عقلانية اللاعقلانية نظرية "الرجل المجنون" في المفاوضات الدولية

تقدم هذه الورقة تحليلًا لنظرية "الرجل المجنون" في المفاوضات الدولية. فتتتبَّع أصولها الفكرية وترصد تاريخها وتطبيقها النموذجي وتفكِّك منطقها من خلال الكشف عن قصورها وما تنطوي عليه من مخاطر. وتخلص إلى أنها، على الرغم من جاذبيتها الفكرية، تظل مناورة معيبة إستراتيجيًّا ومحفوفة بالمخاطر الأخلاقية.
(الجزيرة)

مقدمة: الجاذبية المستمرة للجنون الإستراتيجي

تكمن المفارقة المركزية لنظرية "الرجل المجنون" في التوظيف المتعمد والمحسوب للاعقلانية بهدف تحقيق أهداف جيوسياسية عقلانية(1). في هذا الإطار، لا ينبغي التعامل مع السلوكيات المندرجة تحت هذه النظرية على أنها علامة على عدم استقرار حقيقي، وإنما كإستراتيجية سيكولوجية عالية المخاطر في التفاوض. تفترض النظرية أن المفاوِض الذي يُظهر تقلبًا حادًّا واستعدادًا لاتخاذ إجراءات قد تكون مدمرة للذات وللآخرين يمكنه أن يخيف الخصوم ويدفعهم لتقديم تنازلات كانوا سيرفضونها في الظروف العادية.(2)

لهذه النظرية جذور فكرية تمتد من فلسفات فن الحكم في عصر النهضة إلى تدوينها الرسمي خلال المواجهة النووية في الحرب الباردة. ولعل أول إشارة موثقة لها كانت ملاحظة نيكولو مكيافيلي، عام 1517، بأنه "من الحكمة أحيانًا محاكاة الجنون"(3). وقد ارتبطت النظرية بأشهر ممارسيها، الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، وشهدت مؤخرًا عودة للظهور في تحليلات النهج التفاوضي لقادة مثل دونالد ترامب؛ ما يثبت أهميتها المستمرة في الخطاب الدبلوماسي.

تجادل هذه الورقة بأنه على الرغم من استمراريتها في الممارسة والتعاملات الدولية، فإن نظرية "الرجل المجنون" إستراتيجية عالية المخاطر ومنخفضة المكاسب؛ حيث يتم إبطال جاذبيتها النظرية باستمرار بسبب عدم فاعليتها التاريخية، وعيوبها الهيكلية، ومخاطرها الأخلاقية العميقة. تنبع الإخفاقات الأساسية لهذه الإستراتيجية من معضلتين لا يمكن تجنبهما: صعوبة الحفاظ على أداء موثوق به للاعقلانية، وعدم قدرة "الرجل المجنون" على تقديم التزام موثوق به بالسلام؛ ما يزيل حافز الخصم لتقديم تنازلات.(4)

إن الافتتان المستمر بنظرية "الرجل المجنون"، على الرغم من إخفاقاتها الموثقة، يشير إلى أنها تروق لرغبة المفاوض في إيجاد "حل سحري" أو طريق مختصرة لتحقيق أهدافه بالقوة القسرية أكثر من كونها تستند إلى منطق إستراتيجي سليم. ويعكس اعتقادًا في قدرة الإرادة الفردية على تجاوز الحقائق الهيكلية في السياسة الدولية. يُظهر السجل التاريخي، وخاصة حالة نيكسون، أن النظرية لم تنجح(5). وتشير الانتقادات الأكاديمية إلى عيوب منطقية جوهرية، مثل مشاكل الالتزام والمصداقية. على الرغم من ذلك، فقد استخدم قادة معاصرون، مثل ترامب وبوتين، هذه الإستراتيجية صراحةً أو جرى تحليل منهجهم التفاوضي من خلالها(6). وبالتالي، فإن استمرارية النظرية لا ترجع إلى فاعليتها المثبتة؛ ما يدفع للبحث عن تجذرها في شيء آخر. إن فكرة إخافة الخصم وإجباره على الخضوع من خلال قوة الشخصية وحدها هي فكرة جذابة نفسيًّا، خاصة للقادة ذوي السمات النرجسية الذين يتوقون إلى السيطرة والهيمنة(7). وهذا يشير إلى أن النظرية غالبًا ما تكون مرتبطة بسيكولوجية المفاوض أكثر من كونها حسابًا إستراتيجيًّا موضوعيًّا.

الأسس النظرية: من مكيافيلي إلى شيلينغ

يبدأ التسلسل الفكري لنظرية "الرجل المجنون" مع مكيافيلي، الذي أسس للفكرة الجوهرية المتمثلة في الجنون المصطنع كأداة من أدوات فن الحكم لخلق حالة من عدم اليقين وردع الخصوم. ثم تحولت هذه الحكمة، التي جاءت من عصر النهضة، إلى مفهوم أساسي في الفكر الإستراتيجي للحرب الباردة. يمكن القول: إن نظرية الرجل المجنون هي في الأساس نتاج العصر النووي في منتصف القرن العشرين، حين خلقت القدرة على التدمير المتبادل المؤكد معضلة إستراتيجية عميقة: كيف يمكن جعل التهديدات ذات مصداقية عندما يكون تنفيذها بمنزلة انتحار؟

دفعت هذه المعضلة منظِّرين مثل دانيال إلسبيرغ، والحائز على جائزة نوبل، توماس شيلينغ، إلى استكشاف القيمة الإستراتيجية للاعقلانية الظاهرة. فقد لاحظ شيلينغ أنه في حالات الصراع، ليس من "المزايا العالية... أن تكون عقلانيًّا بشكل لا يقبل الشك"(8). المنطق الأساسي، كما عبَّر عنه هؤلاء المفكرون، هو أنه إذا اعتقد الخصم أن القائد "مجنون" بما يكفي للمخاطرة بنتيجة كارثية، فإن التهديد بالتصعيد يصبح أكثر مصداقية، ويغيِّر ديناميكية المساومة(9). هذا هو مفهوم "عقلانية اللاعقلانية" أو صنع "التهديد الذي يترك شيئًا للصدفة"(10). وقد أسهم عالم المستقبليات، هيرمان كان، في هذا الخط الفكري، بحجة أن "الظهور بمظهر مجنون بعض الشيء" يمكن أن يكون وسيلة فعالة لردع الخصوم.(11)

تمثل نظرية "الرجل المجنون" محاولة للتحايل على منطق نظرية الألعاب، التي تفترض نماذجها القياسية، مثل معضلة السجين، وجود فاعلين عقلانيين يسعون إلى تعظيم مكاسبهم. ففي ظل الدمار المتبادل المؤكد، لن يبدأ فاعل عقلاني تبادلًا نوويًّا، لأن النتيجة هي الفناء المتبادل؛ ما يجعل التهديدات النووية غير ذات مصداقية. في المقابل، تقدم نظرية "الرجل المجنون" متغيرًا جديدًا يشير إلى أن المفاوض قد لا يلتزم بقواعد العقلانية(12). وهذا يغيِّر حسابات الخصم، الذي ينبغي عليه أن يأخذ في الاعتبار احتمالًا غير صفري لحدوث عمل "جنوني"؛ ما يجعل تقديم تنازل (خسارة صغيرة) أفضل من نتيجة كارثية محتملة (خسارة فادحة)(13). لذلك، فإن هذه النظرية ليست مجرد تكتيك تفاوضي، بل هي إستراتيجية مصممة للتلاعب بالافتراضات الأساسية التي يقوم عليها التفاعل التفاوضي، وتسعى إلى خلق نفوذ عن طريق إدخال عدم اليقين الجذري في إطار عقلاني.

نموذج تطبيقي أول: نيكسون وفيتنام وعملية "الرمح العملاق"

ترتبط أولى الحالات التاريخية التي طُبقت فيها نظرية "الرجل المجنون" بمحاولة ريتشارد نيكسون الضغط على فيتنام الشمالية والاتحاد السوفيتي. كانت تلك مناورة إستراتيجية مخططة بدقة تبنَّاها نيكسون متأثرًا بتصوره لنجاح أيزنهاور في سياسة حافة الهاوية خلال الحرب الكورية، ولكنها فشلت في النهاية. وقد أفصح نيكسون عن خطته لرئيس موظفيه، بوب هالدمان، قائلًا: "أسميها نظرية الرجل المجنون... أريد أن يعتقد الفيتناميون الشماليون أنني وصلت إلى النقطة التي قد أفعل فيها أي شيء لإنهاء الحرب"(14). وأوعز إلى مساعديه بـتسريب معلومات مفادها أنه مهووس بالشيوعية وأن يده على الزر النووي.

في أكتوبر/تشرين الأول 1969، جرى تنفيذ مجموعة إجراءات عسكرية كجزء من اختبار جاهزية هيئة الأركان الأميركية المشتركة، سُميت "عملية الرمح العملاق" (Giant Lance) وأخذت شكل إنذار نووي عالمي سري مصمم ليكتشفه السوفيت(15). تضمنت العملية وضع الجيش الأميركي في حالة تأهب قصوى لحرب عالمية، وبلغت ذروتها في استعراض للقوة حلَّقت خلاله 18 قاذفة قنابل من طراز B-52 مسلحة نوويًّا باتجاه المجال الجوي السوفيتي لمدة ثلاثة أيام. كان الهدف من ذلك إرسال إشارة إلى موسكو بأن "الرجل المجنون قد أُفلت عنانه"، على أمل أن يضغط السوفيت على هانوي للتفاوض(16).

على الرغم من المناورات العسكرية الدرامية، فشلت تلك الإستراتيجية في تحقيق أي تنازلات، واستمرت الحرب لأربع سنوات أخرى. تشير تحليلات المخابرات والروايات التاريخية إلى أن الاتحاد السوفيتي، إما لم يفهم الإشارة بالكامل أو لم يَخَفْ منها، فقد كان يعرف نيكسون من مسيرته الطويلة وعَدَّ أفعاله مبالغة استعراضية. شكَّل هذا الفشل منعرجًا أجبر إدارة نيكسون على التحول إلى "إستراتيجية المسار الطويل"، المتمثلة في "فيتنمة" الحرب وسحب القوات بعد "فترة لائقة"(17).

أوضح فشل نيكسون العيب الحاسم لهذه الدبلوماسية القسرية، المتمثل في الفجوة بين الرسالة التي يقصدها المرسل وتفسير المتلقي. فنظرية "الرجل المجنون" معرضة بشكل استثنائي لهذه المشكلة لأن إشاراتها، بحكم تصميمها، غامضة وغير تقليدية. فقد كان هدف نيكسون إرسال إشارة واضحة، وإن كانت مرعبة، إلى موسكو عن عدم القدرة على التنبؤ بأفعاله. كانت الإشارة معقدة وسرية، وتضمنت تنبيهات عسكرية كان من المفترض أن يتم اكتشافها، ولكن لا تبدو تهديدية بشكل علني. ويظهر السجل التاريخي أن السوفيت لم يتفاعلوا كما كان مأمولًا، وربما لم يفهموا حتى القصد المحدد للرسالة فيما يتعلق بفيتنام(18). وهناك تفسير آخر محتمل وهو أن الإنذار كان يهدف في الواقع إلى ردع ضربة سوفيتية على الصين. هذا الغموض متأصل في إستراتيجية "الرجل المجنون" الذي يتصرف بشكل غير منتظم. فكيف يمكن للخصم التمييز بين إشارة قسرية موجهة نحو الصين، أو أخرى نحو فيتنام؟ لذلك، فإن طبيعة "التصرف بجنون" تلوث قناة الاتصال؛ ما يجعل من المحتمل جدًّا أن تضيع الرسالة القسرية المقصودة في الضوضاء، أو يساء تفسيرها، أو يتم تجاهلها باعتبارها خدعة. وهذا ضعف هيكلي أساسي في النظرية، وليس مجرد فشل في التنفيذ.

نموذج تطبيقي ثان: ترامب بين الحروب التجارية والمواقف الجيوسياسية

استخدم ترامب ومستشاروه نظرية "الرجل المجنون" في المفاوضات بشأن التجارة والتعريفات الجمركية بشكل صريح. ورد ذلك، على سبيل المثال، في مفاوضاته مع كوريا الجنوبية، حين أبلغ كبير مفاوضيه التجاريين بأن يخبر الكوريين بأن "هذا الرجل مجنون لدرجة أنه قد ينسحب في أي لحظة"(19). فقد تضمنت إستراتيجيته استخدام التهديدات بفرض تعريفات جمركية ضخمة لانتزاع تنازلات من الحلفاء (الاتحاد الأوروبي، كندا، كوريا الجنوبية، اليابان) والخصوم (الصين) على حدٍّ سواء.

ورغم أن هذا النهج أسفر عن بعض التنازلات الطفيفة قصيرة المدى، مثل تعديلات متواضعة على اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وكوريا، فقد جاء في عمومه بتكلفة باهظة(20). لقد خلق حالة هائلة من عدم اليقين، وأغضب حلفاء رئيسيين، وغالبًا ما أدى إلى اتخاذ إجراءات وفرض تعريفات انتقامية أضرَّت بالاقتصاد الأميركي. ومن المرجح أن الضرر طويل الأمد للسمعة وتآكل الثقة سيفوق المكاسب التكتيكية.

شهدت الأشهر الأولى من ولاية ترامب الثانية استمرارًا وتكثيفًا لاستخدام عدم القدرة على التنبؤ أداة دبلوماسية مركزية؛ ما يعكس تبنيًا أكثر جرأة لنظرية "الرجل المجنون"(21). وتميزت هذه الفترة بتحركات تهدف إلى إظهار أن جميع الخيارات، حتى تلك التي تبدو نظريًّا غير واردة، مطروحة على الطاولة. وشملت المظاهر البارزة تهديدات بضم غرينلاند، واقتراحات بأن تصبح كندا الولاية الأميركية الحادية والخمسين، وفرض تعريفات باهظة على عشرات الدول.

امتدت الإستراتيجية إلى ما هو أبعد من الخطاب، لتشمل إجراءات سياسية ملموسة. ففي تعاطي ترامب مع أوكرانيا، هدَّد بسحب الدعم العسكري. وبالمثل، أدَّت الضربات المفاجئة على المنشآت النووية الإيرانية بعد فترة وجيزة من الدعوة العلنية للمفاوضات إلى تعزيز مصداقية خطابه العدائي؛ ما أربك الحلفاء والخصوم على حدٍّ سواء.

كانت نتائج تلك السياسة مختلطة. فعلى المدى القصير، أدَّت هذه التقلبات إلى تحقيق بعض المكاسب، لاسيما مع الحلفاء. فقد أدى الضغط على منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى موافقة الأعضاء على زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي؛ ما يشير إلى أن التقلبات يمكن أن تحقق انتصارات سريعة. ومع ذلك، فإن هذه الإستراتيجية لها حدودها؛ حيث أثبت خصوم، مثل الرئيسين الروسي والصيني، صلابتهم أمام تقلبات ترامب. أما على المدى الطويل، فستؤدي هذه الإستراتيجية إلى تآكل الثقة في المؤسسات العالمية والتحالفات الأميركية. وقد بدأ الحلفاء الرئيسيون، مثل فرنسا وألمانيا وكندا، في تنويع تشبيكاتهم الدبلوماسية والأمنية بعيدًا عن الولايات المتحدة.

إن نهج التناقض المستمر يقوض الثقة في المفاوضات ويجعل الأطراف الأخرى أقل ميلًا للدخول في محادثات بحسن نية. وفي حين أظهرت ولاية ترامب الثانية أن نظرية "الرجل المجنون" يمكن أن تحقق مكاسب تكتيكية، إلا أنها أكدت أيضًا تكلفتها الإستراتيجية الباهظة.

جدير بالذكر أن سياسة حافة الهاوية الجيوسياسية المعاصرة مارسها سياسيون آخرون غير ترامب. ويمكن اعتبار تهديدات فلاديمير بوتين النووية المستترة والعلنية أحيانًا في سياق حرب أوكرانيا شكلًا من أشكال سياسة حافة الهاوية للرجل المجنون، المصمَّمة لردع تدخل أعمق من قِبَل الناتو(22)، ومع ذلك، لم تحقق هدفها الأساسي المتمثل في وقف المساعدات الغربية، بل أدت، بدلًا من ذلك، إلى تعزيز تماسك حلف الناتو. كذلك، لطالما نُظر إلى سلالة كيم التي تحكم كوريا الشمالية على أنها فاعل "مجنون"، ومع ذلك فإن تصرفاتها غالبًا ما تعكس حسابات عقلانية للغاية تهدف إلى بقاء النظام(23). إن سياسة حافة الهاوية التي يتبعها قادة كوريا الشمالية أداة لجذب الانتباه والحصول على تنازلات، رغم أنها في المحصلة تعزز عزلتهم.

لقد أدت العولمة إلى تضخيم العواقب السلبية لنظرية "الرجل المجنون". ففي خضم الاقتصاد العالمي المترابط، أصبحت هذه النظرية أقل فاعلية مما كانت عليه خلال الحرب الباردة. إن الأذى الذاتي المطلوب لجعل التهديدات ذات مصداقية، مثل التعريفات الجمركية التي تضر بالمستهلكين المحليين، أكثر فورية ووضوحًا، والضرر الذي يلحق بسلاسل التوريد المعقدة والتحالفات الدبلوماسية أوسع نطاقًا. لقد كانت مناورة نيكسون في المجال العسكري الأمني في المقام الأول، مع تداعيات اقتصادية محدودة نسبيًّا، أما ترامب فقد استخدم هذه النظرية أساسًا في المجال الاقتصادي، وتحديدًا في التجارة والتعريفات. في سياق الاقتصاد المعولم، تكون التأثيرات السلبية للتعريفات الجمركية فورية وقابلة للقياس على المستهلكين والشركات المحلية، ويكون التهديد بـ"الجنون الاقتصادي" مكلفًا وغير شعبي محليًّا(24). علاوة على ذلك، فإن إبعاد الحلفاء في النزاعات التجارية له تداعيات على التعاون الأمني والدعم الدبلوماسي واستقرار النظام الدولي على المدى المتوسط والبعيد. إن بنية العالم الحديث ذاتها، بترابطها الاقتصادي والسياسي، ترفع "تكلفة الجنون" على المستخدم؛ ما يجعل هذه الإستراتيجية أكثر إضرارًا بالذات من أي وقت مضى.

نظرية "الرجل المجنون" على محك النقد

توفر المقاربات النقدية التي فكَّكَت نظرية "الرجل المجنون" إطارًا مهمًّا لفهم إمكاناتها المحدودة والمشروطة للغاية، وتحدد أوجه القصور الأساسية فيها دون رفضها بالكامل. ومن أبرز المشكلات التي تقف عندها تلك المقاربات:

- مشكلة المصداقية: إذ يصعب تزييف الجنون بشكل مقنع. ومن المرجح أن يكتشف الخصوم، وخاصة من ذوي الخبرة ومستخدمي أدوات التحليل المعمق، تمثيل الدور وما ينطوي عليه من خدعة، كما يُفتَرَض أن السوفيت فعلوا مع نيكسون. وقد يعترف المفاوض نفسه باستخدام النظرية، كما يفعل ترامب؛ ما يجعلها ذات نتائج عكسية بحكم تعريفها.

- مشكلة الالتزام: وهنا يكمن الخلل الأساسي في النظرية. يتطلب الإكراه الناجح تهديدًا ذا مصداقية ("إذا لم تتنازل، سأتحرك")، وأيضًا ضمانًا ذا مصداقية ("إذا تنازلت، فلن أتحرك"). ولكن، لا يمكن لفاعل يُنظر إليه على أنه غير عقلاني حقًّا أن يقدم هذا الضمان بمصداقية. لماذا يقدم الخصم تنازلًا إذا كان يعتقد أن "الرجل المجنون" قد يهاجمه على أية حال؟ فهذه المفارقة تزيل الحافز على الامتثال خوفًا من التهديد أو ثقة في ضمان موعود.(25)

- مشكلة تصنيف الجنون

تجادل عالمة السياسة، روزان مكمانوس، بأن "الجنون" ليس صنفًا واحدًا وأن فاعليته تعتمد على نوع الجنون المتصور وعلى البعد الذي يغلب عليه؛ فقد يغلب عليه بُعد العقلانية مقابل التفضيلات، فيكون السؤال: هل يُنظر إلى القائد على أنه (أ) عقلاني ولكن لديه أهداف متطرفة (على سبيل المثال، يقدر قطعة أرض أكثر من اقتصاده)، أم (ب) ينحرف حقًّا عن عملية صنع القرار العقلانية القائمة على العواقب، وقد يغلب عليه السياق الظرفي مقابل الموقف الشخصي؟ عندئذ يكون السؤال: هل يُنظر إلى "جنون" القائد على أنه (أ) خاص بقضية معينة (ظرفي)، أم (ب) جزء أساسي من شخصيته ينطبق على كل شيء (موقفي) (26)؟

ترى مكمانوس أن نوع الجنون الوحيد الذي قد يكون فعالًا هو التطرف الظرفي؛ حيث يمكن للمفاوض الذي يُنظر إليه على أنه غير عقلاني وملتزم جدًّا بقضية محددة، ولكنه عقلاني في نواحٍ أخرى، أن يوجه تهديدًا ذا مصداقية بشأن تلك القضية دون إثارة مشكلة الالتزام في مجالات أخرى. أما جميع الأشكال الأخرى، وخاصة الجنون المرتبط بالموقف، فهي ضارة بشكل عام.

- مشكلة التكاليف المحلية

تترتب على هذه الإستراتيجية أيضًا تكاليف سياسية محلية كبيرة. فمن المرجح أن يواجه المفاوض الذي يُنظر إليه على أنه "مجنون" شكوكًا من قبل جمهوره؛ ما قد يقوِّض رأسماله السياسي، وبالتالي، نفوذه في المساومة مع القادة الأجانب الذين يشككون في قدرته على الحفاظ على مصداقية التهديد(27).

أخلاقيات الهاوية: الخداع والتهديد و"الأيدي القذرة"

ثمة أسئلة أخلاقية وفلسفية عميقة، تتجاوز التحليل الإستراتيجي، تثيرها نظرية "الرجل المجنون"، نظرًا لما تنطوي عليه من خداع وتهديد بالعنف الكارثي؛ ما يجعل منها حالة متطرفة من مشكلة "الأيدي القذرة" في السياسة(28).

لا شك أن الخداع عنصر قديم ومثير للجدل في الدبلوماسية. ومع ذلك، فإن نظرية "الرجل المجنون" ليست مجرد كذبة بسيطة، بل هي خداع يوهم بالعقلانية ولكنه يفسح المجال لسيطرة الفرد. من منظور العواقب، قد يجادل البعض بأنه إذا كان التظاهر بالجنون يمنع حربًا أو يحقق مصلحة وطنية حيوية، فإن الغايات يمكن أن تبرر الوسائل. ولكن التجربة التاريخية تضعف هذه الحجة بسبب عدم فاعليتها. فالعواقب المرجوة نادرًا ما تتحقق، بينما الضرر الناتج عن سوء التقدير والتصعيد العرضي أو التهديد بالكارثة، مثل الحرب النووية، هائل بكل المقاييس.

من منظور فلسفة الأخلاق الكانطية، التي تركز على أخلاقية الفعل نفسه، بغضِّ النظر عن عواقبه، فإن الكذب والتظاهر والتهديد بالعنف الجماعي تُعد انتهاكات للواجبات الأخلاقية. لذلك، يثير هذا السلوك تساؤلات حول ما إذا كان يمكن تبرير تهديد مفاوض بفعل يكون من غير اللائق أخلاقيًّا تنفيذه بالفعل.

تلقي عدسة "الأيدي القذرة" الكلاسيكية في الممارسة السياسية المزيد من الضوء على نظرية "الرجل المجنون". فالمفاوض الذي يستخدم هذه النظرية عليه أن "يلوِّث يديه" بالانخراط في خداع عميق والتهديد بأعمال غير أخلاقية من أجل المصلحة المفترضة للدولة. ولكن الخطر الأكبر يكمن في أن الخط الفاصل بين محاكاة الجنون والسقوط في التهور يمكن أن يصبح غير واضح. لذلك، كثيرًا ما يخلق المفاوض وضعًا يفقد فيه السيطرة، ويجعل خطر الفشل مرتفعًا بشكل غير مقبول.

إن أخطر نتيجة طويلة الأمد لنظرية "الرجل المجنون" تتمثل في الضرر الذي تلحقه بنسيج الدبلوماسية نفسه. فالدبلوماسية تقوم على افتراض مشترك بالتصرف بعقلانية وإمكانية التواصل والتفاهم(29). أما نظرية "الرجل المجنون" فتشكِّل هجومًا مباشرًا على تلك المبادئ، لأنها تستبدل التقلب بالقدرة على التنبؤ، والتهديد والخداع بالتواصل العقلاني. وعندما تعتمد قوة كبرى هذه الإستراتيجية، فإنها تجعل من الممارسات المرتبطة بها سلوكًا طبيعيًّا. وقد تشعر الدول الأخرى بأنها مضطرة لتبني تكتيكات مماثلة للدفاع عن النفس؛ ما يؤدي إلى دوامة هبوط في المعايير الدبلوماسية. هذا التآكل في الثقة المتبادلة يجعل حل جميع المشاكل الدولية أكثر صعوبة ويسمم فضاء التعاون الدولي. لذلك، فإن المشكلة الأخلاقية لا تتعلق فقط بـ"الأيدي القذرة" لزعيم واحد، بل بالضرر المنهجي الذي تلحقه هذه الإستراتيجية بقدرة المجتمع الدولي على حل النزاعات سلميًّا.

خاتمة

لا شك أن إخافة الخصم وإجباره على الخضوع سياسة مغرية ولها جاذبية خاصة، ولكنها تتجاهل المنطق الأساسي للمساومة في العلاقات الدولية. إن العيوب الهيكلية لإستراتيجية التفاوض وفق نظرية "الرجل المجنون" تجعلها أداة غير موثوقة وخطيرة للغاية، وتضعها في تناقض مع إستراتيجيات التفاوض الأكثر استقرارًا وفاعلية في التاريخ. فبدلًا من الإكراه وسياسة حافة الهاوية، تعتمد الدبلوماسية الناجحة على بناء النفوذ من خلال بناء أفضل بديل ممكن عبر التفاوض(30)، والانخراط في المساومة القائمة على المصالح بدلًا من المساومة الموضعية(31)، وتعزيز نهج التعاون بالتركيز على حل المشكلات بدل تعقيدها. هذه الإستراتيجيات البديلة تبني الثقة وتخلق القيمة وتؤدي إلى اتفاقيات مستدامة، في حين أن نظرية "الرجل المجنون" تدمر الثقة، وتخاطر بسوء تقدير كارثي وتنتج، في أحسن الأحوال، انتصارات عابرة وغير مستقرة.

لقد أثبتت الخبرة المعاصرة أن القوة الحقيقية في التفاوض لا تأتي من ادعاء الجنون، بل من السعي الصبور والعقلاني لتفاهم يتجنب المخاطر ويحقق المصالح المشتركة.

References

(1) Gull Mohammad Wani, Madman Theory in International Relations, Greater Kashmir, 25 June 2025 (accessed September 3, 2025).

https://www.greaterkashmir.com/opinion/madman-theory-in-international-relations/

(2) بشار نرش، ترامب ونظرية "الرجل المجنون"، العربي الجديد، 20 فبراير/شباط 2025، (تاريخ الدخول 3 سبتمبر/أيلول 2025)،

https://www.alaraby.co.uk/opinion/%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A8-%D9%88%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AC%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%86%D9%88%D9%86

(3) Niccolò Machiavelli, Discourses on Livy, Book III, The University of Chicago Press, 1996, p. 213. 

(4) Roseanne W. McManus, Crazy Like a Fox? Are Leaders with Reputations for Madness More Successful at International Coercion?, British Journal of Political Science, Vol. 51, Issue 3, (July 2021), pp. 973-993.

(5) Samuel Seitz and Caitlin Talmadge, The Predictable Hazards of Unpredictability: Why Madman Behavior Doesn't Work, The Washington Quarterly, Vol. 43, No. 3, (Fall 2020), pp. 31-46.

(6) István Vass, Donald Trump and the Madman Theory, The Long Brief, 6 February 2025, (accessed September 3, 2025), https://longbrief.com/donald-trump-madman-theory-policy-united-states/

(7) Jeff Kimball, Nixon, Trump, and the Strange Career of the 'Madman Theory', History News Network, 15 October 2017, (accessed September 3, 2025)

https://www.historynewsnetwork.org/article/nixon-trump-and-the-strange-career-of-the-madman-t

(8) Ibid.

(9) Scott D. Sagan and Jeremi Suri, The Madman Nuclear Alert: Secrecy, Signalling, and Safety in October 1969, International Security, Vol. 27, No. 4, (Spring 2003), pp. 150-183.

(10) Ibid.

(11) Herman Kahn, Thinking About the Unthinkable, (New York, Horizon Press, 1962.

(12) Drew Calvert, Is an Unpredictable Leader Good for National Security?, Kellogg Insight, Kellogg School of Management, 19 June 2017, (accessed September 3, 2025)

https://insight.kellogg.northwestern.edu/article/is-an-unpredictable-leader-good-for-national-security

(13) Cornell Blogs, Madman Strategy and its Applications to Game Theory, Cornell University, 10 September 2017, (accessed September 3, 2025)

https://blogs.cornell.edu/info2040/2017/09/10/30860/

(14) H.R. Haldeman with Joseph DiMona, The Ends of Power, Times Books, 1978, pp. 82-83.

(15) Sagan and Suri, The Madman Nuclear Alert, Ibid.

(16) Russ Wellen, Nixon's 'Madman Theory' Was Not the Vietnam War's Only Test Case for Nuclear Weapons, Foreign Policy in Focus, 26 March 2013, (accessed September 3, 2025)

https://fpif.org/nixons_madman_theory_was_not_the_vietnam_wars_only_test_case_for_nuclear_weapons/

(17) Jeffrey Kimball and William Burr, Nixon's Nuclear Specter: The Secret Alert of 1969, Madman Diplomacy and the Vietnam War, University Press of Kansas, quoted in Nixon, Kissinger and the Madman Strategy during Vietnam War, National Security Archive, 29 May 2015, (accessed September 3, 2025)

https://nsarchive2.gwu.edu/nukevault/ebb517-Nixon-Kissinger-and-the-Madman-Strategy-during-Vietnam-War/

(18) Seitz and Talmadge, The Predictable Hazards of Unpredictability, Ibid.

(19) Daniel Drezner, Does the Madman Theory Actually Work?, The Fletcher School, Tufts University, 7 January 2025, (accessed September 3, 2025)

https://sites.tufts.edu/fletcherrussia/does-the-madman-theory-actually-work/

(20) Ibid.

(21) Tom Hayward, 'Madman Theory': President Trump's Volatility & Implications for Policymakers", Bloomsbury Intelligence and Security Institute, 21 July 2025, (accessed September 3, 2025)

https://bisi.org.uk/reports/president-donald-trump-signs-an-executive-order-on-the-administrations-tariff-plans-at-a-make-america-wealthy-again-event-wednesday-april-2-2025-in-the-white-house-rose-garden

(22) Brad Glosserman, There is no place for ‘madmen’ in international diplomacy: why Trump's approach to foreign policy could escalate global risks, The Japan Times, 15 January 2025.

(23) Ibid.

(24) Joshua A. Schwartz, Madman or Mad Genius? The International Benefits and Domestic Costs of the Madman Strategy, Security Studies, Volume 32, Issue 2, 2023.

(25) McManus, Crazy Like a Fox?, Ibid.

(26) Roseanne W. McManus, Revisiting the Madman Theory: Evaluating the Impact of Different Forms of Perceived Madness in Coercive Bargaining, Security Studies, Vol. 28, Issue 5, pp. 1-34.

(27) Schwartz, Madman or Mad Genius? Ibid.

(28) Corneliu Bjola, Secret Diplomacy and the 'Dirty Hand' Problem, E-International Relations, 2 May 2014, (accessed September 3, 2025)

https://www.e-ir.info/2014/05/02/secret-diplomacy-and-the-dirty-hand-problem/

(29) Roberto Toscano, The Ethics of Modern Diplomacy, in Ethics and International Affairs: Extent and Limits, (eds.) Jean-Marc Coicaud and Daniel Warner, The United Nations University, 2001, pp. 42-83.

(30) For the best alternative to a negotiated agreement (BATNA), see Roger Fisher, William Ury and Bruce Patton, Getting to Yes: Negotiating Agreement Without Giving In, Houghton Mifflin, 1991.

(31) PON Staff, Four Conflict Negotiation Strategies for Resolving Value-Based Disputes, Program on Negotiation at Harvard Law School, 28 May 2025, (accessed September 3, 2025)

https://www.pon.harvard.edu/daily/dispute-resolution/four-negotiation-strategies-for-resolving-values-based-disputes/