردود القدرات العسكرية والأصول الاقتصادية للحوثيين، فأضعفت موانئ الحديدة الثلاثة، وأخرجت من الخدمة مصنعي الإسمنت في عمران وباجل وأربع محطات كهربائية، ودمَّرت نحو 38 صهريجًا لتخزين الوقود ومحطتين حكوميتين للتوزيع. كما عطَّلت نشاط النقل التجاري في مطار صنعاء، وأسفرت عن مقتل 11 من أعضاء حكومة الحوثيين غير المعترف بها، إلى جانب قادة عسكريين وأمنيين، فضلًا عن تخريب منشآت عسكرية وتدمير معدات وذخائر.
في ضوء هذه التطورات تتضح معالم التفاعل بين الطرفين ضمن معادلة الفعل ورد الفعل. فكلما واصل الحوثيون شن هجمات ذات أثر عميق داخل إسرائيل، ارتفع سقف الرد الإسرائيلي باتجاه استهداف الدوائر القيادية وتوسيع دائرة الضربات لتشمل بنى تحتية حساسة. أما قرار الحوثيين بمواصلة عملياتهم فيبقى مرهونًا باستمرار العدوان الإسرائيلي على غزة، حيث أعلنوا ربط وقف هجماتهم بوقف هذا العدوان.
إلى جانب هذه المعادلة المباشرة، يتسع المشهد ليشمل أبعادًا إقليمية أكثر تعقيدًا. فاندلاع مواجهة مفتوحة بين إيران وإسرائيل يظل احتمالًا قائمًا، لاسيما في ظل التوتر المرتبط بالملف النووي الإيراني. في حال تحقق هذا السيناريو يُرجَّح أن ينخرط الحوثيون بفاعلية أكبر، التزامًا بتحالفهم الإستراتيجي مع إيران، التي تُعد الدولة الوحيدة التي تعترف بحكومتهم وتُبادلهم التمثيل الدبلوماسي. هذا البعد يفسر ضراوة الضربات الإسرائيلية وتطور وسائلها وأهدافها.
كما أن استمرار حزب الله في الاحتفاظ بسلاحه ورفض تمكين الجيش اللبناني من مناطق نفوذه قد يدفع إسرائيل إلى تكثيف هجماتها ضده. وفي هذه الحالة يمكن أن يضاعف الحوثيون عملياتهم باعتبارها دعمًا لحزب الله وغزة، انطلاقًا من الروابط العقدية والبراغماتية التي تجمعهم بالحزب. وفي الوقت نفسه يبقى احتمال تشكيل تحالف عسكري تقوده قوى حليفة لإسرائيل قائمًا، خاصة أن تل أبيب أثارت هذه الفكرة عام 2024 قبل أن تعود مؤخرًا للتأكيد على أن مواجهة الحوثيين أصبحت قضية أمن عالمي(16). في حال تحقق هذا السيناريو ستضطلع إسرائيل بدور محوري غير معلن في عمليات التحالف، وهو ما يعكس توجهها نحو تدويل المواجهة ضد الحوثيين.
خاتمة
تشير الدلالات العسكرية والإستراتيجية إلى أنَّ الضربات الإسرائيلية ضد الحوثيين جاءت بوصفها ردًّا مباشرًا على الهجمات التي أصابت العمق الإسرائيلي وأحدثت خسائر مادية واقتصادية وأثرًا نفسيًّا ملموسًا. لكن هذه الاستجابة تجاوزت الأطر التقليدية لمفاهيم الردع والدفاع والوقاية، لتقترب من منطق "التدمير الشامل". فقد انتقلت من استهداف البنى التحتية الإستراتيجية إلى محاولة النيل من القيادة السياسية للجماعة، وتوسعت من المجال الجوي إلى المجال البحري، بما يعكس مسعى لدمج القدرات عبر أكثر من ساحة عمليات.
في هذا السياق، برز تطور ملحوظ في القدرات الاستخباراتية، استند إلى مصادر محلية وإقليمية ودولية؛ ما أتاح لإسرائيل مستوى أعلى من الدقة والتخطيط. كما تحمل هذه الضربات أبعادًا استباقية، إذ يبدو أنها تُستخدم أداةً لتهيئة الساحة لمواجهة محتملة مع إيران إذا تعثرت المفاوضات بشأن برنامجها النووي.
تتحدد حدود التصعيد الإسرائيلي بعاملين متداخلين: الأول هو استمرار الحوثيين في استهداف العمق الإسرائيلي أو توقفهم، وهو عامل يرتبط مباشرة بالحرب على غزة؛ والثاني هو تطور البيئة الإقليمية باتجاه اندلاع مواجهة جديدة بين إسرائيل وإيران، أو نجاح تل أبيب في الدفع نحو تشكيل تحالف دولي لمواجهة الحوثيين، تضطلع فيه بدور غير معلن. في جميع الحالات، يبدو أن مسار هذه المواجهة يتجاوز البعد الثنائي الإسرائيلي-الحوثي ليشكل جزءًا من إعادة تشكيل معادلات القوة في الإقليم بأسره.
(1) علي الذهب، "اليمن في الطوفان: مشاركة الحوثيين في إسناد غزة والعسكرة الأجنبية في البحر الأحمر"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 3 ديسمبر/كانون الأول 2024، (تاريخ الدخول: 7 سبتمبر/أيلول 2025)، https://bitly.cx/lRHc
(2) "التقرير النهائي لفريق الخبراء المعني باليمن المنشأ عملًا بقرار مجلس الأمن 2041 (2014)"، مجلس الأمن، 11 أكتوبر/تشرين الأول 2024، ص38.
(3) "صراع الإسمنت يحتدم بين قيادات انقلابيي اليمن"، الشرق الأوسط، 14 يوليو/تموز 2022، (تاريخ الدخول: 3 سبتمبر/أيلول 2025)، https://bitly.cx/4BTTg
وانظر أيضًا: "مصنع أسمنت عمران على خطى التطوير والتحديث"، 26 سبتمبر، 18 يونيو/حزيران 2023، (تاريخ الدخول: 3 سبتمبر/أيلول 2025)، https://bitly.cx/eTmQu
(4) "التقرير النهائي لفريق الخبراء المعني باليمن المنشأ عملًا بقرار مجلس الأمن 2041 (2014)"، مجلس الأمن، 11 أكتوبر/تشرين الأول 2024، ص9.
(5) "أول هجوم عبر البحر.. إسرائيل تقصف مواقع للحوثيين في الحديدة اليمنية"، الشرق للأخبار، 10 يونيو/حزيران 2025، (تاريخ الدخول: 5 سبتمبر/أيلول 2025)، https://bitly.cx/D4PiE
(6) "الحوثيون يكشفون خسائر الغارات الإسرائيلية على موانئ الحديدة"، الجزيرة نت، 22 ديسمبر/كانون الأول 2024، (تاريخ الدخول: 6 سبتمبر/أيلول 2025)، https://bitly.cx/2sfRc
(7) "الشايف للمسيرة: خسائر العدوان الصهيوني على مطار صنعاء بلغت 500 مليون دولار"، المسيرة، 7 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 6 سبتمبر/أيلول 2025)، https://bitly.cx/1bh05
(8) "الحوثيون يكشفون خسائر الغارات الإسرائيلية على موانئ الحديدة"، الجزيرة نت، 22 ديسمبر/كانون الأول 2024، (تاريخ الدخول: 6 سبتمبر/أيلول 2025)، https://bitly.cx/2sfRc
وانظر أيضًا:
"Houthis strike back after Israeli attacks on Yemen ports," RTE, 7 July 2025, (accessed September 10, 2025), https://bitly.cx/pgjC
(9) "برنامج قابل للنقاش، الفريق سلطان السامعي، عضو المجلس السياسي الأعلى"، قناة اليمن اليوم (يوتيوب)، 31 مايو/أيار 2024، (تاريخ المشاهدة: 5 سبتمبر/أيلول 2025)، https://bitly.cx/LeFir
(10) "التقرير النهائي لفريق الخبراء المعني باليمن المنشأ عملًا بقرار مجلس الأمن 2041 (2014)"، مجلس الأمن، 11 أكتوبر/تشرين الأول 2024، ص17–18.
(11) "السيد القائد: اعتقال شبكة التجسس البريطانية هذا الأسبوع إنجاز مهم وفشل كبير للأعداء"، قناة المسيرة، منصة إكس، 9 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 4 سبتمبر/أيلول 2025)، https://bitly.cx/2mtA6
(12) "بيان صادر عن المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى اليمن، هانس غروندبرغ، بشأن الاعتقالات التعسفية لموظفي الأمم المتحدة من قبل أنصار الله"، مكتب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لليمن، 31 أغسطس/آب 2025، (تاريخ الدخول: 3 سبتمبر/أيلول 2025)، https://bitly.cx/rYNn
(13) الجدول الوارد في متن الدراسة حول "الهجمات الإسرائيلية على الحوثيين (20 يوليو/تموز 2024- 10 سبتمبر/أيلول 2025)"، إعداد الباحث.
(14) “Ansarullah (Houthis) Financial Disruption,” Rewards for Justice, (accessed September 2, 2025), https://bitly.cx/PFJ5
(15) "السيد القائد: اعتقال شبكة التجسس البريطانية هذا الأسبوع إنجاز مهم وفشل كبير للأعداء"، قناة المسيرة، مرجع سابق.
(16) "إسرائيل تسعى لحشد تحالف دولي لمهاجمة الحوثيين"، موقع 24، 11 يوليو/تموز 2025، (تاريخ الدخول: 5 سبتمبر/أيلول 2025)، https://bitly.cx/q0bY3