إن فشل الاحتلال في كسر إرادة الفلسطينيين دفعه إلى سَنِّ قانون إعدام الأسرى، حتى يجد الأسير نفسه بين موتين، وذلك في سياق ثقافة إجرامية مُترسِّخة تُشرعِن العنف وتُحوِّل الجناة إلى "أبطال". إن ما يقترفه الاحتلال من إجرام فريد في نوعه يستدعي إعادة النظر في أدوات دراسة التعذيب وآثاره على ضحاياه وفي مفهوم "الموت الاجتماعي".
مقدمة
إن توحش إسرائيل على الأسرى والمحتجزين الفلسطينيين، بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أصبح أشد وطأة وقسوة عما كان عليه قبل هذا التاريخ، وقد أكدت المنظمات الحقوقية الدولية ذلك، ومنها منظمة العفو الدولية التي سجلت أن وفيات الفلسطينيين جَرَّاء ما يتعرضون له من أهوال تنوء بحملها الجبال أثناء احتجازهم منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 ارتفعت ارتفاعًا مروعًا.
وهذا ما كشفه عدد من الشهادات الصادمة كان آخرها وأكثرها جرأة، شهادة أم فلسطينية من قطاع غزة تروي فيها تفاصيل اغتصابها مرات عدة، وشهادة أسير سابق، باسم مستعار، نهاد، من الضفة الغربية يبلغ من العمر 50 عامًا، اغتصبه كلب في مرحاض، ولهول المصاب تمنَّى الموت. وأكد الضحية أنه اعتقل خمس مرات من قبل، غير أن اعتقاله في 2024 كان الأقسى على الإطلاق، وأن الانتهاكات الجنسية لم تكن حادثًا فرديًّا بل جزءًا من إجراءات الاعتقال.
لماذا هذا التعذيب الوحشي؟ وما الذي يسعى إليه الاحتلال من ذلك؟
إن الحكم بالسجن هو حكم بالموت الاجتماعي (Social Death) والموت الاجتماعي هو حالة دائمة. وهذا ما تسعى إليه إسرائيل من توحشها في التنكيل بالسجين/الأسير. واللفظان يوظَّفان هنا تجاوزًا، لأن "مؤسسة السجن" الإسرائيلية حالة خاصة في إجرامها؛ ما يجعلها فريدة في نوعها. ويبدو من شهادات لا حصر لها لضحايا ماكينة التعذيب الجهنمي الإسرائيلية، أن الاحتلال لم يحقق مبتغاه ولن يحققه من قتل الأسرى اجتماعيًّا، وهو مدرك لذلك، وهذا ما جعله، إمعانًا في الترهيب، يسنُّ قانون إعدام الأسرى لجعل الفلسطيني بين موتين.
لم التعذيب؟
إن معاناة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال ليست جديدة بل ظهرت مع تأسيس الكيان، لكن ما بلغته بعد الطوفان يشكِّل "نقطة تحول للشر الإنساني"، وفقًا للطبيب النفسي اليهودي، غابور ماتي(Gabor Maté) ، و"شرًّا مطلقًا" وفقًا للفيلسوف المغربي، عبد الرحمن طه. وقد لوحظ بعد طوفان الأقصى أن الجلادين في السجون الإسرائيلية يتعمدون وسم أجساد السجناء وتشويهها؛ لأن كيان الاحتلال يدرك بخبرته في التعذيب، وهي مدرسة قائمة بذاتها، أن آثار التعذيب (الندوب الجسدية)، تُشكل حالة زمنية ونفسية مستمرة وشكلًا معيشًا ومُتجسدًا من المعاناة في حياة الضحية. وهذا ما انتهى إليه أحد الباحثين في دراسة عن ضحايا التعذيب خلال ثمرد "بيير موليلي" Pierre Mulele))، الماوي التوجه، في الكونغو (1968- 1963). إن التشويه، وفقا للباحث، لا يشكل الجسد المادي للضحية فحسب إنما كذلك الهوية والزمان والعلاقات الاجتماعية والذاتية. يحول التعذيب جسد الضحية إلى "صفحة تُدوَّن فيها الأحداث"، وتصبح الندوب بصمات سيميائية للسياسة والسلطة والقهر. ويشعر الضحية في اللحظات التي يرى فيها وجهه أو جسده أول مرة في المرآة، بالرعب وعدم التصديق والاغتراب الذاتي.
فهذا اللقاء بين الضحية والمرآة شكل من أشكال الصدمة بعد الانتقال من إصابة جسدية إلى معاناة نفسية مدى الحياة. إن عدم قدرة الضحية على التوفيق بين مظهره الجسدي وصورته المُتذكَّرة لنفسه ينتج عنه "لقاء عنيف مع الذات"، يُعاش تعذيبًا للذات. وهكذا تكون "مرحلة المرآة" لحظة قطيعة وجودية، تصبح معها حقيقة التشوه أمرًا لا مفرَّ منه. وقد يتحول العالم الاجتماعي للضحية إلى ساحة أخرى لإعادة إنتاج المعاناة؛ إذ يصبح الضحية غرضًا للسخرية والاستهزاء، أو موضوعًا لـ"الضحك العصبي"، وهو شكل من أشكال التعبير متجذر في الألم والمجهول، ما يزيد من معاناة الضحية بدلًا من تخفيفها. وقد يتعرض الضحية الذي فقد قدرته الإنجابية للسخرية من زوجه، وقد يفقد حقوقه الزوجية أو يُقصَى من الحياة الزوجية، فيصبح جسده أساسًا للإذلال وانهيار الهوية الذكورية التي يشعر بها كذلك من تعرَّض للاغتصاب.
إن التعذيب وما ينتج عنه من آثار (ندوب) لا تُعطِّل الجسد فحسب، بل تُعطِّل كذلك الأفق الزمني للضحية. فغالبًا ما يعود الضحية ذهنيًّا إلى لحظة التعذيب، ويعيشها على أنها كارثة حاضرة دائمًا. وتُرسِّخ فيه الندوب هذه العودة المتكررة؛ ما يجعله يعيش مستقبلا مُتخيَّلًا للمعاناة يصبح معه المستقبل شكلًا من المعاناة المُتوقعة تُشكِّل الحاضر من خلال الخوف. إنه يتصور المستقبل على أنه مساحة حتمية لألم جديد. يعاني الضحية كذلك توقف الزمن، ويفقد المستقبل أهميته ويختبر الحياة على أنها عَدَمٌ وتعب وإرهاق.
في نهاية المطاف يؤدي التعذيب وما يتركه من ندوب على جسد الضحية إلى ظهور شكل مميز من الذات، شكل يتسم بالمعاناة المستمرة والرفض الاجتماعي واختلال الزمن. إن "حياة الندوب" هي نمط مستمر من الوجود ينطوي على العجز عن تخيل مستقبل مستقر والوقوع في دوامة التكرار والإذلال، والانشغال الدائم بالجغرافيا الجديدة لجسده الذي يصبح حياته الجديدة. وقد يموت الضحية كمدًا لعدم قدرته على تحمل حياة الألم والإذلال.
وهكذا، لا تسيطر الندوب على الهوية والذاكرة فحسب، بل كذلك على موقع المرء الأخلاقي والاجتماعي والوجودي في العالم.
يخدم التعذيب أغراضًا سياسية ورمزية واجتماعية محددة، اعتمدت جميعها على الجسد موقعًا رئيسيًّا للنقش، أي تحويله إلى أرشيف سياسي مكتوب على الجسد بهدف تحطيم الضحية، وجعله عبرة لمن تسول له نفسه المقاومة/ التمرد. فزرع الخضوع من خلال الرعب يحول الجسد إلى أداة لبث الرسائل السياسية وسلطة الدولة. إن التعذيب لا يجرح الجسد فحسب، بل يعيد هيكلة حياة الضحية بأكملها، مخلِّفًا حياة مليئة بالندوب، وهي حالة يستمر فيها العنف حتى بعد انتهاء التعذيب.
إن ما ذكرناه عن التعذيب والغاية منه، قد لا ينطبق بحذافيره على ضحاياه من الفلسطينيين، نظرًا لاختلاف سياقات التعذيب وغاياته. وهذا ما تؤكده شهادة نهاد الذي ذكر أن ما تعرض له سبَّب له "جرحًا نفسيًّا عميقًا"، لكنه استدرك: "لا ينقص ذلك من قيمتنا، لكنه يزيد الحقد. التعايش مع من يرتكبون ذلك مستحيل، هؤلاء وحوش وليسوا بشرًا". وهذا يتطلب دراسة خاصة لحالة ضحايا التعذيب من الفلسطينيين.
ما الموت الاجتماعي؟
يستخدم باحثون من تخصصات شتى مفهوم "الموت الاجتماعي" للدلالة على تعرض شخص (أو مجموعة) لخسارة شديدة وعميقة تجعل منه كائنًا لا قيمة له اجتماعيًّا. فإلى أي حدٍّ تنطبق معايير "الموت الاجتماعي" على السجناء والمحتجزين الفلسطينيين؟
يعرِّف أورلاندو باترسون (Orlando Patterson) الموت الاجتماعي في كتابه "العبودية والموت الاجتماعي" بأنه حالة شخص لا يُعد إنسانًا كاملًا في نظر المجتمع الأوسع، أي عدم قبول المجتمع له على أنه إنسان. إنها عملية تجريد الشخص المستعبد من هويته الاجتماعية وروابط القرابة والارتباط بتراثه؛ ما يجعله معزولًا نَسَبيًّا ويعيش في حالة من الحرمان والعار المزمن. وتتضمن المكونات الرئيسية للموت الاجتماعي، وفق باترسون، الآتي:
الاغتراب عن الأصل: يصبح العبد منفصلًا عن أسلافه وذريته، ومنقطعًا عن ماضيه وتراثه. وهذه سمة مركزية لتجريد الإنسان من إنسانيته تمنع المستعبَدين من دمج تجارب أسلافهم في حياتهم.
العنف غير المبرر: يتعرض العبد للتهديد التعسفي والمستمر باستخدام العنف والقوة البدنية للحفاظ على السيطرة؛ إذ إن حياته وجسده مملوكان للسيد.
العار الاجتماعي: يتعرض الشخص المستعبد لعار عام ودائم ويعزز مكانته على أنه سلعة.
في نهاية المطاف، تحول هذه العملية الشخص المستعبد من كائن اجتماعي كامل إلى شيء قابل للتصرف، ويمكن التخلص منه، امتدادًا لسُلطة سيده ومكانته.
وتركز دراسات الموت وعلم الشيخوخة على فقدان الدور والهوية الاجتماعية ورأس المال الاجتماعي والشبكات الاجتماعية. بينما تركز دراسات اللاجئين من عناصر الموت الاجتماعي (المعنى ليس واضحًا) ما ينطبق على حالة المغاربة اليهود، وهي الإقصاء الاجتماعي وفقدان المواطنة ورأس المال الاقتصادي والقدرة على الوصول إلى الموارد.https://www.youtube.com/watch?v=2L7LNSSPgfI
وفي دراسات الرق/ العبودية التي تنظر في التفاعل بين ديناميكيات السلطة نجد أن العبد يفقد رأس المال الثقافي والروابط عبر الأجيال، وهذا الفقد يشكل أحد العناصر الرئيسة لكتاب فرانز فانون (Frantz Fanon) "بشرة سوداء أقنعة بيضاء"، وهي عملية تحدث عندما تُستبدل ثقافة القوة الاستعمارية بالثقافة الأصلية للشعب المستعمَر. وهذا يُلحِق ضررًا عميقًا بالشعوب المستعمرة، وفقًا لفانون.
فهل هذا يسري على الأسير الفلسطيني؟ وهل نجح الاستعمار الصهيوني الإحلالي في زعزعة هوية الفلسطيني؟
إن الموت الاجتماعي يعني فقدان جانب أو أكثر من الجوانب المذكورة أعلاه. ومع ذلك، يمكن للناس أن يعانوا معظم هذه الخسائر في وقت واحد، على الرغم من أن مدى خسائرهم يختلف وفقًا للظروف الفردية. لقد عانى الأسرى الفلسطينيون ويعانون كل هذه الخسائر وزيادة، وهي ناجمة عن علاقة المستعمَر بالمستعمِر التي درسها وحلَّلها، من واقع التجربة، فرانز فانون في كتابيه "معذبو الأرض" و"بشرة سوداء أقنعة بيضاء".
ورغم أن كثيرًا من الناس يندمجون مجددًا في المجتمع بعد قضاء فترة السجن، فإنهم غالبًا ما يشهدون بأنهم يحملون وصمة اجتماعية دائمة، وصمة عار. لكن في حالة الفلسطيني فإن العكس هو الصحيح. وهذا ما تؤكده شهادات تواترت لأسرى أفرج عنهم، ونظرة المجتمع لهم.
إن مصطلح "الموت الاجتماعي"، مقتبس، كما ذُكر سابقًا، من تحليل أورلاندو باترسون للعبودية. ففي تحليله للوضع الاجتماعي للعبيد، جادل باترسون بأن العبيد أصبحوا غير مواطنين، وكائنات اجتماعية غير موجودة (لا قيمة لها اجتماعيًّا) (باترسون 1982)، لقد حُكم عليهم بالموت الاجتماعي. يتألَّف الموت الاجتماعي من ثلاثة جوانب: التعرض لعنف منهجي، والمعاملة المهينة، و"الاغتراب عن الأصل"، ويعني الانفصال عن الأجداد والأطفال. فحتى عندما كانت الأسرة معًا، كما هي الحال في المزارع، كان لابد من جعل كل فرد عاجزًا أمام الآخرين. وكان الشخص المستعبد يُجلد أو يُباع في أي وقت، ولم يكن العبيد الآخرون قادرين على فعل أي شيء.
علاوة على ذلك، صعَّبت مؤسسة الرق نقل التراث إلى الأجيال اللاحقة، ولم يكن للروابط الأسرية والمجتمعية أي مكانة قانونية أو اجتماعية تُذكر. وكان الاغتراب عن الأصل في ظل الرق يعني انفصالًا جذريًّا عن الآخرين. وكان هذا جزءًا أساسيًّا من بنية الرق. ولهذا السبب رأى باترسون العبد "منعزلًا نَسَبيًّا. وبالمثل، يفصل السجن الناس عن مجتمعات الدعم وعن آبائهم وأبنائهم. علاوة على ذلك، فإن عزل الناس في السجن يجعلهم عرضة لأشكال أخرى من العنف، بما في ذلك العنف الجنسي. يجبر الاغتراب عن الأصل السجناء على العيش في بيئة من الضعف؛ حيث يتعرضون للعنف المباشر وغير المباشر والإذلال. وصف حالة السجن بأنها "اغتراب عن الأصل" يسمح لنا بربط العديد من أشكال تدخل الدولة التي قد تبدو متباينة وغير مترابطة. يسمح لنا، على سبيل المثال، بشرح آثار السجن على الصحة الإنجابية والعدالة الإنجابية.
يكشف جوشوا برايس (Jushua Price) في كتابه "السجن والموت الاجتماعي"، الذي اعتمد فيه على مقابلات مع عدد من السجناء، على الرغم من اختلاف تجاربهم اختلافًا كبيرًا، عن ثلاث صفات أساسية للسجن: الإذلال العام، والعنف المؤسسي، والاغتراب عن الأصل. ويؤدي اقتران هذه الصفات الثلاث إلى ظهور ملامح غريبة للموت الاجتماعي.
إن الأشخاص الذين يُحكم عليهم بالسجن ليسوا الوحيدين الذين يعانون الموت الاجتماعي. فالمهاجرون الذين يواجهون الترحيل معرضون للموت الاجتماعي. والمجموعات التي تُستهدف بالإبادة الجماعية تتعرض كذلك للموت الاجتماعي من خلال تجريد أفرادها من إنسانيتهم. إن الروابط بين الأشكال المختلفة للموت الاجتماعي الحديث معقدة.
إن ما يؤكد فشل الاحتلال الإسرائيلي في تحقيقه لمسعاه في تحويل الأسرى إلى موتى اجتماعيًّا وإدراكه لذلك إقدامه على سَنِّ قانون إعدام المحتجزين والأسرى. فقد صادق الكنيست الإسرائيلي في قراءة أولى، يوم الاثنين، 10 نوفمبر/تشرين الثاني، على مشروع قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين بأغلبية 39 صوتًا مقابل 16 صوتًا. وقد احتفل إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، بذلك التصويت بتوزيع الحلوى على أعضاء الكنيست. ويبدو أن حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة ستنجح في إقرار القانون، لأنه على الرغم من أنه يواجه بعض المعارضة، إلا أن معظم المعارضين اختاروا عدم التصويت، لعلمهم أن الامتناع عن التصويت لا يُحتسب، بدلًا من التصويت ضده. وهذا دليل على أن التطرف في إسرائيل أصبح عامًّا. وهذا ما يكشفه تعليق زعيم المعارضة، أفيغدور ليبرمان: "يجب أن يموت الإرهابي، إما في ساحة المعركة أو في المحكمة".
جاء هذا القانون بعد أن أدرك الكيان المحتل فشله في القضاء على جذوة المقاومة رغم توسله بشتى أساليب التعذيب والتنكيل والاغتصاب والحرمان التي تؤدي إلى الوفاة. لقد قُدِّم مشروع القانون على أنه قانون "استثنائي"، يتمتع بوضع خاص يسمح بإقراره بأغلبية الأصوات المدلى بها فحسب، وليس بأغلبية أعضاء الكنيست.
ينطبق القانون على الأفراد المدانين بأفعال أدَّت إلى مقتل إسرائيليين، إذا كانت هذه الأفعال بدافع "العنصرية أو العداء تجاه الجمهور" و"ارتُكبت بهدف الإضرار بدولة إسرائيل أو نهضة الشعب اليهودي"؛ ما يجعله ينطبق حصريًّا على الفلسطينيين. وقد قدَّمته عضو الكنيست، ليمور سون هار-ميليش Limor Son Har-Melech))، من حزب "القوة اليهودية" القومي المتطرف، الذي يحظى بدعم قوي من المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية المحتلة. لقد كان تطبيق عقوبة الإعدام على السجناء الفلسطينيين مطلبًا سياسيًّا رئيسيًّا لـ"بن غفير" رئيس الحزب، الحليف الرئيسي للائتلاف الحكومي لرئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو. ومنذ تولي بن غفير منصبه، تدهورت ظروف اعتقال السجناء الفلسطينيين.
تنص القوانين الإسرائيلية على عقوبة الإعدام، ولكنها لم تُطبَّق إلا في حالات نادرة من الجرائم الخطرة، مثل الإبادة الجماعية، وقد طُبّقت مرة واحدة في 1962 ضد الضابط النازي السابق، أدولف أيخمان (Adolf Eichmann)، الذي كان مسؤولًا ألمانيًّا رفيع المستوى، اختطفه الموساد، في 11 مايو/أيار عام 1960، من الأرجنتين وحوكم في إسرائيل وصدر في حقه حكم بالإعدام بسبب دوره في "الهولوكوست" خلال الحرب العالمية الثانية.
شهدت الكاتبة والفيلسوفة، حنَّا أرندت Hannah Arendt))، نهاية محاكمة أيخمان، وأصدرت كتابًا في الموضوع بعنوان "أيخمان في القدس"، وسكَّت خلال حضورها المحاكمة عبارة "تفاهة الشر". وقد علَّقت الفيلسوفة الأميركية، جوديث باتلر (Judith Butler)، في صحيفة الغارديان (The Guardian) البريطانية على الكتاب والعبارة.
يُقدِّم القانون الجديد ثلاثة بنود جديدة تُشير إلى نية تطبيق عقوبة الإعدام على الفلسطينيين؛ أولًا: تُجيز صياغة مشروع القانون تطبيق عقوبة الإعدام على الأفراد المُدانين بقتل إسرائيليين لأسباب "قومية أو عنصرية". وهذا يُقيِّد تطبيقه على غير الإسرائيليين، ويستخدم تعبير "الجرائم القومية" الملطف المُستخدَم عادةً لوصف الهجمات الفلسطينية ضد الإسرائيليين. ثانيًا: بما أنه ينطبق على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، فإنه يمنح المحاكم العسكرية الإسرائيلية، وهي الجهة التي تُصدر أحكامًا جزائية ضد الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال، سُلطةَ إعدامهم. ثالثًا: يُجيز إصدار حكم الإعدام بأغلبية بسيطة من القضاة، وليس بالإجماع. ومع ذلك، يُواصل بن غفير الضغط لمنح قوات الاحتلال الإسرائيلية سلطة إعدام الفلسطينيين ميدانيًّا.
وعلى الرغم من أن القوانين لا تسري بأثر رجعي كونها قاعدة عامة، فقد دعا بن غفير إلى إعدام السجناء الفلسطينيين المدانين بتهمة "المقاتلين غير الشرعيين"، وخاصة أولئك المتهمين بأنهم مقاتلون من حماس، والذين أُلقي عليهم القبض منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وقد استغل بن غفير أجواء ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول للترويج لهذا القانون.
إن الاستعمار، وفقًا للمفكر المارتينيكي، إيمي سيزير (Aimé Césaire)، يعمل على نزع الصفة الإنسانية عن المستعمَر، ومعاملته بوحشية بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإذلاله. وعلى غرار سيزير، ربطت الفيلسوفة الألمانية اليهودية، حنَّا آرندت، التي خبرت معسكرات الاعتقال النازي، بين سلوك القوى الأوروبية في مستعمراتها وسلوكها في أوروبا نفسها. فما الرابط بين ما تعرض له اليهود في معسكرات الاعتقال النازية وما اقترفوه في حق الفلسطينيين ويقترفونه في السجون والمعتقلات والمعسكرات مثل "سديه تيمان"؟
تكشف معسكرات الاعتقال عند الفيلسوف الإيطالي، جورجيو أغامبن (Giorgio Agamben)، عن شيء أساسي يتعلق بالسلطة ومن يتولاها، وما الذي يمنح صلاحية ممارستها. وفي حالة إسرائيل، نزيد على ما قاله أغامبن: "ومن يدعم إسرائيل ويتستر على جرائمها ويمنحها الشرعية". إن الاحتلال الإسرائيلي لا يملك السلطة المطلقة على حياة ما أسماه قادة إسرائيل بـ"الحيوانات" فحسب، إنما سلطة تجريدها من حقوقها بأشكال عقابية تنزل بها إلى ما أسماه أغامبن "الإنسان العاري" أو "المستباح" (Homo Sacer).
يجادل زيجمونت باومان ((Zygmunt Bauman بأن ما يميز العنف في عصرنا هو المسافة، ليس المسافة المادية أو الجغرافية فحسب، التي تسمح بها التكنولوجيا، بل المسافة الاجتماعية والنفسية التي تنتجها أنظمة معقدة يبدو أن الجميع فيها متواطئ. ويرى باومان أن هذا الفعل ينفذ على ثلاثة مستويات، أولًا: تنفذ الأفعال "سلسلة طويلة من المنفذين"، ويكون الناس هم الذين يعطون الأوامر ويتلقونها في الوقت نفسه. وثانيًا: كل شخص مشارك لديه وظيفة محددة ومركزة ليؤديها. وثالثًا: نادرًا ما يبدو الأشخاص المتضررون بشرًا كاملين في نظر أولئك الذين ينفذون ذلك النظام.
في هذا السياق، كتب باومان، ولا نشاطره الرأي: "لم تجعل الحداثة الناس أكثر قسوة، بل إنها اخترعت طريقة فحسب يمكن من خلالها أن يقوم أشخاص غير قساة بأعمال قاسية". إن هذا الاختراع الحداثي الذي جعل أشخاصًا غير قساة يأتون أعمال قاسية، لا يسري على حالة الاحتلال الإسرائيلي؛ فقد تحول ضحايا "الهولوكوست" ومن يتاجرون به إلى جناة، أقاموا للإنسان الفلسطيني، "الحيوان" عندهم، ما هو أسوأ من معسكرات "الهولوكوست"، يقتلونه من أجل التسلية وتزجية الوقت ودفع الملل. ويغتصبونه ويمارسون في حقه ما لا يخطر على بالٍ من الفظاعات دون أن يرفَّ للعالم المتحضِّر جفن. ويحاول قادة إسرائيل وإعلامها التنصل من هذه الجرائم بادعاء أنها أعمال فردية، ويقيمون محاكمات مسرحية لبعض الجنود المتهمين بالاغتصاب. وقد كشفت وسائل الإعلام قبل أيام كيف يُستقبل هؤلاء المجرمون في قاعة المحكمة استقبال الأبطال. لقد تحول الإجرام في المجتمع الإسرائيلي إلى ثقافة راسخة. فمنذ لحظات الحياة الأولى يتشرب الفرد هذا النموذج عبر نسق كامل من المحفزات والنواهي، صريحة وغير صريحة، تدفع به إلى امتثالٍ لا واع للمبادئ الأساسية لثقافة الإجرام. تلك هي الصيرورة التي أسماها الأنثروبولوجيون "الترسيخ الثقافي". إن بنية الشخصية الإسرائيلية الناتجة من نقل الثقافة عن طريق التربية تتأقلم، مبدئيًّا، مع نموذج هذه الثقافة الإجرامية.
هل هذا الإجرام الفريد في نوعه الذي يقترفه "أفضل الأبطال" يندرج تحت عنوان "الخصوصية" التي تدعيها الصهيونية لـ"الشعب اليهودي" "خصوصية الذكاء" و"خصوصية العرق" وحتى "خصوصية المرض" وغيرها من الأساطير التي جرفها "طوفان الأقصى"؟. إن هؤلاء "المجرمين الأبطال" هم من يخشى عليهم المؤرخ اليهودي المناهض للصهيونية، إيلان بابيه (Ilan Pappe)، من الفوضى التي ستحدث في مرحلة انهيار المشروع الصهيوني، كما هو شأن كل المشاريع الاستعمارية، ويتساءل بابيه عن مستقبلهم وينتظر أن يسمع من الفلسطينيين القول الفصل في شأنهم.
خاتمة
إن ما يعانيه الفلسطينيون المحتجزون في السجون والمعتقلات الإسرائيلية من فظائع على مسمع ومرأى من "العالم المتحضر" هو عودة "المزيج الفريد من العوامل التي أطلقت العنان لرعب النازية" الذي رجَّح بريمو ليفي(Primo Levi) ، أحد الناجين من "الهولوكست"، في كتابه "الغرقى والمنقَذون" أنه لن يعود. لقد عاد بعد أن وجد نتنياهو، ومن معه، تنظيمه وإضفاء الشرعية عليه وإعلانه ضروريًّا وإلزاميًّا، وأكثر من هذا تمجيده وإعلان مقترفيه "أفضل الأبطال". هكذا أصبح لـ"للبطولة" مفهوم جديد؛ فـ"البطل" هو من يوغل في الإجرام فيغتصب المحتجزين في أصفادهم وعيونهم معصوبة ويصعقهم بالكهرباء ويسومهم ألوان العذاب.
إن الإجرام الفريد في نوعه، الذي يمارسه من وصفهم بن غفي، بـ"أفضل الأبطال" في حق المحتجزين الفلسطينيين، هو نتيجة "ثقافة الإجرام" التي يتشربها الفرد في إسرائيل. إن العنوان الذي اختارته منظمة "بتسيلم" لتقريرها عن معسكرات التعذيب في إسرائيل "أهلًا بكم في جهنم"، خير معبِّر عن هذه الثقافة.
إن ما تقترفه إسرائيل من جرائم في حق المحتجزين الفلسطينيين يستدعي من المفكرين والباحثين إعادة النظر في العدة المنهجية المعتمدة في دراسات التعذيب وما توصلت إليه الأدبيات في هذا الباب. فرغم أن إسرائيل نتاج أصيل للظاهرة الإمبريالية فإنها تشكل حالة فريدة.
- Emery M. Kalema, Journal of African History, 59.2 (2018), pp. 263–82. Cambridge University Press 2018.
- Jana Králová, What is social death? Contemporary Social Science, 2015 Vol. 10, No. 3, pp. 235–248.
- Rachele Dini, An Analysis of Frantz Fanon’s Black Skin White Masks, Macat 2017.
- Joshua M. Price, Prison and Social Death, Rutgers University Press, 2025.
- Michael Berenbaum, "Adolf Eichmann German military official", Britannica, (Accessed, Nov 14, 2025)
https://www.britannica.com/biography/Adolf-Eichmann
- Qassam Muaddi, "Israel wants to implement the death penalty for Palestinian prisoners. Here’s what you need to know", Mondweiss, November 12, 2025. (Accessed, Nov 14, 2025. Israel wants to implement the death penalty for Palestinian prisoners. Here’s what you need to know. – Mondoweiss).
- Hannah Arendt, "Eichmann in Jerusalem: A Report on the Banality of Evil". Penguin Classics) Paperback – September 22, 2006.
- Judith Butler, "Hannah Arendt's challenge to Adolf Eichmann", The Guardian, Mon 29 Aug 2011. (Accessed, Nov 17, 2025).
https://www.theguardian.com/commentisfree/2011/aug/29/hannah-arendt-ado…).
- Giorgio Agamben, "Homo Sacer Sovereign Power and Bare Life", Translated by Daniel Heller-Roazen, Stanford University Press Stanford California 1998.
- Primo Levi, "The Drowned and the Saved", Translated from the Italian by Raymond Rosental, Simon and Shusster, 1996.