الجيل "زد" وإعادة تشكيل السلطة في إفريقيا: حالة مدغشقر

تُبرز حالة مدغشقر كيف يتحول استياء الجيل "زد" من الضغوط الاقتصادية والبطالة وضعف الخدمات إلى فعل سياسي جماعي قادر على تغيير موازين السلطة. تُظهر التجربة هشاشة الشرعية التقليدية وصعود أنماط تعبئة رقمية تعيد تشكيل علاقة الدولة بالمجتمع في إفريقيا اليوم.
تجمع يقوده جيل زد في شارع الاستقلال عقب أداء العقيد مايكل راندريانيرينا اليمين رئيسا لمدغشقر (رويترز).

شهدت مدغشقر، الدولة الواقعة قبالة الساحل الجنوبي الشرقي لإفريقيا، آخر انقلاباتها العسكرية في الفترة من 12 إلى 14 أكتوبر/تشرين الأول 2025، بعدما تمردت الوحدة العسكرية النخبوية -"فيلق الموظفين والخدمات الإدارية والفنية" ("كابست" Army Corps of Personnel and Administrative and Technical Services = CAPSAT)-، على الرئيس "أندريه راجولينا" وانضمت إلى الاحتجاجات الضخمة التي اجتاحت البلاد بقيادة الشباب تحت راية "الجيل "زد" مدغشقر"، ضد الحكومة(1).

وفي حين أن الاحتجاجات الشبابية انتهى بها المطاف إلى سيطرة الجيش على السلطة؛ فقد شهدت دول إفريقية أخرى، مثل المغرب(2) ونيجيريا وكينيا وأوغندا وغانا(3)، احتجاجات ومظاهرات مختلفة بين عامي 2024 و2025. وعليه، يحاول هذا المقال فهم هذه الحركات الشبابية المتصاعدة، وما الذي تؤشره حالة مدغشقر في ظل أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية الراهنة.

تحولات البنية الديمغرافية وتراجع العقد الاجتماعي في إفريقيا

تتباين اتجاهات أداء الحوكمة في الدول الإفريقية في السنوات الأخيرة؛ حيث يتأثر التقدم الملحوظ في التنمية الاقتصادية والبشرية بالتدهور الكبير في الحكم والأمن والاستقرار السياسي. وفي حين يُتوقَّع أن يتجاوز النمو الاقتصادي الإجمالي للقارة -في عام 2025 وما بعده- المتوسط العالمي، مدفوعًا بالأداء القوي في العديد من دول القارة وتنفيذ مبادرة "منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية"، مع وجود عدة دول -مثل بنين وساحل العاج وإثيوبيا ورواندا- من بين أسرع اقتصادات العالم نموًّا(4)؛ إلا أن هذا التقدم لا يكفي عمومًا لتحقيق الخفض الملموس في الفقر، وذلك بسبب استمرار ارتفاع مخاطر الديون (تستهلك مصروفات الفائدة حاليًّا حوالي 27.5% من إيرادات الحكومة في جميع أنحاء إفريقيا، ارتفاعًا من 19 في المئة في عام 2019)، إلى جانب الضعف الهيكلي(5).

وقد كشف مؤشر إبراهيم للحوكمة الإفريقية لعام 2024 عن تعثُّر التقدم العام في مجال الحوكمة، مع انخفاضات كبيرة في الأمن وسيادة القانون والمشاركة والحقوق والشمولية خلال العقد الماضي، مدفوعًا بتصاعد النزاعات وانعدام الأمن وتقلص المساحة الديمقراطية(6). ويعكس هذا التراجعَ الحاد في التصورات العامة للفرص الاقتصادية وتزايد استياء المواطنين من آلية عمل الديمقراطية، إضافة إلى تصاعد الاحتجاجات التي تتصدرها فئة "الجيل "زد" من السكان (وهم الأشخاص المولودون من عام 1997 إلى عام 2012) نتيجة شعورهم بانعدام مستقبل واعد لهم(7).

فمن ناحية، تتميز قارة إفريقيا بسكانها الأصغر سنًّا عالميًّا؛ حيث تقل أعمار أكثر من 60% منهم عن 25 عامًا(8)، وأكثر من 70% منهم عن 30 عامًا في بعض الدول. وفي حين يُمثل هذا النمو السكاني ثراءً وعائدًا ديمغرافيًّا للقارة، فإنه يزيد أيضًا من خطر عدم الاستقرار عند اقترانه بارتفاع معدلات البطالة التي تعدها النسبة الكبيرة من الشباب الأفارقة من أهم التحديات التي يجب على حكوماتهم معالجتها. ويؤكد على هذا أنه في حين يدخل ما بين 10 و12 مليون شاب سوق العمل الإفريقي سنويًّا، إلا أن الدول الإفريقية مجتمعةً لا تُوفر سوى 3.1 ملايين وظيفة رسمية بأجر كل سنة(9).

وقد كشفت الإحصاءات، بين عامي 2023 و2025، أن معدلات بطالة الشباب حادة بشكل خاص في إفريقيا الجنوبية وشرق إفريقيا وشمال إفريقيا. بل في جنوب إفريقيا، الدولة الأكثر تصنيعًا في القارة، تصل معدلات البطالة بين الشباب (15-24 سنة) إلى 62.2% في عام 2025، إلى جانب دول أخرى مثل أنغولا وكينيا والمغرب وغانا وتونس وغيرها من الدول ذات معدلات البطالة المرتفعة(10). وهذا الوضع يقوض تحقيق الاستقلال الاقتصادي للشباب، وتزيد احتمالية انخراطهم في العمل السياسي أو المشاركة في تأجيج الاضطرابات الاجتماعية أو الهجرة عن دولهم، كما هي الحال في دول مثل غانا وأوغندا ونيجيريا، وغيرها من الدول التي يشعر شبابها ذوو المستويات التعليمية المتقدمة والعالية بالإحباط الناتج عن طول مدة بطالتهم(11).

وهناك قضية أخرى متمثلة في التضخم وانخفاض قيمة العملة الوطنية وتفشي الفقر؛ مما فاقم الضغط الاقتصادي الذي يعانيه الشباب. وقد حذَّر بنك التنمية الإفريقي من أن ارتفاع تكلفة الطاقة والغذاء والسلع الأخرى، إلى جانب انخفاض قيمة العملات في دول مثل أنغولا وإثيوبيا وكينيا ونيجيريا، قد يُشعل فتيل اضطرابات اجتماعية وصراعات داخلية(12). ويدعم هذا الموقف احتجاجات الشباب الكينيين، في يونيو/حزيران 2024، ضد مشروع قانون ماليٍّ مُقترح كان من شأنه فرض ضرائب على السلع الأساسية. وهذه التعبئة الشبابية، التي انطلقت عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمعروفة باسم "#RejectFinanceBill"، أجبرت الحكومة على سحب مشروع القانون(13).

وفي نيجيريا، تظاهر المئات، في فبراير/شباط 2024، احتجاجًا على ارتفاع أسعار المواد الغذائية في ولاية "أويو"، جنوب غرب نيجيريا، وأجبرت الحكومة على توزيع احتياطيات الحبوب. وقد تسببت إصلاحات الرئيس "بولا تينوبو" الاقتصادية، بما في ذلك إلغاء دعم الوقود وتعويم عملة "نَايْرَا" النيجيرية، في ارتفاع معدل التضخم إلى 29.9% (وهو أعلى مستوى له منذ منتصف عام 1996)(14)، كما صعَّبت الصدمات الاقتصادية المباشرة على النيجيريين الذين يعيش 61% منهم تحت خط الفقر وفقًا للبنك الدولي(15).

ومن ناحية أخرى، انطلقت معظم الاحتجاجات الشبابية الأخيرة من شرارة الفشل الحكومي في تقديم الخدمات الأساسية التي تؤثر بشكل مباشر على جودة الحياة اليومية. ومن الأمثلة على ذلك أزمة الخدمات الاجتماعية المستمرة في المغرب، حيث حشد الشباب باستخدام هاشتاغ #GenZ212، مطالبين بتحسين الخدمات العامة، وخاصة الرعاية الصحية والتعليم. وقد اندلعت الاحتجاجات وسط تقارير عن الإهمال الطبي؛ حيث تشير تقارير إلى أن للمغرب أقل من ثمانية أطباء لكل 10.000 شخص(16)، وهو أقل بكثير من المعايير الدولية.

ويضاف إلى ما سبق أن الفساد والإقصاء السياسي وضعف المؤسسات تؤدي إلى تآكل ثقة الجمهور وتحويل المظالم الاقتصادية إلى مواجهة سياسية صريحة في الدول الإفريقية المختلفة. فالفساد المنتشر يحول الموارد ويؤجج الاستياء الشعبي وعدم الاستقرار السياسي، كما يُقوِّض التقدم نحو التنمية. إضافة إلى الفقدان الهائل للموارد نتيجة التدفقات المالية غير المشروعة؛ حيث تخسر القارة ما يقارب 88.6 مليار دولار أميركي سنويًّا، أي ما يُمثل 3.7% من ناتجها المحلي الإجمالي، بسبب هذه التدفقات(17).

وقد أظهرت الاحتجاجات الأخيرة وجود اختلال شديد بين نخبة محدودة وأغلبية السكان؛ فالمؤسسات الضعيفة والعاجزة، والتي تكون معظمها متجذرة في سياسات الميراثية المحدثة وثقافة "الرئاسة المهيمنة" و"الرجل القوي"، تفشل في توفير تمثيل شامل؛ مما يُشعِر المواطنين -بمن فيهم الشباب- بالتهميش السياسي والإقصاء من عمليات صنع القرار(18). ويُلاحَظ هذا الشعور من خلال مواقف الشباب تجاه بعض السياسات الوطنية العامة التي تُعطي الأولوية للجماهير الخارجية (مثل السياح) والطموحات الدولية (مثل ملف استضافة كأس العالم أو تعزيز الحضور الدولي وصورة الدولة العالمية). كما أظهرت حالات أخيرة لتغيُّر الأنظمة السياسية بإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أن بعض القادة يتحولون إلى "سلطويين انتخابيين" يحكمون دون ضوابط كافية؛ مما يفتح الباب أمام الإفلات من العقاب والفشل في تلبية احتياجات المواطنين. إضافة إلى أن سوء إدارة العمليات الانتخابية والتنازع على نتائجها أصبحا يثيران جدلًا عارمًا يستغله الجيش عادةً لتبرير تدخله واستيلائه على السلطة.

من التعبئة الرقمية إلى الفعل الجماعي: ديناميات احتجاجات الجيل "زد"

تمثل احتجاجات الجيل "زد" والانقلاب الأخير، بين سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول 2025، في مدغشقر حالة واقعية للعلاقة الوثيقة بين التحديات الاقتصادية، وإخفاقات الحكم واحتجاجات الشباب. وهذه العوامل أو المتغيرات مفصلة في التالي:

أ. الضغوط الاقتصادية والمظالم الاجتماعية

حفَّز فشل الحكومة في توفير الخدمات العامة الأساسية احتجاجات مدغشقر الأخيرة، كما وفَّر أرضًا خصبة للاستياء العام والتعبير عما يعانيه السكان الملغاشيون؛ حيث إن البلاد واحدة من أفقر دول العالم، ويعيش ما يقرب من 75% من سكانها تحت خط الفقر. ولم تشهد مستويات معيشة الملغاشيين في عهد الرئيس "راجولينا" تحسنًا كبيرًا؛ إذ ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في البلاد بنسبة ضئيلة فقط (22%) منذ تولِّيه الحكم عام 2009(19).

وهناك أزمة ندرة الوظائف؛ حيث لا يعمل سوى 5% من السكان في وظائف رسمية بأجر(20)، وهذا النقص في فرص العمل الرسمية فاقم الصعوبات الاقتصادية وزاد من الغضب الشعبي وخاصة في ظل الثروة الظاهرة والامتيازات ونمط الحياة المترف لعائلة "راجولينا" بما في ذلك التقارير عن ارتداء ابنته ملابس من علامات تجارية باهظة الثمن والتحاق ابنه بمدرسة مرموقة بسويسرا(21).

وقد بدأت الاحتجاجات في 25 سبتمبر/أيلول 2025 بسبب الانقطاع المستمر لإمدادات المياه وانقطاعات التيار الكهربائي المتكررة في العاصمة أنتاناناريفو(22). وأكد المتظاهرون -ومعظمهم من الشباب- أن تحركهم مرتبطٌ بتوفير الضروريات الأساسية للبقاء والكرامة، مشيرين إلى ما أسموه أولويات غير مُرتبة؛ حيث برزت إخفاقات الحكومة من خلال التناقض في إنفاقها البارز، الذي يُزعم أنه غير ضروري، مثل الاستثمار في نظام التليفريك بقيمة 152 مليون دولار في أنتاناناريفو، وهو مشروع انتُقد لعدم ملاءمته للاحتياجات الأساسية للمواطنين. كما تأجج الاستياء بسبب الاختلال الشديد الملحوظ في توازن السلطة والموارد بين حفنة من النخب والأغلبية المُكافحة(23).

ويضاف إلى ما سبق استشراء الفساد ضمن القضايا الأخرى التي أشار إليها المتظاهرون. ويؤشر على ما تعانيه مدغشقر في هذا السياق ما كشفه مؤشر مدركات الفساد لعام 2024 (لمنظمة الشفافية الدولية) أن البلاد احتلت المرتبة 140 من أصل 180 دولة(24).

شهدت مدغشقر تاريخًا سياسيًّا مضطربًا منذ استقلالها عام 1960، اتسم بالتدخل العسكري والاحتجاجات الجماهيرية والانتخابات المتنازع عليها. ومرَّت بأزمات سياسية دورية ملحوظة في أعوام 1972 و1991 و2002، بالإضافة إلى انقلاب عام 2009(25). وقد أعاق استمرار هذه الأزمة السياسية الدورية تنفيذ السياسات العامة، كما عزز فقدان ثقة الملغاشيين في القادة والمؤسسات.

وقد حمل الانقلاب الأخير (انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2025) في طياته شبح انقلاب عام 2009؛ إذ وصل "راجولينا" نفسه إلى السلطة عبر انقلاب عسكري؛ حيث قاد -وهو آنذاك معارضٌ وعمدة أنتاناناريفو- احتجاجات مناهضة لـ"مارك رافالومانانا" (رئيس مدغشقر السادس الذي حكم من عام 2002 إلى عام 2009). وقد بلغت الاضطرابات السياسية ذروتها بتمرد وحدة "كابست" العسكرية النخبوية وإطاحتها بالرئيس "رافالومانانا"، في 17 مارس/آذار 2009، مع ترشيح الوحدة "راجولينا" رئيسا للسلطة الانتقالية العليا في وقت لاحق من ذلك اليوم. وهذا الانقلاب جلب لمدغشقر عزلة دولية، وقطع الدعم المالي الأساسي مع ما يقرب من خمس سنوات من الركود الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، بل عانى الحكم المدني -بعد استعادته اسميًّا بقيادة "راجولينا"- من الافتقار إلى الشرعية ومواجهة سياسية نشأت غالبًا عن شكوك في وجود مخالفات وتشكيك في مصداقية المؤسسات الانتخابية. ويتجلَّى هذا في عام 2023، عندما أُعيد انتخابه في تصويت واجه مقاطعة كبيرة من المعارضة، التي زعمت أن الانتخابات قد زُوِّرت لصالحه(26).

وهناك قضية أخرى متمثلة في علاقة "راجولينا" مع فرنسا؛ حيث عُدَّت هذه العلاقة إشارة على انفصال النخبة السياسية عن الأوضاع الاقتصادية في مدغشقر، وخاصة بعد الكشف في عام 2023 عن حمله للجنسية الفرنسية بالرغم من أن قوانين مدغشقر تنص على إسقاط الجنسية الملغاشية عمَّن حصل على جنسية أجنبية(27). ورغم أن هذه الجنسية الفرنسية تُسقط "راجولينا" تلقائيًّا من الرئاسة الملغاشية الأخيرة في عام 2023، إلا أنه ترشح فيها (وفاز بها). وبالنسبة لأمة لا تزال تعاني من إرث الاستعمار الفرنسي والتبعية الاقتصادية، عُدَّ هذا الولاء المزدوج خيانة عظمى، بينما رأى البعض أنه يوحي بولائه الأكبر للقوة الاستعمارية السابقة وعدم اكتراثه بتداعيات ذلك على المستوى الداخلي الحاد.

وقد غذَّى تلك العلاقة أيضًا رواية الشباب -تحت راية حركة الجيل "زد"- في الاحتجاجات ضد الفساد الممنهج وما أسموه الإهانة الوطنية والشعور بقيادة غير مسؤولة ومنحازة للخارج، وخاصة أن احتفاظ فرنسا بحضور اقتصادي وإستراتيجي في البلاد، أدى إلى انتشار الشكوك بأن حكومة "راجولينا" كانت أكثر اهتمامًا بحماية مصالح رأس المال الفرنسي على حساب خدمة الشعب الملغاشي. ورسَّخ هذا التصور دورَ باريس في نقل "راجولينا" جوًّا من مدغشقر، في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2025، على متن طائرة عسكرية فرنسية؛ إذ عَدَّ العديد من الملغاشيين هذا "التهريب" تصرفًا من جانب القوة الاستعمارية السابقة لحماية عميلها الخاص المُعرَّض للمساءلة والعدالة الشعبية؛ وهو ما أضفى شرعيةً أكبر على مطالب الشباب أثناء الاحتجاجات بنظام جديد يُعطي الأولوية للسيادة الوطنية ورفاهية الشعب الملغاشي.

وقد كان موقف وحدة "كابست" العسكرية الرافض لأوامر "راجولينا" بقمع المظاهرات عنصرًا في سقوط نظام "راجولينا"؛ إذ قاد العقيد "مايكل راندريانيرينا" الوحدة العسكرية للانضمام إلى المحتجين، وتقدَّم هو وقواته في يومي 11 و12 أكتوبر/تشرين الأول 2025، إلى العاصمة أنتاناناريفو، وسيطروا على مواقع حكومية رئيسية، بما في ذلك المكاتب الرئاسية، قائلين إنهم يستجيبون لمطالب الشعب الملغاشي. وطالب "راندريانيرينا" رئيس الدولة ورئيس الوزراء بالاستقالة. وفي أعقاب السيطرة الكاملة على السلطة، حل الجيش العديد من المؤسسات السياسية، كما عزل البرلمان "راجولينا" عن الرئاسة بتهمة "التخلي عن وظيفته"، بينما أكدت المحكمة الدستورية العليا تعيين العقيد "راندريانيرينا" رئيسًا جديدًا لمدغشقر، في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2025(28).

ويعزَى أصل العقيد "راندريانيرينا" إلى قرية "سيفوهيبوتى" جنوب مدغشقر، وهو يبلغ من العمر 51 عامًا. وقد شغل منصب حاكم منطقة أندروي، من عام 2016 إلى عام 2018، في ظل إدارة سابقة، ثم رئيسًا لوحدة "كابست" النخبوية العسكرية. وكان ناقدًا صريحًا للرئيس "راجولينا" ومعارضًا لرئاسته التي استأنفها رسميًّا من خلال انتخابات عام 2018. وقد أُلقي القبض عليه -أي "راندريانيرينا"-، في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وسُجن دون محاكمة بتهمة التحريض على التمرد والتخطيط لانقلاب، قبل أن يُطلق سراحه، في فبراير/شباط 2024، مع وقف التنفيذ(29).

ب. حركة الجيل "زد" مدغشقر

إن حركة "الجيل "زد" مدغشقر" -أو "الجيل "زد 261" (إشارةً إلى رمز الاتصال الهاتفي للبلاد)- تُمثل موجة واسعة وحديثةً من النشاط الشبابي في البلاد. وقد ظهرت بكامل قوتها، في سبتمبر/أيلول 2025، مدفوعة في البداية بأزمتي انقطاع التيار الكهربائي المزمن ونقص المياه. ولكن سرعان ما تحوَّلت هذه الشكاوى المحلية إلى صرخة أوسع من أجل إصلاح منهجي، مطالبة بإنهاء الفساد المستشري ومعالجة الفقر المدقع وتأمين مستقبل الشباب. وقد اتسع نطاق مطالب الحركة بعد بدء الاحتجاجات لتشمل قضايا هيكلية، بما في ذلك دعوة النخبة السياسية إلى المساءلة بدءًا من استقالة الرئيس "راجولينا" وحكومته(30).

ويبدو من خلال تتبُّع أنشطة الحركة أنها لم تول أهمية كبيرة لأيديولوجية سياسية معينة، بينما ركَّزت على مطلب عملي بالحكم الرشيد والعدالة الاجتماعية والفرص الاقتصادية. وأظهرت سماتها التنظيمية والتواصلية والتبني الرمزي، أنها تشكِّل قطيعة جيلية مع تاريخ مدغشقر الطويل من التعبئة السياسية الجماهيرية. وتتجلَّى السمة الأساسية في استخدام المنصات الرقمية للتنظيم والتنسيق، والذي يجعل الحركة تبدو أفقية وبلا قيادة. وبدلًا من الاعتماد على الأحزاب السياسية التقليدية أو منظمات المجتمع المدني الرئيسية، تشكَّلت الحركة بسرعة عبر الإنترنت، مستخدمًا منصات مثل تليغرام وتيكتوك وإكس (المعروفة سابقًا باسم تويتر) وديسكورد وفيسبوك وإنستغرام وتطبيقات المراسلة الآمنة مثل سيغنال، وذلك لوضع إستراتيجيات أنشطتها ومشاركة المحتوى وتعبئة الجماهير المحتجين. وقد صعَّب هذا الهيكل اللامركزي على السلطات قمع الحركة أو استهداف قادة محددين، كما سمح بالعفوية والنمو السريع في مدن متعددة(31).

ومن الأمور اللافتة للنظر امتزاج المظالم المحلية الملغاشية بثقافة الشباب العالمية ورموز الاحتجاج. فقد تبنى المحتجون عَلَم القراصنة من سلسلة المانغا/الأنيمي اليابانية "ون بيس" -وهو عبارة عن جمجمة وعظمتين متقاطعتين ترمزان إلى التحدي ضد الأنظمة الفاسدة- مع تعديله باستبدال قبعة ملغاشية تقليدية بقبعة القش. وهذا الاستخدام لميمات الثقافة الشعبية (pop culture memes) واللغة البصرية يقرِّب السياسة إلى الجميع بطريقة سهلة ومؤثرة؛ إذ يتردد صداها عبر الحدود، مستوحى من حركات مماثلة للجيل زد التي أطاحت بحكومات في أجزاء أخرى من العالم، مثل نيبال.

مدغشقر نموذجًا لسيولة الشرعية وتدخل المؤسسة العسكرية

تؤشر احتجاجات الجيل "زد" الأخيرة، وما تلاها من انقلاب في مدغشقر، عن أزمات الحكم والضغوط الاقتصادية العميقة التي تُعاني منها كلٌّ من الدولة الجزرية بشكل خاص والقارة الإفريقية بشكل عام؛ حيث حققت احتجاجات مماثلة نتائج سياسية ملحوظة، وأنذرت بإمكانات استياء الشباب المتصاعد لتغيير الأنظمة الحاكمة.

فمن جانب، كشفت الاحتجاجات الملغاشية عن فشل ذريع في الحكم وانهيار للعقد الاجتماعي؛ حيث المواطنون ينظرون إلى الدولة على أنها لم تعد قادرة على توفير أبسط المنافع العامة. وسلَّطت المحفزات الأولية -انقطاعات الكهرباء المتواصلة ونقص المياه- الضوء على نقص مزمن في الاستثمار في البنية التحتية الأساسية، على الرغم من ثروة البلاد من الموارد. وقد أجَّج هذا غضبًا شديدًا بين الشباب؛ حيث رأى جيلٌ مُولع بالتكنولوجيا الرقمية، بمتوسط عمر 19.2 عامًا، أن مستقبله يُقوَّض بشكل نشط في ظل التقدم الذي يحظى به آخرون بدول أخرى. وكانت الطبيعة الأفقية والرقمية للحركة وتصاعدها السريع مع نجاحها في إسقاط رئيس البلاد، كلها تشير إلى أن الشباب أصبحوا قوة سياسية حاسمة لا ترغب في تحمل الوضع الراهن. 

ويؤكد ما سبق أن القيادة الجديدة في مدغشقر، منذ تولِّي العقيد "راندريانيرينا" زمام السلطة، واجهت تشككًا فوريًّا من المحتجين الذين رفضوا تعيين الجنرال "روفين زافيسامبو" رئيسًا للوزراء، بحجة أنه يتعارض مع التغيير الهيكلي الذي تظاهروا من أجله. وقد دفع هذا الضغط "راندريانيرينا" إلى الاستجابة لمطلبهم بتعيين رجل الأعمال والمصرفي "هيرينتسالاما راجاوناريفيلو" رئيسًا جديدًا للوزراء(32)، إضافة إلى تجريد الرئيس المطاح به "راجولينا" من جنسيته الملغاشية(33).

على أن التدخل العسكري السريع من قبل وحدة "كابست" والذي أعقب الاحتجاجات الشبابية، يُظهر هشاشة النصر "المدني" لحركة الجيل "زد". إذ يدخل هذا ضمن النمط المألوف حيث تملأ جهات غير مدنية الفراغات المؤسسية، ويقدم الجيش نفسه قوةً تصحيحية تستجيب للمطالب الشعبية بالتغيير. ومع ذلك، فإن تعليق المؤسسات السياسية الرئيسية والدستور، كما حدث في مدغشقر والعديد من الانقلابات العسكرية الأخرى، يؤشر إلى فترة من عدم اليقين وعدم الاستقرار المحتمل في ظل مواجهة البلاد تحديات الحوكمة والشرعية.

وباعتبار أن احتجاجات مدغشقر ليست حدثًا معزولًا(34)؛ إذ هي حالة واضحة لنمط عالمي أوسع من اضطرابات الجيل "زد" التي تجتاح دول الجنوب العالمي (كما هي الحال في دول مثل كينيا والمغرب ونيبال)؛ فإن هذه الحركة تكشف عن أزمة أخرى، تتمثل في أن الشباب الأفارقة لم يعودوا يثقون بالمؤسسات السياسية التقليدية (الأحزاب والنقابات)، معتبرين أنها جزء من المؤسسة التي تخفق في أدوارها الوطنية. ويؤكد هذا كون المطالب الأساسية للاحتجاجات متمثلة في "العدالة" و"التغيير الهيكلي" بدلًا من دعم حزب معارض محدد.

وتُعزز أدوات الاتصال الحديثة كشف الأزمات الاقتصادية وفشل السياسات الوطنية في ظل تحديات الحوكمة، وتمكِّن من التعبئة السريعة بين الشباب، خاصة أن الجيل "زد" يمثل الجيل الأول من أبناء العصر الرقمي، الذين يكثفون استغلال التكنولوجيا لتنسيق العمل وتحدي الوضع الراهن؛ إذ تُمكِّنهم المعرفة الرقمية من نشر المعلومات حول المظالم وأحوالهم المعيشية، وكشف فساد النخبة، مع الاستلهام من حركات الجيل "زد" الأخرى حول العالم.

جدير بالذكر أنه رغم التصدي الملحوظ من قبل الحكومات الإفريقية ومحاولات قمع احتجاجات الشباب، فقد أظهرت هذه الحركات صمودًا ملحوظًا. ففي كينيا، عاد عشرات الآلاف إلى الشوارع في عام 2025 لإحياء ذكرى احتجاجات عام 2024؛ مما يُشير إلى استمرار التعبئة. وفي نيجيريا، واصل النشطاء في عام 2025 التنظيم عبر واتساب وزووم، مُخططين لأنشطة جديدة، ومطالبين بالإفراج عن المتظاهرين المسجونين.

خاتمة

يُستنتَج مما سبق أن الاحتجاجات والمظاهرات في الدول الإفريقية المختلفة منذ عام 2024 تكشف عن التحديات الاقتصادية المشتركة التي تواجهها شريحة الشباب الإفريقية المثقفة: فئة سكانية عالية التعليم تواجه ارتفاعًا في البطالة والتضخم وانعدامًا صارخًا للمساواة مع عدم اليقين في مستقبلها. وهذه التحديات تجعل هذه الفئة تصوِّر نشاطها كفاحًا عمليًّا من أجل البقاء من خلال منهجية قائمة على حركات بلا قائد ومنسَّقة رقميًّا وتتشارك بسرعة في الرموز الثقافية. وتجسد هذه الحركات نموذجًا جديدًا قويًّا للمقاومة المدنية العابرة للحدود الوطنية، قادرًا على إسقاط الحكومات، مُشكِّلًا تحذيرًا للنخب السياسية الحاكمة. هذا، إلى جانب أن كل احتجاجات الشباب الأخيرة والتطورات الأخرى من الدول الإفريقية المختلفة، بما في ذلك مدغشقر، تشير إلى مطلب أوسع لعقد اجتماعي جديد يرتكز على السيادة الوطنية، والنمو الشامل، والرفاهة الاجتماعية.

ABOUT THE AUTHOR

References

1. “Madagascar’s new army ruler to be sworn in as Rajoelina confirms departure.” Aljazeera, 16 October 2025, https://tinyurl.com/8e87mkf8 (اطلع عليه في أكتوبر 26, 2025)

2. مجذوب، نورا، "احتجاجات الشباب في المغرب: "جيل زد 212" يطالب بتحسين التعليم والصحة". بي بي سي، 1 أكتوبر/تشرين الأول 2025، (تاريخ الدخول: 26 أكتوبر/تشرين الأول 2025)، https://tinyurl.com/2hwwt8uw

3. Najimdeen, Hakeem Alade “The Rise of Youth Protests in Sub-Saharan Africa: Patterns and Implications.” Al Jazeera Centre for Studies, 7 August 2024, https://tinyurl.com/4bmfb42w (اطلع عليه في أكتوبر 26, 2025)

4. “African Economic Outlook 2025—Africa’s short-term outlook resilient despite global economic and political headwinds.” African Development Bank, 27 May 2025, https://tinyurl.com/44nztwdx (اطلع عليه في أكتوبر 26, 2025)

5. المصدر السابق.

6. “Governance progress in Africa grinds to a halt as security and democracy on the continent deteriorate further, threatening substantial advances in human and economic development, according to the 2024 Ibrahim Index of African Governance.” Mo Ibrahim Foundation, 23 October 2024, https://tinyurl.com/2ntskve9 (اطلع عليه في أكتوبر 26, 2025)

7. مصدر سابق:

Hakeem Alade Najimdeen. “The Rise of Youth Protests in Sub-Saharan Africa: Patterns and Implications.”

8- Chigudu, Daniel. "Youth at the crossroads: balancing contributions to conflict and peace amid high unemployment in Africa." Frontiers in Political Science 7 (2025): 1599788.

9. Penar, Eva. “Youth Unemployment Dilemma in Africa: An Examination of Recent Data.” Leaders of Africa, 23 January 2021, https://tinyurl.com/27vp24pb (اطلع عليه في أكتوبر 26, 2025)

10. “Unemployment Rates in Africa 2025: Statistics and Country Rankings.” MyJobMag, 29 May 2025, https://tinyurl.com/yd22bd3m (اطلع عليه في أكتوبر 26, 2025)

11. مصدر سابق:

Hakeem Alade Najimdeen. “The Rise of Youth Protests in Sub-Saharan Africa: Patterns and Implications.”

12. Obiezu, Timothy. “African Development Bank: High Cost of Living in Africa Could Cause Unrest.” VOA News, https://tinyurl.com/4undprx9 (اطلع عليه في أكتوبر 26, 2025)

13. Hodari, David. “Kenya's president withdraws tax bill after protesters storm Parliament.” NBC News, https://tinyurl.com/2hex6h45 (اطلع عليه في أكتوبر 26, 2025)

14. مصدر سابق:

Obiezu, Timothy. “African Development Bank: High Cost of Living in Africa Could Cause Unrest.”

15. Tunji, Tobi. “Nigeria’s poverty rate seen falling to 61% in election year.” Finance in Africa, https://tinyurl.com/2zjff823 (اطلع عليه في أكتوبر 26, 2025)

16. "المغرب على صفيح ساخن: احتجاجات شبابية وطلابية متصاعدة"، أخبار البلد، 7 أكتوبر/تشرين الأول 2025، (تاريخ الدخول: 26 أكتوبر/تشرين الأول 2025)، https://tinyurl.com/y5ax3fuj

17. “Africa Sustainable Development Report.” The African Union, African Development Bank, United Nations Development Programme and the United Nations Economic Commission for Africa, 2024, https://tinyurl.com/5ynwje28 (اطلع عليه في أكتوبر 26, 2025)

18. مصدر سابق:

Hakeem Alade Najimdeen. “The Rise of Youth Protests in Sub-Saharan Africa: Patterns and Implications.”

19. Savage, Rachel & Rahenintsoa, Teddy. “‘Gen Z gave us the victory’: how young protesters toppled Madagascar’s leader.” The Guardian UK, 17 October 2025, https://tinyurl.com/66zxvrrc (اطلع عليه في أكتوبر 27, 2025)

20- المصدر السابق.

21. “Madagascar: Protests and mutinies shake power, President Rajoelina leaves the country.” Agenzia Nova, 13 October 2025, https://tinyurl.com/577csx94 (اطلع عليه في أكتوبر 27, 2025)

22- حكيم نجم الدين، "ماذا يحدث في مدغشقر؟"، شبكة الجزيرة، 22 أكتوبر/تشرين الأول 2025، (تاريخ الدخول: 26 أكتوبر/تشرين الأول 2025)، https://tinyurl.com/42mauc6n

23. مصدر سابق:

“Madagascar: Protests and mutinies shake power, President Rajoelina leaves the country.” Agenzia Nova.

24. “Corruption Perceptions Index.” Transparency International, 2024, https://tinyurl.com/ap2x7vza (اطلع عليه في أكتوبر 27, 2025)

25. مصدر سابق:

حكيم نجم الدين، "ماذا يحدث في مدغشقر؟"، شبكة الجزيرة.

26. المصدر السابق.

27. Phillips, Aleks. “Ousted Madagascan president stripped of citizenship.” BBC, 26 October 2025, https://tinyurl.com/4a479mn5 (اطلع عليه في أكتوبر 27, 2025)

28. Everett, Mariamne. “Military leader Randrianirina sworn in as Madagascar’s new president.” Aljazeera, 17 October 2025, https://tinyurl.com/58zctx5y (اطلع عليه في أكتوبر 27, 2025)

29. Chibelushi, W., Rakotomalala, O., & Awami, S. “From prison to presidential palace: Who is Madagascar's new military ruler?” BBC, 17 October 2025, https://tinyurl.com/3kwd248r (اطلع عليه في أكتوبر 27, 2025)

30. Oakes, N. “Madagascar’s Digital Revolution: When a Generation with Nothing to Lose Seized Its Future.” Modern Diplomacy, 16 October 2025, https://tinyurl.com/4tbbxyse (اطلع عليه في أكتوبر 27, 2025)

31. مصدر سابق:

Savage, Rachel & Rahenintsoa, Teddy. “‘Gen Z gave us the victory’: how young protesters toppled Madagascar’s leader.” The Guardian UK.

32. “Madagascar's president names civilian PM after military takeover.” RFI, 21 October 2025, https://tinyurl.com/nmc8d5uf (اطلع عليه في أكتوبر 27, 2025)

33. مصدر سابق:

Phillips, Aleks. “Ousted Madagascan president stripped of citizenship.

مصدر سابق:

Hakeem Alade Najimdeen. “The Rise of Youth Protests in Sub-Saharan Africa: Patterns and Implications.”